اللحى الطويلة.. والعقول

لست أدري لم أنفر من اللحى الطويلة، فلا أذكر أني رأيت في صباي من آبائي وأجدادي من كان صاحب لحية طويلة.. كان الكل يقصرون لحاهم، أو يحلقونها تماما.. ولهذا لا تنطبق علي آراء فرويد في عقدة الصبا.
ولكني بعد أن شببت عن الطوق.. وبدأت – وخصوصا في الجامعة – أرى أصحاب اللحى الطويلة، بدأ يصيني هذا النوع من الرهاب.. وزاد الرهاب أكثر عندما بدأت تظهر على شاشات القنوات العالمية لحية أسامة بن لادن الطويلة.. ولحى كثيرة جرعتنا في بلادنا كل أصناف المرارة.
وقد كنت أعاتب نفسي كثيرا على هذا الرهاب خشية أن أبوح به لأحد من الناس، فيتهمني بالكفر والزندقة، لأن اللحية لم تعد مجرد شعرات تنبت على الوجه، وإنما صارت أصلا من أصول الدين، وأساسا من أسسه التي يقوم عليها، بل يقوم الجرح والتعديل على أساسها.. بل تقوم المعاملات المختلفة بين الناس على اعتبارها.. فمن كان صاحب لحية، وخصوصا الطويلة، وثق فيه الناس، ولم يحتاجوا لأي رهن أو سندات.
لكني بعد أن قرأت ما قال المحدثون في أصحاب اللحى الطويلة زال عني الحرج، وصرت أصرح بذلك، ولا أبالي به، فقد قرأت عن بعض المحدثين قوله: (من طرائف جرح الرواة، الجرح لأجل طول اللحية !!، وقد تتبعتها فوجدتها قيلت في أكثر من راوٍ للحديث)، ثم ذكر أمثلة على ذلك، لا بأس أن أسوقها هنا، لعلها تدعو إلى إجراء دراسات ميدانية أو بيولوجية أو طبية لقياس علاقة اللحية الطويلة بالمخ أو بالمخيخ أو بالمراكز العصبية أو مراكز الذكاء والفطنة.
فقد نقل عن سؤالات الآجري للامام ابي داود قوله: (وسئل أبو داود عن أبي إسرائيل الملائي فقال ذكر عند حسين الجعفي فقال: كان طويل اللحية أحمق)
ونقل عن العجلي قوله: (قال سعيد بن منصور قلت لابن إدريس رأيت سالم بن أبي حفصة؟، قال: (نعم رأيته طويل اللحية أحمقها)، وقال حسين الجعفي: (كان طويل اللحية أحمقها).
ونقل عن ثقات ابن حبان في ترجمة موسى بن السندي: (سمعت أبا حنيفة يقول يقولون: (من كان طويل اللحية لم يكن له عقل)، ولقد رأيت علقمة بن مرثد طويل اللحية وافر العقل)
ونقل عن شفاء العليل لأبي الحسن المأربي توضيحاً لذلك، حيث قال: (الوصف بطول اللحية يدل على الغفلة التي تؤدي إلى رفع الموقوفات، وإسناد المرسلات، فهذا هو الأصل، ولا يترك إلا لقرينة أقوى من ذلك.)
ونقل عن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد قوله في ترجمة أبي عبد الله العوفي، وكان طويل اللحية جدا، وقد مدحها بعضهم، فقال:
لحية العوفي أبدت |
ما اختفى من حسن شعري | |
هي لو كانت شراعا |
لذوي متجر بحري | |
جعل السير من الصين |
إلينا نصف شهر | |
هي في الطول وفي العرض |
تعدت كل قدر |
ومن أخباره وأخبار لحيته ما حدث به ابن أبي داود قال: قامت امرأة إلى العوفي فقالت: عظمت لحيتك فافسدت عقلك وما رأيت ميتا يحكم بين الأحياء قبلك، قال: فتريدين ماذا؟، قالت: وتدعك لحيتك تفهم عني؟، فقال بلحيته هكذا ثم قال: تكلمي يرحمك الله.!!.
ومنها ما حدث به الساجي بالبصرة، قال: اشترى رجل من أصحاب القاضي العوفي جارية فغاضبته ولم تطعه، فشكا ذلك إلى العوفي فقال: أنفذها إلي حتى أكلمها فأنفذها إليه، فقال لها: يا عزوب يا لعوب يا ذات الجلابيب، ما هذا التمنع المجانب للخيرات، والاختيار للأخلاق المشنوءات، فقالت له: أيد الله القاضي: ليس لي فيه حاجة فمره يبيعني، فقال لها: يا منية كل حليم، وبحاث عن اللطائف عليم، أما علمت أن فرط الاعتياصات من الموموقات على طالبي المودات والباذلين لكرائم المصونات مؤديات إلى عدم المفهومات؟ فقالت الجارية: ليس في الدنيا أصلح لهذه العثنونات على صدور أهل الركاكات من المواسي الحالقات، وضحكت وضحك أهل المجلس. وكان العوفي عظيم اللحية.
كانت هذه بعض أخبار لحى سلفنا الصالح.. أما أخبار خلفنا الفالح، فهي أكثر من أن تعد أو تحصى.. وسأحكي لكم قصة قد تدخل ضمن ما ذكره اليافعي وغيره عن اللحى الطويلة، وأدعو القراء الكرام لتسجيل ملاحظاتهم وحكاياتهم في هذا عسى أن نخرج موسوعة عن اللحى والعقول.
في ذلك اليوم دخلت إلى محل الملابس لأشترى بعض اللوازم لأهلي في رمضان، فوجدت صاحب المحل، وكان صاحب لحية طويلة لا تقل عن لحية العوفي، وقد رأيت الكثير من الزبائن يحلقون إلى شاشة التلفاز الكبيرة التي وضعت في مقدمة المحل، ليراها كل من يدخل، وقد عدت وخرجت من المحل لأتأكد أني دخلت محل ثياب لا إلى دار سينما.. لكن تأكدت من ذلك، فكل شيء ما عدا تلك الشاشة يدل على أنه محل ثياب.
سألت صاحب المحل عن سر الشاشة الكبيرة، فقال: أنا ميسور الحال بحمد الله، فلدي هذا المحل، ولدي غيره كثير.. وقد جعلت بيني وبين الله أن أجعله وسيلة للدعوة إلى الله.. فقد وضعت في كل محل شاشة كهذه الشاشة، عسى أن يسمع كل داخل إليه ما قد يفيده ويوجهه، فأكسب ثواب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)([1])
قلت: فلتشركني معك في الأجر.. فلدي بعض الأشرطة العلمية الإيمانية المفيدة للدكتور مصطفى محمود.. قد كان لها دور كبير في التوجيه والتربية وتعميق الحقائق الإيمانية.
قال: لا أحتاجها..
قلت: لم؟.. أتنكر على الرجل شيئا؟
قال: لا.. قد كانت تعجبني كثيرا.. ولكن المشكلة فيها أن مصطفى محمود حليق اللحية.. ومظهره لا يمثل الداعية المسلم.. حتى أنك لا تفرق بينه وبين أي شخص آخر.
قلت: ألهذا الحد تحتل اللحية كل هذه القيمة عندك؟
قال: أجل.. هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي سمة الإنسان المسلم التي تفرقه عن اليهود والنصارى والشيوعيين والملاحدة.
قلت: لا بأس.. فلدي أشرطة أخرى للشيخ محمد متولى الشعراوي.. وأنت تعرف فضله وما رزقه الله من فهوم جليلة للقرآن الكريم.. وهو فوق ذلك صاحب لحية محترمة مهذبة.
قال: أجل.. وأنا أحترمه كثيرا.. ولكن مشكلته هي في لحيته المحترمة المهذبة.. أصدقك القول.. لو أن لحيته كانت أطول قليلا لكان هو المفضل عندي.. ولكنت وضعت دروسه في جميع محلاتي.. ولكن المشكلة أن الشيخ الشعراوي كان يقصر لحيته كثيرا.. وأنت تعرف أن العلامة التويجري وإخوانه كثير قد كتبوا في تحريم ذلك.
قلت: لا بأس.. فلنستمع اليوم إلى أصحاب اللحى الطويلة.. لعلنا نجد عندهم ما لا نجده عند المردان أو المحلقين أو المقصرين.
استبشر صاحبي لقولي هذا، وقال: وأخيرا أراك تنزل عند رأيي.
قلت: لا مندوحة لي من ذلك.. ولكن لابد أن تجلس معي أنت أيضا لنسمع ما يردده أصحاب اللحى الطويلة الذين نسخوا من عداهم.
راح صاحبي يبحث في خزانته عن الشخصية التي يتناسب مظهرها مع الدعوة إلى الله، فوجد شيخا معروفا، بل هو أشهر من نار على علم.. كان صاحب لسان فصيح.. وقامة فارعة.. ولحية كثة.. ولكني لم أر عقله.. ولهذا لست أدري هل كان بطوله وطول لحيته، أم كان أقصر من ذلك.. لكني بعد أن سمعته عرفت معنى قول الشاعر:
ما أحد طالت له لحية |
فزادت اللحية في هيئته | |
إلا وما ينقص من عقله |
أكثر مما زاد في لحيته |
وضع الشريط([2]).. وبدأ الشيخ يخاطبني، ويخاطب صاحب المحل، وبعض الزبائن الذين أعجبهم سمت الشيخ.. لكن المصيبة أن المعلومة التي اجتهد بكل ما أوتي من قوة أن يوصلها لهم، ويستميت في الدفاع عنها هي ملخصة في رواية مكذوبة مفادها أن (خديجة أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدعوه إلى نفسها، تعني التزويج، وكانت امرأة ذات شرف، وكان كل قريش حريصا على نكاحها قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك.. فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل، ونحرت بقرة، وخلقته بخلوق، وألبسته حلة حبرة، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمومته فدخلوا عليه، فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله قال: ما فعلت أنى أفعل هذا، وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل)([3])
ما إن انتتهى من حديثه هذا حتى قام أحد الزبائن ممن كان مشغولا بسماع الخطيب غاضبا، وقال: أسكت عنا هذا الأحمق.. فلو اجتمع جميع أعداء رسول الله r في تشويهه وتشويه أم المؤمنين خديجة ما بلغوا ما بلغ.
وقامت امرأة، وقالت: أهذه هي خديجة التي يحدثوننا عنها.. كيف تجرؤ على فعل هذا؟
قال آخر: وكيف يرضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج بهذه الطريقة؟
ثارت فوضى في المحل.. فأسرع صاحب المحل إلى الشريط يوقفه، ويحاول أن يستلطف الزبائن.. ثم التفت إلي، وقال: لا تتسرع بالحكم من خلال مشهد واحد.. سأضع شريطا آخر لشخص آخر.. ألطف نبرة، وأطول لحية.. وسينسخ عنك تلك الصورة المشوهة التي تحملها.
وضع شريطا آخر لشيخ آخر لا يقل شهرة.. كان يتحدث عن المرأة في الإسلام، وما إن تحدث بعض الفقرات العاقلة حتى أصابته لوثة اللحية الطويلة، فقال – ولست أدري هل كان يشعر بما يقول أم لا-: (أيها الإخوة الكرام! إن صلاح البنيان الاجتماعي لا يكون إلا بإعادة النظر في أمر المرأة، ولابد لكل دعوة إصلاحية من شهداء، أفلا تكون شهيداً، أفلا تكون طليعة من طلائع الفتح، إننا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا فيما يتعلق بالنساء، إعادة النساء إلى البيوت مرة أخرى، نعلمهن كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بهما، فالبنت لا تحتاج أن تتعلم الإنجليزي ولا الفرنسي، ولا جغرافيا، ولا تاريخ، ولا تربية قومية، ولا حساب مثلثات، ولا كيمياء، البنت لا تحتاج إلى هذا كله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، نحن نحتاج إلى زوجات صالحات، الأمهات يعلِّمن البنات كل شيء؛ لأنهن سيكن زوجات بعد ذلك، كثير من البنات يتعثرن في بداية حياتهن الزوجية، لماذا؟ لأن الأم لم تعلمها كيف تطبخ، ولا كيف ترعى الزوج، لم تعلمها الكياسة، ولا الفطنة، ولا الذكاء، تدخل على زوجها ومعها سلاح، ولو أن المرأة معها شهادة عليا (ماجستير) أو (ليسانس)، وتقدم رجل معه دبلوم، وهو رجل صالح، ورجل فاضل، يقولون: لا. لماذا؟ لأن هناك تفاوت في الكفاءة، أي كفاءة هذه؟)([4])
ثارت فوضى في المحل، وقال بعضهم: من هذا المجنون الذي يتحدث؟
وقالت امرأة: ما هذا الإسلام الذي يتحدثون عنه؟
لم ييأس صاحب اللحية الطويلة، فوضع شريطا آخر لداعية آخر صاحب لحية أقل طولا، فاستبشرت خيرا، لكنه ما إن تحدث قليلا حتى أتى بجميع الطامات والموبقات فذكر – مجيبا على أسئلة وجهت له- جواز ترك الرجل زوجته للصوص والمجرمين إذا خاف على حياته من القتل.. وجواز إغلاق الرجل الباب على زوجته وعشيقها إذا شاهدهما في سريره، بدون أن يرى الفاحشة كاملة.. وجواز أن يتلصص أو يتجسس الرجل على المرأة وهي تستحم، إذا أراد خطبتها([5]).
ما إن وصل إلى هذا الحد من حديثه حتى حدثت فوضى كبيرة في المحل، وخرج الناس جميعا نساؤهم ورجالهم وأطفالهم.. ولم أبق إلا أنا وهو، فالتفت إلي، وقال: خذ ما تشاء من الثياب، أرجو منك فقط أن تقدم لي خدمتين.
قلت: أنا طوع أمرك.
قال: أما الأولى فأن تحضر لي ما ذكرت من الأشرطة.
قلت: والثانية؟
قال: أن تحضر لي معك مقصا أهذب به هذه
اللحية.. فأظن أنها قد أكلت من عقلي ما أكلت من عقولهم.
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) يمكن الاستماع لهذا الشريط عبر هذا الرابط:
(https://www.youtube.com/watch?v=SqncXG91Rdw)
([3]) انظر الفيديو على الرابط التالي:
([4]) من شريط بعنوان (مؤامرة تحرير المرأة) للشيخ أبي إسحاق الحويني، وهو على الرابط التالي:
(http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=92353)
([5]) انظر الفيديو على الرابط التالي: