المقدمة

المقدمة

من المقدسات المتفق عليها في جميع الأديان ما يمكن أن يطلق عليه [المزارات الدينية]، وهي تلك الآثار التي يهتم أصحاب الأديان جميعا بتعظيمها وزيارتها والتبرك بها، وقد يقومون ببعض الطقوس نحوها.

فمن الشعائر اليهودية المهمة، والتي لا يزال متدينو اليهود يحافظون عليها زيارة مكان تابوت العهد، وحائط المبكى، وغيرها من المزارات الموجودة في القدس المحتلة، بالإضافة إلى مزاراتهم الأخرى في كل البلاد التي سكنوا فيها.

وهكذا نرى المسيحيين يزورون بيت لحم موضع ولادة المسيح عليه السلام، ويقصدون كنيسة القيامة والقديس بطرس وغيرها من الكنائس، بالإضافة إلى مراقد من يعتبرونهم قديسين، والموجودة في كل بقاع العالم.

وهذا هو حال الهندوس الذين لا يزالون يقيمون شعائرهم في نهر الكنج، ويعتقدون أن له خصوصية دون سائر الأماكن، ولهذا يعظمونه، ويزورونه، كما يزورون المعابد المخصصة لشيفا وبراهما وقشنو، والتي تسمى عندهم أقانيم الثالوث المقدس.

وهكذا يفعل أصحاب الديانة البوذية الذين يقومون برحلات جماعية إلى الأماكن التي يعتقدون أن لها علاقة خاصة ببوذا من أمثال [لومبيني] مسقط رأس بوذا في النيبال، و[بود غايا] حيث جاءه الوحي تحت شجرة تين، و[سارناث] في الهند، حيث علم للمرة الأولى، و[كوسينارا] حيث مرقده.

وهكذا يفعل أتباع الديانة الشنتوية، حيث يسيرون سنويا إلى ضريح آيسى الكبرى باليابان، حيث يتجمع أكثر من مائة ضريح مثل الضريح الداخلي نايكو المخصص لإماتيراسو، والضريح الخارجى غيكو.

ومثل ذلك المسلمون الذين وردت النصوص المقدسة في دينهم تدل على وجوب الحج، وما يرتبط به من زيارات للأماكن المقدسة كالكعبة، والصفا والمروة، وجبل عرفات، وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأنبياء والأئمة، وقبور من يعتقدون فيهم الولاية والصلاح، والتي لا تخلو منها بلدة من البلاد الإسلامية.

وهذه الظاهرة المتفق عليها بين الأديان جميعا، لم تجد من ينكرها أو يشاغب فيها، أو يحاول صد عنها سوى مدرسة واحدة هي المدرسة السلفية، وخصوصا في فرعها الوهابي، والتي لم تكتف بتحريم كل ما يرتبط بهذه المزارات ـ ما عدا الشعائر المرتبطة بالحج والعمرة ـ وإنما راحت تقوم بتكفير جماعي لكل من يمارسها، وهي تعلم أن الأمة جميعا تمارسها، كما أشار إلى ذلك الشيخ علي بن أحمد الحداد في رده على تكفير الوهابية لزوار أضرحة الأولياء والصالحين؛ فقال: (ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين)([1])

وهو يشير بهذا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه الذين كفروا جميع المسلمين بسبب تعظيمهم للأولياء، وبنائهم على قبورهم؛ فاعتبروهم مشركين شركا جليا لا يختلف عن شرك أهل الجاهلية، بل قد يفوقه.

فقد وضع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (نواقض الإسلام) ما يجعل من جميع المسلمين مشركين.. وأكثرها يعود إلى تعظيم الأولياء وتقديسهم واحترامهم، فمن تلك النواقض (الشرك في عبادة الله تعالى.. ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر، أو للقباب.. ومن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم كفر إجماعا.. ومن لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر..) ([2])

ثم ختم القول على هذه النواقض بقوله: (لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً)

فهذا ما يتصوره الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه من نواقض الإسلام، والأخطر مما ذكرنا من المكفرات هو ما ورد فيها من عبارات غامضة وأحكام مطلقة، تجعل لكل من يشاء أن يكفر أحدا أن يستخدمها بسهولة، ولعله لأجل هذا خرجت الحركات التكفيرية من رحم الوهابية.

وكمثال على ذلك نرى الشيخ ابن عبد الوهاب يربط بين الذبح الذي لا يقصد به إشراك أحد في عبادة غير الله، بالشرك بالله مع أنه قد يكون عادة جرت أن يذبح في مكان ولي للبركة، وليس للتعبد، ثم يوزع لحم الذبيحة على الفقراء، وهذا ما جرى به العمل في العالم الإسلامي، بما فيها الجزائر، والتي كانت تسمى (زردة)، ولقبها علماء الجمعية بـ (أعراس الشيطان)

وكمثال على انتشار التكفير في العالم الإسلامي بسبب تلك التعاليم المتشددة، ما حصل في الجزائر إبان الاستعمار من تكفير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعوام الجزائر بسبب تعظيمهم للأولياء، وزيارتهم لأضرحتهم، وإحيائهم للمناسبات المرتبطة بهم.

وكمثال على ذلك نرى الشيخ مبارك الميلي الذي استنسخ المنهج الوهابي كاملا غير منقوص، وخاصة في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره) الذي حكم به على شرك جميع الجزائريين، بل على شرك جميع المسلمين الذين يزورون الأضرحة أو يتوسلون بأصحابها.

بل إنه يعتقد ما كان يعتقد الشيخ ابن عبد الوهاب من عودة الجاهلية الأولى، بل إنه يرى أن الجاهلية الآخرة أشد، فيقول: (ولقد سادت هذه الحالة العالم الإسلامي، فانتهوا إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسلمين شمل انحطاطهم هذه الناحية أيضا؛ فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان ووضع الأسماء على مسمياتها؛ فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب وصاحب الكشف والتصريف معنى الألوهية، ولكن لا يسمونهم آلهة!! ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة!!)([3])

وعلى هذا المنوال نجد الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أعلن حربا شديدة على تلك المناسبات التي تجمع الجزائريين وتوحد قلوبهم، ومن ذلك ما كتبه في البصائر تحت عنوان (أعراس الشيطان)([4])، والذي ربط فيه بين الشيطان والموالد، فقال – بأسلوبه التعميمي الذي لا يعرف الاستثناء-: (هذه (الزرد) التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكل ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكل داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان)([5])

ولم يكتف الشيخ بهذا القذف العام لجميع المجتمع الجزائري، وإنما راح يشهر سلاح التكفير والرمي بالشرك الأكبر الذي تلقفه من شيخه محمد بن عبد الوهاب، فقال: (كلما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوله لهم الشيطان وليا صالحا، بل يصوره لهم إلها متصرفا في الكون، متصرفا في النفع والضر والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلا صالحا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيا وكان صالحا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فاءوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كل ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثقل الدين وألح الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار!)([6])

بعد هذا الحكم القاسي الشديد المفتقر إلى اللغة العلمية والحكمة في معالجة الظواهر، راح يعتبر ذلك التقديس الذي جبل عليه الجزائريون للأولياء والصالحين نفخة من نفخات الشيطان أو كيد من كيد الاستعمار، وأنه لا علاقة له بحب الصلاح والولاية والتدين، فلا يحب الصالحين إلا من يحب الصلاح نفسه، ولا يعظم أهل الدين إلا من سبق تعظيمهم لهم تعظيم الدين نفسه.

يقول الإبراهيمي: (سر ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات تر القباب البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسل تجد القليل منها منسوبا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقل مجهولا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يبني قبة أو قبتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحراس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محب في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها)([7])

ثم ختم مقاله بفتاوى خطيرة تفتقر إلى لغة الفقهاء، فقال: (يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعي الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مفسدة للعقيدة، وإن فروعها مفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحل أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن)([8])

وقد استمر – للأسف – منهج خلف الجمعية على درب سلفها في هذه المواقف الخطيرة المفتقرة إلى اللغة العلمية، والمتسرعة في الحكم بالتكفير، حيث نجد الشيخ أحمد حماني الرجل المتساهل في الكثير من الفتاوى يتكلم بنفس تلك اللغة التي تكلم بها الإبراهيمي والميلي، فيقول – متأسفا-:(وفي الجزائر ينادي كل قوم برجلهم: أهل الغرب بسيدي بومدين وسيدي الهواري وفي الوسط سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد وسيدي منصور، وأهل الشرق سيدي الخير وسيدي راشد، وسيدي عبد القادر للجميع للجميع،وقد كانت الدعوة الإصلاحية قضت على معظم هذه البدع ورجعت بالناس إلى ذكر الله وحده، ولكننا عدنا إلى سماع هذا حتى في إذاعتنا ووسائل إعلامنا، وما كان يجوز هذا في أمة موحدة وإنما يذكر عندنا اسم الله وحده،فإننا أمة وحدها الإسلام)([9])

والأخطر من هذا أن الشيخ أحمد حماني الذي أتيحت له فرص كثيرة بعد الاستقلال ضيعها جميعا، ولم يجد شيئا ينكره إلا هذه العادات ليقتلعها من جذورها من غير أن يضع أي بديل صالح لها، فقد اعتبر كالوهابيين جميعا أن الأضرحة ليست غير أصنام لا تختلف عن أصنام الجاهلية، فقال: (وكانت هذه الزردة كثيرة لأنّ لكلّ قوم لإلههم من أصحاب القبور من حدود تبسة إلى مغنية، كانت القبور تعبد من دون الله ولكلّ قوم من يقدسونه. فـ(سيدي سعيد) في تبسة، و(سيدي راشد) في قسنطينة و(سيدي الخير) بسطيف و(سيدي بن حملاوي) بالتلاغمة، و(سيدي الزين) بسكيكدة و(سيدي منصور) بولاية تيزي وزو و(سيدي محمد الكبير) في البليدة، و(سيدي بن يوسف) بمليانة و(سيدي الهواري) بوهران و(سيدي عابد) بغليزان و(سيدي بومدين) بتلمسان و(سيدي عبد الرحمن) بالجزائر، ويزاحمه (سيدي امحمد)، وليعذرني الإخوة ممن لم أذكر آلهة بلدانهم وهم ألوف، ففعل هؤلاء القوم مع هؤلاء المشايخ يشبه فعل الجاهلية مع هبل واللات والعزّى وخصوصا إقامة الزردة حولها والذبح لها والتمسح بالقبور، أفترانا نحيي آثار الشرك ونحن الموحدون؟)

ثم أفتى بأن (الطعام واللحم المقدّم في الزردة لا يحلّ أكله شرعا لأنّه مما نصّ القرآن على حرمة أكله فإنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [المائدة: 3] فاللحم من القسم الرابع أي مما أهل لغير الله، أي ذبح لغير الله بل للمشايخ، فزردة (سيدي عابد) أقيمت له وهكذا (سيدي أحمد بن عودة) و(سيدي بومدبن).. أقيمت له الزردة ليرضى وينفع ويدفع الضّر، وتقول إنّ هذه الذبائح قد ذكر اسم الله عليها، فأقول: ولو ذكر اسم الله فإنَّ النّية الأولى وهي تقديمها إلى صاحب المقام، يجعلها لغير الله)

بناء على هذا وغيره حاولنا في هذا الكتاب الرد على الرؤية التكفيرية المرتبطة بالمزارات الدينية المنتشرة في بلاد المسلمين، وبيان مشروعيتها، والرد على الشبهات المثارة حولها، والتي تحاول تهديمها، وصرف الناس عنها بحجة كونها قبورية وشركا.

وقد اعتمدنا في ذلك دليلين كبيرين، كلاهما من الأدلة التي يعتمدها الفقهاء في استدلالاتهم:

الأول: هو الأدلة الشرعية سواء تلك التي يعتمدها المجتهدون من الفقهاء، وهي المصادر المقدسة من الكتاب والسنة، وما يلحق بها من آثار الصحابة والتابعين وأئمة أهل البيت، أو تلك التي يعتمدها المقلدون، وهي أقوال الفقهاء من المدارس الفقهية المختلفة.

الثاني: هو المصالح الشرعية المرتبطة بالمزارات الدينية، والتي يعتمدها عادة ما يطلق عليه الفقه المقاصدي، ذلك أن كل فروع الشريعة هدفها خدمة المصالح بأنواعها المختلفة.

بناء على هذا رأينا تقسيم البحث بحسب الأدلة التي اعتمدناها فيه إلى ثلاثة فصول، وهي:

الفصل الأول: المزارات الدينية.. والمصادر المقدسة: وقد حاولنا البرهنة فيه على شرعية المزارات من خلال العودة إلى المصادر المقدسة، سواء تلك التي يتفق المسلمون جميعا على قبولها من أمثال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو تلك التي يختلفون فيها من أمثال أقوال الصحابة أو أئمة أهل البيت، والتي تدل جميعا على شرعية بناء المقامات والمشاهد والمزارات الدينية، وقد ناقشنا فيه ما يذكره التكفيريون من أدلة، وبينا مدى تهافتها.

الفصل الثاني: المزارات الدينية.. والمدارس الفقهية: وقد حاولنا البرهنة فيه على شرعية المزارات من خلال العودة إلى المصادر المعتمدة لدى المدارس الإسلامية الكبرى، والتي يدعي التيار السلفي قبوله بها، وهي المدرسة المالكية، والشافعية والحنفية والحنبلية، أما المدرسة الإمامية والزيدية والظاهرية وغيرها؛ فهي تتفق جميعا على هذا، وهو من الشهرة عندهم بحيث لا يحتاج إلى ذكر أقوالهم فيها.

والسبب الذي جعلنا نخصص هذا الفصل، وعدم الاكتفاء بالفصل الأول الذي يذكر موقف المصادر المقدسة هو أن التيار السلفي ـ يحاول أثناء ممارساته التكفيرية ـ إقناع جمهوره، بإيراده لأقوال من يتبناهم من المشايخ من أمثال ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز وابن العثيمين وغيرهم من القدماء والمحدثين، وهو يطنب في ذلك لدرجة يتصور الكثير من العوام أن هذا هو إجماع الأمة، مع أن الكثير ممن يذكرهم لا يمكن تعدادهم في طلبة العلماء؛ فكيف بتعدادهم في العلماء؟

الفصل الثالث: المزارات الدينية.. وأدوارها العلمية والتربوية: وقد ذكرنا فيه الأدوار المهمة التي تؤديها المزارات الدينية، وذلك بتوضيح الحقائق المجهولة، وكشفها، والدعوة للتحقيق فيها؛ فالآثار من أكبر السجلات الحافظة لحقائق التاريخ، بالإضافة إلى أدوارها في التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها، والتي قد تصل إلى بث وعي سياسي في الأمة يخرجها من تبعيتها، ويحقق لها سيادتها الكاملة.

أما مناسبة الكتاب لهذه السلسلة، فواضح، ذلك أن هذه السلسلة تحاول التمييز بين شريعة الله الصافية التي لم تشبها الشوائب، وبين الشريعة المدنسة بالأهواء والأغراض، وقد رأينا أن الجهة التي تبنت الرؤية التكفيرية تمثلت في الفئة الباغية بفروعها السياسية والفكرية، والتي راحت تطمس كل آثار الصالحين، وتهدمها، ولما عجزت عن فعل ذلك راحت تستأجر من الفقهاء من يقوم بدلها بهذا الدور، إلى الدرجة التي أفتى فيها بعض كبارهم بتحريم زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبارها بدعة.

بالإضافة إلى ذلك رأينا أن أكبر ما يخدم المشروع الإسلامي في مجالاته المختلفة هو تلاقي المسلمين، وتوحد قلوبهم ومشاعرهم، ولذلك فإن كل فرصة تؤدي هذا الغرض، وتخدم هذا الهدف، فرصة شرعية، ينبغي الاهتمام بها ودعمها، ذلك أن محاربتها والصد عنها هو صد عن تجمع المسلمين وتوحدهم حول أئمتهم وأوليائهم وصالحيهم.


([1]) إحياء المقبور من ادلة جواز بناء المساجد على القبور ويليه اعلام الراكع الساجد، السيد أحمد بن الصديق الغماري – السيد عبد الله الغماري، مكتبة القاهرة، ص7.

([2]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، علماء نجد الأعلام، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الطبعة: السادسة، 1417هـ/1996م، (2/ 362)

([3]) رسالة الشرك ومظاهره، مبارك بن محمد الميلي الجزائري (المتوفى: 1364هـ)، تحقيق وتعليق: أبي عبد الرحمن محمود، دار الراية للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى (1422هـ – 2001م) (ص: 162)

([4]) انظر: آثارُ الإمام مُحمد البشير الإبراهيمي، محمد بن بشير بن عمر الإبراهيمي (المتوفى: 1385ه)، جمع وتقديم: نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 1997، (3/ 319)

([5]) المرجع السابق، (3/ 320)

([6]) المرجع السابق، (3/ 320)

([7]) المرجع السابق، (3/ 321)

([8]) المرجع السابق، (3/ 322)

([9]) أحمد حماني: حياة وآثار،شهادات ومواقف، دار الأمة، 2001، ص 123.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *