دعوها.. فإنها منتنة

دعوها.. فإنها منتنة

من الأوهام الخطيرة التي انحرفت بالدين، وبالقيم النبيلة التي جاء لتحقيقها على أرض الواقع، تلك العنصرية المقيتة المتلبسة بلباس الدين، والتي تفرق بين المؤمنين ومكانتهم عند الله تعالى وفي المجتمع، لا على أساس أعمالهم، وإنما على أساس أنسابهم.

وهذا ضرب لكل النصوص المقدسة من القرآن الكريم والسنة المطهرة التي تؤكد بمختلف صيغ التأكيد على أن الله تعالى لا يحابي أحدا، وأن مكانة كل امرئ وجزاءه وعقوبته مرتبطة بأعماله، ولا علاقه لها بغير ذلك.

وإلا فإن مخالفة هذا المعنى تضرب مباشرة العدل الإلهي، وموازين العدالة المطلقة التي أقامها، والتي لا يضيع فيها مثاقيل الذر..

وهي تنسخ، بل تحرف كل ما ورد في القرآن الكريم من أمثال قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء:123]، فالآية الكريمة اعتبرت كل ميزان وضعه البشر من غير العمل مجرد أمان وأوهام لا علاقة لها بالواقع.

وهكذا تنص الآيات الكريمة على أن الإنسان لن يرى في الآخرة إلا كسبه وعمله إن صالحا، فسيجازى عليه.. وإن سيئا، فسيجازى عليه، وفق القوانين الإلهية المرتبطة بالكون جميعا.. فليس هناك أمة أفضل من أمة، ولا شخص أفضل من شخص.

وقد قال تعالى في تقرير ذلك: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [البقرة:281]، وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [آل عمران:25].

وأعطى القانون المرتبط بذلك، فقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]

بل إنه أعطى نماذج عن ذلك.. منها نموذج امرأتي نوح ولوط، كما قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين} [التحريم:10]

ومنها نموذج ابن نوح عليه السلام الذي عاتب الله فيه نوحا لكونه أراد التوسط لابنه، فقال له: {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} [هود:46]

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب رحمه وقرابته قائلاً: (يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية بنت عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً)([1])

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم ـ محذرا ـ بما كان عليه الأمم السابقة من التفريق بين الناس على أساس أنسابهم، فقال: (إنّما أهلك من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيمُ الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها)([2])

هذه هي القيم الدينية المبنية على العدالة، كما يصورها القرآن الكريم، وكما تصورها السنة المطهرة، وكما يؤكدها العقل الذي يرى الكون وموازين العدالة العجيبة فيه.

أما الدين البشري، أو الدجل البشري، فقد راح يحرف هذا المعنى تحريفا شديدا، ملأ به المجتمعات المسلمة بالعنصرية المقيتة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها منتنة، وفوق ذلك شكك بعدالة الله تعالى.. ووضع موازين للقيم لا تتناسب مع الموازين المقدسة.

ومن أمثلة ذلك الدجل ما عبر عنه من يسمونه الشيخ الأكبر ابن عربي بقوله ـ عند الحديث عن آل البيت، وهو يقصد بهم كل منتسب لهم في كل مكان وزمان ـ: (ولما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدا محضا قد طهره الله وأهل بيته تطهيرا، وأذهب عنهم الرجس، وهو كل ما يشينهم، فإن الرجس هو القذر عند العرب، قال تعالى:‏ { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فلا يضاف إليهم إلا مطهر.. وإذا كان لا ينضاف إليهم إلا مطهر مقدس، وحصلت له العناية الإلهية بمجرد الإضافة، فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم، فهم المطهرون بل هم عين الطهارة.. فطهر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالمغفرة فما هو ذنب بالنسبة إلينا لو وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لكان ذنبا في الصورة لا في المعنى، لأن الذم لا يلحق به على ذلك من الله ولا منا شرعا، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبة ما يصحب الذنب من المذمة)([3])

ثم راح يطلق أحكامه الجزافية الخطيرة، من غير أن يضع في حسابه أنه قد يتعلق بها ملايين الناس الذين لهم نسبة ما لآل البيت، فقال: (فدخل الشرفاء أولاد فاطمة كلهم، ومن هو من أهل البيت مثل سلمان الفارسي إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران، فهم المطهرون اختصاصا من الله تعالى، وعناية بهم لشرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعناية الله به، ولا يظهر حكم هذا الشرف لأهل البيت إلا في الدار الآخرة، فإنهم يحشرون مغفورا لهم، وأما في الدنيا فمن أتى منهم حدا أقيم عليه، كالتائب إذا بلغ الحاكم أمره وقد زنى أو سرق أو شرب أقيم عليه الحد مع تحقق المغفرة كما عز وأمثاله ولا يجوز ذمه‏)([4])

وهذا حكم خطير جدا، فمن أين علم أن الله سيغفر لهم.. وما حال من وقع منهم في ذنوب متعدية تفتقر لمسامحة الخصوم؟

لكن كل ذلك لم يهتم به، ولا فهم دلالة النص من خلال تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن آية التطهير تخص أفرادا محدودين معدودين علم الله صدقهم وإخلاصهم وتفانيهم في خدمة الرسالة.. وأنهم ـ فوق ذلك ـ سيتعرضون لأنواع من البلاء تمحصهم.. وأنهم سيكلفون بمهام كبيرة في هذه الأمة، فلذلك أخبر بطهارتهم، وبالعناية الخاصة بهم.. لا عناية الجزاء، وإنما عناية التربية والتكليف.. فالله لا يحابي أحدا في الجزاء.

والنص الوارد في تفسير الآية الكريمة التي استنتج منها ابن عربي تلك النتائج الخطيرة واضح ووارد في كتب السنة، وأن المراد بهم علي وفاطمة والحسن والحسين.. وحتى أم سلمة مع كونها زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرها أنهم لم تدخل فيهم بنص الحديث.

فعن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:‏ { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] في بيت أم سلمة، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة، وحسنا، وحسينا، فجللهم بكساء، وعلي خلف ظهره، فجلله بكساء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك، وأنت إلى خير)([5])

وفي حديث آخر عن شداد أبي عمار، قال: دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليا، فلما قاموا، قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة، رضي الله عنها، أسألها عن علي، قالت: توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلست أنتظره، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه علي وحسن وحسين، رضي الله عنهم، آخذ كل واحد منهما بيده، حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة، فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه، أو قال: كساء، ثم تلا هذه الآية: { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق)([6])

وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره ليس محاباة لهؤلاء، وإنما لما كان في قلوبهم من الطهارة والصدق والإخلاص.. فكل ما نالوه من فضل الله إنما كان بسبب كسبهم وعملهم..

فكون الحسنين سيدا شباب أهل الجنة ـ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ليسا لكونهما أحفادا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما للأدوار الرسالية الخطيرة التي كلفا بها في هذه الأمة، ونجحا في أدائها أيما نجاح.. وضحيا في سبيل ذلك بكل شيء.

وهكذا تنسجم النصوص مع الوقع مع العقل مع القيم.. أما اعتبار أن كل منتسب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريب أو من بعيد يعطى حصانة خاصة تحميه، فهذا لا ينافي فقط العدالة الإلهية.. بل إنها دعوة للانحراف والضلال والمعصية..

وقد حصل مثل هذا في الأمم السابقة، كما ورد في الإنجيل عن المسيح عليه السلام، وهو يوبخ اليهود الذين راحوا يتيهون على الناس بقرابتهم لإبراهيم، فقال لهم: (يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم) [لوقا: 3/7-8]

ولهذا فإن القرآن الكريم يخبر أن عقوبة الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد من عقوبة غيره في الآخرة، لكونه يتلقى من التوجيه والتربية ما لا يتلقاه غيره، ولكونه يعيش في بيئة أفضل من بيئات غيره، فقال: {يَانِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} [الأحزاب:30]، ومضاعفة العذاب هنا واضحة في دلالتها على عذاب الآخرة.. فكيف يجرؤ بعدها ابن عربي على اعتبار المنتسبين لآل البيت معفيين من جرائمهم.

بل إنه لم يكتف بذلك، وإنما راح يعطيهم حصانة من النقد، فقال: (و ينبغي لكل مسلم مؤمن بالله وبما أنزله أن يصدق الله تعالى في قوله‏{ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فيعتقد في جميع ما يصدر من أهل البيت إن الله قد عفا عنهم فيه فلا ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة بهم، ولا ما يشنأ أعراض من قد شهد الله بتطهيره وذهاب الرجس عنه لا يعمل عملوه ولا بخير قدموه بل سابق عناية من الله بهم)([7])

بل إنه دعا إلى التنازل لهم عن جرائمهم التي يقعون فيها، والنظر إليها لا على أنها جرائم، وإنما على أنها مقادير قدرها الله، فقال: (إنّه لا ينبغي لمسلم أن يذمّهم بما يقع منه أصلاً، فإنّ اللّه طهّرهم، فليعلم الذامّ لهم أنّ ذلك راجع إليه ولو ظلموه. فذلك الظلم الذي هو في زعمه ظلم لا في نفس الأمر، يشبه جري المقادير على العبد في ماله ونفسه بغرق أو حرق، أو غير ذلك من الأمور المهلكة، فيحرق أو يموت له أحد من أحبابه أو يصاب هو في نفسه، وهذا كلّه ممّا لا يوافق له غرضه، ولا ينبغي أن يذمّ قدر اللّه ولا قضاءه، بل ينبغي أن يقابل ذلك بالتسليم والرضا. وإن نزل عن هذه المرتبة فبالصبر، وإن ارتفع عن تلك المرتبة فبالشكر، فإن في طيّ ذلك نعماً من اللّه لهذا المصاب، وليس وراء ما ذكرناه خير، فإنّ ما وراءه إلاّ الضجر والسخط وعدم الرضاء وسوء الأدب مع اللّه تعالى. فكذا ينبغي أن يقابل المسلم جميع ما يطرأ عليه من أهل البيت، في ماله ونفسه وعرضه وأهله وذويه. فيقابل ذلك كلّه بالرضا والتسليم والصبر، ولا يلحق المذمّة بهم أصلاً، وان توجهت عليهم الأحكام المقرّرة شرعاً، فإنّ ذلك لا يقدح في هذا، بل يجريه جري المقادير)([8])

ولست أدري كيف يطالب الناس بالإيمان بعدالة إله يرونه يفرق بين عباده، لا على أساس أعمالهم، وإنما على أساس أنسابهم.. وهم يقرؤون قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات:13]

بل إن ابن عربي ـ كعادته في مزج الأحكام بالرؤى والهواتف ونحوها ـ راح يحكي هذه الرؤيا ـ فقال: (ولقد أخبرني الثقة عندي بمكّة، أنّ شخصاً كان يكره ما يفعله الشرفاء بمكّة في الناس، فرآى في منامه فاطمة ابنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهي معرضة عنه: فسلّم عليها وسألها عن إعراضها عنه، فقالت له: انّك تقع في الشرفاء، قال: فقلت: يا سيّدتي ألا ترين ما يفعلونه في النّاس؟ فقالت: أليس هم بنيّ؟ قال: فقلت لها: من الآن تبت إلى اللّه، فأقبلت عليّ وتبسّمت)

ونحب أن نبين أن ابن عربي الذي قال هذه الكلمات في خصوص أحفاد أحفاد آل البيت.. هو نفسه الذي وقف مواليا ومناصرا ومنافحا عن أعداء أصحاب الكساء أنفسهم، الذين ورد الحديث بخصوصهم.. وهذا من التناقضات العجيبة التي لا تقل عن تناقضات السلفية.

ولذلك نرى الصوفية المتأثرين بهم تتفقون مع السلفية في تبرئة من أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حرب عليهم.. يقول ابن عربي ـ وهو يدافع عن بدع معاوية التي أحدثها في صلاة العيد ـ: (وكذلك ما أحدثه معاوية كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصهره، خال المؤمنين، فالظن بهم (الصحابة) جميل رضي الله عن جميعهم، ولا سبيل إلى تجريحهم)([9])

وهكذا راح يعتبر المتوكل ـ ذلك الناصبي الذي استعمل كل الوسائل في حرب أهل البيت، بل إنه لشدة حقده عليهم حرث قبر الإمام الحسين بن علي ـ من الأقطاب المقربين، فقال: (.. ولكن الأقطاب المصطلح على أن يكون لهم هذا الإسم مطلقاً، من غير إضافة، لا يكون منهم في الزمان إلا واحد. وهو الغوث أيضاً. وهو من «المقربين». وهو سيد الجماعة في زمانه.. ومنهم من يكون ظاهر الحكم، ويحوز الخلافة الظاهرة، كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام)([10])

ثم ذكر منهم ـ بثقة عجيبة ـ (معاوية بن يزيد.. وعمر بن عبد العزيز.. والمتوكل)

وهو بذلك يطالب موالاتهم ومحبتهم مثلما طالب بمحبة أهل البيت.. ولست أدري كيف يستقيم في العقل الجمع بين كل هذه المتناقضات؟

مع أنه هو نفسه يقول: (اعلم أنّ من الخيانة لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن تخونه فيما سألك فيه من المودّة لقرابته وأهل بيته، فإنّ من كره أحداً من أهل بيته، فقد كره رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ رسول اللّه واحد من أهل البيت، وحبّ أهل البيت لايتبعّض؛ فإنّه ما تعلّق إلاّ بمطلق الأهل لا بواحد بعينه، فاجعله ببالك، واعرف قدر أهل البيت، فمن خان أهل البيت فقد خان رسول اللّه في سننه، ومن خان ما سنّه رسول اللّه فقد خانه)([11])

وقد ذكرني هذا بكلمة سمعتها من بعض ممن يتيهون بنسبهم، فقد قال في حوار من حواراته مع مناظره الذي ساق النصوص التي تتهم معاوية والطلقاء بتحريف الدين، فبدل أن يناقش معه تلك النصوص قال له بكل كبرياء وغرور: أنا من آل البيت.. وجدي هو الإمام علي.. وأنا قد سامحت هؤلاء الطلقاء.. فما شأنك أنت؟

وهكذا أصبح الدين في عرف هؤلاء، وكأنه مرتبط بعواطف عائلة، لا بقيم عادلة..

ونسي هؤلاء كذلك أن فضل أئمة أهل البيت كعلي والحسن والحسين وغيرهم ممن وردت النصوص في مناقبهم، لم ينالوا ذلك بالكسل والدعوى، وإنما بالجهاد والصبر والتضحية والتقوى، وكل ما ورد عنهم يدل عليهم.

هذا مجرد نموذج عن الموازين التي أخلت بقيم العدالة القرآنية، وشرعت طبقية جديدة ما أنزل الله بها من سلطان.

وقد سارت كلمات ابن عربي في الأمة سريان النار بالهشيم.. فراحوا يضيفون إليها، ويؤكدونها بمختلف صنوف التأكيد من الرؤى والهواتف والكشف وغيرها.

وقد وصل بهم الأمر إلى كتابة الرسائل، لا في فضائل أهل البيت الذين احتقروا سلفهم الأول عندما عظموا النواصب.. وإنما بكتابة الرسائل في فضائل عصاة الأشراف.

ومن تلك الرسائل تلك الرسالة المسماة [نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء]، والممتلئة بكل أنواع العنصرية المتلبسة بلباس الدين..

فهو لم يكتف بتلك المكانة الخاصة لنسل الحسن والحسين، وإنما راح يضم إليها قريشا وغيرها، بل العرب جميعا، فقد ورد في الرسالة قوله: (أما فضل العرب فإنه منسدل عليهم من أول وجودهم إلى آخرهم.. وهذا مما اتفقت عليه أكابر الفحول من أهل المنقول والمعقول، ولا يخالف فيه إلا حاسد أو جاهل، لأن أجناس الخلق في التفضيل لها دوائر ورتب بحسب الاكتساب والنسب، فأعلاها وأفضلها دائرة سيد الوجود وعلم الشهود صلى الله عليه وآله وسلم والتي تليها أفضل من التي تحتها وهكذا إلى الدائرة البعيدة من الدوائر الآدمية وهي أفضل من جميع الدوائر الخلقية)([12])

ثم استنتج من هذه التقريرات الجزافية الخالية من أي حجة هذه المستلزمات العقدية الخطيرة، والتي عبر عنها بقوله: (فإذا فهمت هذا، فاعلم أن العرب أفضل من جميع أولاد آدم، وهم فيما بينهم مراتب في التفضيل كما أشرنا إليه بذكر الدوائر، فالدائرة القرشية أفضل من جميع النسبة العربية، ثم الهاشمية أفضل منها، ثم الفاطمية.. لأن الدوائر أقربها له صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من البعدي) ([13])

وبعد أن قرر هذا راح يستنجد بالنصوص التي لا تعارض القرآن الكريم فقط، بل تعارض كل القيم.. فمن تلك النصوص، ما رواه عن سلمان الفارسي قال قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: (تبغض العرب فتبغضني)([14])

ثم علق على هذه الرواية بقوله: (فجعل صلى الله عليه وآله وسلم بغض العرب سبباً لبغضه، وسبباً لفراق دين من حل بقلبه هذ الداء العضال، والعياذ بالله تعالى نسأل الله السلامة والعافية منه، وقد خاطب سلمان بهذا الخطاب، وهو سيد الفرس وسابقهم، وصاحب الفضائل الكثيرة، تنبيهاوزجراً لغيره أن يقع في هذا الوعيد الشديد والبلاء الوكيد) ([15])

بل إنه راح يمتهن سلمان ويحتقره لكونه من غير العرب، متناسيا كل ما ورد في فضله، فقال: (ولم يروا أي فضل كفضل سلمان أو علم كعلمه، ومع ذلك عرفه بمرتبته، ونهاه أن يترفع على من فضله الله عليه من غير عمل)

ثم راح يروي الأكاذيب عن سلمان، وأنه انتفع بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان يقول بعدها: (نفضلكم يا معشر العرب بتفضيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياكم، لا ننكح نساءكم، ولا نؤمكم في الصلاة)([16])

ثم علق على هذا النص ـ موجها كلامه لغير العرب ـ بقوله: (وهذا الحديث وحده كاف في هذا الباب لمن كان مشفقاً على دينه من أبناء العجم، لأنه وإن بلغ ما بلغ لا يشم رائحة لفضل سلمان وعلمه لأنه من أكابر الصحابة، وقد اتفق أهل الحق على أن القطب من هذه الأمة لا يساوي مرتبة الصحابي الذي قارف الذنوب في الفضل فضلاً عن غيره كما في حديث الاصطفاء) ([17])

وهكذا راح يروي الروايات الكثيرة التي لا تختلف عن تلك العنصرية اليهودية المقيتة، فقال: (فإذا فهمت هذا فأي علم لعالم أو فضل لولي يرتفع به على من فضله الله عليه بلا سبب، فاذا فعل فقد أوقع نفسه في العطب، ولتعلم من هذا أن بغض جنس العرب كفر، وسبب للكفر، وأن محبتهم سبب قوة الايمان. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحبوا العرب وبقاءهم فإن بقاءهم نور في الاسلام)،وروى الحاكم (حب العرب إيمان وبغضهم كفر، فمن أحب العرب فقد أحبني ومن أبغض العرب فقد ابغضني).. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي) ([18])

وغيرها من النصوص، وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان زعيما قوميا، وجاء لينهى أن يغش العرب، ولا مانع من غش من عداهم..وجاء ليحب العجم العرب.. لا لينشر المحبة بين العالم أجمع من غير تفريق بين أنسابهم وألوانهم.

ثم راح يحقق التحقيقات الجليلة ليثبت من خلالها أن الشرف ـ الذي يعطي صاحبه حصانة خاصة ـ ليس خاصا بأبناء الحسن والحسين، فقال: (وعند جهال العامة أن الشرف خاص بأولاد الحسن والحسين ولذلك بيناه بأن المؤمنين من أولاد هاشم كلهم أشراف، ولكن الحسن والحسين أفضل من جميع أهل البيت غير أبيهما علي كرم الله وجهه فإذا فهمت هذا فالآل الذين أمرنا بحبهم وتوقيرهم ومودتهم كل مؤمن من أولاد هاشم، وهم الذين من أسدى إليهم معروفا فيكافئه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ([19])

ثم راح يفسر كل النصوص التي تبين المكانة الخاصة لأهل بيت النبوة الذين أنيطت بهم مهمة حفظ الدين، ليطبقها على كل منتسب لأهل البيت، حتى لو كان أبعد الناس عن الدين، فقال تعليقا على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا)([20]): (ووجه تسميتهم بالسفينة أن من أجلهم وعظمهم شكراً لنعمة مشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفة، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفوز الطغيان، ثم أعلم أن نقش الفضل والكمال في حضرة الجلال والجمال هي الحقيقة المحمدية عليها افضل الصلاة وازكى التسليم فلا فضل لمخلوق إلا منها ولا قرب ولا وصل إلا لمن اتصل بها بنسب أو سبب) ([21])

وبعد كل هذه الجولة في ضرب المعاني القرآنية.. راح يقرر أن الفضل ليس في العمل والكسب، وإنما في النسب، لأن الأول كسبي، والثاني وهبي، والوهبي أفضل من الكسبي، وقد عبر عن ذلك بقوله: (وبهذا تعلم ان الشرف الذاتي النسبي أعلى وأفضل من الكسبي)

ولم يكتف بهذا، بل راح يخرق حجب الغيب، ليثبت المآل الذي سيؤول إليه هؤلاء الأشراف، ولو من غير عمل، فقال: (الوجه السابع في أحوالهم في المحشر يوم القيامة أنهم لا يقفون في موقف الضيق والأهوال، وإنما يقفون في موضع وحدهم كخاصة الله العليا)([22])

وبعد هذا المجلس الخاص الذي ينزلون فيه، (يبدأ بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أذن له في الشفاعة، ثم يذهبون إلى الجنة بعد خلاصهم من التبعات، فمن كانت له حسنات يؤدي منها، ومن لم تكن له أو كانت ولم توف فيخلص عنه صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فرغ منهم اشتغل بأمته) ([23])

هذه مجرد نموذج عن المفاهيم التي حاربت القيم القرآنية، وحرمت المسلمين من ظل المساواة التي جاء بها، لتضعهم في مجتمع طبقي يترفع بعضهم على بعض، ويحتقر بعضهم بعضا..

وليس الأمر قاصرا عليها، فقد كتب بعضهم رسالة أدبية لا تقل خطرا عنها اختار لها هذا العنوان العجيب: (منار الإشراف على فضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف)

وحسبنا بالعنوان عما ورد في الرسالة.. فهو يحكي كل ما فيها.. ومن العجيب أن تنهار القيم الإسلامية إلى الدرجة التي تؤلف فيها الكتب في فضل العصاة.


([1]) البخاري 2753 و4771 ومسلم 424.

([2]) البخاري 4/213 و5/29 وفي 5/2 ومسلم 5/114.

([3]) الفتوحات المكية، ج‏1، ص: 196.

([4]) الفتوحات المكية، ج‏1، ص: 196.

([5]) رواه الترمذي (3205 و3787)

([6]) رواه أحمد 4/107 (17113)

([7]) الفتوحات المكية، ج‏1، ص: 197.

([8]) الفتوحات المكية، ج‏1، ص: 197.

([9]) الفتوحات المكية ج7 ص458.

([10]) الفتوحات المكية، ج‏2، ص: 8.

([11]) الفتوحات المكّية: 9: 672.

([12]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([13]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([14]) رواه الترمذي وغيره.

([15]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([16]) رواه البزار.

([17]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([18]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([19]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([20]) رواه مسلم.

([21]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([22]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

([23]) نصرة الشرفاء في الرد على أهل الجفاء.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *