النهاية

النهاية

بعد أن أنهى ضيوفي السبعة أحاديثهم، والتي سجلتها بكل دقة، رحت أقول لهم: لقد سجلت كل ما ذكرتم.. لكني إلى الآن لم أعرف المصير الذي صرتم إليه، ولا كيف اجتمعتم، ولا كيف التقيم بمعلم الإيمان، ولا كيف أرسلكم إلي.. ولا كيف..

قاطعني أحدهم، وقال: نحن حدثناك عما ينفعك، وينفع الناس.. أما ما عدا ذلك، فلا شأن لك به.. ولا حاجة لك إليه.. وهو قد يسيء إلينا، ويضر بنا، فأنت ترانا قد أتينا خفية، ولو سمع بنا أعداؤنا لسامونا الخسف، ولحرمونا من كثير من فرص الدعوة إلى الله، وتبيان الحقائق، والرد على الملاحدة.

قلت: لا تخافوا.. فلن أذكر أسماءكم ولا أوصافكم.. ولا شيئا عنكم.. بل سأطلي حياتكم ببعض الرموز التي تحيلكم قصة من القصص القديمة.. لا حقيقة من الحقائق الحادثة.

قال: ما دمت قلت ذلك.. فيمكنك أن تعتبرنا أولئك السبعة من أصحاب الكهف الذين بحث كل واحد منهم على الله.. وفي مجلس من مجالس الطاغوت راح كل منهم يصيح بكل قوة: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) } [الكهف: 14، 15]

فقد حصل لنا ما حصل لهم.. ففي مجلس من مجالس الطغيان المادي، وفي مؤتمر من مؤتمراته، قام أحدنا، وعلى الملأ، وأمام أسماع الإعلام العالمي يصيح بالحقيقة التي ارتجت لها القاعة، وارتج لها الجمهور.. ثم رحنا واحدا واحدا نؤيد ما ذكر، ونكرره، ونؤكده بكل أصناف الأدلة.

قلت: ولكنكم بحمد الله لم تتعرضوا لما تعرض له أهل الكهف من الأذى حتى فروا بدينهم.

قال: ومن ذكر لكم أنه لم يحصل لنا ذلك.. لقد حصل لنا الكثير منه.. فقد جردنا من مناصبنا، وصودرت أموالنا.. واتهمنا بالإرهاب والعنف.. ورفعت علينا قضايا كثيرة.. ولذلك لم نجد حلا إلا الفرار إلى بعض الكهوف.

وهناك ألقى الله علينا سوابغ رحمته ولطفه.. ولم ندر إلا ونحن نخرج من كهفنا، ولا أحد يلتفت لنا، أو يبحث عنا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد سقطت تلك الحكومة التي تبنت تلك الأحكام، وسقط معها نظامها.. وأحرق أثناء الشغب الذي حصل كل ما يرتبط بنا من قضايا.. ولذلك ولدنا ولادة جديدة.. وعادت لنا حياتنا التي سلبت منا.. فانتسبنا لبعض الجامعات والمراكز.. ورحنا نترقى من جديد في مناصبها إلى أن عادت لنا الكثير من الوجاهة التي افتقدناها.

قلت: فقد ركنتم إلى الدنيا إذن؟

قال: معاذ الله أن نفعل ذلك.. بل رحنا نغير استراتيجيتنا، ونستبدلها بما تراه.

قلت: أنا لم أر شيئا.. فأنتم اليوم لم تفعلوا شيئا.. لا سلبا ولا إيجابا.

قال: وحديثنا الذي حدثناك به.. ألا تعتبره نورا من أنوار الهداية.. ومعولا يحطم تلك الأصنام التي تعبد من دون الله؟

قلت: بلى.. هو كذلك.. لكن ما عساه يفعل؟

قال: نحن نرحل إلى كل بلاد.. ثم نبث أحاديثنا لخاصة الناس.. ونترك لهم الفرصة ليؤدوا دورهم.. فنحن نعلم أن العامة بيد الخاصة، وأن العقل الجمعي بيد العقل الفردي.. ولهذا صرنا لا نصيح في المؤتمرات.. وإنما نتحدث لكل من نتوسم فيه القبول.

قلت: فقد انتقلتم من الدعوة الجهرية إلى الدعوة السرية.

قال: ما دمنا قد اضطررنا لذلك.. والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. وقد قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} [نوح: 8، 9].. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك أسوة حسنة.. فقد دعا قومه بكلا الدعوتين، وما كان لنا أن نخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نسير على خلاف خطاه.

قلت: وعيت هذا.. ولكن كيف التقيتم بمعلم الإيمان.. وكيف اهتديتم إلي؟

قال: أما معلم الإيمان.. فهو يزورنا مثلما يزورك.. ولولاه لما حصل لنا من الإيمان ما حصل.. فالإيمان هدية الله لعباده الصادقين المخلصين الذين استعملوا كل وسائل التحقيق والنظر، ولم يستكبروا على الحقيقة.

قلت: فكيف اهتديتم إلي؟

قال: لقد التقينا بك في رحلاتك السابقة، لكنك لم ترنا، لأنك كنت مشغولا بقلمك وقراطيسك.. وقد عرضنا على معلم الإيمان أن نُسجل أحاديثنا مثلما سُجلت أحاديث غيرنا.. فأرسلنا إليك.

***

هذا ما بثوه إلي من أحاديث، وقد ذكروا لي من بعض أسرارهم ما لا أستطيع أن أكتبه هنا خشية عليهم وعلى نفسي.. ولذلك اكتفيت بما أوردته.

وأضيف إليه أنهم في اليوم التالي، وفي الجلسة الأخيرة، وفي آخر توصية من توصيات تلك الاجتماعات، والتي تلاها أحد الضيوف السبعة، قال: وفي الأخير نرجو من الحضور الكرام، أن يهتموا بالعلم، ويحققوا في كل ما يقال.. وألا يخدعوا بأي خدعة قد تتسرب لهم من وسائل الإعلام تحت أسماء براقة.

فالحقائق العلمية ليست محصورة في أوروبا ولا أمريكا، وليست خاصة بالرجل الأبيض أو الأسود.. بل قد تكون في بلادكم.. وقد تجدونها في أناس تحتقرونهم، ولا تعرفونهم.. لكن الحقيقة عندهم، تسطرها أقلامهم، وتسجلها قراطيسهم.. فلذلك ابحثوا عنهم، واسمعوا لهم، واقرأوا ما يسجلون.. فالحقيقة لا وطن لها.

وقد فوجئت بعد تلك الكلمات بعض الشخصيات المهمة في بلدتي تتقدم إلي، وتصافحني بكل حرارة وصدق، وتطلب مني تخصيص مواعيد لاستقبالها.

وفي اليوم التالي، فوجئت برئيس المركز الثقافي نفسه يدق باب بيتي، ويطلب مني نسخا من كتبي، ليعيد طباعتها، ويضعها في المركز.. ويطلب مني مع ذلك أن أقدم دورة علمية في الرد على الإلحاد، وتكوين إطارات علمية تقوم بذلك.

وقد تعجبت من موقفه هذا.. وسألته عن سره، فقال: لا يصح أن نفشي الأسرار التي طولبنا بكتمانها..

ثم راح يقول لي: لا تنس أن تحضر كتابك الأخير [الحياة: تصميم.. لا صدفة] لنقوم بطباعته وتوزيعه في أقرب فرصة.

قلت: فكيف سمعت به.. وأنا لم أحدث عنه أحدا من الناس؟

قال: لقد حدثني عنه من حدثك به.. ولا تغتر كثيرا.. فلست سوى راوية.

قال ذلك، ثم انصرف.. وتركني.. وقد حصلت لي بعدها الكثير من المفاجآت.. لكن أكبرها وأهمها عندي.. والتي ملأتني سرورا هي أن الذي قدم الدورة التكوينية التي كلفت بها هو نفسه ذلك الذي راح يربط نظرية التطور بالقرآن الكريم.. لكنه بدل أن يفعل ذلك، راح يحمل حملة شديدة على من يقول بذلك، ويتهمهم بالخداع والتزوير والتلاعب بالحقائق.. ويذكر عن نفسه أنه كان ضحية لهم، ويعتذر للحاضرين بسبب الأخطاء التي أوقعهم فيها بسبب ذلك.. ويعدهم أنه سيؤلف كتابا في الرد على نفسه، وعلى جميع المقالات التي كتبها، والمحافل التي شارك فيها.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *