تناقضات قلبية

تناقضات قلبية

من أكبر الأوهام خطرا تلك التي تتعلق بالقلب، محل العواطف والمواجيد.. فهو لا يتحمل اجتماع النقائض، لأنه مرآة الروح، والمرآة لا تستطيع أن تتوجه لجهتين متناقضتين في نفس الوقت.

ولذلك نرى في الواقع أن من أحب شخصا أبغض كل أعدائه، وأبغض كل من يؤذيه، ولو بكلمة، ثم نرى ذلك البغض يتحول إلى حقد، ثم قد يتحول إلى عنف حسي أو معنوي.. وقد لا يتحول.

ولعل أقوى الأدلة على ذلك هو ذلك الموقف الشديد الذي اتخذه الكثير من الذين لا يسعني إلا أن أحترمهم،وإن كنت أختلف معهم، بسبب موقفي من معاوية أو غيره ممن يتتيمون محبة وعشقا لهم.. ولذلك أنا أقدر وضعهم، فحب الشيء يعمي ويصم، والعشق يستبد بصاحبه، حتى لا يبقى له مجال للتفكير أو البحث أو التعقل.

وأنا مثلهم أيضا عاشق ولهان، ولكني وجهت قلبي إلى قبلة غير التي وجهوا لها قلوبهم.. لقد اجتهدت كثيرا في أن أبحث لقلبي عن قبلة طاهرة حتى يتقدس بذلك التوجه.. وبعد البحث الطويل لم أر سوى تلك العترة الطاهرة التي أوصانا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل أوصانا بها قبله الله تعالى عندما قال: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]

وقد جرني ذلك إلى البحث عن القيم التي تحملها، فوجدتها نفس القيم التي تنادي بها فطرتي السليمة، ونفس القيم التي نادى بها القرآن الكريم، ونادى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لأنهم بذرته التي سقاها وتعهدها.. فازداد تعلقي بهم، وخرج حبي لهم من طور العاطفة المجردة إلى طور التعقل والاستبصار.

وقد كان أول من سرى إليهم أثر حبي لهم أولئك الصحابة الصادقين من المهاجرين والأنصار الذين عاشوا الإسلام بقيمه النبيلة الطاهرة، وضحوا في سبيله بكل شيء، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأموالهم وأنفسهم، وقد ازداد حبي لهم عندما رأيتهم يقفون بقوة مع إمام العترة الطاهرة الإمام علي في صفين وفي غيرها من المواقف ليذودوا عن حمى الإسلام الأصيل من أن تمتد إليه يد التحريف والتأويل والتعطيل.

وبما أن الحب ينتج بغضا للجهة المعاكسة للمحبوب، فقد كان من الطبيعي أن أبغض كل الذين سولت لهم أنفسهم أن يشهروا أسلحتهم الحاقدة على ذلك الإمام العظيم، إمام المتقين، وحبيب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد كان على رأس قائمة الذين أبغضتهم في الله ـ نتيجة حبي لولي الله ـ معاوية ذلك الطليق الذي لم يستحيي من نفسه ولا من تاريخه ولا من تاريخ أسرته حتى راح ينازع الكبار الذين لا يرقى مثله لمثلهم.

وقد كان من الطبيعي.. بل من بديهيات المحبة الصادقة أن أنتصر لمن أحب، وأن أحارب من أبغض.. ولذلك كنت ـ ومن غير شعور مني ـ أشدو في كل مجلس بقصائد عشقي للطاهرين، وأتلو قصائد الهجاء في المحاربين لهم..

وأنا أطمئن كل أصدقائي الذين يخشون على مصيري يوم القيامة، لأقول لهم ـ وأنا واثق في فضل الله ـ لا تخافوا.. فالمرء مع من أحب.. وأنا بحمد الله واثق في أن من أحبهم وتنعمت بالتأذي بسببهم، لن يتركوني هملا.. وسيشفعون لي عند ربي.

وإذا سئلت في عرصات القيامة عن معاوية.. فجوابي بسيط جدا، وهو أسهل علي من شرب الماء.. لأني سأقول: يا رب.. لقد أمرنا نبيك بحب الإمام علي، وبغض أعدائه.. وأن نكون سلما لمن سالم، وحربا لمن حارب.. وكان موقفي من معاوية من مقتضيات ذلك.. لأن قلبي الذي خلقته لا يتحمل أن يجتمع فيه ولي الله وعدوه.

وأنا أطمئن كذلك أحباب معاوية، أنه يمكنهم أيضا أن يجدوه يوم القيامة، ويطلبوا شفاعته، وأن يستظلوا بظله الذي لا أعرفه جيدا.. ولكني موقن تماما أن له ظل، فلكل إمام من أئمة الحق أو الباطل ظل يستظل به أتباعه..

قد يقولون لي: نحن نحب الإمام علي أيضا، ولذلك نحن جمعنا بين الحسنيين.. فقد ربحنا عليا، ولم نخسر معاوية، ولا الطلقاء.

وأقول لهم: هذا كذب.. بل خداع.. لا العقل يتعقله.. ولا القلب يقبله.. وإن شئتم أن تختبروا أنفسهم، فانظروا إلى مواقفكم الواضحة التي يدل عليها كل شيء..

فأنتم تسارعون إلى كل حديث ورد في معاوية مهما كان ضعيفا تصححونه، وتؤولونه، لينسجم مع أهواء قلوبكم.. وتسارعون إلى كل حديث عن الإمام علي تضعفونه، وتكذبونه، وتحرفونه عن مساره..

وهكذا تسرعون إلى كل من يتملق معاوية، ويكذب لأجله، تحتضنونه، وتعانقونه، وتنصرونه.. وتذهبون لكل من يناصر الإمام علي والثلة الطاهرة معه تناصبونه العداء، وتحذرون منه.

بل إن حب معاوية طغا على قلوبكم حتى صرتم تعرضون على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسها، تلك التي تحذر منه.. بل تعرضون عن كبار الصحابة الذين امتلأت بتحذيراتهم من الفئة الباغية الدواوين.

ألا يكفي هذا وحده لتعرفوا القبلة التي تتوجه لها قلوبكم؟

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *