حسن حنفي.. والثورة على الدين

حسن حنفي.. والثورة على الدين

بعد الانتكسات الكثيرة التي مر بها واقعنا العربي والإسلامي، وعند ظهور المدارس الثورية المختلفة، خاصة اليسارية منها، برز في مجتمعاتنا الإسلامية صنفان من الثورة، ومعهما صنفان من الثوار:

صنف رأى أن سبب التخلف هو البعد عن الإسلام وقيمه الحضارية النبيلة، وأننا نحتاج إلى العودة إلى الإسلام الأصيل، بمفهومه الصحيح، ونقيم ثورة على التخلف الذي استثمر بعض مفاهيم الدين ليشوه الدين والدنيا من خلالها.

وصنف رأى أن سبب التخلف هو الدين نفسه، فلذلك راح يحمل على الدين، ويدعو إلى البعد عنه، ويتصور أنه أفيون الشعوب، ومن هؤلاء من جاهر بذلك، ومنهم من استعمل التقية والحيلة وأصناف الخدع لتمرير ذلك، وكان منهم صاحب المشاريع الكثيرة [حسن حنفي] الذي يمكن تلخيص مشاريعه جميعا في العبارة التي ذكرناها في العنوان، وهي [الثورة على الدين]

والميزة التي تميز بها على الكثير من الثوار على الدين أنه يملك ذكاء حادا، جعله لا يقع فيما وقع فيه أولئك المغفلون الأغبياء الذين جاهروا بإلحادهم، وصرحوا به، وادعوا صراحة تبنيهم للفكر اليساري بمنظومتة العقدية والاجتماعية، لأنه يعلم أن أولئك سيرمون في النفايات، ولن يلتفت لهم أحد.

ولذلك راح يستعمل مصطلحات الدين نفسها ليضرب الدين؛ فزعم أنه متكلم وأصولي وفقيه.. وراح يتحدث عن القضايا المختلفة كما يتحدث عنها رجال الدين أنفسهم، ويستعمل نفس تعبيراتهم.. حتى أن الكثير جلس للتلمذة بين يديه كما يجلس بين يدي المشايخ.

لكن الحقيقة لا يمكن أبدا أن تطمسها الألفاظ، كما قال تعالى عن المنافقين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المنافقون: 1، 2]

وهاتان الآيتان الكريمتان تعبران عن المشروع الذي يحمله حسن حنفي ويدعو إليه أحسن تعبير، فهو في ظاهره وبدايته ومقدماته ينطلق من العقيدة والشريعة الإسلامية، لكنه في باطنه ثورة عليهما، ودعوة للتملص منهما، والعبرة عند العقلاء بالنتائج لا بالمقدمات، وبالنهايات لا بالبدايات.

وتبدأ ثورته على الإسلام من ذلك المنهج البراغماتي الذي اعتمده، ودعا إلى استعماله، واستطاع أن يمرر مشروعه من خلاله.. وهو أن يُنظر إلى الإسلام، لا باعتباره دين الله، وأنه حقيقة مطلقة دلت عليها الأدلة العقلية، وأثبتتها أصناف الحجج، وإنما من كونه مادة يمكن استثمارها والاستفادة منها في تغيير المجتمع وتوجيهه.

وليته اكتفى بذلك، بل راح يدعو إلى استثمار التوجه الديني، لا بتعميقه، وتصحيحه، وإنما بتحريفه عن مساره تحريفا كاملا، لتتحول العقيدة إلى ثورة، ويتحول الإله إلى إنسان، ويتحول كل شيء في الدين إلى وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي والرفاه الاقتصادي باعتباره الغاية الكبرى، لا رضوان الله، ولا جنته، ولا تحقيق السعادة الأبدية التي تحن إليها كل النفوس، ولا ترقية الروح لتتصل بالملأ الأعلى، وتتحقق بما يتطلبه ذلك المحل الرفيع من سمو وروحانية.

ولذلك فإن أقرب المفكرين إليه هو [وليم جيمس] ذلك الفيلسوف البراغماتي الأمريكي، صاحب [إرادة الاعتقاد]، والقائل: (إن الاكتشاف الأعظم الذي شهده جيلي والذي يقارن بالثورة الحديثة في الطب كثورة البنسلين هو معرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حياتهم عبر تغيير مواقفهم الذهنية)، والذي قال في كتابه [البراغماتية]: (إن الحقيقي فى أوجز عبارة ليس الا النافع الموافق للمطلوب فى سبيل تفكيرنا تماما، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب فى سبيل مسلكنا، وحيازة الحقيقة بعيدة كل البعد على أان تكون غاية فى ذاتها، فهى لاتزيد عن كونها مجرد وسيلة أو إرادة أولية لبلوغ الإشباع والرضا والسرور.. كما أن الحقيقة نفسها فى حالة تغير وتبديل وانتقال)

وهكذا، وبنفس الأسلوب عبر حسن حنفي عن مشروعه التجديدي حين قال: (مهمة التراث والتجديد إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة، بل ووضع احتمالات جديدة، واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد صواب وخطأ نظري للحكم عليها، بل لا يوجد إلا مقياس عملي، فالاختيار المنتج الفعال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب، ولا يعنى ذلك أن باقي الاختبارات خاطئة، بل يعنى أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى وعصور أخرى ولت أو مازالت قادمة)([1])

وبناء على هذا راح يصيغ أفكاره حول العقيدة والشريعة، والتفسيرات الجديدة لهما، والتي يرى أنها تتناسب مع هذا العصر الجديد، وهي بمجموعها ليست سوى تفريغ للإسلام من محتواه، بحيث لا يبقى منه إلا الأسماء، أما المسميات، فتتغير تغيرا تاما.

ومن الأمثلة على هذا التفريغ، أو على هذه الثورة على حقائق الإسلام قوله: (فالله الواحد الذي ليس كمثله شيء، والذي لايرى ويرى كل شىء، ليس هو بالضرورة التصور الوحيد لله كما نعلم من تاريخ العقائد، فهناك الله الحسي المجسم، محل الحوادث، عند الكرامية والمشبه على اختلاف فرقهم، وليس بالضرورة أن يكون التصور الأول صحيحا والثانى باطلا، إذ يعكس التصوران صراعا قويا، وقوة السلطان الذى ليس كمثله شىء وقوة المعارضة التي تجعل حركة التاريخ جزءا من الألوهية، أما الصفات التى تجعل الله يسمع ويرى ويبصر كل شيء، فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسى خالص للسلطة، والتى هى بدورها ترى وتسمع وتبصر كل شيء) ([2])

وهكذا يعبر عن القرآن الكريم والوحي الإلهي، فهو عنده مجرد افتراض لا يمكن التحقق منه إلا بمدى خدمته للواقع، فيقول: (أما الوحي بالنسبة لي، فإنني آخذه على سبيل الافتراض. أنا في رأيي؛ الوحي هو افتراض في البحث العلمي، يقوم بدور الافتراض في البحث العلمي. فهل يتحقق؟ والتحقق من الصدق. أقصد التحقق تجريبيًا صِرفًا وليس صوريًا، لا اتفاق نتائج مع مقدمات، ولكن التحقق من صحة هذا الفرض في الواقع الاجتماعي. ومن ثم فأهلًا وسهلًا، أنا أتقبل كل النبوات وكل الوحي وكل الآراء. وعليّ أن امتحنها على محك الواقع)([3])

ويؤكد هذا المعنى بقوله: (نصوص الوحي ليست كتابًا أُنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل إلهي! ليتقبله جميع البشر. بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة)([4])

وهو بهذه الطريقة من التفكير يردد نفس ما ردده [وليم جيمس] حين قال: (إننا بدلا من أن نتسائل عما يسير الأشياء، وهل هي المادة أم الله؟ يجب أن يكون تساؤلنا كالتالي: ماهو الفرق العملي الذي يمكن أن يحدث الآن إذا قدر للعالم أن تسير دفته بواسطة المادة أو بواسطة الله؟ إننا في مقدورنا أن نتمتع بإلهنا إذا كان لدينا إله)

ولهذا كانت مشاريعه جميعا مشاريع ثورية تحاول أن تحافظ على الأسماء مع تغيير المسميات، بناء على تصورها أن الدين والتراث ليسا سوى نتيجة للواقع السياسي والاجتماعي الذي مرت به الأمة في مراحلها المختلفة.

ولهذا نجد هذه العناوين في كتبه ومشاريعه: (التراث والتجديد)، و(من العقيدة الى الثورة)، و(من النص الى الابداع)، و(التراث والعصر والحداثة)، وهي كلها مشاريع لا تريد التجديد أو الإبداع بمفهومة المعروف، وإنما تريد إلغاء القديم وإحلال مفاهيم جديدة بدلها لا علاقة لها بها.

فمهمة المفكر في التعامل مع التراث ـ على حسب ما يصور ـ هو (أن يعيد قراءته بحيث يعيد إليه تعدد الاختيار بين بدائله حتى يستقر على وجه آخر أصلح للناس وأنفع لهم)

ولذلك فإن المنطلق عنده في التعامل مع التراث ليس البحث في ذاته، والتحقيق فيه، وفي مدى عقلانيته وعلميته، على أسس علمية وموضوعية بحتة، وإنما في الانطلاق من الواقع والمجتمع، لتخير ما يتناسب معهما، فإن لم نجد نبتدع ما يتناسب مع المجتمع، وهو نفس ما عبر عنه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]

فهذا الصنف الذي ذكره القرآن الكريم هو الذي ينظر إلى الدين، لا باعتباره حقائق واقعية، وإنما باعتباره وسائل نفعية، يمكن الاستفادة منها، واستثمارها في الدنيا وللدنيا، فإن تحقق الاستثمار، فبها، وإلا رمي كما يرمى كل شيء لا منفعة فيه.

وهكذا يدعو حسن حنفي إلى تطوير الدين، بحيث يتحول إلى وسيلة للدنيا، وللرفاه، لا وسيلة للتعرف على الحقائق، والسلوك وفق مقتضياتها.

ولهذا، فإنه بعد بحثه في التراث والتاريخ، وجد أن (المعتزلة أفضل من الأشاعرة بالنسبة للعصر، فحاجتنا إلى العقل والحرية.. والدفاع عن الفلسفة القديمة وحكمتها المنطقية والطبيعة والإلهية أفضل من رفضها)

وهو يذكر ذلك ليوهم القارئ أنه يفضل المعتزلة على الأشاعرة، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهو يرفضهما جميعا، لأنه يصور أن الواقع الحالي يحتاج تطورا أكثر، وجرأة أكثر في التعامل مع الحقائق الدينية، ولذلك طرح البديل عن علم الكلام المعروف بما سماه: لاهوت الثورة، ولاهوت التحرير، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم، والتي يرى أنها جميعا (لا تقل شرعية عن نظرية الذات والصفات عند الاشاعرة، أو عن أصلى التوحيد والعدل عن المعتزلة)

أو كما عبر عن ذلك في كتابه [الحداثة والمعاصرة] بقوله: (والحقيقة أن الطبيعات والالهيات علم واحد مرة مقلوبا إلى أسفل فتصبح الطبيعات، ومرة مقلوبا إلى أعلى فتصبح الإلهيات)

ولهذا، فإن الله عنده (هو الثابت فى الكون، والعالم هو الحركة فيه واجهتان لشىء واحد.. لا يوجد إلا العالم، والله هو دوامه وبقاءه واستمراره وقوانينه وسنته الثابتة، وإذا كان الطريق إلى الفوز والنجاة والسعادة الأبدية فى نظرية الخلق هو تطبيق الشريعة وممارسة الشعائر.. فإنه فى نظرية قدم العالم العلم بقوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها وتسخيرها)

وبناء على ذلك، فإن الاعتبار الأساسي عنده ليس لله، ولا لوحيه، ولا لشريعة، وإنما للمجتمع، فـ (المجتمع أولاً والوحي ثانياً. والناس أولاً والقرآن ثانياً)([5])

أو كما عبر عن ذلك تحت عنوان [أنساق العقائد والنظم الاجتماعية] بقوله: (يمكن إفراز أنساق عقائدية جديدة تلبى مطالب الظروف الحالية وتطلعات أجيالنا الى التحرر والحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة والتنمية وتأصيل الهوية وحشد الجماهير. هم (القدماء) رجال ونحن رجال نتعلم منهم ولانقتدى بهم. يمكن أن يكون الله هو الأرض حرصاً من على تحرير الأرض وربطها بالألوهية وكما هو وارد بنص القرآن {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف: 84]، ويمكن أن يكون الله هو الخبز والحرية تعبيرا عن حاجتنا إلى الغذاء والأمان طبقا لنص القرآن {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]) ([6])

وبناء على هذا كله، فإن الدين عنده ليس سوى منتج حضاري، يمكن تطويره بحسب الظروف المختلفة، بل يمكن هدمه من جذوره، وبناء دين جديد على أساسه، لتتحقق المنفعة التي هي الهدف الأكبر من الدين.

وقد قال بصراحة معبرا عن ذلك: (نشأ التصور الواحدى فى مجتمع جاهلى قبلى تتناحر فيه القبائل تعبيرا عن حاجة وتلبية لمطلب لدى مجتمع محدد فى لحظة تاريخية معينة)([7])

وقال في كتابه [دراسات إسلامية]: (علم العقائد إذن اختيارات سياسية محضة، وليس علما مقدسا، وكل ظروف تفرض اختياراتها، وقد تتم تحت ظروفنا الحالية اختبارات أخرى. قد يكون من صالح الأمة الآن الدفاع عن الله وتصوره باعتباره أرضا درءا للاحتلال وتحريرا للأرض)

وهكذا يتحول الدين عنده من دين يبحث عن الله، وإقامة الصلات الروحية به إلى دين يبحث في الإنسان الذي يعتبره صانعا لله، وليس الله هو الصانع للإنسان.

ونحب أن نبين هنا أن حديثه عن التراث لا يعني به ما أنتجه المسلمون طيلة تاريخهم من أبحاث في الفقه والعقائد والتفسير وغيرها فقط، وإنما يعني به القرآن الكريم والسنة المطهرة أيضا، فهي عنده من التراث الذي يحتاج إلى انتقاء وإعادة قراءة، لا على أسس علمية، وإنما على أسس براغماتية.

وبناء على هذا المنهج البراغماتي، يتحدث عن النبوة قائلا: (وهل تجب النبوة لحاجات عملية أي للتنفيذ والتحقيق وأداء الرسالة مادام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان، ألا يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة الإمام لها، هناك أيضا العقل الاجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع.. إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يند عن العقل. هل استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص الإنسان وهي أول من يعترف بها؟)

وبناء على ذلك ينكر أن يكون في القرآن أي شريعة، فيقول: (ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد، بل مساعدة الطبيعة على الازدهار والحياة على النماء)

وبناء عليه أيضا يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره زعيما براغماتيا لا رسولا يحمل الحقائق والقيم المطلقة؛ فيقول: (النبي محمداً كان يحمل هم الوحدة الوطنية للقبائل العربية وتكوين دولة في الجزيرة العربية، وكانت له مشاكل مع اليهود والنصارى ومع المشركين أيضا، فجاء المشركون إليه بعرض جيد، وقالوا له: نعم أيها الأخ، ما المانع أن تذكر اللات والعزى لمدة سنة واحدة، وقل أنهم ليسوا آلهة.. فقال بينه وبين نفسه: إن هذا العرض يشكل بالنسبة لي كزعيم سياسي شيئا جيد، لأنه يحقق لي مصالحة مؤقتة مع العدو، وماذا يعني لو أنني ذكرت اللات والعزى لمدة سنة واحدة ثم أغير بعدئذ؟)

أما أحاديثه عن الله، فهي لا تختلف كثيرا عن مقولات اليساريين، ولو أنه يحاول كل حين تهذيبها حتى لا تصطدم بأولئك الذين يقدسونه دون أن يدركوا أهدافه، فهو يتحدث عن علماء الكلام وحديثهم عن الله قائلا: (مع أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل ؛ فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكَبَّر إلى أقصى حدوده)

ويقول: (إن لفظ (الله) يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، مطلقاً يراد التعبير عنه بلفظ محدود)

ويقول: (فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضاً عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله)

ويقول: (ومن ثم فتوحيدنا هو لاهوت الأرض، ولا هوت الثورة، ولا هوت التنمية، ولا هوت النظام، ولا هوت التقدم، كما هو الحال في العديد من الثقافات المعاصرة في البلاد النامية التي نحن جزء منها)

وبناء على ذلك كله؛ فإن النتيجة التي يرمي إليها من خلال مشاريعه جميعا، وهي نفس النتيجة التي ينطلق منها جميع التنويريين الجدد، هي إقصاء الدين إقصاء كليا من الحياة، وفي جميع مستوياتها، وقد عبر عن ذلك بقوله: (فإن قيل إن التراث والتجديد سيؤدي حتماً إلى حركة علمانية وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم ومورثاتنا الروحية وآثارنا الدينية، قيل قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوة طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية وقسمة الحياة إلى قسمين واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير وتوطينها مع السلطة وحفاظها على الأنظمة القائمة نشأت العلمانية استرداداً للإنسان لحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك ورفضه لكل أشكال الوصاية عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير، العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته وإلى الإنسان دون غيره.. العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره والدونية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ما هي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادونية تبعية لفكر غريب وتراث مغاير وحضارة أخرى)

وهو بهذا يردد نفس ما ردده الماركسيون والوجوديون وجميع الملاحدة حين يعتبرون وجود الله إلغاء لوجود الإنسان، ويعتبرون شريعة الله كبتا واغتصابا لحرية لحرية الإنسان، ولذلك فإن أحسن تعبير عن مشروع حسن حنفي هو [الثورة على الدين]


([1])  التراث والتجديد، حسن حنفي.

([2])  التراث والتجديد، حسن حنفي.

([3])  الإسلام والحداثة (ص220،219)

([4])  التراث والتجديد (135)

([5])  الحداثة والمعاصرة، حسن حنفي.

([6])  الحداثة والمعاصرة، حسن حنفي.

([7])  الحداثة والمعاصرة، حسن حنفي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *