الملاحدة.. والخنازير البرية

عاتبني بعض القراء الكرام على تشبيهي لهوكينغ وبعض الملاحدة ممن صنفتهم ضمن [الملاحدة الطبائعيين] في كتابي [ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ] بالخنازير البرية، ورأى أن ذلك نوع من السباب والشتائم التي لا تليق بمثلي، ولا بأي مؤمن، مع أني ذكرت في مقدمة الكتاب أنه رواية رمزية تحاول أن تصور الحقائق بلغة علمية ورمزية في نفس الوقت.
وقد عبرت عن سر اختياري للخنازير البرية لهؤلاء الطائعيين الملاحدة على لسان [ديموقريطس] اليوناني.. الفيلسوف، صاحب [المذهب الذري].. بقوله: (هذا ما كنت أعتقده، وما كنت أمليته.. وما حولني إلى هذه الصورة الخنزيرية وطباعها القذرة.. فأنا في حياتي لم أمارس سوى ما تمارسه الخنازير من الفتك بالمزارع، وإفساد الحقول، وتخريب العقول.. لقد أعطاني الله من الفرص، وأرسل لي من الحجج، ما كان يمكن أن يحافظ على إنسانيتي.. لكني صرفت نظري عن ذلك كله، ورحت إلى ثياب الخنازير أتقمصها.. وإلى وظائفها أؤديها)
وهكذا وضعت رموزا مختلفة لكل صنف من أصناف الملاحدة، مقتديا في ذلك بما ورد في القرآن الكريم من تشبيهات ورموز، كقوله تعالى في ذلك الذي أوتي العلم لكنه لم يعمل به، وخالفه، وأخلد إلى الأرض: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الأعراف: 176]
وقوله في الذين يحملون الكتب ويحفظونها، ولا يعملون بما فيها: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة: 5]
وقوله في غيرهم من الذين لا يسمعون ولا يبصرون الحقائق الواضحة: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [الفرقان: 44]، فقد اعتبرهم أضل من الأنعام.
ولذلك فإن ذلك التشبيه الرمزي المتناسب مع واقع علماء الملاحدة الذين أبصروا التصميم العظيم للكون، ومع ذلك غضوا أبصارهم عنه، وراحوا يشوهون الحقائق، ويصرفون الناس عنها، هو [الخنزير البري] لكونه لا يهتم بأن يأكل ما يحتاج إليه من ثمار، وإنما يخرب الحقول والمزارع.. فلا ينتفع هو، ولا ينتفع غيره، كما قال قال تعالى: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26].. كما يفعل الملاحدة تماما.
لكن الفرق كبير بينهما، فالخنزير حيوان غير مكلف، ولا يحاسب على تصرفاته، بل هو يفعل ما تمليه عليه طبيعته التي خلق عليها، ولذلك لا لوم عليه.. وفوق ذلك؛ فإن هذا الخنزير عارف بربه مؤمن له مسبح بحمده، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]
وقد روي عن الإمام زين العابدين أنه كان يقول: (ما بهمت البهائم عنه فلم تبهم عن أربعة: معرفتها بالرب تبارك وتعالى، ومعرفتها بالموت، ومعرفتها بالأنثى من الذكر، ومعرفتها بالمرعى الخصب)([1])، بل ورد في الحديث الشريف النهي عن اتخاذ الدواب منابر، وعلل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقوله: (فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله تعالى من راكبها)([2])
لذلك، فإنه إن جاز لي أن أعتذر عن ذلك التشبيه، فإني أعتذر للخنازير البرية العارفة بربها، والتي لم تمارس إلا ما تمليه عليها طبائعها التي خلقت عليها.
وهي
فوق ذلك لا ذنب لها، ولم تتسبب في كفر أحد من الناس، ولا إلحاده، ولا نزع نور
الإيمان عنه، ولم يكن لديها من القوى العقلية ما كان لأولئك الملاحدة الذين غضوا
أبصارهم عن الحقائق، وراحوا يعبثون بها بكل استعلاء وكبرياء.
([1]) الخصال، الشيخ الصدوق، ص260.
([2]) رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.