المقدمة

المقدمة

هذه مقالات كتبتها في مناسبات مختلفة، لكنها تجتمع جميعا حول الدعوة إلى شيء واحد، وهو العودة لمصدر الحقيقة الصافية الذي لم يتلبس بوهم، ولم يختلط بهوى، ولم يلم به الشيطان، ولا أذناب الشيطان.

وذلك المصدر المقدس لا يتمثل إلا في الوحي الإلهي المعصوم، والذي جعله الله تعالى مرجعا عند التنازع، وعدم التنازع.. كما جعله مرجعا لنعرف من خلاله حقائق الإنسان والكون والحياة، ونسير وفق سنن الله وقوانينه ونظامه الذي وضعه لها جميعا.

لكنه ـ عند تتبع مسار الأمة من خلال تاريخها وتراثها ـ نجد هجرا مقصودا أو غير مقصود لذلك المصدر المقدس، واللجوء بدله إلى الكثير من المصادر الممتلئة بالوهم، وتحت أسماء مختلفة، كالسلف أو الخلف أو الكشف أو الشهود أو الإلهام.. أو غير ذلك من الأسماء.

ولأجل مراعاة كل تلك المصادر البديلة التي زرعت الأوهام في واقعنا وديننا تعرض القرآن الكريم للكثير من التأويل والتعطيل والهجر..

وبما أنه لا يمكن حصر مظاهر الوهم، وكيفية تسلطها على الحقائق وتشويهها لها، فقد اقتصرنا على نماذج متفرقة منها، لتدل على غيرها.. ذلك أن كل هذه السلسلة [الدين والدجل] محاولة للبحث عن مصادر الوهم ومظاهره في المدارس الإسلامية المختلفة، وبيان وجوه مخالفتها أو صراعها مع الحقائق.

وأحب أن أذكر هنا لأولئك المثبطين الذين يرون في نشر مثل هذا نشرا لغسيل هذه الأمة، وتشويها لها، وأننا بذلك نناقض ما ورد في النصوص المقدسة من خيرية هذه الأمة، كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، وقد غفل هؤلاء عن سر من أسرار هذه الخيرية، أو سبب من أسبابها، وهو ما ورد في تكملة الآية من قوله تعالى: { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]

فالآية تضع شرطا لهذه الخيرية، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما أخطر من أن يتعلقا بفروع المسائل، ويقصرا في أصولها.. أو أن يرتبطا بعامة الناس البسطاء، ويقصرا في خواصهم وأهل الرأي والعلم والحكم فيهم.

وقد أخبر القرآن الكريم عن المصير الذي آل إليه بنو إسرائيل، والتحريف الذي وقع لدينهم، وكل ذلك بسبب السكون عن محاربة الدجل، أو التحذير منه، بحجة حفظ حرمة الأحبار والرهبان، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) } [المائدة: 78 – 81]

وقد ورد في الحديث تفسير لبعض مظاهر ذلك، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بنى إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه يقع على الذنب فينهاه عنه فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } الآيات لا حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه على الحق أطرا)([1])

بل إن الله تعالى اعتبر الإسرائيليين الذين لم ينكروا على تلاعب قومهم بحرمة السبت، وهي شريعة شرعت لهم، حاولوا الاحتيال عليها، بكونهم مشاركين لأصحاب الحيلة أنفسهم.

فقد قسم الله تعالى أهل السبت إلى ثلاثة أقسام، قسم ارتكبوا جرم المخالفة، وقسم نهوهم، وقسم سكتوا عنهم، لكنه عند ذكر عقوبته لهم ذكر أنه لم ينجو إلا المنكرون.. وهذا يعني أن الساكتين والفاعلين نالتهم نفس العقوبة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} [الأعراف: 164، 165]

بناء على هذا، فإن الواجب الذي نرى أنفسنا مكلفين به هو الوقوف في وجه الدجل والاحتيال والتلاعب بالدين من غير أن يكون لنا انحياز لأي مدرسة من المدارس أو جهة من الجهات.. ولذلك شملت المقالات الكثير من المدارس والتوجهات مع اختلافاتها الشديدة بينها..


([1])  الترمذى (5/252، رقم 3048) ، وابن ماجه (2/1327، رقم 4006)، الطبرانى فى الأوسط (1/166، رقم 519)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *