المقدمة

دعوها، فإنها منتنة..
ليست هذه الجملة عنوانا صحفيا مثيرا، ولا كلمة اعتباطية خالية من أي دلالة حقيقية.. بل إنها كلمة تعبر عن حقيقة من حقائق الوجود، وسنة من سنن الكون.
ذلك أن الذي نطبق بها ليس صحفيا، ولا كاتبا، ولا باحثا، ولا فيلسوفا، ولا عالم اجتماع، ولا عالم نفس.. بل الذي نطق بها هو من لا ينطق عن الهوى.. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك الذي لا يقول إلا الحق في رضاه أو غضبه..
ولذلك فإنها تعبر عن الحقيقة بكل معانيها وتجلياتها..
فالذي يدعو إلى العصبية والعرقية والهوية التي تميزه عن سائر إخوانه في الإنسانية إنما يدعو في الحقيقة إلى القذارة والنتانة.. ذلك أنه يدعو إلى عالم الطين والحمأ المسنون، ويغفل عن الروح والعوالم العلوية التي صدرت منها.. لذلك تفوح من أحاديثه رائحة الطين والحمأ المسنون..
ولهذا دعا الناصح الأكبر للبشرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الترفع عن هذا العالم، والنظر إلى الإنسان باعتبار جوهره وحقيقته الأبدية، لا باعتبار المرحلة القصيرة التي لبس فيها هذا الطين، ليؤدي دوره التكليفي المؤقت، وليختار العالم الذي يعيش فيه.
وقد توالت التحذيرات النبوية من النظر إلى الإنسان بهذا الاعتبار، فكان يستعمل كل وسائل الترغيب والترهيب، ليقضي على تلك الحمية الجاهلية التي كانت تصنف البشر بحسب ألوانهم ولغاتهم وأعراقهم وتواريخهم وجغرافيتهم وأحجام جماجهم.. وكأنهم مسؤولون ومحاسبون على شيء ليس في طاقتهم، ولا في وسعهم.
ومن تلك التحذيرات، تحذيره صلى الله عليه وآله وسلم من أخطر تجليات العنصرية العرقية، وهي العصبية الجاهلية، التي كانت تدعو إلى قتال الأعراق بعضها لبعض، وإلغاء بعضها لبعض، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)([1])، فهذا الحديث الخطير يخرج من الأمة من كان يحمل أدنى بذرة من بذور العصبية والعرقية والجهوية والطائفية، والتي تحول بينه وبين التجرد الحقيقي للانتساب للدين، فلذلك لم تكن نسبته للدين نسبة كافية، فهو مع الدين في عقائده وشعائره، ولكنه ليس معه في قيمه وأخلاقه، وأولها إنسانيته وعالميته.
وهكذا حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التفاخر بين الأعراق، والذي يدعو إلى الضغينة والأحقاد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد)([2])
ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يصحح المفاهيم كل حين حول حقيقة الإنسان، وحقيقة العلاقات التي ينبغي أن تسري بين البشرية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقى وفاجر شقى، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التى تدفع بأنفها النتن)([3])
وهذا الحديث الشريف مدرسة في بابه، وهو خطاب عقلي ونفسي لكل عنصري ترك الحقيقة الإنسانية السامية، وراح يبحث في عالم الطين، وهو وحده كاف لمن تأمله للتخلص من كل القيود التي تتثاقل به الأرض، وتجعله يرى الحياة كما يراها الجعلان الذي يدفع بأنفه النتن.
وبناء على هذا، فإن القاعدة التي تحكم المسلمين، والتي نصت عليها النصوص المقدسة، هي ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في تلك الخطبة الشاملة لكل القيم الإنسانية الرفيعة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، الناس رجلان: بر تقي كريم على الله عز وجل، وفاجر شقي هين على الله عز وجل، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13])([4])
لكن هذه التوجيهات النبوية لم تلق العناية الكافية، ومن الأجيال الأولى من المسلمين، حيث بدأ التصنيف العرقي بمجرد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحصل الخلاف بين بعض المهاجرين وبعض الأنصار ممن لم يتشربوا القيم الإسلامية تشربا كافيا.
وزاد حكم الطلقاء للمسلمين المسألة تعقيدا، حيث عادت الجاهلية العرقية بأثواب مختلفة، أهمها ذلك التعالي الذي أبداه بعض العرب تجاه الموالي، وكان بداية لنشوء القومية العربية الممتلئة بالعنصرية المقيتة.
وقد ذكر المؤرخون والأدباء الكثير من المظاهر الاجتماعية لذلك([5])، ومنها أن نافعا بن جبير بن مطعم طلب من رجل من أهل الموالي من غير العرب أن يصلي به، فاستفسروا عن سبب ذلك؛ فقال: إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه.
ورووا أنه كان إذا مرّت به جنازة قال: من هذا؟ فإذا قالوا قرشي؛ قال: واقوماه! وإذا قالوا: عربي؛ قال: وابلدتاه! وإذا قالوا: مولى؛ قال: هو مال الله، يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.
وذكر ابن عبد ربه والجاحظ وغيرهما بعض مظاهر التمييز العنصري التي كان يبديها القوميون من العرب تجاه العجم، فذكروا أنهم كانوا يقولون: (لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب أو مولى)، وأنهم (كانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاما قاموا على رؤسهم، وإن أطمعوا المولى لسنّه وفضله وعلمه أجلسوه في طرف الخوان؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب، وإن كان الذي يحضر غريرا؛ وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها إلى مواليها؛ فإن رضي زوّج وإلا ردّ، فإن زوّج الأب والأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها كان سفاح غير نكاح)([6])
بل إن الأمر بلغ أخطر من ذلك، فقد روي أن معاوية دعا الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب، فقال: (إني رأيت هذه الحمراء ـ يقصد غير العرب ـ قد كثرت، وأراها قد طعنت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان؛ فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق؛ فما ترون؟ فقال الأحنف: أرى أن نفسي لا تطيب؛ أخي لأمي وخالي ومولاي، وقد شاركناهم وشاركونا في النسب. فظننت أني قد قتلت عنهم؛ وأطرق.فقال سمرة بن جندب: اجعلها إلىّ أيها الأمير، فأنا أتولى ذلك منهم وأبلغ منه.فقال: قوموا حتى أنظر في هذا الأمر.. قال الأحنف: فقمنا عنه وأنا خائف، وأتيت أهلي حزينا؛ فلما كان بالغداة أرسل إليّ، فعلمت أنه أخذ برأيي وترك رأي سمرة) ([7])
بل إن الأمر لم يقتصر على عوام الناس وخاصتهم، بل تعداه إلى أهل الدين منهم، وخصوصا أولئك الذين حصروا الدين في الطقوس والشعائر، وغفلوا عن الأخلاق والقيم، فقد رووا أن عامر بن عبد القيس ـ مع نسكه وزهده وتقشفه وإخباته وعبادته ـ كلّمه حمران مولى عثمان بن عفان عند عبد الله بن عامر صاحب العراق في تشنيع عامر على عثمان وطعنه عليه، فأنكر ذلك، فقال له حمران: لا كثّر الله فينا مثلك! فقال له عامر: بل كثّر الله فينا مثلك! فقيل له: أيدعو وتدعو له؟ قال: نعم، يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحركون ثيابنا. فاستوى ابن عامر جالسا، وكان متكئا، فقال: ما كنت أظنك تعرف هذا الباب، لفضلك وزهادتك. فقال: ليس كل ما ظننت أني لا أعرفه، لا أعرفه.
وليت الأمر اقتصر على كل هذا، بل تعداه إلى الفقهاء أنفسهم، والذين راحوا يدعون إلى العصبية العربية من غير شعور، وكأنها حقيقة مطلقة، حتى اعتبروا ما دل من النصوص السابقة على الأخوة العامة بين المؤمنين خاصا بالآخرة، فقد نقل بعضهم قول مالك قوله: لا تعتبر الكفاءة إلا في الدين، واستدلاله من القرآن والسنة على ذلك فرد عليه بقوله: (قلنا: المراد به في حكم الآخرة وكلامنا في الدنيا)، قال الشارح: (وإلا ففي الدنيا ثابت فضل العربي على العجمي بالإجماع)([8])
ولسنا ندري أي إجماع يدعيه، ولا أي مستند لذلك الإجماع، بل الإجماع هو ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما دل عليه القرآن الكريم، وما أيدته قواعد الدين ومقاصده الكلية.
وقد نقل بعضهم مذهب الغزالي في النسب، ورد عليه بقوله: (قال الإمام والغزالي: وشرف النسب من ثلاث جهات: جهة النبوة وجهة العلم وجهة الصلاح المشهور، ولا عبرة بالانتساب لعظماء الدنيا والظلمة المستولين على الرقاب، وإن تفاخر الناس بهم)، قال الرافعي: ولا يساعدهما عليه كلام النقلة في العظماء، فيعتبر الانتساب إليهم … وكيف لا يعتبر وأقل مراتب الإمرة ونحوها أن تكون كالحرفة؟ وذو الحرفة الدنيئة لا يكافئ النفيسة)([9])
وقد نشأ عن فتح هذا الباب العصبية المحرمة بين العرب وغيرهم، بل بين العرب أنفسهم، بل نجد هذه العصبية قد انتقلت لكتب الفقه نفسها، ففي كتاب منها يقول صاحبه: (سائر العرب بعضهم أكفاء لبعض، وبنوا باهلة ليسوا بأكفاء لعامة العرب؛ لأنهم يعرفون بالخساسة قيل: إنهم يستخرجون النقي من عظام الميتة ويأكلونه قال الشاعر:
إذا قيل للكلب يا باهلي عوى الكلب من لؤم هذا النسب)([10])
فهؤلاء الفقهاء ـ مع احترامنا لهم ـ تركوا الأدلة الصريحة الصحيحة لقول شاعر، ويمكنهم لو ساروا على منواله أن يهجوا القبائل جميعا، بل الخلق جميعا.
وقد كان كل هذا التعصب للقومية العربية سببا في ظهور ما أطلق عليه [الشعوبية]، وهي التعصب للأعراق المختلفة من الفارسية والكردية وغيرها، والتي لا نزال نعيش آثارها إلى اليوم.
بناء على هذا كانت هذه المقالات محاولة للدعوة إلى العودة إلى الإنسانية التي دعت إليها مصادر الدين المقدسة، وقد ركزت فيها خصوصا على [الدعوة الأمازيغية] باعتبارها نموذجا عن الحركات العنصرية القومية، ولكونها حركة جديدة مقارنة بغيرها من الحركات، ولكونها بدأت تتشكل وتنتشر في المغرب العربي، لتنحرف بلغته السليمة، وفطرته النقية، لتحوله إلى أداة من أدوات التفتيت والصراع.
وأحب أن أنبه إلى أن مقصدنا من هذه المقالات هو النصيحة لا غير، فأنا شخصيا أعرف الكثير من الأمازيغ المؤمنين الطيبين الذين يفخرون بانتمائهم للحضارة الإسلامية في ثوبها العربي، ولا يرون أي حاجز بين حبهم للعربية وحرصهم عليها، وبين كونهم أمازيغ يعيشون بين قومهم بحسب العادات التي تعودوا عليها، واللغة التي ينطقون بها.
لكن حديثي مع أولئك الذين يريدون خلع الثوب العربي عنهم، مع كونهم يعرفون العربية، ويتقنونها مثلهم مثل سائر العرب، لكنهم ينظرون إليها باستكبار، بل ينظرون إليها كما ينظرون إلى الاستعمار، ويودون لو أن كل الألسن عجمت حتى لا يُنطق في الشمال الإفريقي إلا باللسان الأمازيغي.
وقد وصل الحقد ببعضهم إلى درجة تبني القيم النازية والصهيونية من الدعوة إلى طرد العرب، أو ربما إبادتهم في المستقبل حتى يخلص الشمال الإفريقي للأمازيغ.
وقد وجدت هذه الدعوات رعاية كافية من دوائر الاستكبار
العالمي التي راحت تدعمها بكل صنوف التدعيم، فتنشر المظلومية الأمازيغية، كما نشرت
قبل ذلك المظلومية اليهودية.. لتحول أرضنا بعد ذلك إلى محرقة لا تقل عن محرقة اليهود.
([1]) أبو داود (4/332، رقم 5121).
([2]) رواه مسلم (4/2198 رقم 2865) ، والبزار (8/424، رقم 3495)
([3]) رواه أحمد (2/523، رقم 10791) ، وأبو داود (4/331، رقم 5116) ، والبيهقى (10/232، رقم 20851) . وأخرجه أيضا: الترمذى (5/735، رقم 3956)
([4]) عبد بن حميد (795) والترمذي (3270).
([5]) انظر العقد الفريد (3/ 360)
([6]) العقد الفريد (3/ 361)
([7]) العقد الفريد (3/ 361)
([8]) تبيين الحقائق :2/128.
([9]) شرح البهجة:4/124.
([10]) الجوهرة النيرة:2/11،وانظر:فتح القدير:3/298.