خذوا العبرة من مسيحيي المشرق

خذوا العبرة من مسيحيي المشرق

من العجائب التي أفرزها هذا الواقع المملوء بالفتن أن نطلب من المسلمين الاقتداء بالمسيحيين، ولكن ليس لنا إلا ذلك.. والقرآن الكريم دعانا إلى التعامل بالعدالة والحياد التام، وأن نعطي كل شيء حقه.

ولهذا فإننا إذا قارنا بين الموقف الأمازيغي المعادي للعربية، وبين موقف مسيحيي المشرق نجد البون الشاسع، فالأقباط المسيحيون الذين دخل الإسلام أرضهم، وهم يتكلمون بالقبطية، ما أسرع ما تركوا قبطيتهم، وراحوا يتعلمون العربية، ويتحدثون بها في حياتهم العادية، ويكتبون بها الكتب والمؤلفات التي تنصر دينهم، بل وترد على الإسلام نفسه.. ولم يتركوا للقبطية من مجال إلا المجال الديني المحض المتمثل في الطقوس التي يؤدونها بها.

وهكذا إذا ذهبنا إلى مسيحيي لبنان وفلسطين وسورية والعراق،حيث نجد عشق العربية متغلغلا في جذورهم مع كون الكثير منهم ليسوا عربيا، وكونهم يعرفون لغات أخرى، ويجيدونها، لكنهم يحصرون استعمالهم لها في المجال الديني المحض، أما الحياة، فهم يتحدثون فيها بالعربية، ويعربون عن مدى حبهم لها.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.. لكن أجملها وأشرفها أولئك الآباء اليسوعيون الذين خدموا العربية ومعاجمها بما لم يخدمها به العرب أنفسهم.

ومنهم تلك الأسرة الطيبة أسرة ناصيف اليازجي، وهي أسرة مسيحية، كلدانية، وأستاذتها رهبان مارونيون.. ومع ذلك كانوا عاشقين للعربية، حتى أنهم كانوا يحفظون القرآن الكريم ونهج البلاغة لأجلها.. وقد روي من شدة حرص ناصيف على أصول اللغة العربية، أنه كان لا يتحدث إلى أبنائه إلا بالفصحى.. وذات يوم طلب من ابنته الصغيرة وردة (التي أصبحت فيما بعد أديبة معروفة) أن تناوله قنينة ماء ليشرب. وناولته إياها وهي تقول: تفضل يا أبي هذه هي القنينة (بفتح) القاف، فقال لها بغضب: اكسريها (وهو يقصد كسر القاف) فما كان منها إلا أن ألقت بالقنينة على الأرض وحطمتها.. حينها صفق اليازجي بيديه حسرة وأسفا وقال: هذا ما جنته اللغة علي. رحمك الله يا أبا العلاء المعري!

هذا نموذج واحد.. والنماذج أكثر من أن تحصى وحسنها منها الدور الذي قام به الأدباء الكبار من أمثال جبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي، وميخائيل نعيمة، غيرهم كثير في خدمة الأدب العربي، وتطويع العربية للواقع الجديد.

وأختم هذه النماذج المليئة بالعبر بكلمة للمؤرخ المعاصر المعروف د. نقولا زيادة في مجلة العربي الكويتية أيلول 2004، فقد قال: (علينا أن نتقن لغتنا، وإتقان هذه اللغة يقضي بأن يُقْبِل كل واحد منا على القرآن الكريم فيفهمَه فهماً صحيحاً. أما المسلم فله على ذلك أجره عند ربه، وأما الباقون فلهم على ذلك أجرهم عند نفوسهم وعند أبنائهم، الذين يُربُّونهم عندئذ تربية عربية خالصة)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *