حينما يتجاوز التسامح حدوده

التسامح خلق نبيل دال على رؤية سليمة لحقائق الوجود، ودور الإنسان فيه، وكون الأمر لله في خلقه من قبل ومن بعد.. ولذلك كان رسل الله وورثة الأنبياء عليهم السلام أكثر الناس تحققا بهذا الخلق؛ فهم أكثر الناس سعة صدر، ولين طباع.
ولكن مع ذلك، فإن التسامح له حدوده التي لا يصح أن يتجاوزها، مثله مثل سائر الأخلاق المحصنة بجداري العدل والحكمة..
فمن التسامح ألا نؤذي أصحاب أي دين كان، ولا أن نتدخل في خصوصياتهم، ولا أن نهدم معابدهم، أو نتكبر عليهم بأي لون من ألوان التكبر.. بل نحن مطالبون عكس ذلك بتأليف قلوبهم ومراعاة مشاعرهم، وعدم التعرض لمقدساتهم بالشتم أو السب أو الإساءة.
وقد علمنا الله ذلك مع أشد الناس كفرا، فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108]، فالله تعالى لم يكتف بالنهي عن سبهم، وإنما راح يبرر سبهم في حال حصوله بكونه استفزازا، وعن غير علم.
هذا هو التسامح المشروع، والذي مثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن تمثيل، سواء مع من جاوره من اليهود، أو مع أولئك النصارى الذين وفدوا إليه من نجران.. فقد أنزلهم في المسجد، ولما حانت وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد، فكانوا يصلون في جانب منه([1])، وعندما حاورهم طبق في حواره لهم ما أمرنا الله تعالى به في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت: 46]، ولم يكرههم على الدخول في الإسلام، بل ترك لهم الحرية في الاختيار، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران([2]).
ومثّله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يوصي بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين، ويدعو إلى مراعاة حقوقهم، والإحسان إليهم، وينهى عن إيذائهم؛ فيقول: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه ـ أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه ـ يوم القيامة)([3])، ويقول: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)([4])
لكن مع ذلك، فإن التسامح له حدوده المشروعة التي لا يصح أن نتجاوزها، ومن تجاوزها وقع في الظلم والبخس الذي نهينا عنه.
ومن تلك الحدود ألا نسكت عن النصيحة والتوجيه، فاحترامنا لمقدسات الآخر لا تعني سكوتنا عليها، أو اعتبارها وجهة نظر، بل علينا أن ندعو إلى تصحيحها، ونستعمل كل الحجج لأجل ذلك، كما علمنا ربنا عند حديثه عن الذين ضلوا من أهل الكتاب وأسباب ضلالهم، والردود العقلية القوية على ذلك.
فمن الخداع لهم أن نعتبر ما يقعون فيه من الضلالة هداية، أو نقرهم على ذلك، مع أن الله تعالى أخبر بأنهم انحرفوا بذلك انحرافا خطيرا، قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، فالله تعالى اعتبر القائلين بذلك كفارا، وتوعدهم بالعذب الشديد، ومن احترامنا لكلام الله أن نردد ما قاله، لا أن نناقضه، ونخالفه، ونخدع بذلك أنفسنا، ونخدع قبل ذلك أولئك الذين كان علينا أن ننصحهم، لا أن نجاملهم.
ومن تلك الحدود ألا تنسجم نفوسنا مع الباطل، وتقره، وتذعن له، بحجة التسامح وحرية الفكر والرأي.. فمن العجب أن نرى مسلما يسمع ملحدا يسخر بالله أو يستهزئ به، ثم لا يتحرك له جفن، ولا يهتز له عرق، وكأن شيئا لم يحصل، مع أنه لو تعرض أحد لأبسط شيئ يتعلق به لقامت قيامته، وتخلى عن كل ألوان التسامح والعفو وسعة الصدر.
وهذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى مخبرا عن بعض عقائد أهل الكتاب أو غيرهم من الأديان {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } [مريم: 88]، ثم بين تأثير هذه الكلمة العظيمة على الكون جميعا، وكيف ينفعل لها، فقال: { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } [مريم: 89 ـ 92]
ولهذا فإن عدم اهتزاز قلب المؤمن لما يقال في حق الله مما لا يتناسب مع جلاله وعظمته وقدره هو ضعف في الإيمان، وقصور فيه؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتأثر كثيرا بسبب ما يقع فيه المشركون وغيرهم من أنواع الضلالة، كما قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]
لكنا للأسف صرنا نرى من لا يكتفي بعدم تأثره لكفر الكفرة، ولا إلحاد الملحدين، بل نراه يبرر لهم، ويدافع عنهم، بل هناك من يترحم عليهم، ويسأل الله لهم الفردوس الأعلى، ومجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. إلى الدرجة التي يتصور فيها عوام الناس أن ذلك الذي عاش ملحدا أو كافرا أو ساخرا من الله سيستقبل من طرف المقربين ليدخل الجنات التي أعدها له هؤلاء المتسامحون.
ويغفل هؤلاء أن مثل هذه المواقف تؤثر في نشر مثل تلك الأفكار.. بل هي
أكبر أداة من أدوات نشرها.. فهؤلاء المتسامحون قد يدعو أحدهم على جاره المؤمن
بدخول جهنم، وبتلقي كل أنواع العذاب فيها، بسبب دينار أخذه منه، أو مقولة قالها
له.. لكنه إن كان الأمر مع الله ومع حقائق الإيمان الكبرى تجده متهاونا متسامحا
حليما كريما.
([1]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 549)
([2]) المرجع المرجع السابق (3/ 549)
([3]) رواه أبو داود (3052)
([4]) رواه أحمد 2/171 (6592)