اللغة.. والمقدس

اللغة.. والمقدس

من الدعاوى التي يطرحها دعاة الأمازيغية، والتي يحاولون بها الغض من العربية أو من العرب قولهم: (لو أن النبي كان من الأمازيغ.. والقرآن نزل بالأمازيغية لما آمن به العرب)، وأظن أنها مقتبسة من كلمة للمفكر الحداثي الأمازيغي محمد أركون.. لست أدري أين قرأتها عنه.

 د

وهذه دعوى عريضة، وخطيرة، ولا يمكن بحال من الأحوال التحقق منها في الواقع، لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الرسل، والقرآن خاتم الكتب.. ولذلك تصبح الدعوى ملغاة مثلها مثل كل دعوى لا بينة عليها، ولا يمكن التحقق منها.

لكن المشكلة ليست في الدعوى، وإنما فيما ينبني عليها، أو فيما يقرأ بين سطورها.. فهذا الذي طرح مثل هذه الأفكار، يريد أن يقول للأمازيغ: ما دام العرب لم يؤمنوا بنبيكم المفترض.. فلم تكلفون أنفسكم بالإيمان بنبيهم.. وما داموا لم يقدسوا كتابكم المفترض، فلم تقدسون كتابهم؟

هذا ليس تحليلا أفترضه.. بل هو حقيقة ما تفرزه تلك الشعارات التي توجه للعامة، ليقرؤوها بحسب أمزجتهم وأهوائهم.. والذين تحول الدين عندهم من دين إلهي إلى دين قومي.. وأصبح تعصبهم لما يطلقون عليه [الهوية] أكثر من تعصبهم لكتابهم ونبيهم.. وكيف يتعصبون لهما، وهم يتحسرون على أنهما لم يكونا من الأمازيغية أو بالأمازيغية.. ويرددون من حيث لا يشعرون مقولة المشركين: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، والتي رد عليها الله تعالى بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32]

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا هو: فلنفرض أن العرب كما ذكرتم كان لهم من الكبر ما يحول بينهم وبين الدين الأمازيغي المفترض.. فما يؤذيكم ذلك؟.. وهل أنتم مكلفون بدعوتهم للإيمان، أم مكلفون بمحاسبتهم؟.. ألم يقل الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]، وقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) } [الغاشية: 21، 22]؟

ثم لماذا تعتبرون العرب جميعا أمثال أبي جهل وأبي لهب.. ألم يكن في العرب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير خلق الله؟.. ألم يكن منهم آل بيته الأطهار؟.. ألم يكن منهم أولئك الصحابة المنتجبون، والتابعون الطيبون الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر دينهم؟.. ألم يكن فيهم الأولياء والعلماء والصالحون؟

أليس العرب مثلهم مثل غيرهم من الأجناس فيهم المصلح والمفسد، والتقي والفاجر.. فلم تحكمون عليهم حكما واحدا، وتنزلونهم منزلة واحدة.. هل هذا ما يقتضيه العقل والمنطق؟.. أم ما تقتضيه الشريعة والحقيقة؟

عودوا إلى وعيكم المغيب.. وتعاملوا مع الحقائق.. وسلموا لله اختياره.. فالله هو الذي اختار العربية، وهو {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [القصص: 68]

أما دعواكم تلك، فيمكن لإبليس نفسه أن يدعيها، فيقول: (أنا لم أسجد لآدم.. لأنه لو أمر بالسجود لي لما سجد)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *