الوهم.. والفضول المعرفي

من الأساليب التي كان يستعملها المشركون لصرف الناس عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ محاولة تصدير أكبر كم من المعارف المختلطة بالأوهام، لينصرف الناس عن وحي رب العالمين إلى الوحي المضمخ بوساوس الشياطين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من أنواع التضليل، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} [لقمان:6]
وأشار إلى تلك التصرفات التي كان يمارسها أعداء الدين حينما كانوا يلجأون إلى إثارة الشغب، ونشر كل ألوان اللغو، لينصرف الناس عن سماع الهدى الإلهي الصافي، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت:26]
وهكذا، فإن الشيطان الذي لا يحزنه شيء كما يحزنه هدي الله الممتلئ بالصفاء والطهارة، راح يستعمل كل الوسائل ليكدر ذلك الصفاء، وليضيف لتلك المنابع الطاهرة ما ينجسها ويشوهها ويحرفها، بل ويحولها إلى سموم قاتلة لا إلى هدي تحيا به الأرواح وتطهر وتزكو.
ومن هذا الباب راح إلى ما جبل عليه الإنسان من شوق للتعرف على أسرار الأشياء وحقائقها، ليستخدمه لإفراز ما يريده من تشويه وتحريف للدين، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:169].
وعلمنا كيف نواجهه، فقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء:36]، فهذه الآية الكريمة تنهى أن نبحث في شيء لم تكتمل لدينا أدواته.. لا في أمور الدنيا، ولا في أمور الآخرة.. إلا إذا استندنا إلى المصادر المعصومة في ذلك، مع الاكتفاء بها.
وهكذا ورد في الأحاديث النبوية الشريفة الكثير من النصوص التي تحذر من الكلام في الدين بغير علم معصوم، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)([1])
وفي حديث آخر روي أنّ رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علّمنى من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل عرفت الربّ تعالى؟ قال: نعم. قال فما صنعت في حقّه؟ قال: ما شاء الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل عرفت الموت؟ قال نعم. قال فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال نعلّمك من غرائب العلم)([2])
لكن الشيطان استطاع أن يقنع فئات كثيرة من هذه الأمة ـ كما أقنع من قبلها من الأمم ـ بأن العلم ليس في التحقيق، وليس في الاكتفاء بالمعصوم، وإنما في حيازة أكبر قدر من المعلومات التي لا يهم مصدرها، بقدر ما تهم كثرتها.
وقد بدأ هذا التضليل منذ السلف الأول، حين لم يكتف المسلمون ـ بفعل الإغواء الشيطاني ـ بالهدي الإلهي المتمثل في الثقلين اللذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاكتفاء بهما، وراحوا إلى كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهما يسألونهما عن تفسير القرآن وحقائق الوجود والكون والتاريخ.. ولم يتركوا شيئا إلا سألوهم عنه.. كل ذلك لإرضاء ذلك الفضول المعرفي الذي تسرب إليهم الشيطان من خلاله.
وقد ورد في بعض الروايات أن بعض الناس سألوا كعبا هذا السؤال الخطير: (أين كان الله جل جلاله قبل أن يخلق عرشه، ومم خلق الماء الذي جعل عرشه عليه؟)
ولم ينتفض كعب غضبا لهذا السؤال التجسيمي، وإنما راح ـ إرضاء لسائليه ـ يفتح كل نوافذ الكذب، ويحدثهم بما لا يوجد لا في القرآن، ولا في التوراة، ولا في أي كتاب من كتب الدنيا.. فقد كان من ضمن حديثه قوله: (إن الله تعالى كان قديما قبل خلق العرش، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وأخر ما بقي منها لمسجد قدسه) ([3])
وقد ورد في بعض الروايات أن الإمام عليا سمع هذه الفرية الخطيرة، فقال ردا عليها: (غلط أصحابك، وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه، يا كعب ويحك إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته، وعز الله وجل أن يقال: له مكان يؤمى إليه، والله ليس كما يقول الملحدون، ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان)([4])
وهكذا كان موقف ابن عباس من ذلك الفضول المعرفي الذي جعل الناس في أول الإسلام ينصرفون عن المصادر المعصومة إلى المصادر المختلطة، فقال: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم)([5])
وروي أنه سأل رجلا مقبلا من الشام: من لقيت؟ قال: كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السماوات على منكب ملك. فقال: (كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد! ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41])([6])
لكن ابن عباس نفسه الذي قال هذا الكلام، راح أعداؤه، وأعداء الدين ينسبون إليه التلمذة على كعب الأحبار، وينسبون إليه معها الكثير من الروايات التي لا دليل عليها سوى الوهم.
وهكذا كان الكثير من الصالحين يحذرون من ذلك الفضول الوهمي للمعارف غير المعصومة، ويدعون بدله إلى العلم الحقيقي الذي يملأ المؤمن بالقيم القرآنية النبيلة، فقد قال أحدهم معبرا عن ذلك: (تعلموا ما شئتم أن تعلموا فو الله لا يأجركم الله حتى تعملوا، فان السفهاء همتهم الرواية، والعلماء همتهم الرعاية)، وقال آخر: (أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملا، وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم)([7])
وقد ذكر الغزالي كيف تحول التذكير والوعظ في عصره والعصور التي سبقته إلى وسيلة لتحريف القرآن الكريم، فقال: (فقد اتخذ المزخرفون هذه الأحاديث حجة على تزكية أنفسهم، ونقلوا اسم التذكير إلى خرافاتهم، وذهلوا عن طريق الذكر المحمود، واشتغلوا بالقصص التي تتطرق إليها الاختلافات والزيادة والنقص، وتخرج عن القصص الواردة في القرآن وتزيد عليها، فإن من القصص ما ينفع سماعه، ومنها ما يضر وإن كان صدقا. ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب، والنافع بالضار، فمن هذا نهى عنه)([8])
وضرب مثالا على التذكير الصحيح النافع بقصة شقيق البلخي مع تلميذه حاتم الأصم، حيث سأله، فقال: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة. قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. قال شقيق له: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل! قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها، وإنى لا أحب أن أكذب.. فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي، فقال: أحسنت يا حاتم، فما الثانية؟ فقال: نظرت في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41]، فعلمت أن قوله سبحانه هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى..)([9])
وهكذا راح يعدد له ما استفاده منه فترة صحبته الطويلة له.. وهي كلها معان عملية أخلاقية تتفق مع الأهداف القرآنية التي ترمي إلى صياغة الشخصية المسلمة في أوج نبلها وطهرها وصفائها.
لكن الشيطان ـ مع كل تلك التحذيرات ـ استطاع أن يقحم نفسه في كل المعارف الدينية ابتداء من تفسير القرآن، والحديث، والفقه والعقيدة وكل العلوم الإسلامية الممتلئة بالفضول الذي لاحاجة له.
وبسبب ذلك تضخم تراثنا، وأصبح بحاجة إلى مختصين في كل جانب من الجوانب، مع أن الأمر لو ظل على صفائه الأول، ما كان يحتاج إلى كل ذلك الكم الكبير من الأسفار.. فالدين بسيط سهل واضح لا يحتاج إلى كثرة التفاصيل.
وأحب هنا ـ من باب المثال لا الحصر ـ أن أذكر نموذجا عن مسلك من مسالك الشيطان في إرضاء الفضول المعرفي للمسلمين الذين لم يكتفوا بالقرآن، ولا الحديث، ولا حتى الإسرائيليات، وإنما راحوا إلى ما يسمونه الكشف والإلهام، ليكتشفوا من الأسرار ما لم يدونه السابقون، ولا اللاحقون.
وهذا النموذج هو عن شخصية من المتأخرين، تعلمت علوم الشريعة، لكنها لم ترض نهمها، ولا فضولها، فراحت لشيخ أمي يدعي الكشف والشهود والتعرف على حقائق الوجود، لتجلس إليه، وتسجل ما يفتريه من معارف، لتصبح تلك الافتراءات بعدها عقائد يعتقدها الناس، ولا دليل عليها إلا ما ذكره ذلك الشيخ المكاشف الملهم.
فمن الأسئلة التي سأله عنها سؤاله عن الثلج، وكيف يتشكل، فأجابه شيخه الملهم بقوله: (إن الثلج ماء عقدته الرياح، وأصله غالبا من ماء البحر المحيط، وماء البحر المحيط مخصوص بثلاث خصال لا توجد في غيره: البرودة إلى النهاية لمجاورته للرياح ولبعده من حر الشمس، ولذلك ينعقد بأدنى سبب؛ والصفاء إلى النهاية لأنه ماء باق على أصل خلقته لم يمتزج بشيء من جواهر الأرض، فإنه بحر محمول على القدرة الأزلية وليس هو على الأرض ولا على شيء؛ والبعد إلى النهاية فإن المسافة التي بيننا وبينه في غاية البعد)([10])
وبعد أن قدم له هذه المقدمة راح يفسر له كيفية تشكل الثلج، على ما أوصله إليه الكشف، فقال: (إذا فهمت فاعلم أنه تبارك وتعالى إذا أمر الرياح تحمل شيء من هذا الماء فإنه ينعقد بعد حمله لأجل البرودة التي فيه، ولا تزال الرياح تحمله شيئا فشيئا وتسحقه قليلا قليلا، فإذا طالت المسافة التي بيننا وبينه حصل له انحلال إلى النهاية حتى يصير مثل الهباء، وتجتمع أجزاؤه لأجل النداوة التي فيه، ولذا ينزل على هيئة لطيف الصوف أحيانا وعلى هيئة أخرى أدق منها أحيانا، فهذا أصل الثلج. وذلك بخلاف البرد، فإن المسافة التي بين انعقاده ونزوله غير طويلة لأنه من مياه البحور التي في وسط الأرض ومن الغدران التي تجتمع في الأرض عند نزول الأمطار غالبا، ولذلك قد يوجد أحيانا في وسط الحبة شيء من البرد من أجزاء الأرض مثل الكريس ونحوه، وقد شاهد الثقات ذلك وإنما ما كان مستديرا على هيئة الطعام المفتول الغليظ وأغلظ لأجل مصاككة الريح له، فراجت أجزاؤه في الهواء تحت أيدي الرياح مثل روجان أجزاء الطعام تحت أيدي المرأة في الصحفة، فحصل فيه فتل مثل ما يحصل في الطعام، ولما نزل في الحين شاهدنا ذلك فيه ولو أنه تأخر نزوله ودامت المصاككة والروجان لاندهقت أجزاؤه وصار ثلجا، فهذا بيان أصل الثلج، وبيان الموضع الذي ينزل منه) ([11])
ومن القضايا العلمية التي سأله عنها سؤاله عن الزلزلة وسببها، فقال: (سبب زلزلة الأرض تجلي الحق سبحانه لها.. ثم هذا التجلي كان كثيرا في أول خلق الأرض وقبل خلق الجبال فيها، فكانت تضطرب وتميل، ثم حجبها جل وعلا وخلق الجبال فيها فسكنت، وفي آخر الزمان يكثر هذا التجلي أيضا، فلا تزال الأرض تكثر فيها الزلازل والرجفات حتى يبيد من عليها) ([12])
ومن القضايا العلمية التي سأله عنها سؤاله عن (سبب الخسف الذي يظهر في الأرض أحيانا ويكثر في آخر الزمان)، فأجابه بقوله: (إن الأرض محمولة على الماء، والماء محمول على الريح، والريح تخرج من حيز عظيم بين السماء وطرف الماء أعني ماء البحر المحيط، وذلك أنا لو قدرنا رجلا يمشي ولا ينقطع مشيه فإنه يبلغ لمنقطع الأرض، ثم يرى البحر المحيط، فإذا فرضناه يمشي عليه ولا ينقطع مشيه، فإنه لا يزال يمشي فوق الماء إلى أن ينقطع، وعند ذلك لا يبقى بينه وبين السماء إلا الجو الذي تخرج منه الريح، فيرى رياحا لا تكيف ولا تطاق وهي بإذن الله الحاملة للماء والأرض والماسكة للسماء، ثم هي خدامة دائما لا تسكن لحظة ومرتفعة نحو السماء، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل المطر على قوم أمر شيئا من تلك الرياح فانعكس إلى جهة الأرض وعبر على متن البحر المحيط أو غيره، فيحمل ما أراد الله تعالى من الماء إلى الموضع الذي يريده عز وجل. وكم مرة أنظر إلى طرف الماء الموالي للجو الذي فيه الرياح فأرى فيه جبالا من الثلج لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، فإذا رجعت من الغد وجدت تلك الجبال نقلت إلى طرف الماء الموالي لجبل قاف، وإذا الرياح المنعكسة هي التي حملتها.. وإذا أراد الله أن يخسف بقوم دخلت الرياح في منافس وتقويرات في الأرض بينها وبين الماء، فإذا دخلت الريح فيها وقع في الأرض انحلال ينشأ عنه الخسف، وفي آخر الزمان تكثر المنافس في الأرض، ويكثر انعكاس الرياح إلى جهة الأرض فتكثر الخسوفات حتى يختل نظام الأرض، وكل ذلك بفعل الله تعالى وإرادته.. ثم لا تزال الرياح تعمد نحو الأرض وتقصد خرابها حتى تصير الأرض في أيدي الرياح بمثابة الغربال في يدي الذي يصير بها زرعا من تراب أو حجر، والمصير في الأرض هو عجب الذنب الذي تركب منه الذات، وهو لبني آدم بمثابة الزريعة، فيجمعه الله من أعماق الأرض وقعر البحار ووسط الكهوف وتحت الجبال وحيثما كان، وفي ذلك اليوم تسير الجبال ثم تنسف نسفا من قوة الريح، ثم تنشق السماء وينزل الماء على عجب الذنب فلا يزال ينمو شيئا فشيئا كنمو القلنيص والبطيخ ونحوهما ويظهر على وجه الأرض) ([13])
وليت فتوح الشيخ وإلهاماته وكشوفه اكتفت بهذا، بل راحت إلى كل ما يرتبط بالدين من حقائق تضيف إليها الكثير من الأوهام التي تحولت بمرور الزمن إلى عقائد تزاحم وتفسر العقائد القرآنية.
ومن الأمثلة الخطيرة على ذلك فصل عقده المؤلف لإلهامات شيخه وكشوفه حول ما سماه [ديوان الصالحين]، وهو الديوان المكلف بتدبير كل شيء.
وقد وصف الشيخ بدقة أصحاب هذا الديوان، فقال: (الديوان يكون بغار حراء الذي كان يتحنث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة.. فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن والمدينة أمام ركبته اليسرى؛ وأربعة أقطاب عن يمينه، وهم مالكية على مذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه؛ وثلاثة أقطاب عن يساره، واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة؛ والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان، وهو في هذا الوقت مالكي أيضا من بني خالد القاطنين بناحية البصرة، واسمه سيدي محمد بن عبد الكريم البصراوي؛ ومع الوكيل يتكلم الغوث، ولذلك سمي وكيلا، لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان)([14])
ثم ذكر الشيخ تشكيلة هذه الحكومة، فقال: (والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته، والصفوف الستة من وراء الوكيل، وتكون دائرتها من القطب الرابع إلى الذي على اليسار من الأقطاب الثلاثة، فالأقطاب السبعة هم أطراف الدائرة، وهذا هو الصف الأول، وخلفه الثاني على صفته وعلى دائرته، وهكذا الثالث إلى أن يكون السادس آخرها)([15])
ويذكر الشيخ أنه يوجد في هذه الحكومة بعض النساء، فيقول: (ويحضره النساء، وعددهن قليل، وصفوفهن ثلاثة، وذلك في جهة الأقطاب الثلاثة التي على اليسار فوق دائرة الصف الأول في فسحة هناك بين الغوث والأقطاب الثلاثة)([16])
ويذكر أنه يحضره كذلك بعض الأموات، فيقول: (ويحضره بعض الكمل من الأموات، ويكونون في الصفوف مع الأحياء، ويتميزون بثلاثة أمور:أحدها: أن زيهم لا يتبدل بخلاف زي الحي وهيئته، فمرة يحلق شعره، ومرة يجدد ثوبه، وأما الموتى فلا تتبدل حالتهم، فإذا رأيت في الديوان رجلا على زي لا يتبدل فاعلم أنه من الموتى، كأن تراه محلوق الشعر ولا ينبت له شعر، فاعلم أنه على تلك الحالة مات، وإن رأيت الشعر على رأسه على حالة لا يزيد ولا ينقص ولا يحلق فاعلم أيضا أنه ميت، وأنه مات على تلك الحالة.. ثانيها: أنه لا تقع معهم مشاورة في أمور الأحياء، لأنهم لا تصرف لهم فيها، وقد انتقلوا إلى عالم آخر في غاية المباينة لعالم الأحياء، وإنما تقع معهم المشاورة في أمور عالم الأموات.. ثالثها: أن ذات الميت لا ظل لها، فإذا وقف الميت بينك وبين الشمس فإنك لا ترى له ظلا، وسره أنه يحضر بذات روحه لا بذاته الفانية الترابية، وذات الروح خفيفة لا ثقيلة وشفافة لا كثيفة)([17])
ثم ذكر الشيخ كيفية حضور الموتى لاجتماعات تلك الحكومة الخفية، فقال: (والأموات الحاضرون في الديوان ينزلون إليه من البرزخ يطيرون طيرا بطيران الروح، فإذا قربوا من موضع الديوان بنحو مسافة نزلوا إلى الأرض ومشوا على أرجلهم إلى أن يصلوا إلى الديوان، تأدبا مع الأحياء وخوفا منهم)([18])
ويذكر الشيخ أن تشكيلة تلك الحكومة تضم أيضا بعض الملائكة والجن، فيقول: (وتحضره الملائكة وهم من وراء الصفوف، ويحضره أيضا الجن الكمل وهم الروحانيون وهم من وراء الجميع وهم لا يبلغون صفا كاملا.. وفائدة حضور الملائكة والجن أن الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها، وفي أمور أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها، فيستعينون بالملائكة وبالجن في الأمور التي لا تطيق ذواتهم الوصول إليها)([19])
ويذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمجالس تلك الحكومة، فيقول: (وفي بعض الأحيان يحضره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا حضر عليه الصلاة والسلام جلس في موضع الغوث، وجلس الغوث في موضع الوكيل، وتأخر الوكيل للصف. وإذا جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت معه الأنوار التي لا تطاق، وإنما هي أنوار محرقة مفزعة قاتلة لحينها، وهي أنوار المهابة والجلالة والعظمة، حتى إنا لو فرضنا أربعين رجلا بلغوا في الشجاعة مبلغا لا مزيد عليه ثم فجؤوا بهذا الأنوار، فإنهم يصعقون لحينهم، إلا أن الله تعالى يرزق أولياءه القوة على تلقيها، ومع ذلك فالقليل منهم هو الذي يضبط الأمور التي صدرت في ساعة حضوره صلى الله عليه وآله وسلم)([20])
ويذكر الشيخ تاريخ تلك الحكومة، أو ذلك الديوان، قبل الإسلام، فيقول: (إن الديوان أولا كان معمورا بالملائكة، ولما بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الديوان يعمر بأولياء هذه الأمة، فظهر أن أولئك الملائكة كانوا نائبين عن أولياء هذه الأمة المشرفة، حيث رأينا الولي إذا خرج إلى الدنيا وفتح الله عليه وصار من أهل الديوان، فإنه يجيء إلى موضع مخصوص في الصف الأول أو غيره، فيجلس فيه ويصعد الملك الذي كان فيه، فإذا ظهر ولي آخر جاء إلى موضع ويصعد الملك الذي في ذلك الموضع، وهكذا كانت بداية عمارة الديوان حتى كمل ولله الحمد، كلما ظهر ولي صعد ملك. وأما الملائكة الذين هم باقون فيه، ويكونون خلف الصفوف الستة كما سبق، فهم ملائكة ذات النبيصلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا حفاظا لها في الدنيا، ولما كان نور ذاته صلى الله عليه وآله وسلم مفرقا في أهل الديوان بقيت ملائكة الذات الشريفة مع ذلك النور الشريف)([21])
وهكذا يستمر الشيخ في سرد أوهامه التي
يتلقفها تلميذه كحقائق مطلقة، ثم يسجلها في كتاب كتبه ليبرهن به على ولاية شيخه،
وكونه من أهل الأسرار الذين كشفت لهم حقائق الوجود.. ثم يتلقاها من بعده أولئك
البسطاء الذين أعرضوا عن القرآن الكريم وحقائقه الواضحه الممتلئة بالعقلانية
والفطرية والبداهة، وراحو إلى ذلك الدجل والخرافة والأوهام التي لبست لباس الدين،
بل راحت تعطي قدسية خاصة لها باسم الولاية.
([1]) مالك (2/907، رقم 1616) ، وأحمد (2/287، رقم 7845) ، والبخارى (5/1976، رقم 4849) ، ومسلم (4/1985، رقم 2563)
([2]) رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة وابن عبد البر، انظر: تخريج الحافظ العراقي: إحياء علوم الدين (1/ 65)
([3]) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، 2 / 5.
([4]) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، 2 / 5.
([5]) البخاري في الاعتصام (26: 2) وفي التوحيد (42: 2)
([6]) الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني، 139.
([7]) إحياء علوم الدين، 1/110.
([8]) إحياء علوم الدين، 1/59.
([9]) إحياء علوم الدين، 1/111.
([10]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، أحمد بن مبارك اللمطي السجلماسي.
([11]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([12]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([13]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([14]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([15]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([16]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([17]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([18]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([19]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([20]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.
([21]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز.