المعاني الرقيقة

المعاني الرقيقة

ما شعرت بتلك المشاعر الإيمانية العميقة التي سرت من عقلي إلى قلبي، حتى رأيت شابا قادما على أريكته العجيبة من روضة أخرى من الرياض المجاورة، ثم ما لبث حتى اقترب مجلسه من مجلسي، ثم نظر إلي، وقال: لقد أرسل لنا معلم الإيمان رسالة يدعونا فيها لاستقبالك في روضتنا.. فهلم بنا إليها.

قلت: شكرا له ولكم.. ولكن كلاما كثيرا لا أزال أحب سماعه من أهل هذا المجلس، فدعني ريثما أنتهي منه، وسأحضر بنفسي.. أو اجلس معنا لتسمعه، فإنك ستسمع كلاما لن تسمع مثله في حياتك.

ابتسم، وقال: لن تخرج من هنا لو ظللت في هذه الروضة، أو في أي روضة.. فكل حديث عن الله جميل..

قلت: فهل في روضتكم أحاديث مثل هذه الأحاديث؟

قال: لو كانت أحاديثنا مثل هذه الأحاديث لكنا هنا، ولم نكن هناك.. ألست تقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]

قلت: بلى.. وأفهم منها أن الله تعالى بكرمه يضع كل المتشاكلين في محل واحد، لينسجم بعضهم مع بعض، ويكمل بعضهم بعضا.

قال: ولهذا وضع أصحاب البراهين القاطعة في هذه الروضة.. أما روضتنا فمختلفة تماما عنها.. إنها روضة المعاني الرقيقة.

قلت: كيف ذلك؟.. أليست كل البراهين كلها تعود إلى العقول؟

قال: بلى.. ولكن براهينهم تنطلق من الكون لتصل إلى المكون.. أما براهيننا فتنطلق من المكون لتصل إلى الكون.. ولذلك كانت معانيها رقيقة ودقيقة، فلا يستوعبها إلا أصحاب النفوس الطاهرة، والقلوب الخاشعة، والأرواح السامية.

قلت: لم أفهم.. أو لم أعقل.. هل يمكن أن توجد براهين بهذا النوع؟.. وهل هناك من العقول من يسلم لها؟

قال: أجل.. وقد وجد ذلك في كل فن من الفنون.. ألست ترى ملايين طلبة العلم في الدنيا، لكن لا ينبغ منهم إلا العدد المحدود؟

قلت: ذلك صحيح..

قال: فما دامت عقولهم واحدة.. فكيف اختلف النبوغ فيهم؟

قلت: هناك أسباب كثيرة.. فبعضهم يفكر تفكيرا غليظا كثيفا محدودا.. وبعضهم يفكر تفكيرا رقيقا عميقا واسعا.. وهم الثلة القليلة من أصحاب العقول الذين نسميهم عباقرة.

قال: فهكذا الأمر مع الحقائق الإيمانية.. فهناك من يحتاج إلى الأدلة الكثيفة التي تحاول أن تزيل الغشاوة عن عينيه، وقد تفلح ولا تفلح.. وهناك من يكون مبصرا، لا غشاوة على عينيه، ولذلك لا يحتاج إلى أي أدلة، لأنه مبصر بالفطرة أو الاكتساب.

قلت: لقد ذكرتني بقدرات بعض العقول في الحساب.. حيث أنه تلقى إليه المسائل العويصة الصعبة، فيحلها في طرفة عين، وكأنه يراها بأم عينيه.. وهناك من يبذل جهدا كبيرا في حلها، ويستعمل كل ألوان الأقلام، ومع ذلك قد يخطئ في حلها.. لكن كيف يخاطب هؤلاء غيرهم؟.. وكيف يثبت هؤلاء لغيرهم ما ثبت لهم؟

قال: لكل قوم لغتهم الخاصة بهم.. ولذلك ترى من لم ينجذب عقله للبراهين القاطعة، لكنه ما إن يسمع المعاني الرقيقة حتى يذوب فيها.. وينتقل مباشرة من الإلحاد إلى الإيمان.. ومن الغفلة إلى اليقين.

قلت: أتعني أن الأدلة العقلية ليست وحدها براهين المعرفة الإلهية؟

قال: وهل عرف سحرة موسى عليه السلام ربهم وسجدوا له وضحوا بأنفسهم في سبيله نتيجة لخطابات عقلية من موسى عليه السلام؟

قلت: لا.. بل رأوا حججه الواضحة، وأدلته القاطعة التي تحدثت بها العصا.

قال: فقد كانت الآيات الباهرة هي دليلهم إلى الله.

قلت: ذلك صحيح.

قال: وهكذا {لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].. ولكل أمة رسول.. ولكل عقل حجة.

قلت: فما حجة قومك؟

قال: تعال معي، واسمع الأمر من أهله.. فخير من حدث عن المرء لسانه.

قلت: وأصحابي هؤلاء.. أأتركهم من غير وداع؟

قال: أنت تراهم يتحدثون، وكأنهم لا يعلمون بحديثك معي.

التفتّ إليهم، فوجدتهم منشغلين عني، ويتحدثون ويضحك بعضهم مع بعض، وكأني لست معهم.. وكأنه لم تكن بيننا أي أحاديث..

قلت: كيف هذا؟.. ولم هذا؟

قال: أنت مكلف بمهمة محدودة ومؤقتة.. ولذلك لن تسمع إلا ما يتاح لك سماعه.. ولن ترى إلا ما يؤذن لك في رؤيته.

قلت: أتعني أن هناك أشياء كثيرة تراها أنت، ولا أراها أنا؟

قال: أجل.. بل إن رؤيتنا نفسها تختلف، وتذوقنا للأشياء يختلف.. فأنت لا تزال تحمل مدارك أهل الدنيا المحدودة.. وأنا وكل من حولي لنا مدارك أخرى تتيح لنا ما لا تتيح لك.

سرنا بين روضات كثيرة مملتئة بالجمال إلى أن وصلنا إلى روضة المعاني الرقيقة، وقد دهشت للأنوار الجميلة التي تحيط بها.. ودهشت لكل تلك الروائح العطرة التي تصل مباشرة إلى القلب، فتجعله يخفق بكل معاني العشق والهيمان.. ودهشت للألوان البديعة للورود والزهور التي لم أر في حياتي مثل جمالها ودقة صنعها.

ولكن كل تلك الدهشة التي أصابتني لم تكن تعدل جزءا بسيطا من دهشتي لأولئك الطيبين الذين اجتمعوا يتحدثون عن سر وجودهم في تلك الروضة.. فقد كانوا في منتهى الكمال والجمال، وقمة الأدب واللطف، وغاية العقل والحكمة.

برهان الفطرة:

بعد أن استقر بي المجلس، وزال عني بعض آثار تلك الدهشة والانبهار، وسلمت على الجمع المنور بنور الإيمان، وسلموا علي، قال أحدهم مخاطبا رسولهم الذي جاء بي إلى ذلك المجلس: فلتبدأ أنت يا صاحب الفطرة الطاهرة لتحدثنا عن أسرار إيمانك، وكيف أنقذك الله من براثن الملحدين، وزج بك في رحاب روضات المؤمنين.

قال: إن في قصتي لعبرة، وهي تدل على فضل الله العظيم علي بالهداية، فلولاه لكنت الآن في فنادق الملاحدة، أو في غياهب سجونهم.

ففي بداية أمري كنت أعيش في زمن الحكم العسكري المشدد للحزب الشيوعي.. وكنت حينها رفيقا من الرفاق الذين تشبعوا بكل ما تعلموه في المدارس من أنواع الإلحاد والمادية إلى أن أصبحت بينهم في درجة المبلغين والدعاة الذين يمكنهم أن يحطموا أي جدار من جدر الإيمان، وأي حصن من حصونه.

وقد أرسلوني بتلك الأفكار التي سقوني بها مع الماء والحليب إلى بلدة من بلاد المسلمين، كانت لا تزال مصرة على الحفاظ على دينها.. وأعطوني الكثير من الصلاحيات التي تخول لي أن أحول من جحيم حياتهم نعيما إن هم أطاعوني، وتحولوا عن الإيمان إلى المذاهب المادية الإلحادية التي كانت تنتشر في ذلك الحين.

عندما ذهبت كنت موقنا تماما أنه لن تمر إلا أيام قليلة حتى تتحول البلدة عن معتقداتها إلى معتقداتي.. لكني لم أدرك أبدا أن صبية البلدة وعوامها البسطاء يمكنهم أن يحولوا عقلا كعقلي درس كل فنون الإلحاد، وتدرب على كل أنواع المحاجة.

***

في بداية نزولي بينهم، لم أشأ ـ كما تدربت على ذلك ـ أن أبادرهم بما عندي من معتقدات، بل رحت أحاول السماع منهم، لأعرف الثغرات التي أدخل إليهم من خلالها.

وقد كنت تعلمت من فنون الديالكتيك، واستفدت من نظرية التطور، والكثير من العلوم الحديثة ما تصورت أنها أسلحة يمكنني أن أواجه بها أي حجة من الحجج التي يدلون بها.. لكني لم أجد مبررا لاستعمال أي معرفة من معارفي، أو حجة من حججي.. فقد كان إيمانهم بالله يستند لركن أوثق من كل الأركان، وسند أعلى من كل الأسانيد.. وهو الفطرة والجبلة الطاهرة التي كان كيانهم قد امتلأ بها، فلم يتلطخ بأوزار المادية، ولم يتدنس بدنس الكبرياء والغرور والعجب الذي أصاب أصحاب الفكر المادي.

فذلك السند العالي يصل بفطرتهم نفسها إلى الله مباشرة من دون أي وسائط من الأدلة والبراهين، وكأنهم تذكروا بمجرد مجيئهم للدنيا قوله تعالى مخاطبا الإنسان في عالم الذر: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]

أذكر أني في بداية دخولي للمدينة زرت مدرسة من مدارسها، وقد كانت تلقن الإلحاد كما تلقن الرياضيات والعلوم.. لكني مع ذلك اصطدمت بتلاميذها، فقد سألت أحدهم عن الله، وعن الأدلة عليه، فقال لي مبتسما: لست محتاجا إلى ذلك..

قلت: أتراك لا تؤمن بالله؟

قال: وكيف لا أؤمن به.. وأعماقي كلها تشعر به.. ووجداني كله يسبح بحمده.

قلت: فما دليلك عليه؟

قال: لقد ذكرت لك أن أعماقي ووجداني هي دليلي عليه.

قلت: لم أفهم.

قال: ألا ترى أنّ غرائز الإنسان ذاتية له لا يمكن فصلها عنه، ولا تحتاج إلى من يدله عليها، أو يعلمه علومها؟.. ألا ترى أنّ عواطف الإنسان وأحاسيسه جزء من خلقته وكيانه، فلا يحتاج إلى من يرشده إليها، أو ينبئه عنها؟

قلت: بلى.. ولكن تلك العواطف والغرائز.

قال: فقد أودع الله في فطرتي منذ نشأتي شعوري بالله، وأنا لا أحتاج دليلا خارجيا فوق هذا الشعور، لأنه أكثر بداهة عندي من الحس نفسه.. وهل يمكن لأحد من الناس أن يشك فيما يحس فيه، أو يشعر به؟

قلت: ولكن كيف توصل قناعاتك هذه للناس؟

قال: بإرشادهم إلى العودة إلى نفوسهم، والتخلي عن كبريائهم الحائل بينهم وبين الشعور بما تدعو إليه فطرهم.

قلت: ما تعني؟

قال: إن المحجوبين عن الله لم يحجبوا عنه بقوة دليل، وإنما حجبوا عنه بكبريائهم، فالله أوضح من أن يحتاج إلى دليل يدل عليه.. إن مثل أولئك كمثل الجوعان الذي راح يقنع نفسه بأنه لا حاجة له إلى الطعام.. وبقي جوعان إلى أن انهارت قواه.

قلت: أراك تشبه الله بالطعام.

قال: ما دمنا نحتاج إلى الطعام، ولا يمكننا الاستغناء عنه.. ولا يمكن لأحد أن يقنعنا بعدم حاجتنا إليه، فيمكنني أن أشبهه بذلك.. بالنسبة لي أو للبشر جميعا.. وإن كان الأمر أعظم من ذلك، فنحن أحوج إلى الله من حاجتنا إلى الطعام والشراب، لأنهما جميعا خلق من خلقه، ويمكن أن يغنينا عنهما كما أغنى عنهما الملائكة، ولكننا لن نستطيع أبدا أن نستغني عن الله..

لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} [فاطر: 15 – 17]

قلت، وأنا أضحك: بحسب قولك هذا.. فإن البشرية جميعا جائعة في هذا العصر.. فكلها تميل إلى الإلحاد؟

قال: ولهذا ترى الصراع بينهم.. لأن عقولهم الجائعة إلى الحقيقة جعلتهم يصارعون كل القيم، ويحطمون أركان كل الفضائل.

قلت: ولكن.. لو كان التوجه إلى الله أمراً فطرياً كما تزعم.. فلم عبد الناس في مختلف العصور آلهة شتى.. ولم تدينوا بأديان مختلفة متناقضة؟

قال: إن ذلك كمن استبد به الجوع، فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه سيتناول كل ما يمكن أكله، ولو كان خبيثا ليسد به جوعته.. فالفطرة تدعو الإنسان إلى الاتجاه إلى الخالق، لكن الإنسان قد تحيط به عوامل تنحرف به عن المسار الصحيح لها.. والانحراف عن الطريق، لا يلغي وجود الطريق.

قلت: ولكن.. ألا ترى أنه لو كان الدين صحيحا لاتفق عليه الناس.. ولو كان الإله موجودا لاتفق الخلق على صفاته.. ولو كان التوجه إلى الله أمراً فطرياً ـ كما تدعي ـ لما عبد النّاس آلهة شتى؟

قال: مثلما اختلف الخلق في تصور المطاعم والمشارب النافعة لهم.. كذلك اختلفوا في تصورهم لله.. لكن الاختلاف في أنواع الطعام لا يلغي ضرورة الطعام.. وهكذا الاختلاف في الله لا يلغي ضرورة الله.

قلت: ولكن كيف نصل إلى الإله الحقيقي؟

قال: كما نصل إلى الطعام الحقيقي..

قلت: كيف؟

قال: بالبحث والعلم.. والتدقيق والتحري.. فلا يصح أن نخلص طعامنا من السموم، ولا نخلص ديننا من السموم.. وبالدين تقوم حياة أرواحنا، كما بالطعام تقوم حياة أجسادنا.

لم أجده ما أقول له.. فقد كان يجيبني عن كل شبهة أطرحها عليه بدقة عالية..

***

تركته، بعد أن امتلأت نفسي له احتراما، وذهبت إلى أستاذ الفصل المخصص لتدريس الإلحاد، وسألته عن مواقف الطلبة من دروسه، فابتسم، وقال: هم يحفظونها بدقة.. ويكتبون في ورقة الامتحان كل ما أمليه عليهم.. وهم ينالون لذلك علامات جيدة.

قلت: لم أسألك عن هذا.. سألتك عن قناعتهم بما تقول.

ابتسم، وقال: وهل يمكن للجدار أن يقتنع بما تمليه عليه.. إنهم كالجدر التي لا تخترق، والحصون التي لا تهدم.

قلت: فهل استعملت معهم كل وسائل الإقناع؟

قال: استعملت معهم ما خطر ببالك، وما لم يخطر.. حتى أني رضيت منهم أن يعتقدوا بأي اعتقاد مادي شيوعيا كان أو غير شيوعي.. فلم يقبلوا إلا بما ورثوه، والذي يذكرون لي أنه فطرتهم، وقناعتهم التي لا يمكن زحزحتها.

قلت: فهلا ضربت لي مثالا على موقف من مواقفهم.

قال: أذكر مرة أني أردت إقناعهم بعدم وجود الله بالدليل الحسي، فقلت لهم: أترونني؟.. فقالوا: نعم.. قلت: فإذن أنا موجود.. ثم قلت لهم: أترون اللوح؟ قالوا: نعم.. قلت: فاللوح إذن موجود.. ثم قلت لهم: أترون الله؟ قالوا: لا.. قلت: فالله إذن غير موجود! فوقف أحد التلاميذ، وقال: أترون عقل الأستاذ؟.. قالوا جميعا: لا.. قال: فعقل الأستاذ إذن غير موجود.

التفت المعلم إلي، وقال: كيف يمكنك أن تقنع أمثال هؤلاء؟

قلت: ألم تلقن في معاهد تكويننا كيفية الإجابة عن مثل هذه الأطروحات؟

قال: أجل.. وطرحتها عليهم جميعا، لكنهم كانوا يقابلونها بأصوات فطرتهم الهادئة.

قلت: أخاف أن تكون قد تأثرت بهم.

قال: إن شئت الصدق.. فقد حصل لي ذلك.. فهم وذووهم من أطيب الناس.. ويأسرونك بأخلاقهم وكرمهم.. وأحسب أنه لولا تلك العقائد التي يعتقدونها ما كان سلوكهم ليرقى لهذه المقامات العالية.

قلت: فهل أسرك سلوكهم.. أم أسرتك عقائدهم أيضا؟

قال: إن شئت الصدق.. فقد أسرني كلاهما.. فكلاهما يرتبط بعضه ببعض.. فهم على الفطرة الإنسانية النقية بعقائدهم أو بسلوكهم.. أما نحن.. فقد حاولنا أن نتملص من إنسانيتنا، والنتيجة ما تراه في واقعنا من كل ألوان الانحلال والعقد والأمراض والصراع.

قلت: ولكن ألا يمكن أن يحيا الإنسان من دون الله؟

قال: كما لا يمكن أن يحيا الإنسان من دون طعام.. فكذلك لا يمكن أن يحيا من دون الله.. ألا ترى من العجب كيف أنه لا توجد حضارة من الحضارات.. ولا قبيلة من القبائل إلا وهي تعتقد في وجود قوة غيبية تتحكم في الكون؟

قلت: ولكنها جميعا مملوء بالخرافات.

قال: أحيانا كثيرة تكون الحقيقة مختلطة بالخرافة.. وليس علينا أن نلغي الحقيقة لأجل خرافة ارتبطت بها.. كما أننا لا يمكن أن نستغني عن الطعام بسبب أن بعض الناس وضع السم في طعام من الأطعمة، وفي يوم من الأيام.

***

لم أدر ما أقول له.. فقد كان ما قاله حقيقة شهد بها كل المؤرخين، وعلماء الاجتماع حتى فلاسفة قومي الذين راحوا يفلسفون ذلك بحسب ما تصوره أوهامهم، لا بحسب الواقع.

لقد قال [ويليام جيمس ديورَانت] يذكر ذلك: (صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق، إلاّ أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية)([1])

ويعبر في موضع آخر ـ وهو المؤرخ الكبير للحضارات البشرية ـ عن مدى تجذر الدين في الفطرة، وأن استثمار رجال الدين لذلك يدل على مدى ترسخه فيها، فيقول: (إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو الاعيب كهنوتية إنّما نشأت عن فطرة الإنسان)([2])

ويقول العالم الاجتماعي [صموئيل كونيك] عند حديثه عن جذور الدين في الأسلاف من البشر: (إنّ أسلاف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في الحفريات ـ كانوا أصحاب دين، ومتدينين، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر، وراء هذا العالم)([3])

وعبر عن ذلك آخر لا أذكره الآن، فقال: (لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، لكن لم توجد جماعة بغير ديانة.. فالشعور الفطري بوجود خالق مدبر للكون شعور مشترك بين جميع الناس، مغروس في النفوس، يقوم في نفس الطفل الصغير، والإنسان البدائي، والإنسان المتحضر، والجاهل والعالم والباحث والفيلسوف، كل هؤلاء يشعرون بشعور مشترك لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم)

***

بعد انصرافي عن تلك المدرسة التقيت عالم نفس من بلدتي، وقد رأيت أن أسأله عن سر تجذر الدين في أهل تلك البلدة، وعدم استطاعة الديالكتيك وغيره من الفلسفات المادية التأثير فيها.. وقد كنت أتصور أنه سيحدثني بما درسه عن فرويد من الأنا الأدنى أو الأنا الأعلى.. أو يحدثني بما ذكره دوركايم أو إنجلز أو غيرهم من فلاسفتنا.. لكنه لم يفعل ذلك، وإنما قال لي: لقد أجاب عن سؤالك هذا الفيلسوف الانجليزي [توماس كارليل] بقوله: (إنّ الذين يريدون إثبات وجود الله بالبرهان والدليل ما هم إلاّ كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس)

قلت: ما يعني بقوله هذا؟.. وما تعني بنقلك لقوله؟

قال: إن هؤلاء الذين تراهم يقفون بعقولهم وقلوبهم بكل قوة في وجه الزحف المادي الذي اكتسح البشرية جميعا يعود إلى ما ذكره ذلك الفيلسوف الإنجليزي.. فهو قد صور حالهم بكل دقة.. فهم مثل من شاهد الشمس.. وهل يمكن لمن شاهد الشمس أن يقنعه أحد من الناس بعدم وجودها؟

قلت: نعم ذلك صعب جدا.

قال: بل مستحيل.. استحالة مطلقة.

ثم ابتسم، وقال لي: إن مهمتك ـ يا سيدي ـ مستحيلة.. وأنصحك أن تتخلى عنها.

قلت: ولكني لم آت بالأفكار فقط.. وإنما أتيت بالأموال أيضا.. وأتيتهم بما يرفع بؤسهم، ويحول حياتهم إلى الجنة التي يحلمون بها.

قال: لا تتعب نفسك.. فهؤلاء قد يأكلون خبزك، ولكنهم لا يبيعونك دينهم.. ألم يخبرك معلم المدرسة كيف ينال التلاميذ عنده العلامات الكاملة في الإلحاد، وفي نفس الوقت ينالون العلامات الكاملة في الإيمان؟

قلت: بلى.. لقد أخبرني بذلك.

قال: فلذلك لك أن تصرف عليهم من الأموال ما شئت.. لكن تأكد تماما أنه لا أموالك ولا أموال الدولة جميعا تستطيع أن تغرز أنيابها في عقائدهم.. لأن لها من الرسوخ ما لا يمكن أن يؤثر فيه شيء.

لقد عبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت عن حالهم بقوله: (لا يبقى ما يقال بعد ذلك إلا أن هذه الفكرة ولدت ووجدت معي منذ خلقت، كما ولدت الفكرة التي لدي عن نفسي، والحق أنه لا ينبغي أن نعجب من أن الله حين خلقني غرس فيّ هذه الفكرة لكي تكون علامة للصانع مطبوعة على صنعته)

بل عبر عن ذلك الفيلسوف الاسكتلندي الشكاك [ديفيد هيوم] الذي قال في [حواراته]: (ليس هنالك من هو أشد مني إحساسًا بالدين المنطبع في نفسي أو أشد تعلقًا بالموجود الإلهي كما ينكشف للعقل بين ابتداع الطبيعة وصناعتها اللذين من الصعب تفسيرهما).. وقال في موضع آخر من الكتاب: (لا توجد حقيقة أظهر وأوضح من وجود إله)

***

بعد أن قال لي هذا تركته، وأنا يا ئس تماما من النجاح في تحقيق المهمة التي وكلت لي.. لكني في أثناء جمعي لحقائبي للعودة إلى بلادي بخفي حنين.. خطر لي خاطر جعلني أعدل عن ذلك.. لقد قلت لنفسي: إلى أي بلد سأعود.. وهل هناك بلد أفضل من هذا البلد.. وهل هناك جيران أفضل منهم أبقى معهم طول حياتي؟

وبالفعل بدأت حياتي معهم، لكن لا كأستاذ لهم، وإنما كتلميذ من تلاميذهم، وكان أول من التقيت به منهم بعد ذلك القرار شيخ كبير، سألته عن سر ذلك الجدار الذي يقف بين عقلي وقلبي وحقائق الوجود، فقال لي: ذلك هو الران.. وفي إمكانك أن تزيله بضربة قوية منك.. لتعود إلى إنسانيتك حقيقتها.. وإلى فطرتك صفاءها.

قلت: فما الران؟

قال: ذلك الذي ذكره الله تعالى، فقال: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون} (المطففين:14)، أي أن كسب الإنسان وعمله وحركة قلمه هي التي ملأت فطرته بقعا منحرفة حالت بينها وبين التعرف على الحق أو سلوكه.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد فسر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كيفية حصول ذلك على مرآة القلب، فقال:(إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ})([4])

قلت: أريد توضحا أكثر لذلك.

قال: إن أردت تمثيلا واقعيا لذلك، فهو ما نعرفه في الواقع من تأثير الإدمان على الجسد، بحيث لا يملك صاحبه دفع آثاره، فالمدمن هو الذي أقبل على ما أدمن عليه باختياره، ولكنه نتيجة للمبالغة فيه وصل إلى حالة المتحكم فيه بعد أن كان متحكما في نفسه.

ثم التفت إلي، وقال: وأنت يا بني منذ نشأتك الباكرة، وأنت تتملذ على مثل تلك الأفكار التي تألمت لها فطرتك، وانتكست لها طبيعتك.

قلت: فما الحل الذي تراه لعودة فطرتي إلى أصالتها؟

قال: باللجوء إليه وحده.. فهو الذي بيده قلبك وعقلك وكلك.

قال: كيف ألجأ إليه، وأنا لا أؤمن به؟

قال: خاطبه بتواضع وأدب ومحبة، وقل له: يا مدبر هذا الوجود.. أنا عبدك الضعيف بين يديك.. فإن كنت موجودا ومدبرا لأمري، فخلص قلبي من كل ما يحول بيني وبينك.. واملأ قلبي بالإيمان.

رحت أكتب ما يقول.. ثم أردده كل حين.. وأنا في غاية الخشوع والخضوع.. فما أسرع ما بدأت أشعر أن يدا حانية تمتد إلى فطرتي، فتمسح كل آثار الران التي علقت بها.. وما هي إلا أيام معدودة حتى دخلت رحاب الإيمان من غير أن أحتاج إلى أي برهان.. فالله وحده تولى تعريفي بنفسه بعد أن خلصني من كبريائي وغروري، ومسح على فطرتي كل آثار الانتكاسة التي حصلت لها.

***

بعد مضي عشر سنوات عدت إلى بلدي، وهناك التقيت بالذي أرسلني إلى تلك البلدة، بعد أن أنهى عمله، وأحيل إلى التقاعد، وقد عجبت إذ رأيته بغير الصورة التي كنت أراها، فقد سلم علي، وسألني عني، وكان في أثناء حديثه معي يذكر الله كل حين.. فسألته عن ذلك.. وكيف يمكن لملحد أن يذكر الله؟.. فابتسم، وقال: لا تذكرني بتلك الأيام.. فقد كنا نعيش موضة قديمة.. أما الموضة الحالية، فهي موضة الإيمان.. لقد عاد للإيمان وجوده في هذه البلاد بعد أن استعملت كل الأساطيل لحربة.

قلت: لكن كيف ذلك؟

قال: النهر قد يجف.. والأرض قد تشح.. لكن ذلك لن يدون طويلا.. فالله بكرمه ينزل الغيث كل حين، ليعيد للحياة جمالها وبهاءها.. ولا جمال ولا بهاء للحياة من دون الله.

قلت: فهلا قصصت لي كيف عدت للإيمان؟

قال: في ذلك اليوم كنت فيه مع بعض الرفاق الذين يفخرون بإلحادهم نمتطي بعض الطائرات لنسير لبعض البلاد المسلمة لننشر بينها الإلحاد.. وكان معنا في الطائرة شيخ مسلم يحمل مسبحة، ويذكر الله كل حين.. وكنا نسخر منه.. لكن حصل أثناء تحليقنا ما جعلنا جميعا نجثو بين يديه ونطلب منه أن يفعل شيئا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد أصاب الطائرة عطب شديد، وكادت تهوي بنا، وهناك تخلصنا من إلحادنا.. لقد صحنا جميعا نطلب النجدة من الله.. ثم لجأنا إلى الشيخ نطلب منه أن يدعو الله لنا.. لقد شعرنا حينها بأنه لا يمكن أن يغيثنا غير ربنا.. لقد عادت فطرتنا في ذلك الحين إلى وضعها الطبيعي، بعد أن نبهت ذلك التنبيه الشديد.

وعندما من الله علينا بالنجاة، راح بعض رفاقي يستمرون في حياتهم العادية، وكأنه لم يحصل شيء.. أما أنا فرحت أصحب الشيخ، وأتعلم منه الإيمان، ولم أحتج منه أي دليل، لأن ما حصل لي كان هو الدليل..

لقد أخبرني الشيخ حينها أن ذلك تنبيه من الله.. وأن الله بكرمه يستعمل كل الوسائل التي تغسل الران عن قلوب عباده.. وقرأ علي حينها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} [يونس: 22، 23]

برهان الصديقين:

بعد أن أنهى الرجل الأول حديثه، قام آخر، وقال: أظن أن الدور وصل إلي، وسأحدثكم ـ أنا العبد الفقير إلى الله ـ عن فضل الله علي بالهداية، وإخراجي من ظلمات الجهل والغواية، وكيف أنقذني ربي من جحيم الملاحدة.. ووضعني معكم معشر المنورين بنور الإيمان.

قالوا جميعا: يسرنا ذلك.. فهلم حدثنا بنعمة الله عليك.. فلا نعمة أفضل من معرفة الله.. ولا هدية أعظم من التواصل معه.

قال: لقد عشت فترة حياتي الدنيا في فترة سماها أهل القرون التالية [القرون الوسطى].. وكنت من مدرسة فلسفية ترى الكون ثابثا مستقرا منذ الأزل.. وترى أنه لا بداية له ولا نهاية.

 ولذلك لم تكن ترى حاجة لوجود إله.. فدور الإله منتف كما تذكر.. لأن دوره هو إخراج الوجود من العدم.. وما دام الوجود خارجا بنفسه، بل لم يسبق له عدم، فإن الحاجة للإله منتفية.

وقد أرسلني قومي حينها بكل ما يملكون من الأدلة لبلدة من بلاد المسلمين، كانت تمتلئ بالفلاسفة والحكماء، وذكروا لي أني إن استطعت إقناعهم، فسأكون قد قدمت خدمة كبيرة للحقيقة، وخلصتهم من كل الخرافات التي يدينون بها.

لكني ما إن ذهبت إليهم، وألقيت إليهم ببضاعتي، حتى ابتسموا، وقالوا: فلنفرض أن ما تقوله صحيح.. ولنفرض أن الكون قديم.. وأزلي.. ولا بداية له.. فهل يعني ذلك عدم وجود إله؟

قلت: أجل.. فإن كان الكون قديما وأزليا.. فما الضرورة لوجود إله؟

قال لي أحدهم، وهو يبتسم: نحن لا نحتاج في إثبات الإله إلى أي وسائط.. فالله يدل بنفسه على نفسه؟

قلت: ألا ترى أن ذلك دور.. فكيف يدل بنفسه على نفسه؟

قال: ليس في ذلك أي دور.. سأشرح لك المسألة بطرق مختلفة.. وسأخاطبك باعتبارك فيلسوفا.. فلدينا نحن أيضا الكثير من الفلاسفة.. وسأبدا لك بفيلسوف كبير عندنا نطلق عليه ابن سينا.

قلت: أعرفه جيدا.. إنه من كبار الفلاسفة الذين استفاد منهم قومي.

قال: لقد وضع هذا الفيلسوف الكبير برهانا حول هذا سماه [برهان الصديقين].. سماه بذلك لأنه لا يحتاج إلى أي وسائط.. ولذلك اعتبره أشرف البراهين.. لأنّ الأشياء والمخلوقات لم تأتِ فيه واسطة في الإثبات..

قلت: فكيف قرر هذا البرهان؟

قال: لقد انطلق فيه من ظاهرة متفق عليها بين البشر جميعا، وهي ظاهرة الإمكان.. فمن تعقّل معنى الإمكان، ونظر إلى هذا العالَم فسوف يراه موجودًا ممكنًا.. فكل ما فيه يدل على ذلك.. كل ما فيه يدل على أن الوجود ليس من ذاتيّاته.. وأنّه لذلك يحتاج إلى علة خارجية توفر له هذا الوجود.. وهكذا ننتقل إلى صفة أساسية من صفات موجِد هذا العالم، وهي صفة وجوب الوجود التي تعني ذاتية وجوده، وعدم إمكان تعقّله دون وجود.

قلت: هلا وضحت لي أكثر..

قال: لتفهم هذا البرهان تحتاج إلى التوغّل قليلاً وراء الظواهر الطبيعية والحيثيّات المحسوسة للأشياء.. فهذا – ورغم بداهته – لكنّ أذهاننا لم تعتد عليه.. فغالبًا ما نتعرّف إلى الأشياء بواسطة حيثياتها وخصائصها المحسوسة، ثم ننتقل إلى التعميم من خلال عملية انتزاع فكري نزيل فيها الحيثيات المفرّقة بين الأشياء، ونركّز على الحيثيات المشتركة.

ألست ترى أننا في بدء الأمر نتعرّف على الشخص بما له من حيثيّات خاصّة، كطوله وعرضه واسمه وعنوانه ونسبه وما شاكل ذلك.. لكنّنا لن نطلق عليه صفة الإنسانية إلا إذا قارناه بغيره من الأفراد الكثيرين، ولاحظنا جهة الاشتراك بينهم، وهي الناطقية والفكر والنمو والحركة، فنصل بعدها إلى معنى الإنسانية المشهور بين الفلاسفة وهو [الحيوان الناطق]

لكنّا ـ في هذا البرهان ـ نتجاوز مثل هذه الحركة الفكرية التحليلية، لندخل مباشرة إلى أصل وجود الأشياء.. وهذا يتطلّب المزيد من التعميم.. أي يتطلب الاستمرار في الحركة الفكرية السابقة لننظر إلى ما هو مشترك عام بين جميع الكائنات..

وعند النظر في ذلك المشترك نجد أنه الوجود.. أو هو ذوات الماهيّات بمعزل عن ماهيّاتها.. وعند التأمل في هذا المشترك الذي يجمع بينها، وهو الوجود نجد أنه ـ بحسب الواقع والتصوّر ـ غير واجب لها، بل هو ممكن..

فعند تعقلّنا للإنسان أو لماهية الشجر مثلاً، لا يخطر ببالنا ضرورة أن يكون مصداق الإنسانية أو الشجرية موجودا، بل نستطيع أن نتعقله دون أن نلتزم وجوده.. وهذا معنى الإمكان الذي هو من لوازم الماهيات..

قلت: أتعني أن الإمكان يعني تساوي نسبة الوجود والعدم في عملية التعقّل.. وأن الممكن هو الشيء الذي إذا تصوّرناه لا يوصلنا تصوّره إلى ضرورة أن يكون موجودا، ولا أن يكون معدوما.

قال: أجل.. ذلك صحيح.. ونحن أمام هذه الظاهرة التي نتعقّلها في كلّ العالم ومكوّناته، ونتفق عليها، يتبّين لنا أنّ إمكان العالم وإمكان أيّ موجود هو دليل واضح على وجوب وجود خالقه وعلته.. أو بعبارة أخرى: إن هذه الظاهرة الكونية هي أكبر دليل على ضرورة كون وجود العلّة الخالقة أمرًا حتميًا وواجبًا، ولهذا يوصف الخالق الأول بأنه واجب الوجود.

التفت إلي، وقال: أرى أنك ـ باعتبارك فيلسوفا ـ لن تحتاج إلى جهد كبير لفهم هذا التقرير المبسط.. ذلك أنه لا يعتمد إلا على التعقّل.. وكلّ من تمكّن ذهنه من هذا التجريد، سيجد سهولة للوصول إلى النتيجة من غير أي مقدمات.

قلت: في هذه الحالة لن تحتاجوا إلى إثبات حدوث العالم..

قال: لن نحتاج إلى أي شيء آخر.. فيكفي أن يكون العالم بكل تفاصيله ممكنا لنثبت افتقاره إلى صاحب الوجود الحقيقي.. إن مثل ذلك مثل الظل.. فيكفي أن يكون ظلا حتى نثبت أن هناك ذاتا تسببت في وجوده.. فيستحيل أن يكون الشيء ظلا من غير وجود ذات تسببت في ذلك.

***

التقيت بعدها حكيما آخر، قال لي ـ وقد رآني مزمعا إلى السفر إلى بلادي ـ: هلم إلي أحكي لك عن برهان الصديقين لتأخذه معك إلى قومك عساهم ينتفعوا به.

قلت: لقد سمعته من بعضكم.. ويكفيني ذلك.

قال: لا.. الفيلسوف لا يكتفي بالتقرير والتقريرين.. فهو لا يخاطب العقل والعقلين.. ولذلك اسمع من الجميع، فعسى أن تجد من التعابير ما يرفع عنك الحجب.

قلت: فهل لك تقرير يرتبط به تريد أن تفيدني إياه.

قال: أجل.. فمن كرم الضيافة أن تكرم الفلاسفة بما يغذي عقولهم بكل ألوان المقدمات، وبأجمل أصناف النتائج، في أجمل صحون التقريرات.

قلت: ولم حرصت على برهان الصديقين دون غيره من البراهين؟

قال: لأنني أحب أن أكون من الصديقين.. ولأني لا أحب أن أضع بين عقلي وبين الله أي واسطة.. ولذلك وجدت هذا البرهان أشرف الطرق لمعرفة الله تعالى، لأنه يعتمد منذ خطواته الأولى على حقيقة واجب الوجود، في حين تبدأ البراهين الأخرى من المخلوقات وتجعلها واسطة لإثبات وجود الله، والمخلوقات مشوبة بالعدم والنقص.. بالإضافة إلى ذلك وجدته أبسط البراهين وأسهلها.. بالإضافة إلى ذلك وجدت أنه البرهان الوحيد الذي يكفي لإثبات ذات الحق، وتوحيد الذات، ومعرفة صفات الحق، وتوحيد الصفات، ومعرفة أفعال الحق، وتوحيد الأفعال، خلافاً لكل لبراهين الأخرى.. بالإضافة إلى ذلك كله وجدت في بعض التقريرات أنني لا حاجة لي عند تقريره لإبطال الدور والتسلسل.

قلت: هل يمكن هذا.. هل يمكن أن تثبت وجود الله من غير حاجة لإبطال الدور والتسلسل؟

قال: أجل.. سأشرح لك ذلك بكل ما أستطيع من تفاصيل.. أنت تعلم أن البراهين التي تثبت وجود الله إما أن تجعل المخلوقات واسطة في الاستدلال، لتستعين بها في إثبات وجوده، وهي التي يطلق عليها البراهين الإنية.. وهي التي تسلك الطريق من المعلول إلى العلة.. وإما ألا تحتاج إلى ذلك.. وهي التي يطلق عليها البراهين اللميّة ([5]).. وهي التي تصل إلى العلة بواسطة العلة ذاتها.. فلا تجعل من المخلوقات واسطة لإثبات وجود الله.. وإنما تصل إلى الله عن طريق حقيقة الوجود ومفهوم الوجود.. أو بعبارة أخرى تستدل بذات الحق على ذات الحق.

قلت: فهمت هذا.. ولكني أنتظر منك أن تشرح لي ما ذكرت من أن الاستيعاب الجيد لهذا البرهان، يجعلنا لا نحتاج لإبطال الدور والتسلسل.

قال: أجل.. أنت تدفعني الآن لأذكر لك تقريرا لهذا البرهان أورده بعض حكمائنا الكبار.. إنه من يطلق عليه [الملا صدرا] أو صدر المتألهين.. وهو صاحب [الحكمة المتعالية].. وقد أقام تقريره على أساس الأصول والقواعد التي تقوم عليها.. ولتفهم ما أورده سأذكر لك أربع قواعد يقوم عليها تقريره لهذا البرهان.

قلت: فما القاعدة الأولى؟

قال: القاعدة الأولى هي قوله بأصالة الوجود، واعتبارية الماهية.

قلت: ما يعني بذلك؟

قال: من خلال تأملنا في كل موجود في العالم الخارجي نجد أنه لا يملك أكثر من واقعية واحدة.. أي أن الذهن هو الذي ينتزع مفهومي الوجود والماهية من الموجود.

قلت: هلا وضحت لي ذلك.

قال: أنت ترى ـ مثلا ـ إنساناً معيناً، أو شجرة معينة ليس لهما مسميان خارجيان.. اسم أحدهما الوجود.. واسم الآخر الماهية.. ولكننا وبالتحليل الذهني نرى أن ماهية أي شيء وخصوصيته تختلف عن أصل وجوده.. فماهية الشخص أو الشجرة تأتي إلى الذهن كما هي عليه في الخارج، لكن وجوده مختلف ما بين الخارج والذهن، فهو في الخارج غيره في الذهن.. وإذ لم يكن هناك وجود، فلا يمكن أن تتحقق أي ماهية للمخلوقات.. فالوجود هو الذي يخرج ماهية الشجرة أو الإنسان من مرحلة العدم إلى ساحة الوجود، وإلا فإن ماهية الأشياء ليس لها أي نوع تعلق في أن تكون أو لا تكون.. لأنها ـ أي الماهية ـ من حيث هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة.. وكون الشيء لا يتحقق إلا بالوجود، وبانتزاع الوجود منه يصير إلى العدم والفناء، يدل عن كون الماهية ليست أصيلة.. بل الأصيل هو الوجود.

قلت: وعيت هذا.. فما القاعدة الثانية؟

قال: القاعدة الثانية هي أن [الوجود مفهوم مشكك]

قلت: ما تعني بذلك؟

قال: عند التأمل في الوجود نفسه نجد أنه حقيقة واحدة.. ولكن مع ذلك لها مراتب في الشدة والضعف.. فجميع الموجودات ابتداءً من واجب الوجود وحتى المادة الأولى التي تشكل منها الكون تتمتع بهذه الحقيقة بحسب مرتبتها.. أي أن الجميع يشترك في سنخ الوجود، ولكن التمايز يكون بالمرتبة.

قلت: وعيت هذا فما القاعدة الثالثة؟

قال: القاعدة الثالثة هي [بساطة الوجود]

قلت: فما تعني؟

قال: عند التأمل في الوجود نفسه نجد أنه حقيقة بسيطة، فليس له جزء، ولا هو جزء لشيءٍ آخر.. لأنه لا يوجد شيء غير الوجود.

قلت: هذا صحيح.. وهي حقيقة بديهية.. فما القاعدة الرابعة؟

قال: القاعدة الرابعة هي [المعلول هو عين الربط والحاجة للعلة]

قلت: فما تعني؟

قال: عند التأمل في علاقة المعلول بالعلة نجد أنها علاقة الفقر.. وبما أن المعلول يأخذ كامل وجوده وهويته من العلة، فإن وجوده وجود ربطي، وليس له أي وجود بدون العلة.. وبذلك يكون ارتباطه بالعلة ارتباطا مطلقا، ولا يمكن أن ننتظر من ذات المعلول إلا المحدودية والاحتياج والفقر.

قلت: وعيت هذا.. فكيف قرر الملا صدرا هذا البرهان بناء على هذه القواعد؟

قال: لقد ذكر أنه ما دام الوجود حقيقة عينية واحدة بسيطة لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلا بالكمال والنقص، والشدة والضعف، ونحو ذلك.. فإن الوجود إذن إما أن يكون مستغنيا عن غيره، وإما مفتقرا لذاته إلى غيره.

قلت: هذا تقسيم صحيح.

قال: أما الأول، وهو المستغني عن غيره، فهو واجب الوجود.. وهو صرف الوجود الذي لا أتم منه، ولا يشوبه عدم ولا نقص.. وأما الثاني، فهو ما سواه من أفعاله وآثاره، ولا قوام لما سواه إلا بواجب الوجود.

***

بعد أن فارقت تلميذ الملا صدرا.. التقيت حكيما آخر، قال لي: تعالى أقرر لك هذا البرهان على منهج [التّقدّم والتّأخّر بين العلّة والمعلول].. وهو منهج استعمله بعض فلاسفتنا، ويدعى [أبو نصر الفارابي]، وقد أقامه ليثبت امتناع تسلسل العلل.. وهو يدل أيضا على إثبات واجب الوجود.

قلت: فكيف برهن على ذلك؟

قال: من المتفق عليه بين العقلاء أن العلّة ذات تقدّم وجودي على المعلول.. لا تقدّمًا زمانيًا.. فالمعلول رغم اقترانه مع العلّة، ليس له تقدّم وتأخّر من هذه الناحية في البين، لكنّه لاحق للعلّة في المرتبة والمرحلة.. وهو ـ بالإضافة إلى ذلك ـ مشروط بوجود العلّة، خلافاً للعلّة فإنها ليست مشروطة بوجود المعلول.. ولذلك يصح أن نقول: (ما لم تتوفر العلة على الوجود فهو لا يتوفّر على الوجود).. ولكن لا يصح أن نقول بشأن العلّة (ما لم يتوفّر المعلول على الوجود فهي لا تتوفّر على الوجوب)

قلت: فهلا وضحت لي هذا.

قال: سأضرب لك مثالا على ذلك يقربه لك.. أرأيت لو أن مجموعة من الجنود تريد القيام بعمل، كالهجوم على العدو مثلاً، لكن أياً من أفراد هذه الجماعة غير مستعد لأن يكون هو المتقدّم في عملية الهجوم، بل غير مستعد لأن يكون في خط واحد مع الآخرين.. فإذا ذهبنا إلى الفرد الثاني يقول ما قاله الأول بالنسبة إلى الثالث.. والثالث يقول ذلك بالنسبة إلى الرابع وهكذا.. فلا نجد فرداً واحداً يوافق على الهجوم بلا شرط، فهل يمكن في مثل هذه الحال أن يحصل الهجوم؟

قلت: لاشك أنه لن يحصل.. لأنّ كل الهجومات مشروطة بهجوم واحد، وليس لدينا هجوم غير مشروط.. والهجومات المشروطة التي تشكلّ سلسلة لا تتوفّر على الوجود من دون تحقّق الشرط، مما يعني عدم وقوع أي هجوم.

قال: فهكذا إذا فرضنا سلسلة غير متناهية من العلل والمعلولات، فبحكم كونها بكلّ آحادها ممكنة الوجود، فسوف يكون وجود كل واحد من هذه السلسلة مشروطاً بوجود الآخر، وهذا الآخر بدوره مشروط بفرد آخر، وجميع آحاد هذه السلسلة كأنها تقول: (ما لم يتوفّر فرد آخر على الوجود فسوف لا أتوفّر على الوجود).. وحيث إنّ لسان الحال هذا هو لسان حال الجميع بلا استثناء، إذاً فجميع هذه الأفراد مشروطة بشرط لا وجود له، إذاً فسوف لا يتوفّر أيّ منها على الوجود.

لكن بما أن هناك موجودات قائمة في عالم الوجود.. إذاً فمن المحتّم وجود واجب بالذات، وعلّة غير معلولة، وشرط غير مشروط في نظام الوجود، حيث كان هو الذي أوجد سائر الموجودات الأخرى.

***

بعد أن فارقت تلميذ الفارابي، التقيت فيلسوفا آخر يقال له [العلامة الطباطبائي] قال لي([6]): بما أنه لا يوجد لدينا أدنى شك في واقعية الوجود، ولا في ثبوته.. فهي واقعية لا تقبل النفي ولا الفناء عند العقلاء ما عدا السفسطائية..

قلت: الحمد لله.. أنا لست سفسطائيا، وأنا مقر بواقعية الوجود، وأنها واقعية دون قيد أو شرط.

قال: بما أنك صرحت بذلك.. فإن عليك أيضا أن تصرح أن هذا العالم وأجزاءه ليس كذلك، فهو يقبل النفي.

قلت: أصرح بذلك أيضا.. فهو ليس لازم الوجود.

قال: إن هذا يدعوك لأن تصرح أيضا بأن هذا العالم ـ ما دام موجودا ـ فهو يستند إلى واقعية لا تقبل النفي، وبوجودها تكون له واقعية، ولو لم تكن هذه الواقعية موجودة لما وجد هذا العالم وأجزاؤه.

سكت، فقال: لا يصح أن تفهمني خطأ.. فتعتبر أن هذه الواقعية متحدة مع الأشياء أو أنها تحل فيها، أو أن أجزاءً من هذه الواقعية قد انفصلت واتصلت بالأشياء.. إنها فقط مثل النور الذي تصبح به الأجسام المظلمة أجساماً مضيئة، ومن دونه تبقى مظلمة.

قلت: وعيت هذا.. أنت تريد أن تصل بي إلى أن أصل الواقعية الواجب الأزلي، وبذلك تكون الواقعيات القابلة للزوال والموجودات المحدودة مرتبطة بهذه الواقعية غير القابلة للزوال ومعتمدة عليها.

قال: ذلك صحيح.. فتأمل فيه.. ودع عنك تلك الوسائط الممتلئة بالشبهات، والتي حجبتك عن الوصول للحقيقة.. فـ (شتان بين من يستدل به، أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه)

***

بعد أن قال لي هذا انزاحت الكثير من الشبهات.. وامتلأت بالكثير من الأنوار لكني لم أتخلص كليا من دين قومي إلا وأنا سائر إلى بلدي، حيث تهت في الصحراء، لولا أن من الله علي ببعض أهل البادية ممن أنقذ جسدي، وأنقذ إيماني أيضا.. فقد رأيته يقوم في منتصف الليل إلى وضوئه، ثم إلى صلاته، ثم إلى دعائه ومناجاته لربه.. وكان مما سمعته منه.. ودخل قلبي من دون استئذان قوله ـ وهو يناجي ربه ـ: (إلهي، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك.. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك.. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك.. ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك!!)

عندما قال هذا اغرورقت عياني بالدموع، وأسرعت إليه، أسأله عن ربه، فقال لي: ربي معي.. يسكن في قلبي.. وفي كل لطيفة من لطائفي.. ولا حياة لي من دونه.

قال: ولكني أراه محجوبا عن خلقه.

قال: أنت الذي حجبت نفسك عنه.. وإلا فإنه أعظم من أن يحجبه شيء.. فكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو الذي أظهر كل شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو الذي ظهر بكل شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو الذي ظهر في كل شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو الظاهر قبل وجود كل شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو أظهر من كل شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو الواحد الذي ليس معه شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، وهو أقرب إليك من كل شئ.. وكيف يتصور أن يحجبه شئ، ولولاه ما كان وجود شئ.

 عندما سمعت هذا منه، لم أجد إلا أن أترك متاعي وكل شيء لي، وأعيش في صحبته في تلك البادية، ننقذ التائهين، ونرشد الغافلين إلى أن الله من علي بالجلوس إليكم، وصحبتكم في هذه الروضة المباركة.

البرهان الوجودي:

بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه، قام ثالث، وقال: الدور دوري بلا شك، فليس بعد برهان الصديقين إلا البرهان الوجودي([7]).. وأنا لي علاقة كبيرة به، وبأصحابه بدءا من الراهب أنسلم، وانتهاء بالفيلسوف الكبير ديكارت..

ولهذا يشرفني أن أحدثكم ـ أنا العبد الفقير إلى الله ـ عن فضل الله علي بالهداية بسبب هذا البرهان العظيم.. فبه أخرجني الله من ظلمات الجهل والغواية، وبه أنقذني من جحيم الملاحدة.. ووضعني معكم معشر المنورين بنور الإيمان.

قالوا جميعا: يسرنا ذلك.. فهلم حدثنا بنعمة الله عليك.. فلا نعمة أفضل من معرفة الله.. ولا هدية أعظم من التواصل معه.

قال: اسمحوا لي قبل أن أحدثكم عن أسباب فضل الله علي بالهداية، وعلى البرهان الذي جذبني الله به إليه، أن أذكر لكم فضل أستاذي [رينيه ديكارت] ذلك الذي يطلق عليه [مؤسس الفلسفة الحديثة].. فقد كانت فلسفته هي السبب الذي توافق مع عقلي وطبعي، فجعلني أتحول من الإلحاد إلى الإيمان، ومن السفسطة والجدل العقيم إلى التحقيق والعلم المنير.

لقد كانت فلسفته فلسفة جديدة بالفعل.. فقد طرح أفكاره بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي طرحت بها الفلسفة طوال عشرة قرون من قبله.. أقصد الفلسفة المدرسية المعروفة.. فلسفة أفلاطون وأرسطو اللتين سادتا التفكير الفلسفي في أوربا أيام العصر الوسيط.

والذي جعلني أميل إلى فلسفته خصوصا هو أنها ليست مجرد تأملات خالصة أو أفكار عقيمة.. وإنما كانت ذات مردودات عملية تتعلق بجميع جوانب الحياة.

ومن أهم تلك الجوانب التي أفادتني كثيرا، بل أنقذتني من الإلحاد والسفسطة كما ذكرت لكم أسلوبه الجديد الذي وضعه للوصول إلى المعرفة، وخاصة المعرفة الإلهية.. حيث كان السائد في العصور السابقة، وخاصة في الفلسفة اليونانية أن معرفة الله لا تكون إلا عن طريق الكون.. ثم بعدها يسمو الإنسان بفكره إلى أن يصل إلى وجود الله.

لكن ديكارت خالف هذه النظرة، وطرح فكرة بديلة، وهي الوصول إلى الله تعالى أولا، ثم الوصول إلى كونه.. أي أنه فعل مثلما فعل فلاسفة برهان الصديقين من الدعوة إلى أن تبدأ المعرفة من الأعلى والأشرف إلى الأدنى.. أو كما أشار إلى ذلك وبعده قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]

فقد أشارت الآية الكريمة إلى كل أنواع البراهين: سواء تلك التي يبدأ فيها الباحث من الأدنى إلى الأعلى عبر البحث في الآفاق والأنفس.. أو عبر البدء من الأعلى إلى الأدنى، وهو شهادة الله على الكائنات، أو للكائنات.. أي أنه هو الشاهد على وجودها، فلولا وجوده ما كان وجودها.

طبعا لم يكن ديكارت وحده صاحب هذا التوجه في الفلسفة الأوروبية، وإنما كان ممثلا لسلسلة من أصحاب التوجه التأملي العرفاني الذي بدأ بالقديس أوغسطين، وانتهى به.. مثله مثل هذا التوجه عند المسلمين، والذي اختلف فيه أصحاب التوجه العرفاني الصوفي عن التوجه العقلي الفلسفي.. وإن اتفق الجميع على الله.. ولم تختلف إلا مسالكهم في الوصول إليه.

وهكذا عندما كنت في أوروبا في ذلك الزمان كان هناك تياران كلاهما يحاول أن يواجه الإلحاد كل بأسلوبه الخاص:

أما التيار الأول، فتمثل في التوجه الأكويني المنتسب لـ [توماس الأكويني] الذي بنى براهينه على أساس اثنينية العقل والله متأثرا بأفكار أرسطو، وبطروحات الفيلسوف ابن رشد وأتباعه.. وهو ما يهتم به أصحاب روضة [البراهين القاطعة] الذين يرحلون من الكون إلى المكون.

أما التيار الثاني، فهو التوجه الأغوسطيني الإيماني الذي بنى براهينه على أساس اثنينية النفس والله، وقد تأثر أيضا بالأفكار الصوفية الإسلامية، والذين يدعون دوما إلى البدء في الرحلة من الله للوصول إلى أكوانه.. بل ربما يكون تأثر بالطرح القرآني نفسه، والذي يعتبر الله حقيقة بديهية لا تحتاج إلى أي براهين تدل عليها، فالله تعالى يخبر عن منهج دعوة الرسل لأقوامهم، فيقول: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]

بل إن القرآن الكريم يذكر أن وجود الله حقيقة نفسية موجودة حتى في نفوس الملاحدة أنفسهم، وأن سبب عدم اعترافهم بها هو كبرهم وجحودهم، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].. ولذلك كان كفرهم هو كفر نفسي، قبل أن يكون كفرا عقليا.. أي أنهم كفروا بحقائق آمنت بها أنفسهم، ودلت عليها فطرهم، لكنهم لكبرهم جحدوها.

***

سكت قليلا، ثم قال([8]): لقد كان من أبرز أعلام هذه المدرسة، وربما يكون ديكارت من المتأثرين به والمتتلمذين على يديه الفيلسوف والمتأله [أنسيلم]، والذي تحول في ذلك العصر إلى أفضل ممثل للتوجه الأغوسطيني المؤسس على الإيمان والعرفان.. وميزته أنه حاول أن يكون حلقة وصل بين الأغوسطينية والتوماوية، أو بين الإشراق الداخلي والتأمل العقلي.. وهذا ما جعلني أنجذب إليه.. كما أنجذب إلى ديكارت من بعده.

فقد قدم هذا الفيلسوف في كتابه الموسوم بـ [بروسلجيون]، نفسه على أنه الساعي لـ (إيجاد حجة دامغة لا بد أن تكفي – وحدها – في البرهنة على أن الله موجود حقا، وأنه الخير الأسمى، وأنه غني عن العالمين، وأن جميع الخلق يحتاجون إليه في وجودهم وفي سعادتهم، وفي البرهنة على كل ما نعتقده في الجوهر الإلهي)([9])

وبناء على ذلك خاطب أنسليم نفوس كل أولئك المتشككين أو المترددين أو الملاحدة، بأساليب مختلفة، ولغات متعددة، لينال كل واحد منهم حظه من المعرفة، بحسب طبيعته ومرتبته وتجرده..

ومن خطاباته التي لا أزال أذكرها قوله لهم: عودوا إلى أنفسكم.. وفي {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21].. وسترون أن اسم الله مكتوب على صحائفها، وفي صفحاتها.. ذلك أنه حتى الأحمق لا يتصور في ذهنه أن هناك موجود أعظم من الله.. فما لا نستطيع أن نتصور أعظم منه في الذهن هو كذلك في الواقع وإلا لزم الدور في تصور عظمة سواه.. وذلك أن رسوخية ثبوت وجود الله وصلت حد عدم الاستطاعة على تصور عدم وجوده.

وكان يقول لهم: إنكم مهما تصورتم ـ أيها الناس ـ من كائن ممكن الوجود على أنه أكبر شيء، فسوف تجدون بأنه ليس ذلك الكائن الأكبر، لأنه ليس بوجود حقيقي.. ولهذا السبب يجب على الكائن ذي الكمال المطلق أن يحتوي في وجوده، إلى جانب الكمالات الأخرى، الوجود الواقعي الكامل.. فالوجود الحقيقي هو المكون الماهوي لهذا الكائن اللامتناهي، بخلاف باقي الموجودات الممكنة والتي لا تمتلك هكذا ماهية.

وكان يقول لهم: إذا كان الله إلها، فإن الله موجود فالوجود الإلهي كفيل للقول بوجود الله.

وكان يقول لهم: البرهان على وجود الله لا يبدأ من الوجود، بل من فكرة الله نفسها.. ولما كان الله هو ما لا يتصور أعظم منه.. أي الموجود الكامل، وكأن الوجود أحد هذه الكمالات، فالله موجود.. فالموجود الكامل لا يوجد فقط في الذهن، بل أيضا في الواقع وإلا كان مجرد تصور، ولا فرق في ذلك بين المؤمن وغير المؤمن، فهو دليل طبيعي مفطور عليه الإنسان.

وكان يقول لهم: إن الكائن الذي يكون عدم وجوده ممكنا هو أقل كمالا من الوجود الذي يكون فيه عدم الوجود مستحيلا.. ذلك أن اعتقاد عدم وجود موجود يظل منقصة في الموجود لأنه من المتيسر تصور عدم وجوده، أما الموجود الذي لا يتيسر تصور عدم وجوده فهو أكمل من سابقه، لانتفاء هذه المنقصة فيه.

وكان يقول لهم: إن الكائن الذي يوجد بالضرورة، والذي لا يمكن تمييزه عن وجوده هو أكثر كمالا من الكائن الذي يكون وجوده غير مهم، بمعنى أن وجوده أو عدم وجوده سيان.

وكان يقول لهم([10]): إن الموجود الذي لا يمكن تصور شيء أعظم منه لا يمكن أن يوجد في العقل وحده، وبالفعل، حتى إذا كان موجودا في العقل وحده، فمن الممكن أن نتصور موجودا مثله له وجود في الواقع أيضا، وهو بالتالي أعظم منه، وعليه، إذا كان موجودا في العقل وحده، فإن الموجود الذي لا يمكن تصور شيء أعظم منه سيكون من طبيعة تستلزم أن يكون بالإمكان تصور شيء أعظم منه.

جاءه في ذلك اليوم أحدهم، وقال: أرى أنك تتكلم كلاما غريبا، لا دلالة له، فهلا وضحته لي، ولهؤلاء الذين يحيطون بك.

قال أنسلم: أجبني.. هل يمكن أن تتصوَّر أي شيء في الذّهن مهما كان عظيما؟

قال الرجل: نعم.. يمكنني ذلك.

قال أنسلم: فهل يمكن أن تتصوَّر ما هو أعظم من ذلك الشَّيء الّذي ورد في خيالك؟

قال الرجل: نعم، يمكن تصوّر شيء أعظم من ذلك.

قال أنسلم: فلنسمِّ هذا الأعظم الذي لا أعظم منه [الله].. أترى أن هذا خاص بك، أم يشمل جميع الناس؟

قال الرجل: بل جميع الناس يستوون في هذا.. حتى الأحمق يمكنه أن يتصوَّر هذا الشَّيء الأعظم في ذهنه؟

قال أنسلم: فهل هذا الشيء الّذي يتصوره الجميع.. المؤمن وغير المؤمن.. موجود في الذهن فقط أم موجود في الذهن، وفي الواقع؟

قال الرجل: ربّما يكون موجودا في الذهن فقط.

قال أنسلم: ألا ترى أننا حين نذكر أنَّ هذا الأعظم موجود في الذّهن فقط نكون قد حقرناه، ولم نعطه أي قيمة، بل إن أي موجود مهما كان حقيرا يصبح أعظم منه.. وبالتّالي فإنَّ هذا الأعظم لا يبقى عظيمًا.

قال الرجل: هذا صحيح…

قال أنسلم: فإذن ليكون هذا الأعظم عظيمًا ينبغي أن يكون موجودًا في الذّهن وفي الواقع.

قال الرجل: نعم، بكلّ تأكيد.

قال أنسلم: إذن، مادمنا نستطيع تصوُّر هذا الموجود الأعظم، والّذي هو الله، فإنَّ هذا يعني أن الله موجود في الذّهن وفي الواقع.

***

أذكر أن الكثير في ذلك الزمان أعجبوا بهذا البرهان، واستفادوا منه، وتخلصوا من كثير من الشبه التي كانت تعرض لهم جراء البراهين الأخرى.. لكن آخرين راحوا يعترضون عليه، ويسخرون منه حتى من الرهبان أنفسهم.. لكنه كان لا يأبه لهم.. لأن حديثه لم يكن معهم، وإنما كان مع المتجردين.. ولهذا كان يقول لهم، ولراهب مارموتيو خصوصا، والذي اعترض عليه كثيرا: لا تعترض علي.. فلكل قوم مشربهم.. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].. و{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]

وأذكر في ذلك الحين أن ذلك الراهب كتب كتابا حاوره فيه على لسان شخص غير مؤمن بوجود خالق للكون قال له فيه: يلزم من برهانك هذا أن مجرد التصور لشيء ما يستلزم وجوده الخارجي.. وبناء على قولك هذا توجد [الجزيرة المثلى].. ولو أن الجزيرة المثلى لم توجد، فإن ذلك سوف يتناقض مع كونها مثلى.. وعليه فإنها وغيرها مما نعتبرها مثاليًا، يجب وجوده.. وهذا أمر غير منطقي؛ لأن الجزيرة المثلى لا توجد بالفعل.. وإذا كانت البراهين الموازية للبرهان الأصلي غير منطقية فالأخير يكون غير منطقي كذلك.

وقد كتب له أنسلم ردًا يقول له فيه: أنت لم تع برهاني.. ففرق كبير بين الوجود الواجب، والوجود الممكن.. أما الجزيرة التي ذكرتها ورحت تشنع بها علي فهي ممكنة، ووجودها ممكن؛ لأنه يفتقر إلى وجود البحر والأرض، والجزر نفسها لا يلزم وجودها، فهو إذن وجود غير واجب.. فكيف تبطل ما ذكرت بما ذكرت.. وكيف تبطل بالممكن الواجب.

***

سكت قليلا، ثم قال: هذا بعض ما سمعته من الراهب أنسلم.. أما ديكارت.. وهو أستاذي الأكبر.. فقد سمعت منه الكثير.. دعوني قبل أن أحدثكم عن برهانه الذي لا يختلف كثيرا عن برهان أنسلم أن أذكر لكم قيمة هذا الرجل، مقارنة بأولئك الفلاسفة الجاحدين([11]).

ذلك أني رأيت الكثير من الفلاسفة والمسلمين منهم خصوصا يهتمون بكانت الألماني، أكثر من اهتمامهم بديكارت الفرنسي.. مع أن فلسفة كانت كانت من أبرز أسباب التيه في فهم موقف الدين من العقل والعلم.. ففلسفة كانت ـ كما تعلمون ـ كانت تهدف إلى إبعاد العلم والعقل النظري من المسائل الدينية بخلاف فلسفة ديكارت.

وللأسف فقد كانوا يسيئون أيضا إلى فلسفة ديكارت حينما يسمونها فلسفة الشك، وحين يعتبرون ديكارت زعيم الشاكين، والمشككين للناس في الله.. وهذا خطأ جسيم، فديكارت كان في طليعة المؤمنين بالله، الموقنين إيقاناً يجعله أساس العلم وأصله ومنبعه.

أما مسألة الشك الشائعة عنه، فإن ديكارت ـ على حسب ما عرفته من خلال فلسفته، ومن خلال صحبتي له ـ لم يضعها لإثارة الشك في كل شيء، وإنما وضعها لهدم صرح الشك، الذي كان الحسبانيون قد أسسوه في قلوب الناس.

فقد كان العصر الذي يعيش فيه.. وهو بداية عصر التنوير قد امتحن بتسلط الحسبانية المتوارثة من الفلسفة اليونانية عليه، وعلى أفكار الفلاسفة الغربيين، ولاسيما المسيحيين منهم، فكان ديكارت ـ بمنهجه وفلسفته ـ أول من دك دعائم الشك في الغرب، وأبعده عن الفلسفة.

وكان من دلائل ذكائه وعبقريته أنه جعل الشك نفسه يهدم الشك.. ولذلك قال مخاطبا المشككين: إني أشك، فأدرك.. لأن الشك نوع من الإدراك، أي أنه إدراك متردد بين الإيجاب والسلب.. ثم أدرك من هذا أني موجود.. ولو لم أكن موجوداً لانتفى شكي، وإدراكي المندمج فيه بانتفائي، مع أني قلت لكم: إني أشك، وأنتم معاشر الريبيين صدقتموني في قولي هذا.

وبهذه المقولة وضع ديكارت أساس العلم تجاه داء الشك المزمن، مستخلصاً دواءه من نفس الداء، وحصل على أول يقين من إدراك الإنسان وجود نفسه.

لقد قال معبرا عن ذلك: إن قضية [أدرك فأنا إذن موجودٌ]، حقيقة بديهية.

وبذلك يخطئ من يظن أن ديكارت كان يدعو إلى الشك في كل شيء، بل إنه هو الذي استخرج -حتى من الشك- حقيقة متحققة.. وهو الفيلسوف الوحيد بين فلاسفة الغرب الذي ألغى ثنائية العقل والإيمان المنتقلة من فلسفة القرون الوسطى، والتي تأثرت بها المسيحية، فأدخلت الإيمان في نظرية اليقين ركناً جديداً؛ بحجة أن العقل لا يتخلص من الحسبانية في اكتساب اليقين، فيحتاج إلى دعمه بالإيمان المبني على الإرادة.. ولم يكن ذلك سوى توهيناً للعقل، أكثر من دعم له، لاتهامه بالعجز، وتفضيل قوة الإيمان على قوته.

وأنتم تعلمون السبب الذي جعل رجال الدين المسيحي يتوجهون هذا التوجه، فهو ليس حرصا على الإيمان بوجود الله، ولا حرصا على كمالاته، لأن العقل يؤيد هذين الأمرين جميعا.. ولكن دفعوا لذلك لعجزهم عن إثبات تلك الإضافات التي أضافوها للإيمان بالله، والتي عجزت العقول عن تعقلها أو تصورها.

 لقد قال [بول زانه] يذكر ذلك: (يُفهم أن القرون الوسطى، لم توفق في علمها، ولم تستطع تأليف العقل بالإيمان، فسعى لتغليب الثاني على الأول)

ولهذا، فإن ديكارت عندما جاء في ذلك العصر راح يلغي ثنائية العقل والإيمان، باطراح الإيمان، وإعادة حقوق العقل إليه، وتخليصه من الحسبانية، وقضائه على الشك، بسلاحٍ مأخوذٍ من الشك نفسه.

وليس معنى إشادتي بطرحه للإيمان، أنه فعل ذلك مطلقاً، كما قد يتوهم، وإنما طرح اعتباره ركناً في نظرية اليقين، وسنداً للعقل في إدراك الحقائق؛ فليس العقل عنده تابعاً للإيمان، بل الإيمان تابع للعقل.

لقد عبر عن ذلك بقوله:(إن قضية [أدرك فأنا إذن موجودٌ] حقيقةٌ بديهية، وهذه الحقيقة لا تسقط في أي زمان بساحة الذاكرة، ولا تزال غير فاقدة لبداهتها حتى تصل إلى الله؛ فإذا وصلت إليه تُيقِّن أن العقل أنشئ لفهم الحقيقة، ويتضمن هذا اليقينَ المقدماتُ المستخدمة في إثبات وجود الله أيضاً)([12])

وهو يقصد بذلك أنه يشك في كل ما ليس بمبرهن عليه، ولا يُقبَل، ما عدا الظاهر بذاته، أو بغيره، أو تدل الأدلة والبراهين عليه..

وقد مارس بذلك ما مارسه جميع المؤمنين الذي قد ينطلقون من الشك، ليحققوا الإيمان، فالخروج من الإيمان الوراثي يستدعي طرح تساؤلات تشكيكية ليصل صاحبها بعدها إلى بحر الحقيقة الذي لا ساحل له.. ولذلك يحتاج إلى أن يبحر في زورق صحيح من البراهين العقلية، ليتمكن من الاستمرار في الطريق.

لقد فعل ذلك الكثير من الفلاسفة والمفكرين، ومنهم [طوماس في سوم أولوزيك] الذي بدأ أبحاثه الإلهية بطرح هذا السؤال: (هل الله موجود؟)، ثم راح يجيب عليه بقوله: (و ليكن جوابنا بالنفي).. ثم راح يورد الاعتراضات العقلية على ذلك النفي إلى أن أثبت الوجود.

***

والميزة الثانية التي جعلت من أستاذي الكبير ديكارت أستاذا للإيمان كما أنه أستاذ في الفلسفة هو اعتباره لموجودية الإدراك الأساس الذي ينطلق منه اكتشاف الحقائق.

قد عبر عن ذلك بقوله: (مهما كان ترتيب المعاني، الذي يراد تقريره في الفلسفة، فالشيء الذي يبقى حقيقة دائماً، هو الشعور؛ فقد أشك في وجود الأجسام، وقد أشك في وجود الله، وفي الحقائق الرياضية؛ لكن لا أشك أصلاً في وجود شعوري، لأن شكي في وجود شعوري، شعورٌ أيضاً؛ والحال أن شعوري، أي شكي معناه أني موجودٌ، فإن من لا يوجد، لا يشكُّ أيضاً؛ وبناءً عليه، فأنا مدرك، شاعرٌ، موجودٌ، من حيثُ أني مدركٌ، إن لم أكن موجوداً بأي حيثية)

وبناء على هذا لم يستعمل ديكارت الأدلة الطبيعية.. لا الدليل الكياني.. ولا دليل العلة الغائية.. الذي استعمله سائر الفلاسفة.. لأنه رأى أن وجودَ الكائنات المادية يحتاج أولا إلى إثبات وجودها إلى وجود الله؛ والذي لا يحتاج في إثبات وجوده إلى وجود الله، إنما هو وجود نفسه، فلا دور.. فوجود نفسه، المستفاد من إدراكه، هو الحقيقة الأولى الثابتة، ثم يترتب عليه وجود الله، ثم يترتب عليه ثبوت وجود العالم.

ففلسفة ديكارت بهذا تمتاز بكونه أثبت وجود الله، قبل إثبات وجود العالم المادي، واستدل عليه من وجود نفسه الناطقة، ووجود شعوره، وتمتاز أيضاً بكونه بنى حقية وجود العالم على صدوقية الله.

لعل كل ذلك.. وكل تلك المعاني السامية التي أشار إليها ديكارت متضمنة في قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن أحقية ربوبية الله للكون بدليل شعوري نفسي وهو النطق.. فكما أن الإنسان يشعر بنطقه، ولا يجادله أحد في وجوده، فإن ذلك الشعور لابد أن يكون أداته ووسيلته للوصول إلى الحق.

***

بناء على هذا، راح ديكارت مثله مثل أنسلم والقديس أوغسطين وغيرهما من الفلاسفة والباحثين عن الله يخاطبون زمر المشككين واللاأدريين والملاحدة بقوله: إذا قلت الله، فإني أفهم منه جوهراً أزلياًّ غير متناهٍ، ولا قابلٍ للتغير، عليماً، قديراً، أوجدني وسائر الأشياء على تقدير ثبوتها.. فمن أين يأتيني هذا المفهوم؟.. ومن حيث أنه معنى من المعاني، يلزم أن يوضح منشأه؟.. وهب أني لكوني جوهراً، أتصور في نفسي جوهراً غيري، ولكني جوهرٌ متناهٍ؛ فكيف أتصور جوهراً غير متناهٍ؟.. ألا يكفي هذا للدلالة على وجود الله؟

وكان يقول ـ مخاطبا علماء الرياضيات والهندسة ([13]) ـ: من الحقائق ما هو ضروريٌّ أزلي، وتلك الحقائق لا تخرج من أن تكون حقاًّ، ولو لم يوجد شيءٌ من الأشياء، التي تعمل فيها، مثلاً إن زوايا المثلث مساوية لقائمتين، فلا تحتاج هذه الحقيقة في أن تكون حقاًّ، إلى تحقق أي مثلث في الواقع، ولا تحتاج أيضاً إلى وجود الذهن الإنساني ليعلمها، فهي حقٌّ، ولو لم يوجد إنسان في الدنيا، وإذا لم يكن لها أي توقف على العالم، ولا على الروح الإنسانية، لزم أن تكون مربوطة بوجود آخر.

وكان يقول مخاطبا لهم: إن وجود الله يقيني، أكثر من يقينية الدعاوى الهندسية، والقوانين الرياضية، لأن تلك الدعاوى، وتلك القوانين التي لا تحتاج في كونها حقاًّ، ثابتةٌ إلى وجود ما تنطبق عليه من الكائنات في العالم، ولا في أذهان من يتصورونها من علماء البشر الرياضيين.

وكانوا يقول مخاطبا الذين لم يستسيغوا رفض التسلسل، ولم تقنعهم البراهين المرتبطة بذلك: أنتم لستم في حاجة للبرهنة على بطلان التسلسل، فبقاء الكون على ما عليه دليل على الله.. ذلك أن حفظ الجوهر، وإبقاءه، عينُ خلقه.. فمن خلقني سابقاً، هو الذي يبقيني حالاً؛ مع أني لا يمكنني إن لم أسنده إلى من يملك جميع الكمالات، وأجد مفهومه في ذهني، أن أسنده لا إليّ، ولا إلى والديّ، ولا إلى أيّ علة أخرى.

وكان يرد على الذين يناقشونه في هذا الدليل بقوله: إن العلة الموجدة لأي شيء، يلزم أن تبقى ما دام معلولها باقياً، حتى لو زالت علته، انعدم معها المعلول، فيكون زوال العلة علةٌ لعدم الحادث؛ ومن هنا يقال: (علة العدمِ، عدم العلة)

***

بعد هذا كله اسمحوا لي معشر الإخوان المنورين بنور الإيمان أن أذكر لكم أهم دليل ذكره ديكارت، أعتبره السبب الأكبر في خروجي من أوهام الإلحاد.. إنه ما يطلق عليه [الدليل الوجودي]، أو [الدليل الانطلوجي]، والذي استفاده من أنسلم، وقرره تقريرات جميلة، وفي منتهى الوضوح والدقة.

سأنقل لكم بعض ما قاله، وهو يخاطب زمر الملحدين والمشككين الذين انتشروا بكثرة في ذلك الزمان.. لقد كان يقول لهم: ألا ترون الفنان أو الصانع الذي يختم بصفته واسمه على صورته واختراعه ليسجل ذلك براءة اختراعه وتصميمه له؟

قالوا: بلى.. نحن نرى ذلك.. ولا أحد إلا ويفعل ذلك.. حتى تنسب الأشياء إلى أصحابها.

قال: أترون أن الذي أبدع هذا الكون جميعا تركه من دون أن يضع فيه أي ختم أو بصمة أو توقيع أو علامة على كونه الخالق المدبر؟

قالوا: فأين ذلك.. فنحن نرى صورة التواقيع التي يوقعها الفنانون والمخترعون.. ولا نرى صورة توقيع الإله الذي تذكره.

قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21]

قالوا: ما تعني؟

قال: ألا ترون في نفوسكم أنه إذا تحققت للإنسان معرفة ذاته بصورة تامة، وأدرك أن أخص خصائصه يتمثل في الدافع نحو الكمال، فإنه حينئذ يعرف حقيقتين في وقت واحد.. الحقيقة الأولى تتمثل في أنه شيء ناقص ومعتمد على غيره ومفتقر إليه.. والحقيقة الثانية أن هذا الموجود الذي يعتمد عليه يملك بالفعل – وإلى ما لا نهاية – كل الكمال.. وبذلك يكون افتقاره المطلق هو دليله إلى الغني المطلق.

لقد أشارت إلى ذلك تلك الكلمات الخاتمة المقدسة التي أنزلها الله على عباده، والتي يقول فيها: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]

وقد عبر عن هذا البرهان في محل آخر، فقال: (إني لأتصور هذه المشابهة المتضمنة لفكرة الله بعين الملكة التي أتصور بها نفسي، أي أني حيث أجعل نفسي موضوع تفكيري، لا أتبين فقط أني شيء ناقص، غير تام، ومعتمد على غيري، ودائم النزوع والاشتياق إلى شيء أحن وأعظم مني، بل أعرف أيضاً وفي الوقت نفسه أن الذي اعتمد عليه يملك في ذاته كل هذه الأشياء العظيمة التي أشتاق إليها، والتي أجد في نفس أفكارً عنها، وأنه يملكها لاعلى نحو معين أو بالقوة فحسب، بل يتمتع بها في الواقع وبالفعل وإلى غير نهاية، ومن ثم أعرف أنه هو الله)

وعبر عنه في محل آخر، فقال: ألا ترون معشر المشككين أن نفس الشكوك التي تعتريكم دليل على الله.. ذلك أن الشك ينطوي على النقص.. ولما كان ماهو ناقص لايمكن أن يكون سبباً لما هو كامل بمقتضى مبدأ السبب الكافي الذي يكشفه لنا نور العقل الفطري.. ولما كان ذلك كذلك فمن المحال أن نحصل على فكرة الكمال اللامتناهي من تراكم أفكار أشياء متناهية، لأن المتناهيات لايمكن أن تؤدي إلى لامتناهي، ولهذا، مهما بلغت معرفتي من العظم، فإنها لا تبلغ حداً لامتناهياً بالفعل، لأنها لايمكن أن تصل إلى نقطة لاتكون عندها قابلة للزيادة.

وعبر عنه في محل آخر، فقال: ما دمتم لا تنظرون إلى أنفسكم.. فانظروا إلي أنا جيدا.. انظروا إلى ديكارت.. وسترون أنه موجود غير تام الكمال.. بل ناقص.. وهو ليس الكائن الوحيد في الوجود، إذ لابد لوجوده من علة.. والعلة لابد أن تكون مكافئة على الأقل للمعلول إن لم تكن أكثر منه فضلاً وكيفاً.. وبما أن ديكارت الذي يقف أمامكم ليس علة لوجود نفسه، إذ لو كان كذلك لاستطاع أن يحصل من نفسه لنفسه على كل مايعرف أنه ينقصه من الكمالات، لأن الكمال ليس إلا محمولاً من محمولات الوجود، والذي يستطيع أن يهب الوجود يستطيع أن يهب الكمال.. والتأمل في هذا يدلكم على وجود علة وجوده، وهي ذات تتوفر على كل ما لا يمكن تصوره من الكمالات وهذه هي ذات الله تعالى ([14]).

وعبر عنه في محل آخر مخاطبا به بعض المهندسين والرياضيين، فقال: كما أن فكرتنا عن المثلث تستتبع أن تكون زواياه الداخلية مساوية لقائمتين (180 درجة)، كذلك فإن فكرتنا عن الله باعتباره كائناً كاملاً متناهياً تستلزم وجوده بالضرورة.. ففكرة الوجود متضمنة في تعريف المثلث.. وعليه فإذا كان من التناقض أن نعتبر الزوايا الداخلية للمثلث لاتساوي قائمتين، فمن التناقض كذلك أن نعتبر الله غير موجود، لأن الوجود متضمن في ماهية الله على نحو ما تكون مساواة الزوايا الداخلية للمثلث لقائمتين متضمنة في تعريف المثلث.

***

سكت قليلا، ثم قال: لقد كانت أمثال تلك الطروحات والتأمل فيها وحدها كاف لعقلي أن يدع كبرياءة وغروره، ويلتحق بركب الإيمان..

لقد كنت حينها شغوفا بالرياضيات.. وكانت الرياضيات والمثلثات وكل تلك الأرقام المجردة دليلي على الله..

أذكر جيدا أنني التقيت في ذلك الزمان البعيد، أي قبل ديكارت بفترة طويلة، عالما من علماء المسلمين.. التقيت به في قرطبة.. يقال له [ابن حزم].. وقد رأى مدى حبي للرياضيات والأعداد، فقال لي: تعال لأعرج بك من عالم الأعداد إلى عالم الألوهية..

قلت: وهل يمكن ذلك؟

قال: يستحيل على ربك أن يخلق شيئا، ثم لا يضع فيه التوقيع الدال عليه.

جلست فرحا مسرورا لما دعاني إليه.. فقال، وهو يحاورني ([15]): إن خاصة العدد هو أن يوجد عدد آخر مساو له، وعدد آخر ليس مساوياً له، هذا لا يخلو منه عدد أصلاً.

قلت: كيف ذلك؟

قال: المساواة هي أن تكون أبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت.. ألا ترى أن الفرد والفرد مساويان للاثنين، وأن الزوج والفرد ليسا مساويين للزوج الذي هو الاثنان، والخمسة مساوية للاثنين والثلاثة، غير مساوية للثلاثة.. وهكذا كل عدد في العالم.

قلت: وعيت هذا.. فما تريد منه؟

قال: كل ما كان له أبعاض فهو مركب كثيراً بلا شك، فهو إذن بالضرورة ليس واحداً، فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له.

قلت: هذا صحيح.

قال: فإن الحس وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد، إذ لو لم يكن الواحد موجوداً لم يقدر على عدد أصلاً، إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا يوصل الى عدد ولا معدود إلا بعد وجوده، ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلاً.

قلت: وعيت هذا.. فما تريد منه؟

قال: بما أن العالم كله أعداد ومعدودات موجودة.. فإن الواحد لابد أن يكون موجودا بالضرورة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لو نظرنا في العالم كله نظراً طبيعياً ضرورياً لم نجد فيه واحداً على الحقيقة البتة بوجه من الوجوه، لأن كل جرم من العالم منقسم.. محتمل للتجزئة.. متكثر بالانقسام أبداً بلا نهاية.. وكل حركة فهي أيضاً منقسمة بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة.. وكذلك كل معقول، من جنس أو نوع أو فصل.. وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم بانقسام حامله..

قلت: صحيح.. وهذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة، وليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرت.

قال: بما أن أمر العالم كما ذكرت.. وبما أنه ليس في العالم واحد البتة.. وبما أن البرهان قائم على ضرورة وجود الواحد، فإذن لابد من وجوده.. وبما أنه ليس في العالم، فهو إذا شيء غير العالم..

***

لست أدري كيف صحت من قوة هذا البرهان وسلامته ودقته.. وكنت أبشر به وبغيره من البراهين التي استفدتها من ديكارت وأنسلم وغيرهما إلى أن من الله علي بلقياكم في هذه الروضة من روضات النعيم.

نعم وجد من أهل ذلك الزمان ممن لم يكن لهم القدرة على استيعاب ما أذكره لهم.. لكني لم أكن أعنف عليهم، ولم أكن أتهمهم بالغفلة أو الغباء، وإنما كنت أقول لهم بكل رحمة وشفقة ونصح: اذهبوا فلستم بحاجة إليها.. فلله من الأبواب والطرق ما لا عد له ولا حصر.. فلا تكتفوا بإعدام ما لا تفهمونه، فعدم قدرتي على إثبات الحقيقة الأزلية لعقولكم لا يعني عدم ثبوتها، وإنما يعني أننا نفكر بطرق مختلفة.

البرهان الوجداني:

بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه، قام رجل رابع، وقال: سأحكي لكم الآن حكاية برهاني.. والذي له علاقة بجميع ما ذكرتموه من براهين.. لا أدعي أنه يعوضها، أو يتجاوزها.. ولكنه يفيدها..

 فالكثير ممن ينكر برهان الفطرة، أو برهان الصديقين، أو البرهان الوجودي، أو حتى براهين الفلاسفة الذين يستخدمون الوسائط للدلالة على الله.. لا يكون إنكاره لها إلا بسبب خرم خطير في ذاته ووجدانه جعله لا يرى الأشياء بحقيقتها.. ولذلك كان البرهان الوجداني هو النظارة التي تصحح له الرؤية، فيفهم البراهين بدقة.

إن تلك النظارة الوجدانية، أو ذلك التلسكوب الإيماني، أو ذلك الميكروسكوب العقدي، هو الذي أخرجني من ظلمة نفسي ودنسها إلى أنوار الوجود وقدسيتها.. حتى جعلني أرى المعاني الإيمانية رؤية أوضح من رؤية العينين الباصرتين.. ولذلك لم أعد أحتاج إلى أي دليل.. وهل بعد العيان من خبر؟.. وهل بعد المشاهدة من إنكار؟

وأول من علمني حقائق هذا البرهان ومقدماته، وأقنعني به، ومارسته معه، وتدربت عليه بصحبته عالم من علماء المسلمين وعارفيهم التقيت به في ذلك الزمان البعيد في بلدة من خراسان، وقد سمعت أنه كان تلميذا للفيلسوف واللاهوتي [أبي حامد الغزالي]، التقيته، وبثثت له شكوكي، وأني لم أعد أطيقها.

قال لي: لا تقلق من ذلك.. فالشك مقدمة اليقين ومبدؤه.. وقد حدثني شيخي أبو حامد الغزالي أنه مر بتجربة شك أخرجته من صحراء التقليد إلى جنان التحقيق.. لقد ذكر لي ذلك، فقال: (إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي.. وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرناه ويمجسانه)، فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات وأوائلها تلقينات، وفي تميز الحق منها عن الباطل اختلافات)([16])

قلت: عجبا.. إن ما ذكرته عن شيخك.. هو نفس ما ذكره شيخي.

قال: ومن شيخك؟

قلت: ألا تعرفه.. إنه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة ورائدها.

قال: بلى.. أعرفه جيدا.

قلت: فقد حدث عن نفسه، فقال: (ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة، وأن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذا حالها من الزعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلا شيئاً مشكوكاً فيه جداً.. فحكمت حينئذ بأنه لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد لي من بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً)([17]) ‏

ابتسم، وقال: ما دام لك مثل هذا الشيخ.. فما الذي جعلك تقطع الفيافي والقفار لتشكو لغيره ما حصل لك؟.. وهل يمكن لمن يكون لديه طبيب مثل ديكارت أن يبحث عن طبيب آخر؟

قلت: لك الحق فيما تقول.. ولكن ديكارت هو الذي أصابني بهذا الداء، ثم عجز عن علاجه.

قال: كيف ذلك؟

قلت: لقد شجعني على الشك.. وعندما طرح علي البراهين التي تزيل الشك لم ينمح، ولم يزل، بل زاد وترسخ إلى أن أصبحت أعاني منه عناء شديدا.

قال: ألم ينصحك بالذهاب للفلاسفة الذين استعملوا الوسائط للدلالة على الله؟

قلت: بلى.. لقد أرسلني إليهم.. لكن الشك بلغ بي مبلغا عظيما وصل إلى إنكار العقليات والحسيات.. وهي جميعا مما يعتمد عليه في كل برهان.. وأنا الآن في حال السفسطة.

قال: فقد وقعت على الخبير إذن.. إن ما ذكرته عن نفسك هو نفس ما ذكره أستاذي أبي حامد عن نفسه.. سأحكي لك ما قال، وسأذكر لك العلاج الذي إن استعملته فلن تخرج من طوس إلا وأنت ولي أو قديس.

قلت: فما قال الغزالي؟

قال: لقد ذكر عن نفسه أنه ـ في مرحلة الشك التي اعتترته ـ فجعلته يرفض كل المعلومات التي حصلها عليها عن طريق الحواس بالتقليد والتلقين.. اتجه إلى المحسوسات لعله يجد فيها اليقين، لكنه اصطدم بأنها هي الأخرى عرضة للشك.. فالمعرفة الحسية عرضة للخطأ.. وأكبر دليل على ذلك ما يقع من خداع الحواس، حيث نرى الكواكب صغيرة جدا في مقدار الدينارن بينما الأدلة الهندسية تثبت عكس ما نرى، بل تثبت أن الكواكب منها ما هو أكبر من الأرض بكثير.

ابتسمت، وقلت: هذا بالضبط ما حصل لي.. بل هو نفسه ما حصل لديكارت.. فقد استبعد في حوار جرى لي معه شهادة الحواس، وقال لي: ألا ترى أنّها تخدعنا أحياناً كثرة.. ولذلك من الفطنة ألاّ نأمن أمناً تامّاً من خدعنا ولو مرَّةً واحدة.. لقد قال لي معبرا عن ذلك: (كل ما تلقيته حتى اليوم وآمنت بأنه أصدق الأشياء وأوثقها قد اكتسبته من الحواس أو بواسطة الحواس، غير أني جربت هذه الحواس في بعض الأحيان فوجدتها خداعة، ومن الحكمة أن لا نطمئن كل الاطمئنان إلى من خدعونا ولو مرة واحدة)

وقد ضرب لي في نهاية تأمله الفلسفي الثاني، مثال قطعة الشمع الذي كان يكرره علي وعلى تلاميذه مرات كثيرة، فقد ذكر أن قطعة الشمع التي تم استخلاصها من خلية النحل صلبة وباردة ومتينة نسبيا، وعندما نلمسها يصدر عنها صوت، لكننا ما إن نقربها من النار حتى تتغير تغيرا تاما، فشكلها يتغير، وتتحول إلى سائل، وتسخن، ولا يصدر عنها أي صوت..

ثم يعقب على هذا المشهد بقوله: بذلك لا يتم تصور الشمع إذن إلا عبر فحص عقلي.. فالحواس لا تمنحنا مطلقا إلا معطيات هاربة، قابلة للانمحاء وغير منتظمة.. بل إنها لا تقدم لنا أي فكرة عن الأشياء كما نصوغها نحن بواسطة العقل.

قال: لقد ذكرني كلامك هذا بإشكال خطير يتعلق بالحواس، وصعوبة الاعتماد على المعارف المرتبطة بها.. فقد ذكر أستاذي الغزالي عند نقده للحواس اختلاط اليقظة بالنوم، وصعوبة التفريق بينهما، فقال: (فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا شك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها. لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالنسبة إليها، فإذا أوردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها)([18]) ‏

قلت: عجبا.. ما أعظم التشابه بين أستاذك الغزالي وأستاذي ديكارت.. فقد ذكر هو الآخر هذا الجانب، وما ينشأ عنه من إشكالات، فقال: (ينبغي علي هنا أن أعتبر أني إنسان، وأن من عادتي لذلك أن أنام، وأني أرى في أحلامي عين الأشياء التي يتخيلها أولئك المخبولون في يقظتهم؛ بل قد أرى أحياناً أشياء أبعد عن الواقع مما يتخيلون.. كم مرة وقع لي أن أرى في المنام أني في هذا المكان، وأني لابس ثيابي، وأني قرب النار، مع أني أكون في سريري متجرداً من ثيابي، يبدو لي الآن أني لا أنظر إلى هذه الورقة بعينين نائمتين، وأن هذا الرأس الذي أهزه ليس ناعساً.. لكن عندما أطيل التفكير في الأمر، أتذكر أني كثيراً ما انخدعت في النوم بأشباه هذه الرؤى، وعندما أقف عند هذا الخاطر أرى بغاية الجلاء أنه ليس هناك أمارات يقينة نستطيع بها أن نميز بين اليقظة والنوم تمييزاً دقيقاً، فيساورني الذهول، وأن ذهولي لعظيم، حتى يكاد يصل إلى إقناعي بأني نائم)([19])

قال: لم يتوقف شك أستاذي على تأثير المنام على الإدراكات الحسية.. بل إنه امتد ليشمل المدركات العقلية أيضاً، فالمنام تخيل، والتخيل قوامه الصور الحسية التي تختزنها الذاكرة.. وهذا حال المحسوسات، فما هو مصير المعقولات.. أو الضرورات العقلية؟

لقد ذكر أستاذي الغزالي تلك الشكوك التي راودته حول العقليات، فقال: (فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً، موجوداً معدوماً واجباً محالاً)([20])‏

قلت: وقد ذكر ذلك أستاذي ديكارت، فقال: (في حين أن الحساب والهندسة وما شاكلهما من العلوم التي لا تنظر إلا في أمور بسيطة جداً وعامة جداً، دون اهتمام كثير بالوقوف على مبلغ تحقق هذه الأمور في الخارج أو عدم تحققها، إنما تشتمل على شيء يقيني لا سبيل إلى الشك فيه: فسواء كنت متيقظاً أو نائماً هناك حقيقة ثابتة وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً، وليس يبدو في الإمكان أن حقائق بلغت هذه المرتبة من الوضوح والجلاء يصح أن تكون موضع شبهة خطأ أو انعدام يقين)([21]) ‏

قال: لكن أستاذي لم يلبث حتى أصابه الشك في تلك الضرورة العقلية أيضا، وقد قال معبرا عن ذلك الشك: (لعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الأمر لا يدل على استحالته)([22])

‏قلت: وقد عرض نفس ذلك الشك على أستاذي ديكارت، فقال: (ومع ذلك فإن معتقداً قد رسخ في ذهني منذ زمن طويل، وهو أن هناك إلهاً قادراً على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود، فما يدريني لعله قد قضى بأن لا يكون هناك أرض ولا سماء ولا جسم ممتد ولا شكل ولا مقدار ولا مكان، ودبَّر مع ذلك كله أن أحس هذه الأشياء جميعاً، وأن تبدو لي موجودة على نحو ما أراها؟ بل لما كنت أرى أحياناً أن أناساً يغلطون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها، فما يدريني لعله قد أراد أن أغلط أنا أيضاً كلما جمعت اثنين إلى ثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما)([23]) ‏

وقال: (إذن فسأفترض، لا أن الله ـ وهو أرحم الراحمين وهو المصدر الأعلى للحقيقة ـ بل إن شيطاناً خبيثاً ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل ما أوتي من مهارة لإضلالي، وسأفترض أن السماء والهواء والأشياء الخارجية لا تعدو أن تكون أوهاماً وخيالات قد نصبها ذلك الشيطان فخاخاً لاقتناص سذاجتي في التصديق، وسأعد نفسي خلواً من اليدين والعينين واللحم والدم، وخلواً من الحواس، وأن الوهم هو الذي يخيل لي أني مالك لهذه الأشياء كلها وسأصر على التشبث بهذا الخاطر) ([24]) ‏

***

قال: أرى أن كلا الأستاذين قد مرا بنفس التجربة.. فلذلك لا أظن أنك ستجد عندي ما لم تجد عنده.

قلت: اذكر لي ما عندك.. وكيف خرج أستاذك من الشك إلى اليقين لعلي أنتفع به؟

قال: اذكر لي أنت أولا كيف خرج أستاذك.. لأن المخرج الذي خرج به أستاذي يحتاج إلى الكثير من العمل.

قلت: لقد ذكر أستاذي المخرج الذي خرج به من ذلك.. فقال: (ولكنني سرعان ما لاحظت وأنا أحاول على هذا المنوال أن أعتقد بطلان كل شيء، أنه يلزمني ضرورة، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئاً من الأشياء، ولما رأيت هذه الحقيقة، أنا أفكر، إذن أنا موجود، هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين. مهما يكن فيها من شطط حكمت بأني أستطيع مطمئناً أن أتخذها مبدأ أول للفلسفة التي كنت أبحث عنها)([25]) ‏

قال: أما أستاذي، فقد خرج من ذلك باعتقاده بالهداية الإلهية التي تنزلت عليه بعد أن امتلأ فقرا إلى الله وحاجة إليه، وبعد أن تألم ألما شديدا نتيجة ذلك الحجاب الذي ابتلي به، وقد قال معبرا عن ذلك: (ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيَّق رحمة الله تعالى الواسعة)([26]) ‏

قلت: ولكن.. هل ذلك خاص به.. أم هو عام لكل من عرض له من الشك ما عرض له؟

قال: جلت رحمة الله أن تفرق بين الفقراء والمحتاجين.. ألا ترى رزق الله يشمل الجميع؟

قلت: ولكن كيف خصته العناية دوني.. فأنا لا أزال أسير شكي.. وقد سرت البلاد، وخدمت العباد.. ولما يزل شكي.

قال: لقد مررت بنفس تجربتك.. وأتيت شيخي وأستاذي الغزالي، وأخبرته عن ذلك، فقال لي: يا بني أنت محتاج لأن تعدل في جهاز استقبالك للحقائق.. ذلك أنه لا ينكر أحد الحقائق أو يشك فيها إلا بسبب خلل حصل لوجدانه، فجعله لا يرى الحقائق، أو جعله يبصرها بصورة مشوهة.

قلت: أكل الملاحدة والمشككين واللاأدريين حصل لهم هذا؟

قال: أجل.. ولولا ذلك ما أنكروا الحقائق، فلها من الوضوح والقوة ما لا يستطيع أن يجادل فيه مجادل.

قلت: كيف ذلك؟

قال([27]): اعلم ـ يا بني ـ أن القلب أو العقل الذي نتلقى بواسطته المعارف يشبه المرآة، والحقائق لها من الجمال والصفاء مثلما للمرآة.. فإذا قابلت مرآة القلب والعقل الصافية بمرآة الحقائق حلت صور إحداهما في الأخرى.

قلت: فلم لا يحصل ذلك لكل الناس.. وتنتهي الشكوك، وينتهي معها الإلحاد، وكل أنواع الضلال؟

قال: بسبب علل تحصل في مرآة العقل والقلب تحول بينه وبين رؤية الحقائق.

قلت: فما هي؟

قال: إن هذا يستدعي البحث عن الحجب التي تحول بين مرائي الناس والصور المقابلة لها.. وإدراك ذلك بسيط لا يستدعي إلا التأمل في سر عدم انكشاف الأشياء للمرآة الحسية مع وجودها، ووجود الأشياء حولها.. فأخبرني عما تراه من أسباب ذلك.

قلت: ربما لا تنكشف للمرآة الصورة بسبب نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل.. وربما يكون لكدورة المادة التي صنعت منها المرآة، وإن كانت تامة الشكل.. وربما لكونها معدولاً بها عن جهة الصورة إلى غيرها، كما إذا كانت الصورة وراء المرآة.. وربما لحجاب مرسل بين المرآة والصورة.. وربما للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.

قال: فهكذا مرآة القلب.. فهي تحجب عن الحقائق بالأسباب الخمسة التي ذكرتها.. أما أولها، فهو نقصانها في ذاتها كقلب الصبي، فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه..

وأما الثاني، فلكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه..

وأما الثالث، فأن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة، فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً، فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب..

وأما الرابع، فالحجاب.. فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد..

وأما الخامس، فالجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب، فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار، فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث.

قلت: أهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور؟

قال: أجل.. فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق، لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف.

***

قلت: ولكن العجب لا يزال يحول بيني وبين فهم ما تقول.. فأنت بقولك هذا تجعل الإنسان تلميذا لمصادر خارجية غير العقل وغير الحواس.. بل غير أساتذته الذين يدرس على يديهم.

قال: أجل.. ففي وجداننا من الأساتذة والمعلمين والمربين من يغنونا عن كثير من المدارس التي تراها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا قد يقرب لك هذا.. لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض، فإنه يحتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر.. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار.. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.

قلت: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه؟

قال: كما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة، فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ، ثم أخرج إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء والأرض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ.

قلت: لكأن للعالم ـ بحسب ما تصفه ـ أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي.. أي وجود صورته في الخيال.. ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي.. أي وجود صورته في القلب.

قال: أجل.. وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية، والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض.. وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها تنطبع صورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب.

قلت: وعيت هذا.. لكن لا يزال في نفسي بعض الغموض.

قال: أعلم ذلك.. وسأوضحه لك بهذه الحكاية.. روي في الحكايات أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور، فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياً ويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك من قولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ؟ فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التقصيل.

قلت: إن هذا مثال جميل.. فما تفسيره؟

قال: إن عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم.

***

قلت: فكيف نعرف هذه الطريق، ونتأكد من وجودها؟

قال: هذه الطريق لا يفهم إلا بالتجربة، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم.. والواجب التصديق بها حتى لا تحرم منها.. ومن لم يبصر لم يصدق، كما قال تعالى:{ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (يونس:39)، وقال:{ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)(الاحقاف: من الآية11)

قلت: فكيف تتسنى لي التجربة؟.. ها أنذا بين يديك، فسد عني أبواب هذه الشكوك التي تكاد تقتلني؟

قال: لابد أولا من أن تخلص المجاهدة والرياضة، وتتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة.. فإن معرفة الله كنز ثمين، وجوهر طاهر، وهي لا تحل إلا بأصحاب العقول والقلوب الطاهرة.

قلت: فهبني فعلت ذلك.. فما أفعل بعده؟

قال: حينها تتوجه إلى الله.. وتفتح عين الباطن وسمعه، وتردد بكل شوق: (الله – الله – الله).. وحينها سيفتح فضل الله عليك.. ويكشف عن عقلك وقلبك الحجب لترى الحقائق واضحة لا تحتاج أي دليل يدل عليها.. وهل يحتاج النهار إلى دليل؟

عندما قال لي هذا، رحت أصحبه، وأمارس كل ما يطلبه مني من أنواع الرياضات.. وقد فتح الله علي بسبب ذلك من غير أي معاناة.. بل أضاف لي من فضله من الأذواق والمواجيد ما لا يساويه أي نعيم من نعم الدنيا.

***

بعد أن حكى لي تلميذ الغزالي حكايته هذه شعرت بشوق عظيم للقيام بنفس التجربة التي قام بها.. وما هي إلا أيام معدودات حتى رأيت الحقائق أوضح من أن أتكلف أي دليل يدل عليها.

وقد شعرت حينها بمدى صدق أولئك الأولياء الذين كنت أسخر منهم، وأعتبرهم أبعد الناس عن العقل، بينما كانوا أكثر الناس استعمالا له.. فقد كانوا يرددون كل حين مخاطبين ربهم عز وجل:

لقد ظهرت فلا تخفي على أحد

   إلا على أكمه لا يبصر القمرا

لكن بطنت بما أظهرت محتجباً

   وكيف يعرف من بالعزة أستترا

***

ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتشرت أنوار لطيفة على تلك الروضة الجميلة التي اجتمعت فيها كل تلك النفوس الطاهرة، والأرواح السامية، والعقول الكبيرة، وقد سرى أريج تلك العطور إلى كل لطائفي، فحلت به الكثير من العقد التي كنت أحاول كل جهدي فهمها، فلا أفهمها.

وحينذاك عرفت أن الله تعالى أقرب إلينا من أنفسنا، وأننا لوخلعنا حجب الكبرياء والغفلة والغرور والجهل التي تحول بيننا وبينه، فإننا لن ندرك وجوده فقط، بل ندرك معها عظمته ولطفه وكرمه.. بل فوق ذلك يصبح لنا من العلاقة به والتواصل معه ما يملأ حياتنا بالسعادة والطمأنينة والسلام.

وأدركت مع ذلك أيضا غبن أولئك الذين يسارعون لرفض الأدلة والبراهين الدالة على وجود الله وعظمته دون أن يسمحوا لأنفسهم بلحظة تبصر أو تأمل حتى ترى مدى مصداقية تلك الأدلة.. في نفس الوقت الذي نراهم فيه يستعملون كل وسائل التحقيق من أجل بعض مصالحهم الزائلة الباهتة التي لا تساوي شيئا أمام الله.

وحين أدركت هذا عرفت عزة الله، وأنهم ما حجبوا عنه إلا بسبب حجبه لهم، فهو أكرم من أن يعرفوه.. وهو أعز من أن يتصلوا به.. فجناب الله العظيم عزيز لا يناله إلا من طهرت نفسه، وسلم عقله، وسمت روحه.


([1]) قصة الحضارة: 1 / 99..

([2]) قصة الحضارة: 1 / 99..

([3]) كتاب جامعه شناسي : 192.

([4]) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

([5]) البرهان اللمِيُّ هو: ما يكون الحد الأوسط فيه علةً لثبوت النتيجة في الذهن والخارج.. والبرهان الإنِّيُّ هو: ما يكون الحد الأوسط فيه علةً لثبوت النتيجة فقط.

ومن الأمثلة على البرهان اللمِيُّ قولنا: هذه الحديدة ارتفعت حرارتها.. وكل حديدة ارتفعت حرارتها فهي متمددة.. فهذه الحديدة إذن متمددة.. فالحد الأوسط في هذا البرهان هو ارتفاع الحرارة، وهو سبب وعلة إثبات النتيجة..فهذا برهان لمي مأخوذ من كلمة [لم] الدالة على السببية، لأن الحد الأوسط هو علة لإثبات النتيجة في الذهن، وهو بنفس الوقت علة حقيقية لثبوت التمدد في الخارج.

ومن الأمثلة على البرهان الإنِّيُّ قولنا: هذه الحديدة متمددة.. وكل حديدة متمددة مرتفعةُ الحرارة.. فهذه الحديدة مرتفعة الحرارة.. فإن الحد الأوسط هنا وهو التمدد علة لإثبات النتيجة، ولكنه ليس علة ارتفاع الحرارة بل بالعكس هو معلول وعلته هي ارتفاع الحرارة..فهذا برهان إنِّي منسوب لكلمة إنّ التي تدل في اللغة على التحقيق والثبوت.

([6]) ذكر العلامة الطباطبائي هذا التقرير في كتابه [أصول الفلسفة]

([7]) سمي بذلك، وبالبرهان الأنطولوجي، لأن الفلاسفة الغربيين – وعلى رأسهم الفيلسوف كانط – أسموا مجمل منظور أنسيلم ومن على شاكلته بالبرهان الأنطولوجي أي البرهان الوجودي المتأسس في تكوين يقينياته على الوجود بين الضرورة والإمكان.

([8]) استفدنا المعلومات الواردة هنا من مقال بعنوان: البرهان الأنطولوجي عند أنسيلم، عبد العالي العبدوني.

([9]) نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط: أوغسطين – أنسيلم – توما الأكويني، حسن حنفي ، ص 137.

([10]) إميل برهييه في تاريخ الفلسفة (3/51)

([11]) الثناء المذكور هنا هو للعلامة مصطفى صبري في كتابه [موقف العقل والعلم] الذي يذكر إعجابه به كل حين، ويتعجب من عدم اهتمام المصريين في زمنه به في نفس الوقت الذي يهتمون بكانط.

([12]) المطالب والمذاهب، (ص: 68).

([13]) هذا الاستدلال في إثبات وجود الله للفيلسوف بوسسوئه، وهو يشبه ما يطرحه ديكارت..

([14]) الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ص 97. وانظر:دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، د/ يحي هويدي، ص 46.

([15]) انظر: الفصل لابن حزم 1/83-84.

([16])  المنقذ من الضلال (ص: 110)

([17])  التأملات في الفلسفة الأولى، رينه ديكارت، ص53.

([18]) المنقذ-ص30.‏.

([19]) التأملات – ص 55.

([20]) المنقذ-ص29‏.

([21]) التأملات – ص 56-57.‏.

([22]) المنقذ –ص29-30.‏.

([23]) التأملات ص 57.‏.

([24]) التأملات ص 57.‏.

([25]) مقالة في الطريقة- ص134.‏.

([26]) المنقذ من الضلال –ص31.‏.

([27]) ما نذكره من حقيقة العلم اللدني والاستدلال له مستفاد من مراجع مختلفة للغزالي منها (الإحياء)، و(كيمياء السعادة)، و(معارج القدس في معرفة النفس).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *