المقدمة

مقدمة السلسلة

تحاول هذه السلسلة أن ترد بطريقة علمية ومنهجية على ما أدخل على الإسلام من تحريفات شوهت قيمه الرفيعة، ومعانيه النبيلة، وألصقت به الكثير من التهم التي كانت حجابا بين أكثر البشر واتباعه.

وقد نص القرآن الكريم على هذا، فذكر أن الشيطان وإن يئس من أن يقضي قضاء تاما على الدين الحقيقي، فإنه لا ييأس من استغلال رجال الدين لتحريفه وتبديل القيم التي جاء بها، وتحويلها من قيم إلهية ممتلئة بالجمال، إلى قيم بشرية ممتلئة بالضلال، كما قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]، وقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]

وذكر سبب ذلك، وهو اتباع الأهواء، والركون إلى الدنيا، وإلى أهلها، طلبا لما عندهم من الأموال والجاه، كما قال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34]

وهذه الآيات الكريمة لا تخبر فقط عن الانحراف الواقع في الأديان السابقة، بل تحذر من وقوعها في الإسلام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأنا من غير الدّجّال أخوف عليكم من الدّجّال) فقيل: وما ذلك؟ فقال: (من الأئمّة المضلّين)([1])، وقال: (يكون في آخر الزّمان عبّاد جهّال وعلماء فسّاق)([2])، وقال: (هلاك أمّتى عالم فاجر وعابد جاهل وشرّ الشّرار شرار العلماء، وخير الخيار خيار العلماء)([3])

وغيرها من النصوص الكثيرة التي تبين أن هذه الأمة ستتأثر بما حصل لغيرها من الأمم، فتحرف وتبدل القيم الرفيعة للدين، وتحوله من الاستقامة إلى الاعوجاج، كما قال تعالى يصف القائمين على ذلك: ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ﴾ [الأعراف: 45]

وبناء على هذا حاولت هذه السلسلة أن تحاكم الكثير من القضايا الواردة في كتب الفقه أو العقائد أو السيرة أو التفسير أو الحديث وغيرها إلى القيم القرآنية الأصيلة التي دعينا إلى التحاكم إليها في حال النزاع، أو لرد المتشابه، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]

وقد اخترنا لها هذا العنوان [دين الله.. ودين البشر]، باعتبارها تحاول نقض دين البشر، لرده لدين الله؛ فلا يمكن أن يجتمع الدينان في محل واحد، بل لابد من الكفر بأحدهما والبراءة منه ليتحقق الدين الآخر، كما قال تعالى في السورة المخصصة لذلك: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾ [الكافرون: 1 – 6]

وهذه السورة الكريمة، وبالطريقة العجيبة التي صيغت بها، والممتلئة بالقوة، تدعو إلى التعامل مع دين البشر بكل حزم، بل تدعو إلى قيام مفاصلة كاملة بين الدينين؛ فلا يمكن أن يجتمعا في محل واحد.

ودين البشر ـ كما ورد في الكثير من النصوص المقدسة ـ ليس فقط ذلك الدين الوثني الواضح، وإنما يدخل فيه أيضا الكثير من الوثنيات والانحرافات والجاهليات التي دخلت في الإسلام، كما دخلت قبله في سائر الأديان.. فالجاهلية ليست وليدة فترة معينة، ولا دين معين، بل هي تتلبس بكل الأديان، وتحاول أن تجرها إلى الانحراف.

مقدمة الكتاب

يحاول هذا الكتاب أن يقدم ردا علميا مفصلا على أخطر الجرائم التي نسبت للإسلام، ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تلك المجزرة التي يذكر المؤرخون وأصحاب السير حصولها في غزوة بني قريظة، وتم فيها ـ كما يذكرون ـ إبادة الرجال، واستحياء النساء والأطفال، ثم بيعهم والمتاجرة بهم.

وهي للأسف تضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زورا وبهتانا، في نفس الخانة التي يوضع فيها السفاحون والمجرمون والقتلة، ولذلك لا نستغرب احتلالها مساحات هائلة من كتب المستشرقين والمبشرين والحداثيين والمستغربين وكل أعداء الدين، فهي فرصتهم الكبرى لتشويه الإسلام، وتبيين مدى دمويته.

ومن الأمثلة على ذلك قول [وليم موير] ([4]) (1819- 1905م)، وهو يصور هذه الحادثة تحت عنوان (الحكم الدموي الحزين)، حيث قال: (كان مشهد نطق الحكم على بني قريظة جديراً بالتصوير بريشة رسام، في الخلفية جيش المدينة عيونهم على الغنائم والأشياء المنزلية، والدروع، والطيور الجميلة، وفي ركن الصورة مجموعات من مئات اليهود، أيديهم إلى ظهورهم، والكآبة واليأس المشؤم على وجوههم، وعن يسارهم النساء والأطفال الضعاف، مرعوبين من الإرهاب، أو محمومين من الحزن) ([5])

وقال آخر يصفها، ويستثمرها أبشع استثمار: (ثم بعثوا إلى محمد يطلبون منه أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشيروه، وكان حليفاً لهم، لعلهم يتعرفون منه ماذا سيحل بهم وكيف سيفعل بهم محمد وأصحابه، وبماذا سيحكم فيهم؛ فلما جاءهم قام إليه الرجال، وجهش النساء والصبيان بالبكاء، وقالوا: (يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟)، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه ـ يقول لهم إنه الذبح ـ والعجيب ان بني قريظة استشاروا أبا لبابة، فأشار إليهم أَنَّهُ الذَّبْحُ لكنه نصحهم بالاستسلام شفقة بالنساء والأطفال فقط، وأشار بيده نحو رقبته، وهو ينظر للرجال مشيرا إلى أن مصيرهم سيكون الذبح، أي أن الرجل قال لهم: إن محمدا سيذبحكم، فأين أكاذيب الإنسانية وسماحة محمد.. وكل هذا قبل حكم الله فيهم، فمن أين عرف هذا الصحابي أن محمدا سيذبحهم إن لم تكن هذه هي سيرته في أعدائه ومخالفيه)([6])

وقال عند ذكر اختيارهم لحكم سعد بن معاذ، ورغبتهم عن حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فهرب القوم من محمد إلى سعد بن معاذ الذي كان مجروحا، ومات بعد ذلك إثر جرحه، فكيف شارك بنو قريظة، وهم لا يعلمون بجرح معاذ، أوليس هذا يعني أن القوم كانوا في غفلة من أمرهم، مشغولون بأعمالهم، وهذا ما أكدته الكثير من الروايات، وما كان من ذم صادر لبني قريظة من أبي سفيان كونهم لم يجتمعوا معه على حرب محمد، فهل يتأمل الإنسان ويفكر في هذا أم أنه اثر العماء على البصيرة والنور.. ثم كيف أجاز محمد لجريح، جرحه غائر يؤدي للموت أن يحكم بأمر هؤلاء؟ هذا لعمري أعجب العجب)

 وغيرها من المقولات الكثيرة التي لا يمكن الاكتفاء في الرد عليها باتهام أصحابها بتبنيهم لأحكام مسبقة على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن هذا، وإن كان صحيحا في الجملة، إلا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نقر بأن الحادثة يسيرة، وأنه يمكن الإجابة عنها بمثل تلك الأجوبة الباهتة، والتي تصورها وكأنها حدث عادي يمكن المرور عليه بسهولة.

بل إن بعض الإجابات المنفعلة تسيء إلى الإسلام وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما ترد على الشبهة، حيث أنها تنقل ما ورد في أحكام تلك المجزرة من نصوص في الكتاب المقدس، وتبين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرها، مع علمهم بأن هذا الدين نسخ ما قبله، وأن شريعة الإسلام السمحة قضت على تلك التحريفات التي أضافها أهل الكتاب لكتبهم.

بل إن بعض تلك الإجابات لم تكتف بذلك، وإنما راحت تذكر جرائم البشر، وأنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في تلك المجزرة، وهذا أيضا، نوع من الاعتراف بكونها مجزرة، وإن كانت خفيفة.. فكونها كذلك لا يلغي كونها جريمة.

ولذلك رأيت أن المنهج الأسلم فيها هو بحث أصلها وجذورها، لا مجرد تبريرها والدفاع عنها، ذلك أن كل تلك التبريرات لن يتقبلها إلا أصحابها الذين نطقوا بها، وربما يتقبلونها بمضض.

وبناء على هذا رأيت دراستها في هذا الكتاب دراسة علمية ومتأنية، ووفق منهجية واضحة، حتى يُزال الإشكال عنها، لا لكونها أصبحت مطية للمبشرين والمستشرقين والمستغربين والحداثيين فقط ـ كما ذكرنا ـ وإنما لكونها أصبحت أيضا مطية للإرهاب، ولكل من يريد أن يشوه الإسلام من خلاله.

فلا يمكن لمن يؤمن بهذه الحادثة، ويرى صدقها أن يقنع العالم بأن ما تمارسه داعش والقاعدة والنصرة من قتل الرجال، وسبي النساء، والاستيلاء على الأموال بدعة إرهابية، وهو في نفس الوقت يؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر ـ تنفيذا لحكم سعد ـ بقتل ذلك العدد الضخم من القرظيين حتى المراهقين منها، بل حتى الصبية، ثم الاستيلاء على أموالهم ونسائهم، واعتبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أحد من اقتسموا أولئك النسوة.

لكن للأسف يواجَه كل من يطالب بإعادة النظر في هذه الحادثة وفق الأصول العلمية، بكونه عاطفيا، أو محاربا للتراث، أو سطحيا، لا يتناول المسائل بعمق، وغيرها من الألقاب، وهو ما جعل الكثير يتهيب من مخالفة الموروث والتقاليد حتى لا يُتهم في دينه وعلمه.

وكل ذلك دعاوى مجردة؛ فالعالم الحقيقي ليس ذلك الذي يسمع القول، ويخضع له، بل هو الذي يقلب النظر فيه، ويدرسه من كل الزوايا، ومن جميع الاعتبارات، إلى أن يصل للحقيقة، وحينها لا يهمه من وافقه فيها أو خالفه؛ فالحقيقة هي الهدف الأكبر، ولا يمكن لأي شخص من الناس مهما بلغ علمه أن يدعي أنه يملكها، بل الكل يحاول الوصول إليها، وقد يهتدي إليها قوم، ويضل عنها آخرون، مع كونهم أكثر علما، وأصوب رأيا؛ فالهداية فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)([7])

ولهذا رد الإمام الحسين بشدة على تلك الإشاعة التي كانت منتشرة في زمانه، والتي لا يزال الرواة ينقلونها، وهي أن تشريع الآذان كان بسبب رؤيا رآها الصحابي عبد الله بن زيد؛ فأخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر صلى الله عليه وآله وسلم به؛ فأنكر الإمام الحسين ذلك بشدة، وقال: (الوحي يتنزّل على نبيّكم، وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد، والأذان وجه دينكم)([8])

وهكذا أنكرت أم المؤمنين عائشة على أبي هريرة إنكارا شديدا ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) ([9])، وقالت: (قد شبهتمونا بالحمير والكلاب. والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنسل من عند رجليه) ([10])

وردت عليه ما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار) بغضب شديد، وصفه الراوي بقوله: (فطارت شقة منها في السماء، وشقة في الأرض)، ثم قالت: (والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة، ثم قرأت عائشة: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22]) ([11])

وهذه الروايات التي ردتها أم المؤمنين أو ردها الإمام الحسين، ومثلهما ردود كثيرة، لا تزال موجودة في تراث المحدثين، وربما أسانيدها أقوى من الأسانيد التي نقلت بها حادثة بني قريظة، فهل يمكن اعتبار تلك الردود ردودا سطحية عاطفية لا تتسم بالعلمية، أم أن العلم الحقيقي هو الذي لا يستسلم للإشاعات وللكثرة، بل يحقق إلى أن يصل إلى النتيجة مهما كانت؟

بناء على هذا نحاول في هذا الكتاب أن ندرس هذه الحادثة عبر مجموعة أدلة يؤدي بعضها إلى بعض، أو يتربت بعضها على بعض، وكلها مستلهمة من القرآن الكريم، باعتباره المركز، والمحور الذي تناقش من خلاله القضايا المختلفة.

وننبه هنا ـ كما نبهنا في القضايا المشابهة لها ـ إلى أن تفنيدنا لهذه الحادثة لا يعني عدم احترامنا للعلماء الذين قالوا بها، بل إننا نحسب أنهم لكثرة مؤلفاتهم، وأعمالهم، ربما لم يتفرغوا لدراستها دراسة متأنية؛ فاعتمدوا فيها التقليد، ولم يعتمدوا الاجتهاد، لاقتناعنا بأن أي شخص يعمل اجتهاده فيها سيصل إلى ما وصلنا إليه.

وقد رأينا تقسيم البحث بحسب الأدلة التي اعتمدناها فيه إلى أربعة فصول، وهي:

أولا ـ المجزرة.. والتصنيف الديني: وذكرنا فيه أن سبب قبول أكثر العلماء لهذه المجزرة على الرغم من ضعف أدلتها واضطرابها هو تصنيفهم لها باعتبارها حدثا تاريخيا، والتساهل في نفس الوقت مع أمثال هذه الأحداث، ولو أنهم صنفوها ضمن العقائد أو الفقه، لما قبلها واحد منهم، وقد حاولنا أن نبين ـ لهذا ـ إمكانية بل ضرورة إدراج ما ارتبط من مآس في هذه الغزوة بالعقيدة والفقه، لارتباطها بهما.

ثانيا ـ المجزرة.. والتدليس اليهودي: وذكرنا فيه الأدلة القاطعة على اليد اليهودية في إشاعة الروايات المرتبطة بها ونشرها، واستغلال تساهل المحدثين في رواية المغازي والسير والتفسير للقيام بذلك.

ثالثا ـ المجزرة.. والفئة الباغية: وذكرنا فيه الارتباط بين رواة المجزرة والفئة الباغية من بني أمية أو بني العباس، والذين راحوا يستثمرون هذه الحادثة في تبرير جرائمهم، وسفكهم لدماء الخارجين عليهم، أو الناقديهم لهم بتهمة الخيانة، مثلما حصل في كربلاء والحرة وغيرهما.

رابعا ـ المجزرة.. وحاكمية الشريعة: وذكرنا فيه الأدلة القاطعة على كون أحداث المجزرة تتناقض تماما مع النصوص القطعية التي تبين حاكمية الشريعة الإسلامية، وحاكمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة، بخلاف ما يذكر رواة المجزرة من أن الحكم فيها كان لسعد، والحاكمية فيها كانت للتوراة، مع أن الله تعالى يقول: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]، ويقول: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]

وننبه في الأخير إلى أن ما يسهل علينا مهمة التحقيق في هذه المجزرة هو أننا لا نشكك في أصل وجود بني قريظة، ولا في كونهم خونة، ولا في أنهم عوقبوا على ذلك، ولا في كثير من الأحداث التي وقعت فيما يطلق عليه [غزوة بني قريظة]، ولكن التشكيك منصرف فقط إلى نوع العقاب الموجه لهم، والذي وقع فيه الاضطراب لدى المؤرخين.

وبذلك لا يمكن لأي كان أن يرد علينا، بأنا ننكر الواضحات المتواترات المشهورات المتفق عليها، وإنما نحن ننكر فقط تلك الروايات التي تصور العقوبة بكونها مجزرة قتل فيها الرجال، واستحيي النساء والأطفال، ثم استعبدوا، وهي روايات مضطربة، ومن رواة مختلف فيهم، ولهم صلة باليهود، أو بالفئة الباغية، كما سنرى.


([1])  مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، دار الفكر، بيروت 1/98 (765)

([2])  المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، بيروت،لبنان، دار الكتب العلمية، ط2، 1422هـ/2002م، (4/351، رقم 7883)

([3])  قال العراقي في [تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، العِراقي (725 – 806 هـ)، ابن السبكى (727 – 771 هـ)، الزبيدي (1145 – 1205 هـ)، استِخرَاج: أبي عبد اللَّه مَحمُود بِن مُحَمّد الحَدّاد (1374 هـ -؟)، دار العاصمة للنشر – الرياض، الطبعة: الأولى، 1408 هـ – 1987 م، (1/ 187)]: (أما أول الحديث فلم أجد له أصلاً وأما آخره فرواه الدارمي في مسنده من رواية بقية عن الأحوص بن حكيم عن أبيه قال سأل رجل النبي – a – عن الشر فقال لا تسألوني عن الشر وسلوني عن الخير يقولها ثلاثاً ثم قال إلاّ أن شر الشرار شرار العلماء وخير الخيار خيار العلماء وهذا مرسل ضعيف فبقية مدلس وقد رواه بالعنعنة والأحوص ضعفه ابن معين والنسائي وأبوه تابعي لا بأس به)

([4])  مستشرق ومبشر وموظف إداري  تعلم الحقوق في جامعتي جلاسكو وأدنبرة، عين في الإدارة المدنية لشركة الهند الشرقية في أقرا بالهند منذ عام 1847م، وأثناء ذلك تعلم العربية وعني بالتاريخ الإسلامي ، ثم أُختير رئيساً لجامعة أدنبرة (1885-1902 م) من كتبه [حياة محمد  والتاريخ الإسلامي] انظرك عبد الحميد صالح  حمدان : طبقات المستشرقين ، ص 203..

([5])   William Muir :Life of Mohammed from the original sources ،4\274.

([6])  انظر مقالا بعنوان: بنو قريظة وهلوسات محمد بين القتل والسبي والاغتصاب، موقع الحقيقة في كشف الحقائق المخفية، 19 يونيو 2014.

([7])  سنن الترمذي (الجامع الكبير)، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279ه)، حققه بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي ، بيروت، سنة النشر 1998 م، رقم 2659، سنن ابن ماجَة، محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1/84.

([8])  دعائم الإسلام، النعمان بن محمّد التميميّ، بيروت، دار الأضواء، 1411هـ، 1/ 143، 133. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الطبع الجديد، المحدث النوري، تحقيق مؤسسة آل البيت  لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1407 ه‍ ، 4/ 17 حديث 4062.

([9])صحيح مسلم، مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (206 ، 261ق)، بيروت: دار الفكر، 1398ق، الطبعة الثانية، (1/365، رقم 511)

([10]) رواه أحمد،  6/41، 78، صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري، دمشق وبيروت: دار ابن كثير واليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، 1414هـ، 1/136 ، ومسلم 2/60.

([11]) رواه أحمد: 6/240 وفي 6/246.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *