خذوا العبرة من موريطانيا

يا دعاة الأمازيغية في الجزائر خصوصا، والشمال الإفريقي عموما.. خذوا العبرة من موريطانيا، تلك الواحة الجميلة في الصحراء الغربية الإفريقية.. والتي استطاعت أن تقهر الأجواء القاحلة، والموارد الشحيحة، لتؤسس لنفسها قيما رفيعة يقل نظيرها في الوطن العربي جميعا.
شرفني الله بزيارتها في إطار مؤتمر علمي أقامته قبل حوالي شهر.. وقد رأيت فيها ما ملأني بالعجب.. كانت العربية تنطلق من حناجرهم فصيحة بليغة لم أر مثلها حتى في البلاد التي تزعم أنها مراكز العروبة.
وكان الشعراء ينتشرون فيها، ويقرؤون قصادئهم العتيقة الممتلئة بالجمال، حتى يشعر المرء، وكأن أسواق الشعر قد قامت من جديد.. وعندما سألتهم عن سر كثرة الشعراء، قالوا: نحن بلاد المليون شاعر.. هكذا يطلق علينا.. فقد وضع الله فينا حب الشعر.. وحب العربية..
قلت: ولكن أصولكم إفريقية.
قالوا: نحن لا تهمنا أصولنا ولا فروعنا.. ولا حسبنا ولا نسبنا.. نحن يهمنا أننا صرنا عربا بقرآننا وديننا.. وقد ألقى الله في ألسنتنا حب العربية، كما ألقى في قلوبنا حبه وحب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذلك تجدنا نحفظ كل شيء يرتبط بالعربية ابتداء من قرآننا، وانتهاء بكل العلوم التي ترتبط به.. وذلك ما يسر على ألسنتنا أن تقول الشعر كتابة وارتجالا.
قلت: ولكن لم لا تهتمون أيضا باللغات الإفريقية؟
قالوا: أتريدنا أن نكون كبني إسرائيل الذين آتاهم الله المن والسلوى، فراحو يطلبون الثوم والبصل؟
قلت: لكنكم يمكنكم أن تجمعوا بينهما.
قالوا: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، وما جعل الله لامرئ من لسانين في فمه.. وإن كان ولابد أن نضيف ضرة لعربيتنا الجميلة، فسنضيف لغة من اللغات التي نستفيد منها من علوم العصر وتقنياته ما ينفعنا.
لم يكن الشعر وحده، ولا الفصاحة وحدها هي السوق التي تميزت بها موريطانيا.. بل كانت تحافظ إلى جانب ذلك، أو بسبب ذلك على كل قيم العروبة الأصيلة المضمخة بعطر الإسلام.. فقد كان الكرم والنبل والشهامة والرفق واللين.. وكل القيم الرفيعة تنطبع على ملامح كل شخص موريطاني التقينا به، أو تحدثنا إليه.
وكان الجميع.. بما فيهم إخوانهم من الأفارقة الذين التقينا بهم.. يتغنون بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه، وتعظيم القيم التي جاء بها من غير أن ينطقوا بكلمة واحدة عن لغاتهم، ولا عن أصولهم، ولا عن فروعهم.. لأنهم توحدوا جميعا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي قرآنهم.. وفي لغتهم التي جمعهم عليها نبيهم وكتابهم.
ومن شاء أن يجادلني في هذا، فليذهب إلى نواقشوط أو غيرها من المدن الموريطانية، ليرى فيها بأم عينيه أسواق العلم والشعر والأدب الرفيع والقيم النبيلة.. وليرى كيف تكون اللغة وسيلة من وسائل التحضر والترقي الأخلاقي.. وإن شاء أن يجري مقارنة، فيمكنه أن يقوم بجولة مماثلة في بعض مدننا التي راحت تطلق الهوية العربية، وتطلق معها كل القيم النبيلة.. وأول ما سيراه تلك الحانات والخمور وكل مظاهر الانحراف التي تنتشر على الملأ من دون حياء ولا خجل..