المحدودية.. والامتداد

المحدودية.. والامتداد

بعد أن انتهى السادس من حديثه، قال السابع، وهو يلتفت لي: وأخيرا وصل الدور لي.. ولهذا سأحدثك بحديثي الذي لا يمكن أن يضاهيه أي حديث من أحاديث زملائي، فهو يفوقهم جميعا، ذلك أنك سترى فيه من بدائع الصنعة الإلهية ما يفوق بملايين المرات كل ما نراه ونعيشه.. بل إنه يتجاوز بملايين المرات كل ما نتخيله أو نحلم به.

ذلك أن كل أحاديث زملائي ـ مع احترامي لهم ـ لم تكن تتجاوز حديث هذه الأجساد التي نعيش فيها، كما تعيش الكائنات من حولنا.. لكن حديثي عن عالم الروح الذي هو أوسع بكثير من عالم الجسد.. وهو حديث أيضا عن عالم الامتداد بدل عالم المحدودية.

قلت: ما تقصد بعالم الامتداد.. وما الفرق بينه وبين العالم المحدود؟

قال: العالم المحدود، هو ما نعيشه من فترة زمنية ضيقة جدا في هذه الحياة الدنيا.. وهو كذلك ما نشعر به ونراه ونعيشه من أجسادنا المحدودة الممتلئة بالضعف والقصور.. وهو ما نعرفه كذلك من صور الحياة التي رأيناها على كوكبنا الذي نعيش فيه.. والذي توهمنا أنه وحده الكوكب الحي، وما عده ميت.

قلت: وعالم الامتداد؟

قال: هو العالم الذي لا زمان فيه.. ولا ضيق.. ولا جسد محدود.. بل فيه من القوى والطاقات ما لا يمكن تصوره.

قلت: لكن ذلك محجوب عنا، فكيف وصلت إليه؟

قال: لقد جعل الله شعوري بوجود هذا العالم سببا لبحثي عنه.. فأنا مع اهتماماتي الكثيرة بعلم الحياة، بل مع تخصصي فيها كنت أشعر بحاجتي إلى عالم أوسع، وأكثر إطلاقا، حتى أتمكن فيه من تلبية حاجاتي التي لا يمكن لهذا الزمن القصير أن يلبيها، ولا لهذا الجسد الضعيف أن يطيقها.

قلت: فهل وجدته؟

قال: أجل.. وجدته..ووجدت أن الأدلة والبراهين الدالة عليه أقوى بكثير من كل تلك الأدلة التي يستعملها أصحابي من الماديين لإثبات أمور لا حقيقة لها.

قلت: لكني أرى علماء الحياة يعرضون عن الحديث في مثل هذه الأمور لكونها من غير تخصصهم.

قال: أنا بحثت في هذه الأمور بكوني إنسانا.. ولا يمكن للإنسان أن يظل سجين تخصصه.. لكن تخصصي أعانني على فهم الكثير من الأمور.. بل اكتشاف الكثير من الأدلة التي لم أكن لأكتشفها لولا تخصصي.

قلت: فهل ستحدثني عن ذلك؟

قال: أجل.. سأحدثك عما تطيقه، ويطيق أكثر الناس.. أما ما عدا ذلك، فإنه لم يؤذن لي به.

الامتداد المكاني:

اعتدل صاحبنا السابع في جلسته، وحمد الله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم قال: أول حكايتي تبدأ من ذهابي مع بعض أصدقائي من علماء الفلك والطبيعة والنفس والاجتماع وغيرهم إلى صديق لنا سمعنا بتحوله إلى الإسلام.. فرحنا إليه جميعا نستفسر منه سر ذلك.. وفي أنفسنا أننا يمكننا بالحوار معه أن نحوله إلى ما كان عليه، وإلى ما كنا عليه جميعا.

لكنه استطاع بقوة حجته، ولطفه وأدبه، أن يجعلنا جميعا نعيد تفكيرنا في كل المعتقدات التي كنا نعتقدها، ونتصور أنها الحق المطلق.

طبعا لن أحدثكم بكل حديثنا معه، فقد ذكر أصدقائي الكثير مما ذكره لنا.. ولكني سأقتصر من حديثنا معه على ما يرتبط بتلك الامتدادات التي ذكرتها لكم.

قلت له ([1]) ـ بعد أن أثبت لنا بكل أنواع الأدلة عدم مصداقية نظرية التطور ـ: فلنفرض أن نظرية التطور انهارت.. فما البديل العلمي الذي تراه؟

قال: كل الأدلة العلمية تشهد لله بأنه مصمم الحياة.. ولذلك فالبديل العلمي بكل بساطة هو أن كل حي من الأحياء خلقه الله عالما قائما بذاته ليؤدي دورا معينا في هذه الحياة.. ولهذا فإن الله يعبر عما نراه من أشياء بأنها عوالم قائمة بذاتها.. لكل عالم طبيعته وخصائصه، ففي أول سورة من القرآن الكريم نجد قوله تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الفاتحة:2)

بل إن الله يعتبر كل حي من الأحياء أمة قائمة بذاتها، كما قال تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } (الأنعام:38)

والله تعالى يعتبر التنوع مقصودا من أول الخلق، فهو يقول:{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (النور:45)، وقال: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } (لقمان:10)، وقال:{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } (الشورى:29)

تأثرت كثيرا لسماعي تلك الآيات القرآنية، فقد كانت أول مرة أسمعه فيها.. لقد سمعت الله وكأنه يخاطبني مباشرة، ويدعوني للتخلي عن كبريائي والبحث عن الحقيقة..

لست أدري كيف رحت أقول لصاحبي المؤمن بكل تواضع: هل في قرآنكم شيء عن الحياة، غير ما ذكرت؟

قال: أجل.. القرآن الكريم كله حديث عن الحياة وأركانها وأسرارها وأنواعها وامتدادها في الزمان والمكان..

قلت: امتدادها في الزمان والمكان!؟.. ما الذي تقصد بذلك؟

قال: علوم الحياة التي تعرفونها تعطي الحياة صورة واحدة لا تتصور إمكانية الحياة فيما عداها.

قلت: أجل.. علم الحياة كله يقوم على هذا.

قال: ولكن هذا العلم بهذه الصورة ينطوي على كبر عظيم..

قلت: العلم هو الحقيقة.. والحقيقة لا ينبغي أن تحمل أي كبر.

قال: الكبر ليس في العلم.. وإنما فيمن يدعيه.

قلت: ما الذي تقصد؟

قال: لو تأملت جميع فترات التاريخ البشري، فإنك تجد كل فرد من الأفراد، بل كل أمة من الأمم تتصور أن ما عندها من العلم هو الحقائق التي لا تقاوم، فلذلك تفرح بها، وتتيه، وتقاوم كل من يقف في وجهها.

القرآن الكريم يذكر هذا، فهو يذكر أن تلك القرى التي جاءتها أنبياؤها بالعلم الإلهي الذي لا يعتريه التغيير والتبديل رفضت العلم الإلهي مستغنية بعلمها، قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (غافر:83)

مع أن عملهم ليس إلا مرحلة بسيطة في التطور العلمي، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (لنجم:30)

قلت: ما الذي تقصد من كل هذا؟

قال: أقصد أن من العلم ما لا نستطيع إثباته في المخابر.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لأن المخابر تعتمد على عقولنا، وعلى ما وصلت إليه عقولنا من مكتشفات، فلذلك تعجز هذه المخابر عن التعرف على حقائق كثيرة يمتلئ بها الكون.

قلت: فمن أين نستقي تلك المعلومات إذن؟

قال: من الله.. أليس هو مبدع كل شيء؟

قلت: فلنفرض صحة ذلك.. فما علاقته بهذا؟

قال: إن المبدع دلنا على أسرار إبداعه وأنواع مبدعاته.

قلت: ولكن كلام المبدع دين.. ونحن نتحدث عن العلم.. وشتان بين العلم والدين.

قال: لا.. الدين مصدر من مصادر العلم.. بل هو المصدر الأعلى للعلم.. فالله تعالى يقول:{ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الملك:26)

فالله هو مصدر العلم.. وخزائن العلوم بيد الله.. وهو يفيض علينا منها كل حين بحسب استعداداتنا.

قلت: فلنفرض صحة هذه المقدمات التي ذكرتها.. ما الذي ترمي من خلالها.

قال: أرمي إلى ما طلبت مني الحديث عنه.

قلت: تقصد (امتداد الحياة)!؟

قال: أجل.. لأن العلم بامتداد الحياة الزماني والمكاني يقتضي التسليم لله بالعلم..

قلت: لم؟

قال: لأن هذه المعلومات لن نستطيع إثباتها في المخابر.

قلت: ولكن عقولنا لن تستطيع التسليم لما لم نستطع إثباته.

قال: بل تستطع التسليم بكل سهولة بشرط واحد.

قلت: ما هو هذا الشرط؟

قال: الثقة..

قلت: ما معنى ذلك؟

قال: إذا وثقت في مصدر المعلومة سلمت لها.. فلذلك إذا وثقت في الله وفي كتاب الله سلمت له ما يذكر لك من الحقائق، ولو لم تره بعينك.

قلت: لا أرى أني أستطيع التسليم لشيء لا يلمسه عقلي..

قال: بل أنت تسلم للكثير.. بل إنه لا يمكن أن يتعلم أحد من الناس ما لم ينطلق من التسليم لمن يتعلم على أيديهم..

وكمثال بسيط أنت تسلم لجميع أصدقائك من العلماء في كل ما يذكرونه من العلم مع أنه لم تتوفر لديك الأدوات الكافية لتقتنع بما يقولون.. أليس ذلك صحيحا؟

قلت: أجل.. وإلا فإن ذلك سيتطلب مني أن أدرس كل العلوم.. والعمر يفنى دون ذلك.

قال: أنت تسلم لصديقك الفلكي ما يذكره عن الأفلاك الواسعة مع أنك لم ترها مرة واحدة في حياتك، وتسلم لصديقك الجيولوجي ما يذكره عن تاريخ الأرض مع أنك لم تعش تلك الأزمان التي يذكرها.

قلت: أجل..

قال: فكيف سلمت لهم؟

قلت: ثقة فيهم، وفيما لديهم من العلم.

قال: وكيف وثقت فيهم؟

قلت: رأيتهم يجيبوني عن الأسئلة التي تحيرني بأدلة منطقية يتقبلها عقلي.

قال: فاعتبر الله أستاذا من أساتذتك.

انتفض الفلكي، ومثله الجيولوجي..وصحت: ما الذي تقوله؟.. الله رب.. وليس أستاذا؟

قال:أتنزه الله عن الأستاذية.. أم تنزه الأستاذية عن الله؟

سكت، فقال:الله هو المعلم.. القرآن الكريم يذكر ذلك كل حين ففي أول ما نزل من القرآن الكريم هذه الآية:{ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:5)

قلت: فلنفرض أني أسلم لك بكل هذا.. فهل ترى أن الله علمنا من علوم الحياة ما لم نصل إليه؟

قال: أجل.. كما علمنا الله أصل الحياة.. فهو يعلمنا امتدادها.

قلت: ما الذي تقصد بامتدادها؟

قال: الحياة أعمق من أن تنحصر فيما تخبرنا به المخابر.. هي أعمق مكانا، وأعمق زمانا.

قلت: ما الذي تريده بالعمق أو الامتداد المكاني.. فإني أراك قدمت كل تلك المقدمات لأجل إثباته.

قال:أنتم تتساءلون كثيرا، وبلهفة كل حين قائلين:(هل توجد حياة في الفضاء؟)

قلت: لا أنكر ذلك.. وأنا شخصيا أميل إلى وجود حياة في الفضاء الخارجي.. وقد سألني أحدهم مرة قائلا: أليس غريباً أنكم تتحدثون عن وجود حياة خارج الأرض في الكون؟ فأجبت على الفور: إن الغريب ألا نتحدث عن وجود مخلوقات في الكون، لأننا لسنا الوحيدين في هذا العالم.

ولست الوحيد في ذلك، فمنذ صعود الإنسان إلى الفضاء الخارجي، وهو يحاول جاهداً اكتشاف حياة جديدة على كوكب غير الأرض.

وعلماء الفلك ـ اليوم ـ يؤكدون وجود هذه الحياة، فلدينا في الكون أكثر من عشرة آلاف مليون مليون مليون نجم، وهذه النجوم منها ما هو بحجم الشمس ومنها ما هو أكبر من الشمس وما هو أصغر منها. فاحتمال وجود مجموعات شمسية كشمسنا هو احتمال كبير وكبير جداً أمام هذا العدد الضخم من النجوم أو الشموس.

ومع بداية القرن الواحد والعشرين ازداد شيئاً فشيئاً اعتقاد العلماء بوجود حياة خارج الأرض في الفضاء، فلهذا تراهم يرسلون المراكب الفضائية محاولة منهم لكشف أي آثار للحياة في هذا الكون الواسع.

ومن آخر الرحلات رحلة باتجاه كوكب المريخ تكلفت أكثر من (800) مليون دولار.. وكان الهدف الأصلي منها البحث عن وجود حياة في ذلك الكوكب.

وقد بدأ العلماء منذ السبعينات من القرن العشرين بمحاولات للاتصال مع الفضاء الخارجي من خلال بث رسائل تتضمن معلومات عن كوكب الأرض.

ثم تطورت المحاولات في التسعينات من القرن العشرين من خلال ابتكار مراصد ضخمة يتم زرعها في الفضاء الخارجي لرصد الكواكب الشبيهة بالأرض.

لقد أصبحت مسألة وجود كواكب تدور حول نجوم شبه حقيقة، وذلك بعدما أمكن تطوير أجهزة الرصد الفضائي.

بل أصبحت مسألة كشف حياة وكائنات حيَّة على كواكب أخرى مسألة وقت، ولولا تأكد العلماء وإحساسهم القوي بوجود مخلوقات أخرى في الكون لما عملوا بجدّ للبحث عن هذه المخلوقات.

قال:فأنتم متأكدون من وجود الحياة في غير الأرض، ولكنه لم تتوفر لديكم الوسائل الكافية لإثبات ذلك.

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. وأنا وأكثر العلماء نؤمن بذلك.

قال:إن هذه الحقيقة التي تؤمنون بها من غير أن تستطيعوا إثباتها هي حقيقة مثبتة لدينا نحن المسلمين.

قلت: كيف ذلك؟

قال:لقد أخبرنا معلمنا العليم الخبير بها، بل أخبرنا بسجودها لله، فقال:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (النحل:49)

بل اعتبرها من آياته الدالة على عظمته وقدرته ولطفه، فقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى:29)

إن هذه الآية الكريمة تخاطبنا وتخاطب المستقبل.. وهي تدل على أنه يمكن أن يتعرف البشر على تلك العوالم..

وأنا من خلال هذه الآية الكريمة أوقن تماما أن الجهود التي تبذلها البشرية في هذا الميدان لن تذهب هدرا.. لأن هذه الآية لابد أن يقع تأويلها كما وقع تأويل جميع آيات الله.

لقد حلمت البشرية طويلا بالصعود إلى الفضاء الخارجي.. واستعملت كل الوسائل لأجل ذلك([2]).

قلت: وقد تحقق هذا الحلم في نهاية القرن العشرين عندما بدأت رحلة البحث العلمي، وبدأ آلاف العلماء في مشارق الأرض ومغاربها بكتابة أبحاثهم وإجراء تجاربهم حول آلية الخروج من الأرض، وما هي الخطوات التي يجب سلوكها لتحقيق ذلك.

قال:لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك.. حقيقة إمكانية الصعود.. بل وصف آلية ذلك، فقال:{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر:14 ـ 15).. فهذه الآية الكريمة تشير إلى من آلية الصعود، فقد ذكرت أبواب الغلاف الجوي، التي هي أبواب السماء، وذكرت الحركة التعرجية في الفضاء.

وفوق ذلك أخبرت بما عساه يقول من وفق لهذه الرحلة، لقد ذكرت أنهم يقولون:{ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا }.. وقد حصل هذا.. فقد أخبرنا به رواد الفضاء الذين صعدوا إلى القمر أن أول ما يصادفهم عند تجاوزهم الغلاف الجوي هو الظلام الشديد الذي يظن معه المرء أن بصره قد توقف.

حتى إن الأطباء المشرفين على سلامة هؤلاء الروَّاد وجدوا بأن الإنسان عندما يتحرر من الجاذبية الأرضية يتعطل العصب البصري لديه بشكل مؤقت، فلا يعود يرى شيئاً وكأن بصره قد أغلق، وهذا يحدث بسبب انعدام الجاذبية والذي يؤدي إلى خلل في الدورة الدموية والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان.

قلت: أسلم للقرآن بهذا.. فهل تستنتج منه حقيقة ما ذكره القرآن من إمكانية اطلاع الإنسان على أنواع الحياة المبثوثة في العالم الخارجي؟

قال:أجل.. فثقتنا في كتابنا تستدعي ذلك.. فهو لم يتنبأ بشيء إلا حصل كما تنبأ به.

قلت: أهذا ما تقصد من امتداد الحياة المكاني؟

قال:ليس هذا فقط.. أو بالأحرى هذا ما تفهمه أنت وغيرك من العلماء فقط.

قلت: فهل هناك غيره مما لا نفهمه؟

قال:لا أقصد رميكم بالقصور.. ولكن العلم الآخر الذي يرتبط بالحياة وأعماقها يستدعي ثقة في المعلم..

قلت: فلنفرض أنا وثقنا في معلمك هذا.. فما الذي دلنا عليه من أنواع الحياة وامتدادها؟

قال:أنتم تبحثون عن وجود حياة في الكون؟

قلت: أجل..

قال:لكن الحقائق الكبرى ـ التي تبينها الوثيقة الإلهية التي تنطوي على حقائق الوجود وأسراره ـ تخبر أن هذا الكون لا يحوي أحياء فقط، بل هو نفسه حي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.. أما ما نتصوره نحن من حياة فهو صورة فقط من صور الحياة، وهي صورة ارتباطات مادية حيوية بعضها ببعض.

وكما أن العلم الحديث يقر بوجود حياة في الخلية الواحدة، سواء كانت ضمن نسيج واحد أو كانت مستقلة منفردة، فكذلك تنبئنا النصوص الشرعية أن الكون كله حي جملة وتفصيلا، وكل ذرة فيه أو ما دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وجوده، كما أن له صورته التي نعرفه من خلالها.

قلت: أتقصد أن كل ما نراه من جمادات حي.. له حياة يعي بها؟

قال:أجل.. هذا ما تنبئنا عنه النصوص المقدسة..

قلت: ولكن الحياة تقتضي أشياء كثيرة..

قال:تلك الحياة التي نعرفها نحن.. أما الحياة في صورتها الحقيقية، فلا تستدعي ذلك.

قلت: كيف ذلك؟

قال:أنتم مثلا تلتزمون بأنه لا يمكن أن تكون هناك حياة من دون الأوكسجين؟

قلت: أجل.. فهو ضروري للطاقة التي يحتاجها الكائن الحي ليستمر وجوده.

قال:هذا بحسب وعينا.. ولكن الحقيقة غير ذلك.

قلت: كيف ذلك؟

قال:سأقرب لك الأمر.. ألا ترى أن الآلة الجامدة يمكن أن تتصرف تصرفات كثيرة.. بل قد تؤدي من الخدمات ما نعجز نحن عن أدائه، ولكنها مع ذلك لا تستنشق أوكسجينا، ولا تزفر كاربونا.

قلت: ولكنها مع ذلك لا تتصرف إلا في ضوء ما نوحي لها نحن به.

قال:إذا كنا نحن البسطاء الضعفاء استطعنا أن نحول من الآلة الجامدة متكلما بارعا، وشاشة رائعة، وذاكرة حية، بل معالجا ذكيا.. أفلا يستطيع مصمم هذا الكون أن يفعل ذلك؟

لم أجد بما أجيبه، فقال:ولذا.. فإن النصوص تخبرنا عن حياة الأشياء ووعيها.. بل ومشاعرها الفياضة..

فحياة الكون ـ كما تدلنا النصوص المقدسة ـ حياة عاقلة، فلذلك تمارس ما يمارسه العقلاء من صنوف التعبير عن المشاعر.. وقد ذكر القرآن الكريم أن الحياة العاقلة المدركة للعواقب هي التي منعت هذا الكون من قبول أمانة التكليف، كما قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

فلولا ما في الكون من طاقة الإدراك والاختيار ما عرض عليه هذا العرض الخطير، ولولاها ما أجاب هذه الإجابة الواعية.

وللحجارة من الوعي ـ كما يعبر القرآن الكريم ـ ما يجعلها تهبط من خشية الله، قال تعالى:{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} (البقرة: 74)

والجبل يخشع لنزول القرآن، قال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)

بل يندك لتجلي الله، قال تعالى:{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} (لأعراف: 143)

بل ينهد لسماع شرك المشركين، قال تعالى:{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} (مريم:90 ـ91)

الامتداد الزماني:

كان لحديثه من القوة والجمال ما جعلني وأصحابي نرغب في أن نستزيد منه، وإن كنا لم نتقبل حينها كل ما ذكره..

بعد أن أنهى حديثه عن الامتداد المكاني قلت له: وعيت مرادك بالامتداد المكاني، والعلم في الحقيقة لا يتكلم في هذا.. وإن شئت الصراحة، فإن العلم يكاد يسير نحو إثبات هذا.. فقد وجد في ذكاء الكائنات ابتداء من ذراتها ما يكاد يثبت له من القدرات ما نجهله جهلا مطبقا.. ولذلك فإن المنطق العلمي السليم هو الذي يتوقف في هذا الموضع.

قال:والمنطق الأسلم منه هو الذي يجد مصدرا موثوقا يستلهم منه الحقائق.

قلت: من وجد مثل هذا المصدر، فليعض عليه بالنواجذ.

قال:حدثتكم عن الامتداد المكاني الذي أوحت لنا به النصوص المقدسة.. ولعلكم في انتظار المراد من الامتداد الزماني.

قلت: أجل.. وأصدقك في هذا كما صدقتك في ذلك.. ولعل الجميع يشاركني في هذا.. فإن في كل نفس شوقا لهذا الامتداد الزماني الذي تتحدث عنه.. إن كل نفس ترغب في حياة دائمة مستقرة لا ينتابها الموت، ولا يقطعها الفناء.

قال صديقنا عالم النفس: أجل.. لقد قال البروفيسور (كنجهام) يذكر هذا: (إن عقيدة الحياة بعد الموت لا أدرية مفرحة.. ومن الممكن اعتبار هذا القول خلاصة أفكار فلاسفتنا الملحدين المعاصرين؛ فهم يرون أن عقيدة الآخرة اخترعتها عقلية الإنسان الباحثة عن عالم حر، مستقل عن حدود هذا العالم، ومشكلاته، مليء بالأفراح.. وإنما يدفعه إلى الايمان بهذه العقيدة أمله في الحصول على حياته المفضلة، التي لاجهد فيها ولاكدح.. وأن هذه العقيدة تنتهي بالإنسان إلى عالم مثالي وخيالي، حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الموت. ولكن الحقيقة كما يراها الفلاسفة أن لاوجود لشيء كهذا العالم الثاني في الأمر الاقع)

قال صديقنا المؤمن: لكن يمكننا اعتبار هذا المطلب الإنساني في حد ذاته دليلا نفسيا قويا على وجود عالم آخر، كالظمأ، فهو يدل على الماء، وعلى علاقة خاصة باطنة بين الماء وبين الإنسان.. وهكذا فان تطلع الإنسان نفسيا إلى عالم آخر دليل في ذاته على أن شيئا مثل ذلك موجود في الحقيقة، أو أنه على الأقل خليق أن يوجد. وهذا المطلب النفسي يؤكد علاقة مصيرنا بهذه الحقيقة، ويدلنا التاريخ على وجود هذه الغريزة الإنسانية منذ أقدم العصور على مستوى انساني، وهو أمر لا أستطيع فهمه: كيف يمكن أن يؤثر أمر باطل على البشر في هذا الشكل الأبدي، وعلى مستوى انساني؟ وهذا الواقع نفسه يدلنا على قرينة قوية بامكان وجود العالم الآخر. وانكار هذه الحاجة النفسية، بدون أدلة، يعتبر جهلا وتعصبا.

إن الذين ينكرون حاجة نفسية عظيمة مثل هذه زاعمين أنها باطلة، هم من أعجز الناس حقا عن تفهم أي (واقع) على سطح الأرض بعد هذا.. ولو كانوا يزعمون الفهم في الواقع فلاأدري بأي دليل؟… وعن أي برهان؟

قال واحد منا، وكان عالم اجتماع: ألا يمكن أن تكون هذه الأفكار نتاج المجتمع؟

قال: لو كانت كذلك، فكيف لاتزال تطابق التفكير الإنساني، بهذه الصورة المدهشة، من أقدم العصور؟.. هل تجدون مثالا لأية أفكار إنسانية أخرى ظلت باقية إلى العصر الحاضر، وبهذا التسلسل الرائع منذ ألوف السنين؟.. هل يستطيع أذكى أذكيائهم أن يخترع فكرا واهيا، ثم يدخله إلى النفس الإنسانية، وكأنه موجود بها منذ الأزل؟.

إن لكل انسان أماني كثيرة لاتكلل بالنجاح في حياته، انه يتمنى حياة أبدية، ولكن الحياة التي أعطيت له تخضع لقانون الموت.. والعجيب أن الإنسان عندما يكون على أبواب حياة ناجحة عظيمة، بعدما كسب من العلم والمعرفة، والخبرة والتجارب الثمنية، حينئذ تداهمه دعوة الموت..

لقد أكدت إحصائية عن تجار لندن الناجحين أن أمرهم يستقر فيما بين 45 -65 سنة من أعمارهم، ثم يبدأون يربحون مابين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف جنيه في السنة، وفي ذلك الوقت الثمين فجأة تتوقف حركات قلوبهم ذات مساء، أو ذات صباح، فيرحلون إلى عالم مجهول، تاركين تجارتهم الممتدة إلى ماوراء البحار..

قلت: صدقت في ذلك، وقد قال الأستاذ [وينوود ريد] يذكر هذا المعنى: (إنه لأمر هام يدعونا إلى التفكير فيما إذا كانت لنا علاقة شخصية مع الإله؟ هل هناك عالم غير عالمنا هذا؟ وهل سوف نلقى جزاء أعمالنا في ذلك العالم؟ إن هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب، وإنما هو في نفس الوقت أعظم أسئلتنا العملية أيضا.. إنه سؤال تتعلق به مصالحنا الكثيرة؛ فحياتنا الراهنة قصيرة جدا، أفراحها عادية موقوتة، إذ أننا عندما نظفر بما نحلم به، يفاجئنا الموت، ولو استطعنا الاهتداء إلى طريق خاصة تجعل أفراحنا دائمة وأبدية، فلن يرفض العمل به أحد غير البله والمجانين منا)

لكن الكاتب نفسه يستطرد فينكر ذلك المطلب النفسي الكبير من أجل أمور لاوزن لها ولاقيمة؛ فهو يقول: (إن هذه العقيدة كانت معقولة جدا حين كنا لانبحث جوانبها بعمق وجد.. ولكن بعد هذا البحث اتضح لنا أنها أمر سخيف، ويمكن اثبات سخافته بسهولة، فالفلاح المحروم العقل الجاهل لايتحمل مسؤولية خطاياه، وسيدخل الجنة، ولكن العباقرة مثل (جوته)، و(روسو)، سوف يحترقون في نار الجحيم؛ فلأن يخلق الإنسان محروم العقل خير له من أن يكون من أمثال جوته وروسو!! ان هذا الكلام تافه وسخيف)

قال صديقنا المؤمن: ما أشبه ما قاله [وينوود ريد] بالموقف الذي اتخذه [اللورد كلوين] تجاه التحقيق العلمي الذي قام به [ماكسويول]؛ فقد زعم اللورد أنه لايستطيع أن يفهم نظرية ما إلا بعد وضع نموذجها الميكانيكي، وبناء على هذا الفرض أنكر نظرية ماكسويل عن البرق والمغناطيس، لأنها لم تحل في أحد نماذج اللورد المادية..

إن مثل هذه المواقف والادعاءات الخرافية أصحبت غريبة في عالم الطبيعة الحديثة.. وقد تساءل العالم الكبير [سوليفان] قائلا: (كيف يروق لأحد أن يدعي أن الطبيعة لابد أن تكون كما يضعها مهندس القرن التاسع عشر في معمله؟)

وهذا نفسه يقال للأستاذ [وينوود ريد].. حيث يقال له: (كيف يجوز لفيلسوف القرن العشرين أن يرى أن يكون الكون الخارجي، في حقيقة الأمر مطابقا لما يزعمه هو؟)

إنه لم يستطع أن يفهم أمرا في غاية البساطة.. وهو أن الحقيقة لاتحتاج إلى الواقع الخارجي، وانما الواقع الخارجي هو الذي يكون في حاجة إلى (الحقيقة).. فالحقيقة أن لهذا الكون إلها، وسوف نمثل أمامه يوم الحساب.. فلابد لكل منا سواء أكان روسو أم كان مواطنا عاديا أن يكون وفيا ومطيعا لإلهه؛ فنجاتنا لن يحققها جحودنا، بل هي تكمن في إيماننا وطاعتنا.. والغريب أن [وينوود ريد] لم يرق له أن يطالب (جوته) و(روسو) أن يسلكا مسلك الحق، وانما طالب الحق بالتغير.. ولما لم يطع الحق راح ينكره.. وهذا اشبه بمن ينكر قانون حفظ الأسرار العكسرية، الذي يكرم أحيانا جنديا بسيطا، ويعدم عالما ممتازا، مثل (روزنبيرج وعقيلته الحسناء) بالكرسي الكهربائي.

سكت قليلا، ثم قال: لايوجد على سطح الأرض من يفكر في الغد غير الإنسان.. فهو يتميز عن سائر الحيوانات بدوام تفكيره في المستقبل، وجهاده المتواصل، وسعيه الدائب في سبيل تحسين أحواله. ولاشك أننا قد نجد بعض الحيوانات تعمل لمستقبلها؛ كالنمل الذي يدخر غذاءه للشتاء القادم؛ والطيور التي تصنع أعشاشا يسكنها أولادها بعد فقسهم، ولكن هذا العمل لدى الحيوانات صادر عن غير شعور بالمسؤولية؛ لأنها لاتقوم بهذه الأعمال لقلقها من مشكلات الغد، وانما تأتي بها طبيعيا، ومن ثم تنتفع بها في المستقبل فالتفكير في المستقبل يتطلب فكرا مدركا واعيا، وهو من ميزات الإنسان فحسب، ولايتمتع به شيء من الحيوانات غيره.

هذا الفرق الكبير بين الإنسان والحيوان يؤكد أنه لابد أن تكون للانسان مواقع أكثر بالنسبة إلى أي نوع آخر للانتفاع بها، فحياة الحيوانات هي ما تسمى (حياة اليوم)، ففكرة الغد لاتوجد عندها، ولكن مطالعة حياة الإنسان تقتضي (غدا)، ولو أنكرنا هذه الحاجة لخالفنا الطبيعة.

قلت: أنت تعلم أن بعض العلماء والفلاسفة يعتقدون أن خيبة آمال الإنسان في حياته الراهنة هي التي تجعله يفكر في حياة أفضل، وهم يرون أن هذا الفكر سوف يتلاشى لو أتيح للانسان مجتمع رفاهي كامل، ومن الأدلة الواقعية على ذلك أن عددا كبيرا من أسرى الروم اعتنقوا المسيحية لأنها وعدتهم بأفراح السماء.. ولذا تتوقع هذه الطائفة من العلماء والفلاسفة أن سعادة الإنسان ورفاهية المجتمع سوف تزداد أكثر فأكثر، إلى أن تقضي نهائيا على نظرية العالم الآخر.

قال صديقنا المؤمن: لكن تاريخ الأربعمائة سنة الأخيرة التي ازدهرت فيها العلوم والتكنولوجيا يكذب هذا التوقع؛ فان أول ما هيأ التقدم التكنولوجي للانسان أنه أتاح له وسائل عديدة، احتكرتها أيد محدودة، قامت بدورها باستغلالها، وقضت على صغار العمال والحرفيين، وحولت تيار الثروات إلى كنوزها، وخزائنها، وجعلت من الشعب عمالا فقراء معوزين، ويمكن مطالعة هذه المناظر القبيحة التي جاءت نتيجة للتقدم التكنولوجي، في كتاب كارل ماركس (رأس المال)، الذي يعتبر ضجيجا للطبقة العمالية التي عاشت القرنين الثامن والتاسع بعد الألف، ثم بدأت ردود فعل هذا الضجيج، وتبعه كفاح طويل، قامت به المنظمات العمالية، حتى تحسنت الأحوال إلى حد ما.

ولكني أرى أن التغيير الذي طرأ على أحوال العمال ليس الا ظاهريا؛ فعامل اليوم يتقاضى أكثر مما كان يتقاضاه بالأمس، أما السعادة الحقة، فانه أكثر افتقادا لها من سلفه.. ذلك ان النظام التكنولوجي لم يعط الإنسان أكثر من مظاهر مادية، فهو لايملك القيم الروحية، حتى يمنح لأتباعه السعادة والطمأنينة القلبية.

لقد اعترف (برتراند راسل) قائلا: (إن حيوانات عالمنا يغمرها السرور والفرح، على حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة، ولكنهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث)

***

قلت: دعنا من علمائنا وفلاسفتنا.. فأنت تعلم مواقفهم.. وحدثنا عن المصدر المقدس الذي كنت تحدثنا عنه.

قال:لقد دلتنا مصادرنا الموثوقة على هذا.. فهي تبشرنا، كما تبشر كل النفوس بأن الحياة ليست لحظات تمر وتنقضي ليلف العدم بعدها الوجود.. بل هي دائمة ثابتة مستقرة، قد تتغير بعض صورها، ولكنها تبقى ولا تفنى([3]).

قلت: والموت.

قال:هو انقضاء لصورة من صور الحياة لتولد منها صورة جديدة من صورها.

قال رجل منا: ولكن.. ألا ترى أن مثل هذا ادعاء عظيم يكاد يكون أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة العلمية؟.. نعم إن أي عقل يحب وجود حياة بعد الموت.. ولكن العلم لا يدل على شيء من ذلك.

قال آخر بنوع من الهستيرية: لا… لا حياة بعد الموت، لأن الحياة التي أعرفها لا توجد إلا في ظروف معينة من تركيب العناصر المادية.. وهذا التركيب الكيماوي لا يوجد بعد الموت، إذن فلا حياة بعد الموت.. وبناء علي علم الأعصاب لا يمكن معرفة العالم الخارجي والاتصال به إلا عندما يعمل الذهن الإنساني في حالته العادية، وأما بعد الموت فهذا الإدراك مستحيل، نظرا إلى بعثرة تركيب النظام الذهني.

رد عليه صديقنا المؤمن بهدوء: ولكن هناك قياسات أخرى أقوى من هذا القياس؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادية في الجسم الإنساني لا تقضي على الحياة؛ لأن (الحياة) شيء آخر، وهي مستقلة بذاتها باقية بعد فناء الذرات المادية وتغيرها.

أنت تعلم أن الجسم الإنساني يتألف من خلايا كثيرة جدا ومعقدة، وهي مثل الطوب الصغير، ينبني منه هيكل أجسامنا.

ولكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا، فطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقي كما هو، نفس الطوب الذي صنع في المصنع، واستخدم في البناء للمرة الأولى، بينما يتغير طوب هياكلنا في كل دقيقة، بل في كل ثانية.

فالجسم الإنساني يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة.. ولذلك، فهو كالنهر الجاري المملوء دائما بالمياه، لا يمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة، لأنه لا يستقر، فالنهر يغير نفسه بنفسه دائما، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل ولكن الماء لا يبقي، بل يتغير.

وجسمنا مثل النهر الجاري، يخضع لعملية مستمرة حتى أنه يأتي وقت لا تبقي فيه أية خلية قديمة في الجسم، لأن الخلايا أخذت مكانها.

إن عملية فناء الجسم المادي الظاهري تستمر، ولكن الإنسان في الداخل لا يتغير، بل يبقي كما كان علمه وعاداته وحافظته وأمانيه وأفكاره، تبقي كلها كما كانت.

إنه يشعر في جميع مراحل حياته بأنه هو (الإنسان السابق)، الذي وجد منذ عشرات السنين، ولكنه لا يحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير، ابتداء من أظافر رجليه حتى شعر رأسه.

ولو كان الإنسان يعني الجسم لكان لازما أن يتأثر علي الأقل بفناء الخلايا وتغيرها الكامل، ولكننا نعرف جيدا أن هذا لا يحدث؛ وهذا الواقع يؤكد أن (الإنسان) أو (الحياة الإنسانية) شيء آخر غير الجسم، وهي باقية رغم تغير الجسم وفنائه، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخلايا بصفة دائمة.

قلت: لا يمكن التسليم بهذا الاستدلال، فالعقل، أو الوجود الداخلي الذي نسميه (إنسانا) ليس بشيء آخر، ولم يوجد إلا نتيجة علاقة الجسم بالعالم الخارجي، أما الأفكار والأماني فلا توجد خلال العمل المادي إلا كالحرارة التي توجد نتيجة احتكاك قطعتين من حديد.

إن العقل والمنطق ينكران (الروح) بشدة، و(الشعور) لا يوجد كوحدة، وإنما هو وظيفة، وتفاعل وتنسيق.

قال:ما دمت تقول هذا، وما دمت تعتبر أن هذه هي حقيقة الإنسان، فلنجرب أن نخلق إنسانا حيا ذا شعور، ونحن ـ اليوم ـ نعرف بكل وضوح جميع العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان، وهذه العناصر توجد في الأرض وفي الفضاء الخارجي، بحيث يمكننا الحصول عليها.

لم أدر بما أجيبه به، فقال:دعنا من هذا.. وربما سترى في مستقبل أيامك من يثبت لك وجود الروح بالمنطق الذي تفهمه.. أما نحن الذين من الله علينا بالثقة فيه، فنعلم أن لنا أرواحا تبقى بعد اختلاط أجسادنا بالتراب.. ونعلم كذلك أن هذه الروح من أمر الله:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)

إن الله يخاطبنا في هذه الآية بالمنطق العقلي.. فالعالم لن يكون عالما حتى يعلم أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.. بل لولا هذا العلم ما استمر العلماء في الوجود والاستمرار.

الجاهل فقط هو الذي يتصور الأشياء من زاوية واحدة.. أما العالم فيعلم أن الكون أعمق من أن يحده بتصوراته المحدودة.

دعنا من هذا.. ولنتحدث عن شيء آخر.. العقل السليم يعتبره من الأدلة المنطقية على امتداد الحياة.

إن الحياة ـ في منطق الكون، وفي منطقنا نحن المؤمنين ـ ليست غدوا ورواحا فقط كما صورها فيلسوفكم (نيتشه)، والتي تمتلئ وتخلو كالساعة، ولا هدف لها أكثر من ذلك.

إن الحياة (الآخرة) ذات هدف عظيم هو المجازاة علي أعمال الدنيا، خيرا أو شرا، سواء كان نية أو قولا أو فعلا.

قال صديقنا الفلكي الذي كان حاضرا معنا ذلك المجلس: نعم.. إن كل ما تذكره من هذا صحيح.. والعلم الآن يسير نحو إثبات هذا.. فأعمال كل إنسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة، وبغير توقف، بأبعادها الثلاثة، من النية، والقول، والعمل.

فهذه الأبعاد الثلاثة تسجل بأكملها، فكل حرف يخرج من لساننا، وكل عمل يصدر عن أي عضو من أعضائنا يسجل في الأثير؛ ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله، لنعرف ـ إذا شئنا ـ كل ما قاله أو فعله أي إنسان في هذه الحياة.

إن الأفكار تخطر علي بالنا، وسرعان ما ننساها، ويبدو لنا أنها انتهت، فلم يعد لها وجود ولكنا، بعد فترة طويلة، نراها رؤى خلال النوم، أو نذهب نتكلم عنها في حالات الهستريا أو الجنون، دون أن ندري شيئا مما نقول.

وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب، وإنما هناك أطراف أخرى من هذه الحافظة لا نشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات كيان قائم بنفسه.

قال صديقنا عالم النفس: أجل.. لقد أثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين علي محوها أبدا.

وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الإنسانية لا تنحصر فيما نسميه (الشعور)، بل هناك أجزاء أخري من الشخصية الإنسانية تبقي وراء الشعور، يسميها فرويد: (ما تحت الشعور)، أو (اللاشعور). وهذه الأجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا، بل هي الجانب الأكبر منها ؛ ومثلها كمثل جبل من الجليد في أعالي البحار، أجزاؤه الثمانية مسكنة تحت الماء، علي حين لا يطفو منه إلا الجزء التاسع، وتلك هي ما نسميه: (تحت الشعور)، الذي يسجل ويحفظ كل ما نفكر فيه، أو ننتويه.

لقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها أن كل ما يخطر علي بال الإنسان من الخير والشر، ينقش في صفحة اللاشعور، فلا يزول إلي الأبد، ولا يؤثر فيه تغير الزمان وتقلب الحدثان، ويحدث هذا على رغم الإرادة الإنسانية ـ طوعا أو كرها.

قال:لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلي نظرية الآخرة لاستطعنا أن نصل إلى حقيقتها بسرعة، إن هذا الواقع يؤكد بكل صراحة إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان في حيازته، وعندما يبدأ حياته الأخرى، فإن وجوده نفسه سوف يشهد علي الأعمال والنيات التي عاشها.

لقد نص القرآن الكريم على هذه الحقيقة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (قّ:16)

والأقوال مثل النيات، فجميع ما نلفظه من كلام، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو سخطا؛ سواء استعملنا اللسان في إبلاغ رسالة الحق، أو استعملناه في إبلاغ رسالة الشيطان، كل ذلك يحفظ في سجل كامل، قال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)، وهذا السجل سوف يعرض أمام محكمة ليتم حساب الإنسان.

قال صديقنا الفلكي: إن إمكان وقوع هذا لا ينافي العلم الحديث، فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكلم، يحرك بالتالي موجات في الهواء، كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من الحجر.

ثم إن آلاف المحطات الفضائية في العالم تذيع برامج كثيرة ليل نهار، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء، بسرعة 186.000 ميلا في الثانية، وكان من المعقول جدا عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائلا من الأصوات لا نفهم منه شيئا، ولكن هذا لا يحدث، لأن جميع محطات الإذاعة ترسل برامجها على موجات يختلف طولها، فمنها ما يرسل برامجه علي موجات طويلة؛ ومنها ما يرسل موجات قصيرة، ومتوسطة.

وهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختلفة طولا، فتستطيع أن تسمع أية موجة من المذياع، بمجرد أن تدير عقربه إلي المكان المطلوب.

إن علماءنا لم ينجحوا في اختراع آلة تفرق بين أصوات الزمن القديم، ولولا ذلك لكنا قد سمعنا تاريخ كل عصر وزمان بأصواته، وبناء على هذا يثبت إمكان سماع الأصوات القديمة في المستقبل، فيما لو نجحنا في اختراع الآلة المطلوبة؛ ومن ثم لا تبقي نظرية الآخرة بعيدة عن القياس، وهي القائلة بأن كل ما ينطق به الإنسان يسجل، وهو محاسب عليه يوم الحساب.

إن مناقشتنا لجوانب المسألة لا تنفي وجود مسجلين غير مرئيين، ينقشون علي صفحة الفضاء كل ما ننطق به من الكلام، وهو ما يصدق قول الله تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)

قلت: لم يبق لك إلا أن تبرهن لنا على حفظ العلم كما برهنت على حفظ النية والقول.. فهل تراك ستستدل لهذا من القرآن، أم من العلم الحديث.

قال:من كليهما.. فالقرآن كلام الله.. والعلم هو الحقائق التي ينطق بها الوجود.. ويستحيل على الوجود أن يخالف ما يقوله بارئه.

قال صديقنا الفلكي: صدقت في ثقتك بكلام ربك.. فمعلوماتنا الكونية في هذا الصدد تصدق بصورة مدهشة إمكان ما تذكره من ذلك.. فالعلم الحديث يؤكد بأن جميع أعمالنا، سواء أباشرناها في الضوء، أم في الظلام، فرادي، أم مع الناس، كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء في حالة الصور، ومن الممكن في أي لحظة تجميع هذه الصور، حتى نعرف كل ما جاء به إنسان من أعمال الخير والشر طيلة حياته.

فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء حدث في الظلام أو في النور، جامدا كان أو متحركا، تصدر عنه (حرارة) بصفة دائمة، في كل مكان، وفي كل حال، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما، كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان، وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية.

قال:لقد عبر القرآن الكريم عن هذا التسجيل العجيب، فقال على لسان الذين يناقشون الحساب يوم القيامة:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)

قلت: فأنتم ترون أن كل ما نراه في الكون أجهزة تقوم بتسجيل كامل لكل أعمال الإنسان.

قال:أجل.. فكل ما يدور في أذهاننا يحفظ إلى الأبد، وكل ما ننطق به من الكلمات يسجل بدقة فائقة، فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما، ولا تفرق بين الليل والنهار.

لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فالله تعالى أخبرنا أنه ما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات، إلا وهي مسجلة في سجل الكون، ومدونة في كتاب الوجود، فليس شيء منها ضائعاً ولا يمكن لشيء منها أن يزول، يقول الله تعالى:{ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه }(سورة الزلزلة)

وإذا كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود، فلماذا سجلت الأعمال إذن؟ ألا تجد العقول جواباً إلا أن تقول سجلت الأعمال لإعادة عرضها.. ولكنا لا نرى الإعادة في الدنيا، إذاً لا بد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وقال المرسلون.

قلت: كل ما تذكره من هذا جميل.. ولكن الفطرة التي نتلمسها في نفوسنا تصيح بأن الحياة التي نعيشها هي الحياة الوحيدة والنهائية..

قال:أتتحدث عن فطرتك.. أم تتحدث عن الفطر البشرية؟

قلت: الفطرة البشرية واحدة.. وفطرتي هي فطرة جميع الناس من جميع الأجناس..

قال:ولكن البشرية جميعا بحضاراتها المختلفة، وفي أزمانها المختلفة تكاد تتفق على هذا.. فجميع الحضارات الإنسانية بما فيها الفرعونية المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينية والزرداشتية والهندية واليونانية واليهودية والنصرانية والإسلام تتفق في أن الموت ليس هو نهاية الحياة.

قلت: ولكنهم يختلفون بعد ذلك.. يختلفون كثيرا.. هل تعود الروح إلى هذا الجسد، أم تعود إلى جسد آخر.. كما تختلف في كيفية خروجها وخلوصها من هذا البدن.. فالبوذيون والهنادكة والشنتو يعتقدون أن الروح تظل حبيسة في الجسد وبالذات في الجمجمة عند الموت، وأنها لا تنطلق إلا بعد حرق الجثة وانفجار الجمجمة ولذا تراهم يحرقون جثث موتاهم.. والهنادكة والبوذيون يعتقدون بتناسخ الأرواح، وأن الروح الشريرة تعاد في جسد حقير مثل الكلب والخنزير، وتظل في تلك الدورات حتى تتطهر، وأن الروح الصالحة الخيرة تظل تنتقل في الأجساد الخيرة حتى تصل مرحلة النرفانا، وهي السعادة الأبدية المطلقة في الروح المتصلة بالأبد والأزل كما يزعمون.

قال:لا يهم ذلك الاختلاف.. نحن نبحث فقط في اتفاقهم رغم اختلافهم وتنوعهم على امتداد الحياة، وهذا يظهر من ملاحمهم وأشعارهم وأساطيرهم.

قلت: لقد ذكرت مذاهب الأمم في هذا، ولم تذكر رأي الإسلام فيها.. أتراك تستحيي من ذكره؟

قال:لا.. بل إن الحقائق التي جاء بها الإسلام في هذا هي الحقائق المنطقية التي تنسجم مع العقول السليمة ([4])..

إن نصوصنا المقدسة تتحدث عن هذه المسألة الخطيرة التي تتوقف عليها سعادة البشر بكل عقلانية.. إنها لا تخاطبنا فقط بما يملأ نفوسنا من الرغبة والرهبة، وإنما تخاطب محال التحليل الواعي فينا.

ولن يكفي هذا المقام لذكر كل ما ورد في نصوصنا من ذلك، ولكني أكتفي ببعض ما ترشد إليه من الأدلة العقلية على امتداد الحياة، لأن وعينا بهذا الامتداد هو الذي يجعلنا نتقبل بعد ذلك كل ما جاءت به النصوص من الأحداث التي تحصل فيه.

لعل أول ما نراه في القرآن الكريم من الأدلة العقلية على ذلك ما يمكن تسميته ببرهان المماثلة، فالعالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود، لأن هذا العالم ممكن الوجود، وحكم المثلين واحد، فلمّا كان هذا العالم ممكناً وجب الحكم على الآخر بالإمكان.

هذا دليل عقلي لا شك فيه.. ونحن نستخدمه كثيرا في حياتنا، فإذا سمعنا بأن شركة ما أنتجت منتوجا حسنا لا نستغرب أن تنتج مثله أو ما هو أحسن منه.

ولهذا، فإن القرآن الكريم يستدل بالمساواة بين الإحياء في الدنيا والإحياء في الآخرة، وذلك من خلال نمطين في المماثلة.

أولهما: مماثلة النشأة الاُولى من العدم بالنشأة الآخرة، كما قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27)

وثانيهما: مماثلة إحياء الأرض بعد موتها بالإحياء في الآخرة، كما قال تعالى:{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)، فهذه الآية الكريمة تقرّر أن حُكم الأمثال واحد، فإذا تحقّق الإحياء في الأرض بعد موتها، أمكن تحققه في الإنسان بعد موته، وفي غيره من الأحياء.

فتبين إذن أن العقل يحكم بتساوي الأمثال في الحكم، ومنه يتبيّن أن القادر على الإحياء الأول قادر على الإحياء الآخر ؛ لأنهما مثلان.

هذا برهان المماثلة..

هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان القدرة)، فكل شيء في الكون يدل على قدرة الخالق العظيم غير متناهية، وما دامت كذلك، فيجوز في العقل أن تتعلق بكل شيءٍ مقدور، يستوي في ذلك السهل والصعب على السواء، نرى ذكر هذا كثيرا في القرآن الكريم.. فكثيرا ما نقرأ هذه الفاصلة { إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، ولهذا أشارت الآيات القرآنية إلى صورتين من الاستدلال على المعاد، بذكر عموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها:

تتمثل أولاهما في بيان قدرته تعالى على المعاد في الآخرة مرتباً على ذكر المبدأ في الاُولى في آيات كثيرة، إشارة إلى أن القادر على الإيجاد من العدم ابتداءً قادر على إعادة الموجود.. بل هو أقدر على ذلك، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:19 ـ 20)

وقال تعالى:{ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} (الإسراء)

وقد بيّن تعالى أن قدرته على الخلق الأول والخلق الجديد من حيث الامكان والتأتّي، كخلق نفسٍ واحدةٍ، فقال تعالى:{ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان:28)

وتتمثل الثانية في بيان قدرته تعالى على المعاد في الآخرة مرتّباً على ذكر خلق السماوات والأرض، قال تعالى:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاََْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} (يّـس:81 ـ 82)

والقرآن الكريم ينص على أن خلق الإنسان في نفسه أسهل وأهون من خلق السماوات والأرض، قال تعالى:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر:57)

هذا برهان القدرة..

هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان الحكمة)، فالله تعالى حكيم في أفعاله.. وكل الكون يدل على ذلك.. فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل جزئياتها وفق حركة هادفة، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام، يقول الله تعالى في تقرير هذا الدليل:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115)، وقال تعالى:{ أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36)

فلو كان الإنسان ينعدم بالموت، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو شقاء، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً.

هذا برهان الحكمة..

هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان العدالة)، فالله تعالى ـ على حسب ما تدل نصوصنا المقدسة ـ جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان، ووهبه النوازع الخيّرة إلى جنب النوازع الشريرة، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء، وأعطاه العقل الذي يميّز بين الخير والشر، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق الخير وطريق الشرّ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق، وتجنّب سبيل الشرّ والباطل، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (هود:7)، وقال تعالى:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2)، وقال تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الانبياء:35)

وعلى هذا فإن واقع الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات هو امتحان وابتلاء، وليس فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة، لذا يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وإلاّ لبطلت فائدة التكليف، ولكان عبثاً ولغواً.

والله على حسب ما تدل عليه صنعته هو العدل الذي لا حدود لعدله.. ولذلك فإن الله يستدل بعدله على امتداد الحياة ليجازى المحسن بإحسان، ويجازى المسيء بإساءته، قال تعالى:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحياةمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }(الجاثية:21)، وقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى}(طه: 134 ـ 135)

هذا برهان العدالة..

هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان الرحمة)

إن الرحمة تقتضي أن يكرم الله خلقه بما تتطلبه حاجاتهم.. وأنت ترى هذا في الحياة، فالله أعطى لكل شيء خلقه الكامل، ووفر له حاجاته بكرم عظيم.. لقد خلق الله كل جزء من أجزاء الإنسان، وخلق له ما يكفيه: خلق القلب وخلق له من الدماء ما تكفيه، وخلق المعدة وخلق لها من الطعام ما يكفيها، وخلق العين، وخلق لها من الضوء ما يكفيها وهكذا.

ولا نجد شيئاً في الإنسان ليس له ما يكفيه إلا تلك الآمال الواسعة، فإنه لا يكفيها من العمر إلا الخلود، ولا يكفيها من الحاجات إلا أن تحصل على كل ما تشتهي.

وإذا رأينا الحياة الدنيا لم نجد فيها الكفاية لهذا الجانب الهام من كيان الإنسان، فلماذا خلقت الآمال والواسعة في الإنسان إذن وما يكفيها؟!

إذا رأيت آلة من الآلات قد جهزت مستلزماتها، ثم وجدت فتحة كبيرة في هذه الآلة، فلا شك أنك ستقول: إن صانع هذه الآلة صانع حكيم، ولا يمكن أن يكون قد صنع هذه الفتحة عبثاً، وإذا كنت شاهداً أنها بحاجة إلى غطاء، فلا شك أن الصانع قد صنع لها غطاء وإذا كان غير موجود الآن فربما كان في مكان آخر، وإذا لم يأت من الصانع إلا هذا فالراجع عقلاً أن الغطاء سوف يأتي وربما تأخر في الطريق.

وهل يبقى لك شك إذا وصلتك رسالة من الصانع تخبرك بالغطاء، وأنه سيأتي إليك؟ هل يبقى في قلبك شك؟

قال تعالى معبرا عن هذا البرهان:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(الكهف:46)، وقال تعالى:{ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ }(الأنبياء:102} ([5])

الامتداد الروحي:

بعد أن أنهى حديثه عن الامتداد الزماني قلت له: وعيت مرادك بالامتداد الزماني، فحدثنا عن امتداد آخر من امتدادات الحياة التي لم نتعلمها في علومنا الحديثة.

قال: الامتداد الروحي.. فنحن لا ندرك من الحياة إلا جانبها الجسدي الظاهري السطحي، ونغفل عن أهم جزء من أجزائها.. وهو الروح.

قلت: ما تقصد بالروح؟

قال ([6]): ألا ترون أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة.. فله طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده.. وهي تتصف بكل صفات المادة، فهي قابلة للوزن والقياس، ومتحيزة في المكان، ومتزمنة بالزمان.. ودائمة التغير والحركة والصيرورة من حال إلى حال ومن لحظة إلى لحظة.. وملحق بهذه الطبيعة الجسدية شريط من الانفعالات والعواطف والغرائز والمخاوف لا يكف لحظة عن الجريان في الدماغ.. ولأن هذه الطبيعة والانفعالات الملحقة بها تتصف بخواص المادة نقول إن جسد الإنسان ونفسه الحيوانية هما من المادة..

ولكن هناك طبيعة أخرى مخالفة تماما للأولى، ومغايرة لها في داخل الإنسان، وهي طبيعة من نوع آخر تتصف بالسكون واللازمان واللامكان والديمومة..

قلت: ما هي.. وكيف لا نراها؟

قال: إنها العقل بمعاييره الثابتة وأقيسته ومقولاته.. والضمير بأحكامه.. والحس الجمالي، والـ [أنا] التي تحمل كل تلك الصفات من عقل وضمير وحس جمالي وحس أخلاقي.

قلت: أليست الـ [أنا] هي هذا الجسد؟

قال: لا.. الـ [أنا] هي الذات العميقة المطلقة.. وهي تلك التي نشعر بها شعورا ثابتا ممتدا لا يطرأ عليه التغير، فـ [أنا] لا يسمن ولا يهزل ولا يمرض ولا يتصف بالزمان.. وليس فيه ماض وحاضر ومستقبل.. إنما هو آن مستمر لا ينصرم كما ينصرم الماضي.. وإنما يتمثل في شعور بالدوام والديمومة.

والـ [أنا] الذي هو حقيقة الإنسان، نوع آخر من الوجود لا يتصف بصفات المادة، فلا يطرأ عليه التغير، ولا هو يتحيز في المكان، أو يتزمن بالزمان، ولا هو يقبل الوزن والقياس.. بل إننا بالعكس نجده هو الثابت الذي نقيس به المتغيرات، والمطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في عالم المادة.. ولذلك فإن أصدق ما نصف به هذا الوجود هو أنه روحي وأن طبيعته روحية.

قلت: ولكن علماءنا علماء الطبيعة يذكرون أن الإنسان هو جسده، وأن الجسد هو الحاكم وأن كل ما ذكرت من عقل ومنطق وحس جمالي وحس أخلاقي وضمير وهذه التي اسمها الذات أو الـ [أنا] كل هذه ملحق بالجسد، ثانوي عليه، تابع له، يأتمر بأمره، ويقوم على خدمته، ويتولى إشباع شهواته وأهوائه.

قال: هذا كلام الماديين، وهو غير صحيح.. والأدلة كلها تشير إلى أنه مجرد أوهام.. فالحقيقة بكل براهينها تدل على أن الجسد تابع وليس متبوعا.. مأمور وليس آمرا..

ألا ترون أن أجسادنا تحن إلى طعام معين، ومع ذلك نرفض إمدادها بما تريده.. وهكذا ترون الذي يضحي بجسده في سبيل إنقاذ الآخرين.. فأين جسده هنا؟.. وأين المصلحة المادية التي يحققها بموته؟.. ومن الذي يأمر الآخر؟

وعندنا اليوم أكثر من دليل على أن الجسد هو الوجود الثانوي.. فما يجري الآن من حوادث البتر والاستبدال وزرع الأعضاء.. وما نقرأه عن القلب الإلكتروني والكلية الصناعية وبنك الدم وبنك العيون ومخازن الإكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان والأذرع والقلوب.. إلى الدرجة التي يجري فيها فك الجسم وتركيبه واستبداله دون أن يحدث شيء للشخصية..

وسبب ذلك هو أن هذه الذراع أو تلك الساق أو ذلك الشعر أو العين كلها ليست هي الإنسان.. فهي تنقل وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع من الألومنيوم دون أن يحدث شيء.. فالإنسان ليس هذه الأعضاء، وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذه الماكينة التي اسمها الجسد.

قلت: فالإنسان في رأيك هو الإدارة التي تمثلها خلايا المخ؟

قال: المخ مثله مثل خلايا الجسد يصدع بالأوامر التي تصدر إليه، ويعبر عنها، ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها.. قفاز تلبسه هذه اليد الخفية التي اسمها الروح وتتصرف به في العالم المادي.

قلت: أنت تريد أن تقول بهذا أن الإنسان له طبيعتان: طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه.. وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده.

قال: أجل.. وما يحدث بالموت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال، والطبيعة الخالدة تلتحق بالخلود، فيلتحق الجسد بالتراب وتلتحق الروح بعالمها الباقي.

قلت: ولكن كيف لا نستطيع إدراكها؟

قال: ألا ترون أننا لا نستطيع رصد الحركة إلا من خارجها.

قلت: كيف ذلك.. وما دلالته على ما تقول؟

قال: لا يمكننا أن ندرك الحركة، وأن نتحرك معها في نفس الفلك، وإنما لا بد من عتبة خارجية نقف عليها لرصدها.. ولهذا تأتي علينا لحظة ونحن في مصعد متحرك لا نستطيع أن نعرف هل هو واقف أم متحرك، لأننا أصبحنا قطعة واحدة معه في حركته.. ولا نستطيع إدراك هذه الحركة إلا إذا نظرنا من باب المصعد إلى الرصيف الثابت في الخارج.

وهكذا لا نستطيع أن نحيط بحالة إلا إذا خرجنا خارجها.. ولهذا ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر ـ أي على عتبة خلود ـ ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا، ولا نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئا.

وهي نتيجة مذهلة تعني أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن إطار المرور الزمني، وهو الذي يلاحظ الزمن من عتبة سكون ويدركه دون أن يتورط فيه، ولهذا لا يكبر، ولا يشيخ، ولا يهرم، ولا ينصرم.. ويوم يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية، هذا الجزء هو الروح.

كنا مندهشين لكل ما يقول، لكننا نجد فيه قوة في الاستدلال لا يمكن رفضها بسهولة..

استأنف صاحبنا المؤمن قوله، وهو يشير إلينا جميعا: كل منا يستطيع أن يحس بداخله هذا الوجود الروحي على صورة حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود المادي المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه.

هذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الباطني، والتي يمكن تسميتها حالة حضور.. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا، ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح…

سكت قليلا، ثم قال: دليل آخر على طبيعتنا الروحية، وهو شعورنا الفطري بالحرية، ولو كنا أجساما مادية ضمن إطار حياة مادية تحكمنا القوانين المادية الحتمية لما كان هناك معنى لهذا الشعور الفطري بالحرية.

طاقات الروح:

خرجنا من عنده.. ونحن نختلف عما كنا عليه، وقد سلك كل واحد منا بعد ذلك سبيلا من السبل للبحث عن الحقيقة..

أما أنا فقد وفر الله لي حينها فرصا كثيرة لتأكيد كل الحقائق التي ذكرها صاحبنا المؤمن، وقد هداني الله بواسطتها إلى الإيمان.. بل إلى أكبر تجل للإيمان الصادق الذي يتوافق فيه العقل والفطرة والعلم، وهو الإسلام.. على منهجه المحمدي الأصيل الذي لم تطله أيدي التحريف والتزييف والتشويه.

طبعا.. لن أحدثكم عن كل ذلك.. فهذا المجلس ومجالس كثيرة لا تفي به.. ولكني سأكتفي بمجلس من المجالس جمعني بثلة محترمة من العلماء.. كان فرصة لتأكيد الحقائق التي ذكرها صديقنا المؤمن حول الروح وطاقاتها الكثيرة.. وضعف الجسد أمامها.. بل تحوله إلى خادم بسيط من خدمها.

كان أول المتحدثين في ذلك المجلس عالم متخصص في وظائف الأعضاء، وكان مؤمنا وصل إلى الإيمان بعد بحث طويل في مجال تخصصه وغيره من التخصصات.

قال لنا([7]) ـ وهو يقدم المقدمات المختلفة ليوضح لنا الأدلة على وجود الروح وطاقاتها المختلفة ـ: تذكروا جيدا أنه في الواقع الفعلي لا يوجد أي ألوان أو أصوات أو صور داخل أدمغتنا.. فكل ما يوجد هناك مجرد إشارات كهربائية.. ولذلك فإن أي منظر طبيعي ترونه، أو أي موسيقى تسمعونها، أو طعام تجدون مذاقه، كل ذلك يتكون نتيجة لانتقال إشارات كهربائية إلى المخ..

قلت: أتقصد أن العالم الخارجي غير موجود؟

قال: معاذ الله أن أقول ذلك.. فالعالم لن تأتي نهايته إذا توقفت الحواسّ الخمس عن إرسال إشارات كهربية للمخ.. في هذه الحالة، سينتهي العالم بالنسبة لك فقط، لأنك تدرك وجود العالم من حولك عن طريق تفسير عقلك للإشارات الكهربية المرسلة إليه.

قلت: لم أفهم ما تعني.. هل لك أن توضح أكثر؟

قال: سأنقل لك ما قالت الكاتبة العلمية [ريتا كارتر] حول تصور العالم في كتابها [تخطيط العقل]، فلعل أسلوبها في نقل الأفكار أحسن من أسلوبي، فقد قالت: (يتكيف كل عضو من أعضاء الحس بصورة محكمة على نوع محدد من المحفزات، كالجزيئات، أو الموجات، أو الاهتزازات.. ولكن الإجابة لا تكمن هنا، لأنه برغم اختلاف تلك الأعضاء، إلا أنهم يقومون جميعاً بنفس العمل، أي ترجمة أحد أنواع المحفزات التي يستقبلها إلى نبضات كهربائية.. تلك النبضات هي عبارة عن طاقة كهربائية، أي أنها ليس لها لون أو ما شابه.. أي أن أعضاء الحس تقوم بترجمة المدخلات الحسية بمختلف أنواعها إلى نوع واحد، ألا وهو الإشارات الكهربائية)

بعد ذلك، تصل جميع المحفزات الحسية إلى المخ على هيئة نبضات كهربائية أنشأتها الخلايا العصبية وهي ذات مسار محدد.. وهذا كل ما يحدث، فلا يوجد محوِّل عكسي لإعادة الإشارات الكهربائية في مرحلة ما إلى موجات ضوئية أو جزيئات.. وهكذا فإن ما يفرّق بين تيار كهربائي وآخر، فيجعل أحدهما صورة والآخر رائحة، هو نوع الخلايا العصبية التي يتم تحفيزها.

ثم التفت إلي، وقال: ألا ترى أن هذا الأمر مذهل.. فأي إحساس أو صورة أو طعم أو رائحة نستقبلها تتكون من نفس الشيء، ألا وهو إشارات كهربائية.. الأجزاء المعينة في المخ التي تتأثر بهذه الإشارات تفسرها إلى طعام لذيذ، أو منظر طبيعي خلاب، أو موسيقى..

لكن لابد أن يكون ثمّة كائن مختلفا تماما يشعر بهذه الأشياء ويراها، فالمخ والإشارات الكهربائية لا يمكنهم تذوق الطعام أو رؤية اللون، أو شم رائحة الزهور.

وهذا الكائن هو الروح، وهي مختلفة تماما عن المخ، فهي التي تدرك وتقيم ما تستقبله حواسنا.

قال رجل منا: إن هذا صعب الاستيعاب.

قال العالم: ولكن هذا ما تدل عليه جميع الأبحاث.. فقد وصف الدكتور [جيفري م. شوارتز] كيف ينشأ الإدراك بشكل مستقل عن المخ، فقال: (كل موقف تمر به لديه شعور معين، بل وقد يكون شعوراً فريداً، فعندما تقضم شطيرة من الهامبرغر تجد طعمها مختلفاً عن شريحة من اللحم.. كما أن أي شعور بالمذاق، يختلف تماماً عن سماعك لمقطوعة موسيقية، أو رؤيتك لعاصفة برقيّة.. فالمكان الذي ينشئ اللون الأحمر في القشرة البصرية لا علاقة له بتفسير شعورنا باللون الأحمر، أو سبب كون اللون الأحمر يختلف عن تذوق طعام ما، أو سماع مقطوعة موسيقية، خصوصاً أن كل تلك الأمور تؤدي إلى إرسال إشارات عصبية إلى القشرة الدماغية المسئولة عن الشعور.. وحتى التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لا يتيح لنا معرفة أي شيء غير الأساس المادي للإدراك أو الوعي، فلا يعطي تصوراً قريباً يشرح ما يحدث بالداخل.. كذلك لا يمكننا من خلاله أن نعرف شعور شخص ما باللون الأحمر. كيف يمكننا أيضاً معرفة إذا ما كان شعور هذا الشخص مشابهاً لشعور باقي البشر؟ ولماذا لا تستطيع دراسة الجزيئية لآليات عمل المخ تقديم إجابة على هذه الأسئلة؟)

وهكذا قال [بيتر راسل]: (في كل مرة نحاول التمسك بالجانب المادي لا نأتي بأية نتائج، وكل الأفكار التي كانت لدينا عن المادّية أُثبِت خطأها.. لكن إيماننا بالعالم المادي لا زال راسخاً ومدعماً بقوة من قِبَل خبراتنا لدرجة أننا نتمسك باعتقادنا بأنه يجب أن يكون هناك جوهر مادّي.. الأمر مشابه لعلماء الفلك في القرون الوُسطى الذين اعتقدوا ولم يشككوا في افتراضهم بأن الأرض هي مركز الكون، كذلك نحن لا نشكك في افتراضنا بأن العالم الخارجي هو ماديّ في طبيعته.. لقد اندهشت للغاية عندما أدركت أن الجواب قد يكون موجوداً أمام أعيننا.. قد لا يوجد أي شيء في العالم فعلاً، لا جانب مادي.. قد يكون الجانب العقلي فقط هو الموجود)

إن هذه الشهادات وغيرها كثير، وهي من علماء مختصين تدل على أن الوعي خاصية تنتمي إلى الروح فقط.. فمن خلال الروح، يكون الإنسان كياناً قادراً على التفكير والإدراك، واتخاذ القرارات..

بعد أن انتهى عالم وظائف الأعضاء من حديثه تحدث طبيب عيون، وقال: صدقت صديقي العزيز.. فالأبحاث المرتبطة بآلية الإبصار كلها تدل على ذلك.. وقد قال [كريج هاميلتون] يعبر عن ذلك: (كيفية حدوث ذلك هو مثال على ما يعرف بـ [مشكلة الربط]، وهي لغز لم يستطع أحد إيجاد حل مقنع لها حتى الآن.. رغم ذلك، من المهم أن نعرف أن كل عين من العينين ترى جزءاً مختلفاً من الصورة، ويقوم الدماغ بجمع الصورتين معاً إلى صورة واحدة)

وهذا التفسير يعطينا وصفاً عاماً للطريقة التي ترى العين بها، حيث تمثل العين المرحلة الأولى في تشكيل الصورة.. حيث يُنسَخ العالم الموجود بالخارج داخلنا في منطقة صغيرة جداً في الدماغ، وذلك بسبب الضوء الذي يمر خلال أعيننا، وعن طريق الإشارات الكهربائية التي تنتقل إلى الدماغ، وعندما ننظر حولنا، فإن الصور التي نراها حتى ولو كانت صورة السماء التي لا حدود لها تتكون في منطقة صغيرة جداً في الدماغ، ومن المستحيل أن نعرف إذا ما كانت الصورة الأصلية تطابق التي نراها أم لا.

لقد لخص [بيتر راسل] ذلك، فقال: (عندما أرى شجرة، أشعر بأنني أراها مباشرة، لكن العلم يخبرنا أن شيئاً مختلف تماماً يحدث.. فالضوء الذي يدخل العين يحفز عمليات كيميائية في الشبكية، فتنتج نبضات كهروكيميائية تنتقل عبر الألياف العصبية إلى الدماغ، ثم يقوم الدماغ بتحليل البيانات التي يتلقاها، ويكوِّن صورة عمّا هو في الخارج، وبالتالي أشعر برؤية الشجرة، لكنني لا أرى الشجرة نفسها في الواقع، وإنما أرى الصورة التي تظهر في العقل فقط، ينطبق هذا على كل شيء تراه، كل شيء تعرفه وتدركه وتتخيله، أي لون أو صوت أو إحساس أو تفكير، أو شعور.. كل هذا يعتبر ناتجاً عن الوعي)

قال له رجل منا: بما أننا لا نرى العالم الخارجي الأصلي بشكل مباشر، وبما أن كل شيء هو عبارة عن تصور ينشأ في الدماغ، فهل العين هي التي ترى بالفعل؟

قال: خلال حياتنا، نعتقد أننا نرى العالم الواقع خارجنا عن طريق أعيننا.. لكن الوصف العلمي للوظائف البصرية التي يقوم بها الدماغ، يوضح أن العين ليست هي التي ترى.. فالعين وملايين الخلايا العصبية في شبكية العين يعملون على نقل رسالة إلى الدماغ لكي تحدث الرؤية، ذلك أن العين تستطيع إدراك الفوتونات التي تقع عليها، ثم ترسلها إلى الدماغ عن طريق تحويلها إلى إشارات كهربائية.. أي أننا نرى موجات الضوء التي تقع على خلايا شبكية العين، والتي تتكون من الدهون والبروتين والماء، والإشارات الكهربائية التي تنقلها. في الدماغ، كل ما يوجد هو عبارة عن إشارات كهربائية.. فليس في الدماغ أطفالا يلعبون في الحديقة، ولا سماء مشمسة، ولا سفنا تسير عبر الأمواج.

وعندما نقوم بفحص الدماغ بشكل دقيق للغاية، نجد أن الخلايا العصبية تتفاعل مع بعضها البعض، ونجد أن المواد الكيميائية والإشارات الكهربائية تنتقل بينها.. لكن داخل الدماغ، لا يمكنك أن تجد ألواناً أو أشكالاً أو نصوصاً أو أي شيء ينتمي للعالم الخارجي.. لن تجد بداخله أوراقاً خضراء، ولا حشوداً من الناس تتسوق، ولا منازل ولا سيارات ولا أثاثا.

والعلماء الذين يزعمون أن الصور موجودة داخل الدماغ، سيعجون عن الإجابة عن هذا السؤال: إذا كانت الصورة تتكون في الدماغ، من الذي يرى هذه الصورة إذاً؟

قال أحد أصحابنا، وهو عالم أعصاب: صدقت في هذا، وقد قال [فيلايانور راماشاندران]، وهو مدير مركز الدماغ والإدراك وأستاذ بقسم علم النفس وبرنامج علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، يحكي هذا السؤال: (إذا أردت أن تعرض صورة كوب على شاشة عصبية داخلية، سوف تحتاج إلى شخص آخر صغير داخل الدماغ لرؤية تلك الصورة.. وهذا لن يحل المشكلة لأنك ستحتاج إلى شخص آخر أصغر حجماً ليكون بداخل رأسه ليرى تلك الصورة، وهكذا إلى ما لا نهاية.. سوف ينتهي الحال بك بأعين وصور وأشخاص صغيرين لا نهائيين، دون أن تحل مشكلة الإدراك)

وبما أنه لا يوجد كيان يشاهد الصور داخل الدماغ، إذاً الفرض بأن هناك صورة داخل الدماغ هو فرض غير واقعي وغير منطقي.. فداخل الدماغ مظلم تماماً، فلا يوجد أي ضوء أو صوت.. داخل الدماغ لا توجد ألوان زاهية، أو زهور جميلة، أو مواقد تعطي الشعور بالدفء، أو طيور مغردة.

قال طبيب الأذن: كما أنه لا توجد الصور في أدمغتنا.. كذلك لا وجود للأصوات فيها.. فعملية السمع تشبه عملية الرؤية، فالمعلومات التي تصلنا كصوت هي مجرد إشارات كهربائية، تماماً مثل الصور.. حيث تجمع الأذن الخارجية موجات الصوت من حولنا وترسلها إلى الأذن الوُسطى، والتي تقوم بتقوية الاهتزازات وإرسالها إلى الأذن الداخلية، والتي تقوم بتحويل هذه الاهتزازات إلى إشارات كهربائية اعتماداً على ترددها وتركيزها، ثم ترسلها إلى الدماغ.

وفي الدماغ، يتم إرسال هذه الإشارات إلى مركز السمع حيث يتم معالجتها وتحليلها، وهذه هي آلية حدوث السمع.

لقد قال [بيتر راسل] يصف ذلك: (ينطبق الشيء نفسه على الصوت. عندما قال الأسقف بيركلي أن لا شيء موجود خارج تصوراتنا، وأتبع ذلك بنقاش قوي حول ما إذا كان سقوط شجرة سيصدر صوتاً أم لا إذا لم يكن أحد موجود ليستمع إليه. في ذلك الوقت، لم يكن معروفاً كيفية انتقال الصوت خلال الهواء، ولا آلية عمل الأذن والمخ. اليوم، نحن نعرف الكثير عن ذلك، وإجابة السؤال بكل وضوح هي لا، فلا يوجد أي صوت في الواقع المادي، فقط موجات تنتقل في الهواء. الصوت موجود في عقل الكائن المدرك فقط، سواء كان هذا الكائن إنساناً أو طائراً، أو غزالة أو نملة)

فالأصوات مثل الصور المرئية لا توجد داخل الدماغ.. كل ما نجده في الدماغ هو عبارة عن إشارات كهربائية.. فكل الأصوات التي نعتبرها حقيقية هي ناتجة عن هذه الإشارات الكهربائية الموجودة في الدماغ.. ففي الواقع، هناك صمت عميق داخل الدماغ.

لقد شرح [بيتر راسل] ذلك، فقال: (أسمع موسيقى الكمان، لكن الصوت الذي أسمعه هو عبارة عن خاصية تظهر في العقل.. ليس هناك أي صوت في العالم الخارجي، فقط يوجد جزيئات الهواء المهتزّة)

قال صديق آخر لنا كان عالم نفس: ونفس الشيء ينطبق على الروائح والطُعوم، فهي تنشأ داخل عقولنا فقط.. ذلك أننا نعتقد أن الآخرين يشمّون نفس الرائحة التي نشمها، ونعتقد أن لدينا نفس الإحساس.. لكن كل هذا مجرد تخمين، فما يصل إلينا بالفعل هي جزيئات الرائحة، والتي يتم تحويلها إلى إشارات كهربائية، كما هو الحال مع الصورة والصوت.

فما نشير إليه بـ [الرائحة] هي خليط معقد من الإشارات الكهربائية، إذ أن جزيئات الرائحة نفسها لا تصل إلى الدماغ أبداً.

لقد وصف العالِم الشهير جورج بيركلي هذه الحقيقة، فقال: (في البداية، اعتقد الناس أن الألوان والروائح موجودة في الواقع، لكن بعدها تم رفض هذه الآراء، وأصبحنا ننظر إليها أنها موجودة بناءً على حواسنا فقط)

وكمثال على ذلك أننا في الأحلام، وعندما لا تكون جزيئات الرائحة موجودة فعلياً، يمكننا إدراك الرائحة وكأنها حقيقية تماماً.. فمثلما يمكنك تخيل صور واضحة للغاية، وسماع أصوات واضحة أثناء الحلم، يمكنك كذلك إدراك الروائح بالطريقة نفسها. بالتالي، يمكنك معرفة أن الرائحة لا تحتاج إلى وجود ماديّ من أجل إدراكها.

وينطبق الأمر نفسه على إدراك الطعم، حيث تقوم مُستقبِلات التذوق بتحويل المُحفِّزات المختلفة التي تصلها إلى إشارات كهربائية، مثلما تفعل أعضاء الحواس الأخرى..

قال صديقنا عالم الأعصاب: صدقتم جميعا.. وما ذكرتموه محير للماديين الذين يبحثون داخل مخ الإنسان عن تلك العناصر التي تجعل الإنسان إنساناً، كالفرح والشكوك والمعتقدات والهوية الشخصية، ويزعمون أن المشاعر كالفرح والحزن، والمعتقدات، واتخاذ القرارات، والعاطفة تنبع كلها من الخلايا العصبية.. غير أن العلماء وأطباء الأعصاب الذين يدرسون مخ الإنسان فشلوا في العثور على مصدر أيٍ من ذلك.. لهذا السبب قاموا بوضع تعريف جديد لمصدر هوية الإنسان، وهو أن ما يجعل الإنسان إنساناً هو [الوعي].. وهو ما لا يستطيع الماديون تفسيره.

لقد قال [فريد آلن وولف] معبرا عن ضرورة وجوده: (نحن نعرف ما يقوم به المراقب من وجهة نظر فيزياء الكم.. لكننا لا نعلم ماهية هذا المراقب.. هذا لا يعني أننا لم نحاول العصور على إجابة.. لقد بحثنا داخل رأس الإنسان، وبحثنا عن شيء يسمى مراقبًا، لكن دون جدوى.. لا يوجد أحد في المخ، ولا في المنطقة الطرفية في المخ.. لا يوجد ما يسمى بالمراقب.. لكننا جميعاً نشعر بوجود مراقب ما يراقب العالم من حولنا)

لقد أدرك العلماء الآن أن المخ ليس هو مصدر إدراكنا، وإنما هو بمثابة وسيلة فقط. علاوة على ذلك، تخلى العلماء بشكل كامل عن فكرة وجود شخص صغير داخل الدماغ، والتي كانت سائدة قبل قرون.. حيث وجد العلماء أن الكيان الذي يشيرون إليه بالمراقب هو مستقل تماماً عن المخ، ويعلمون الآن أن مصدر إدراكنا هو الوعي البشري.

لقد قال [روبرت لورنس كوهن] في كتابه [أقرب إلى الحقيقة: تحديّ الاعتقاد الحالي] يذكر ذلك: (لماذا أصبح بعض علماء الفيزياء فجأةً مهتمين بالعقل البشري؟ هل العقل حقيقي كالمادة؟ القليل فقط من تساءلوا ما إذا كان العقل هو الواقع الحقيقي والمادة هي وهم خادع. ثمّة نظريتان أساسيتان غيرت نتائجهما مفهومنا عن الواقع إلى الأبد وهما ميكانيكا الكم التي أدخلت عدم التأكد في النطاق دون الذري، ونظرية النسبية التي تُوحِّد الزمان والمكان على النطاق الكبير للكون. لكن هل يمكن لنظريات الفيزياء شرح آليات العقل؟ هل يمكن لسلوك الذرات أن يحدد سلوك الناس؟ هل يمكن لتركيب الكون وصف كيف نفكر ونشعر وندرك؟)

وقال: (إن حياة الإنسان وإدراكه وأفكاره وكل ما يشعر به من حب وفرح وحزن ـ أي كل ما يجعل الإنسان إنسانًا ـ بالتأكيد ليس ناتجاً عن سلوك مجموعة من الذرات.. ما يمنح البشر البشرية ويجعلهم قادرين على إدراك العالم الخارجي هو شيء مستقل عن مخ الإنسان.. نحن بحاجة إلى تفسير أعمق من المفهوم المادي فيما يخص إدراك الإنسان وقدرته على تحليل الأمور والتفكير والاختيار، وغيرها من الصفات التي يتميز بها البشر)

وقال: (القول بأن شيئا استثنائيا مثل الوعي يمكن أن يكون ناتجًا عن نشاط الأنسجة العصبية، هو شيء غير منطقي مثل ظهور الجن عند فرك علاء الدين للمصباح)

قال صديق آخر: صدقتم جميعا.. فمن المستحيل لبناء يتكون من الدهون والماء والبروتين أن يكون السبب في هوية الإنسان التي تجعله قادرًا على الإدراك والتفكير والشعور بالفرح والفخر والحماس.. ولذلك فإن مزاعم الماديين قد انهارت تماماً أمام جقيقة أن الإدراك مستقل عن المخ.

لقد صرح السير [رودولف بيرلس] أحد أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين بهذا، فقال: (الافتراض بأنك تستطيع من خلال الفيزياء أن تصف جميع وظائف الإنسان بما فيها المعرفة والواعي هو افتراض غير مقبول.. هناك شيء لا يزال مفقوداً)

وقال: (عندما ندرك أن كل ما نعرفه بما في ذلك العالم المادي الذي نعيشه ناتج عن الوعي، تجد أن الحقيقة تناقض تماماً كل ما نراه يومياً.. المادة هي من صنع الوعي.. وبالتالي فإن الطبيعة الأساسية للواقع الذي نعيشه هي الوعي.. المكان والزمان والمادة والطاقة وكل العالم المبني على إدراكنا هو من إنشاء وعينا.. فالمادة ليست هي أساس هذا العالم الكبير، وإنما هو الوعي)

وقد فسر سبب عدم استطاعتنا ملاحظة الوعي في العالم الخارجي، فقال: (السبب في أننا لا نجد الوعي في العالم الذي نراه هو أن الوعي ليس جزءاً من الصورة التي تنشأ في عقولنا)

فالوعي الذي هو سبب إدراكنا للعالم الخارجي ليس جزءاً من العالم الخارجي الذي نلاحظه، وبالتالي فمن المستحيل أن نراه..

وقد شبه راسل ذلك بالضوء المنعكس على شاشة السينما، ففي القصة التي يتم تمثيلها في الفيلم لا يوجد أي دليل على أنها مجرد أشعة ضوئية يتم إسقاطها على الشاشة.. فالناس يختبرون الصورة الظاهرة على الشاشة فقط، والضوء الذي بدونه لم تكن هناك صورة على الإطلاق لا يلاحظه أحد.. وبنفس الطريقة، فالوعي ليس له وجود ملموس أو مرئي لأنه ليس جزءاً من العالم المادي الذي نلاحظه.

وقد وصفت [ديان أكرمان] الوعي بقولها: (المخ صامت مظلم أبكم، لا يشعر بأي شيء، المخ يمكن أن يلقي بنفسه من فوق جبل أو إلى الفضاء الخارجي.. يمكن للمخ أن يتخيل ثمرة تفاح ويشعر بأنها حقيقية.. في الواقع، يجد المخ صعوبة بالغة في التفريق بين قمرة تفاح خيالية وأخرى حقيقية.. المخ ليس هو العقل.. العقل بالنسبة لجسم الإنسان هو بمثابة شبح داخل آلة، كما يصفه البعض)

قال صديق آخر: هناك سؤال هام يجب تفسيره.. وهو مِمّ يتكون الوعي؟.. وما الذي يجعل هذا العالم ينشأ داخل الوعي؟

قال عالم الأعصاب: يعتبر الوعي واحداً من أكبر أسرار القرن الحادي والعشرين، فمعظم الباحثين والكُتّاب والأساتذة الجامعيين المعنيين بهذا الموضوع بدأوا بحثهم بالقول بأن هذا الموضوع غير مفسر حتى الآن، وانتهوا بالتأكيد على ذلك.

ومن الأمثلة على ذلك قول [جيفري شوارتز]: (بالرغم من أن الربط بين النشاط المادي للمخ والنشاط العقليّ يعتبر انتصارا عِلميّا لا شك فيه، إلا أنه لم يُرضِ العديد من دارسي المخ، إذ أنه لم يعطي تفسيراً كافياً لأي من علماء الأعصاب أو الفلاسفة عن كيف يمكن أن يؤدي سلوك الخلايا العصبية إلى الشعور بحالة الوعي.. وهذا اللغز ـ أي كيفية تحوُّل أنماط نشاط الخلايا العصبية إلى وعي ذاتي ـ قد قال عنه عالم الأحياء العصبية روبرت دوتي عام 1998 إنه لا يزال الغموض الرئيسي بالنسبة للوجود الإنساني)

***

هذا ما ذكره أصدقائي في ذلك الحين.. وقد جعلتني تلك الأحاديث أبحث مدة طويلة عن ذلك الوعي الذي اتفقوا عليه.. والذي لم يمكنهم تفسيره..

لكني عرفت بعد إيماني بالله، وثقتي في رسل الله وكلماته أن ذلك الوعي ليس سوى طاقة من طاقات الروح التي أنعم بها الله على الإنسان.. وأنها أكبر بكثير من كل ما نراه من عالم المادة.. بل إن كل عالم المادة لا يساوي شيئا أمامها.

وقد علمت أيضا أن العلماء الماديين يدركون هذه الحقيقة، لكنهم لا يريدون قبولها أو الإفصاح عنها.. لذلك يزعمون أن مسألة الوعي لم تُحسم بعد.


([1])  النص المنقول هنا مقتبس بتصرف من كتابي [معجزات علمية]، وفيه ذكر المصادر المقتبس منها.

([2]) انظر: القرآن يتنبأ بعصر الفضاء، عبد الدائم الكحيل، في موقعه الخاص بالإعجاز القرآني.

([3]) انظر (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.

([4]) انظر هذه الأدلة في (توحيد الخالق) للزنداني.

([5]) هناك تفاصيل كثيرة أخرى ترتبط بالحياة الآخرة، وما يتعلق بالبرهنة عليها من أدلة، وما يميز العقيدة الإسلامية في هذا الجانب، وقد تحدثنا بتفصيل عن ذلك في (أسرار الحياة)

([6])  اقتبسنا بعض الحوار الوارد هنا من كتاب: حوار مع صديقي الملحد، مصطفى محمود.

([7])  استفدنا المادة العلمية الواردة هنا من كتاب: معضلة داروين: الروح هارون يحي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *