النسبة والهوية

النسبة والهوية

من محاسن اللغة العربية، وربما غيرها من اللغات، أنها تفتح مجالات كثيرة للنسبة، فلا تربطها بالنسب فقط، وإنما تضم إليها أشياء كثيرة، منها ما له علاقة باختيار الإنسان، ومنها ما ليس له علاقة..

ولذلك قد ينسب الشخص إلى لغته، فهو عربي إن تحدث اللغة العربية، سواء كان من العرق العربي أو لم يكن.. وهذا تبدأ مصاديقه من أول العرب المستعربة، الذين أطلق عليهم هذا اللقب لتحول لسانهم إلى العربي.

وربما يستدل لهذا بما ورد في الحديث أن قيس بن مطاطية جاء إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل، فما بال هذا. فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ تلبيبه ثم أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره بمقالته فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائما يجر رداءه حتى دخل المسجد، ثم نودي أن الصلاة جامعة، وقال: (يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي)([1])

وينطبق هذا في الواقع الحالي على أكثر الدول الناطق بالعربية، التي نطلق عليها هذا الوصف بغض النظر عن اختلاف أنسابها.. فلذلك نسميها عربية للسانها، لا لأعراقها.. وبناء على هذا يطلق على الدول الناطقة بالإنجليزية وصف [الدول الانجلوسكوسونية]، وعلى الدول الناطقة بالفرنسية وصف [الفرنكفونية]

أما النسبة العرقية، فهي نسب قد تكون قطعية صحيحة في مجملها، لكنها تبقى ظنية من حيث الأفراد والمجموعات.. وهذا ينطبق على أكثر الجماعات البشرية، باعتبار الاحتكاك الذي حصل بين البشر..

فلذلك كان أحسن ما يقي البشر من آثار الصراع العرقي هو العودة للنسب المتفق عليه، وهو آدم عليه السلام، ولهذا نرى القرآن الكريم يخاطب العرب بهذا الوصف، وبهذه النسبة، مع أنه نزل بين قوم يفتخون بأنسابهم ويحرصون عليها.. ومع ذلك لا نجد فيه ولو نسبة واحدة لأي قبيلة من القبائل.

أما النسبة الأرضية، فهي تطلق على ساكن الأرض غير المغتصب لها، ولا المحتل.. ولذلك فإن أرض فلسطين تنسب للساكنين فيها غير المستعمرين الظالمين.. وهذه النسبة تصدق على كل من سكن فلسطين غير محتل لها، سواء كانوا من اليبوسيين أو من العرب الوافدين، أو من المغاربة.. أو من غيرهم.. بغض النظر عن دينهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا من غير الصهاينة.

وهكذا يقال في النسبة الدينية والمذهبية، والتي تكون باختيار الإنسان ورغبته.. ولهذا قد نراها تتغير بحسب الأزمنة.. فالجزائر مثلا سادت فيها مذاهب متعددة بحسب المراحل التاريخية.. وهكذا كل الدول العربية وغيرها.

وأذكر في الأخير حكمة وردت في [مقامات بديع الزمان الهمذاني([2])]، قال فيها عيسى بن هشام موجها السؤال لأبي الفتح الإسكندري: أين منبت هذا الفضل؟ فقال: نمتني قريش، ومهد لي الشرف في بطائحها، فقال بعض من حضر: ألست بأبي الفتح الإسكندري؟ ألم أرك بالعراق، تطوف في الأسواق، مكديا بالأوراق؟ فأنشأ يقول:

إن لله عبيدا

   أخذوا العمر خليطا

فهم يمسون أعرا

   با، ويضحون نبيطا

وفي مقامة أخرى([3])، قال عيسى بن هشام: قلت لما تآنسنا: من أين مطلع هذا البدر؟ فقال:

إسكندرية داري

  لو قر فيها قراري

لكن ليلي بنجد

   وبالحجاز نهاري


([1])  تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 407)

([2])  مقامات بديع الزمان الهمذاني، (ص: 21)

([3])  مقامات بديع الزمان الهمذاني، (ص: 84)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *