خذوا العبرة من الأوس والخزرج

خذوا العبرة من الأوس والخزرج

يا دعاة الأمازيغية والعربية والكردية والفارسية والطورانية.. اسمعوا مني هذا الخبر، فهو أنفع لكم من كل الأخبار العاجلة والآجلة..

لقد ورد في السيرة المطهرة للنبي الذي تؤمنون به جميعا، وتسلمون له جميعا أنه عندما دخل المدينة المنورة وجد فيها شعبين يتصارعان بسبب حرص كل واحد منهما على إثبات هويته، ومحو هوية الآخر.. وكان لكل منهما راية.. وكان لكل منهما شعراء وخطباء وإعلاميون ينفخون نار العداوة بينهما.

إنهم لا يختلفون عنكم الآن كثيرا.. ففيكم أيضا كتاب وشعراء وخطباء وإعلاميون وباحثون ينفخون فيكم ما يسمونه أمجاد الأجداد، وإحياء الهوية، والتميز العنصري عن الآخر، وملكية الأرض..

فلذلك لكم أن تنظروا ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذين الشعبين لتعتبروا بهما، فتستنوا بسنته فيهما..

كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينها أن ينضم إلى الشعب القوي من ذينك الشعبين، ويخوض معه المعركة، لينتصر على الشعب الآخر، لكنه لم يفعل.. بل راح يمزج بين الشعبين.. وراح أكثر من ذلك يمزج بينهما وبين الشعب الجديد الذي حل بينهما.. ليمحو كل الفوارق التي أحدثتها الأنانية والعصبية والأهواء، ويحل رابطة الإيمان بدل رابطة النسب.. ورابطة الأخوة في الله وفي الدين بدل رابطة الأخوة في القبيلة والأرض.

لكن اليهود الذي تعودوا على إثارة الفتن والنعرات راحوا يستعملون كل الوسائل لقطع تلك الأواصر التي بناها الإيمان..

وقد انتصروا في يوم من الأيام، فقد روي أن شاس بن قيس، وهو شيخ يهودي، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لتآلفهم وأخوتهم، مر على جماعة من الأوس والخزرج فآلمه اجتماعهم، فراح يسرد لهم أحداث التاريخ، ويقص عليهم قصص الصراع التي حصلت بينهم، وكيف قتل بعضهم بعضا، وانتهك بعضهم عرض بعض..

لقد فعل مثلما يفعله الآن بينكم حين يقلب أوراق التاريخ والجغرافيا لينشر العداوة في صدوركم.

حينها، استطاع ذلك اليهودي أن يشعل القلوب بالأحقاد، فليس هناك شيء يثير الأحقاد مثل التاريخ صادقه وكاذبه..

وقد تجلى ذلك الحقد في تحول حديث الأوس والخزرج من الحديث عن الله ورسوله إلى الحديث عن المثالب والأمجاد..

وتحول حديثهم من الرؤية الاستشرافية المستقبلية لإحياء الدين ونصرته، وعمارة الدنيا واستثمارها، إلى الحديث عن تاريخ الآباء والأجداد، وإحياء الهوية، وبعث الرمم البالية، والتقاليد واللهجات الفانية.

ووصل الأمر إلى درجة التقاتل، فقد قال بعضهم بعد سجال طويل في أفضلية كل فريق على الآخر: (إن شئتم والله رددناها الآن جذعة)

ثم ما لبثوا حتى نادوا: (السلاح.. السلاح.. موعدكم الظاهرة)، وهي مكان في المدينة المنورة.. فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض.

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إليهم، وقال: (يا معشر المسلمين الله الله، أتدعون بدعوى الجاهليــة وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا!؟)([1])

وكانت تلك الكلمة وحدها كافية لأن تطفئ كل نيران الفتنة.. حينها عرف الجميع أن كل تلك الأحاديث التي تصوروا أنها تعيد لهم هويتهم وذاتيتهم ليست سوى حمية جاهلية، ووسوسة شيطانية.. فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو نسبهم وهو حياتهم ومماتهم وحقيقتهم وهويتهم..

حينها نزل التحذير الإلهي يخاطب الأجيال جميعا، يدعوها للاعتبار بالأوس والخزرج حتى لا يستطيع سايكس ولا بيكو أن يفرق صفهم، ويقطع أرضهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، فقد اعتبر الله تعالى الاستماع إلى المفرقين والعنصريين كفرانا بالله وبنعمه.

ثم عقب على ذلك بقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، فمن كان سامعا لكتاب الله متدبرا معانيه، يعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويوقن به، فإنه يستحيل عليه أن يقع في ذلك الفخ.

وقد عقب على ذلك كله بوصية جامعة نص عليها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]

لكن هؤلاء العنصريين أبوا إلا أن يردوا على الله قوله.. فنسخوا قوله: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} بقوله: (ولا تموتن إلا وأنتم عرب أو أكراد أو أمازيغ)


([1])  رواه ابن هشام في السيرة النبوية، والطبري والبغوي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *