المقدمة

مقدمة الكتاب

يتناول هذا الكتاب المناهج الكبرى التي استعملها العلماء والفلاسفة والمتكلمون من المدارس المختلفة للدلالة على وجود الله، مع ضرب الأمثلة عن البراهين المرتبطة بها، وتقريراتها المختلفة، محاولا تبسيط كل ذلك، باستعمال الحوار والقصة والمثال وغيرها من أساليب التبسيط.

ذلك أن الكثير من تلك المناهج ـ وخاصة الفلسفية أو الكلامية منها ـ تُعرض بطريقة يصعب على العامة والبسطاء التعرف عليها والاستفادة منها مع أهميتها البالغة، ولذلك تبقى محصورة في دوائر ضيقة، مع أنها من الأسلحة المهمة والنافعة التي يواجه بها الإلحاد، وخاصة الإلحاد الجديد الذي يعتمد عرض الأطروحات الإلحادية القديمة بطريقة بسيطة، ويجد من يسمع له، وفي نفس الوقت لا يجد في الطرف المقابل إلا طروحات غاية في التعقيد والغموض، والتي قد تثير فيه من الإشكالات أكثر مما تحل له من العقد.

بالإضافة إلى ذلك كله، فقد بنينا الحديث عن هذه المناهج والبراهين والتقريرات المرتبطة بها على أساس التنوع الحاصل في طرق التفكير ومدارسه ومناهجه.. ولذلك لم نستعمل تلك الطريقة التي وقع فيها بعض المؤمنين الذين راحوا ينتقدون مناهج وبراهين لم تتناسب مع طرقهم في التفكير، فراحوا يعطون الملاحدة الأدوات التي يواجهون بها تلك الأدلة.

ولذلك قبلنا جميع الأدلة، وبتقريراتها المختلفة، بناء على القاعدة المعروفة [لله طرائق بعدد الخلائق]، فقد لا يفهم بعض الناس دليلا من الأدلة كالدليل الأنطولوجي لأنسلم وديكارت، أو دليل الصديقين للفارابي وابن سينا والملا صدرا.. لكن في نفس الوقت نرى من فهم تلك الأدلة، واستفاد منها، وتحول بموجبها من الإلحاد إلى الإيمان.. ولذلك لا معنى لانتقادها أو رفضها بحجة عدم تناسبها مع الاتجاه الفكري أو المدرسة الفكرية.

ولهذا كان موقفنا في الكثير من القضايا هو قبول كل ما يدعم الإيمان بغض النظر عن التفاصيل المرتبطة به.. فمن المسائل المطروحة في هذا الباب ـ مثلا ـ مسألة قدم العالم، وهل هي في حال صحتها ـ كما يقول الكثير من الفلاسفة ـ تتناقض مع الإيمان، أو لا تتناقض معه، وهل قدم العالم شرط لثبوت الصانع، أو ليس شرطا.. فلم نهتم بهذه المسألة باعتبارها مسألة جزئية، وإنما اهتممنا بها باعتبارها شبهة قد يستفيد منها الملاحدة.

ولذلك بحثنا فيها على كلا الاحتمالين.. على احتمال الحدوث، وهو الذي نؤمن به، وقد ذكرنا براهين كثيرة خاصة بذلك.. أو على احتمال عدم الحدوث ـ كما يقول الفلاسفة ـ وقد ذكرنا أيضا أنه حتى لو كانت الحالة كذلك، فإنها لا تتناقض مع وجود الله بناء على مبدأ العلية والإمكان.

وقد استلهمنا الجانب الروائي والقصصي في هذا الكتاب مما ورد عن اجتماع المؤمنين في الجنة، وحديث بعضهم مع بعض عن سبب هدايتهم وضلالهم، وكيف خرجوا من ذلك، وهو المشهد الذي نص عليه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)} [الصافات: 50-60]

ولهذا جعلنا المؤلف يرحل بصحبة معلمه [معلم الإيمان] إلى روضات المؤمنين الذين هربوا من جحيم الإلحاد، وهناك يجد حدائق كثيرة، كل حديقة تضم جماعة من الجماعات، مقسمين على أساس المدارس الفكرية التي عرفوا الله من خلالها.

وعند زيارته لكل جماعة يتعرف على المنهج العام الذي بنوا عليه استدلالاتهم، ثم يسمع من كل واحد منهم البراهين التفصيلية المرتبطة بذلك المنهج، على سبيل الحكاية الرمزية، مع الحوارات التي تناقش الشبهات، وترد عليها بسلاسة ووضوح وتبسيط.

وقد قسمنا المناهج الكبرى التي تقوم عليها براهين وجود الله إلى سبعة أقسام:

البراهين القاطعة: ونقصد بها أصناف الأدلة والبراهين التي استعملها الفلاسفة والمتكلمون من أمثال برهان العلية، وبرهان لحدوث، وبرهان التطبيق أو نفي التسلسل، وغيرها.. وهي جميعا براهين تنطلق من الكون كواسطة للوصول إلى الله.

المعاني الرقيقة: ونقصد بها أصناف الأدلة التي استعملها الفلاسفة أو الصوفية، وهي الانطلاق من الأعلى إلى الأدنى أو من المكون إلى الكون، ومن أمثلتها برهان الفطرة، وبرهان الصديقين، والبرهان الوجودي أو الأنطولوجي، والبرهان الوجداني.

العناية الرحيمة: ونقصد بها أصناف الأدلة التي استعملها الفلاسفة والمتكلمون والعلماء، والتي تتعلق بالنظر إلى عناية الله بعباده ورحمته بهم، عبر المظاهر المختلفة لتلك العناية، والتي دل العلم الحديث على تفاصيل الكثير منها.

الصنعة العجيبة: ونقصد بها أصناف الأدلة التي يستعملها علم الكلام الجديد، والعلماء المعاصرون في الدلالة على الله انطلاقا من براعة الصنعة وإتقانها، فالصنعة المتقنة تدل على الصانع المبدع، وقد استفدنا في هذا المنهج خصوصا مما كتبه علماء الفيزياء والفلك والطب وغيرهم في هذا الجانب محاولين تبسيطه قدر المستطاع.

النظام البديع: ونقصد بها أصناف الأدلة التي يستعملها علم الكلام الجديد خصوصا لنفي العشوائية والصدفة.. فالنظام يحتاج إلى منظم، ويستدعيه بالضرورة العقلية.

الآيات الباهرة: ونقصد بها أصناف الأدلة التي تواجه الأطروحات الإلحادية التي تتصور أن الأدلة على الله أدلة نظرية وفلسفية فقط، ليس لها أي جانب حسي أو تجريبي.. فهي تعطي الكثير من المناهج التي يمكنها أن تحول الإيمان بالله إلى تجربة حسية، كسائر التجارب.

الهداية المبينة: ونقصد بها أصناف الأدلة التي استعملتها الكتب المقدسة في الدلالة على الله، لا عبر الاستدلال بنصوص تلك الكتب المقدسة نفسها، لأن ذلك قد يعبر دورا، وإنما باعتبارها ظاهرة من الظواهر الحسية، التي تحتاج إلى البحث فيها من هذا الجانب، وقد حاولنا أن نبين أن هذه الظاهرة أكبر ظاهرة تعريفية بالله، فالله لم يعلن عن نفسه من خلال الكون وظواهره فقط، وإنما أعلن عنه عبر رسله وكلماته المقدسة لعباده.. وقد اقتصرنا على بعض الأمثلة على ذلك، بناء على أننا خصصنا سلسلة [حقائق ورقائق] جميعا لإثبات النبوة بالمناهج المختلفة، وإثبات النبوة، ليس سوى إثبات للألوهية بالدرجة الأولى.

وقد اعتمدنا في هذا الكتاب على مصادر كثيرة متنوعة، وضعنا التوثيقات المرتبطة بها في الهوامش، ولم نبالغ في التوثيق عند كل محل، لأننا نتصرف كثيرا في النصوص، فالهدف ليس النصوص بحد ذاتها، ولا أصحابها، وإنما الأفكار التي تحملها.

وننبه أيضا إلى أننا في هذا الكتاب باعتباره يمزج العلم بالفن والأدب لم نراع التسلسل التاريخي في الأحداث والوقائع التي يرويها أبطال الرواية، ولا المعلومات الدقيقة المرتبطة بأشخاصهم.. لأن كل ذلك لم نقصد منه سوى تقريب الصورة، وتيسير الفهم، وتوضيح المقاصد.

وننبه أيضا إلى أن الكتاب باعتباره يخاطب جهات متعددة، فإن أساليبه متعددة، فمنها المغرق في التعقيد الفلسفي، ومنها العلمي البسيط اليسير، ومنها الخطابي الوعظي.. ولذلك يمكن للقارئ الذي لم يفهم نصا من النصوص، أو برهانا من البراهين أن ينتقل لغيره من غير أن يؤثر ذلك في فهمه للمسائل المطروحة، ولو أننا نعمد كل برهان إلى وضع تقريرات مختلفة تخاطب أصناف الناس: الفيلسوف والعالم والعامي وغيرهم.

وننبه في الأخير إلى أن هذا الكتاب ليس سوى جزء من سلسلة [الإلحاد.. والدجل]، ولهذا لم نتعمق في تفاصيل بعض الأدلة، باعتبار أننا سنتحدث عنها بتفصيل في محالها من الأجزاء الباقية.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *