الفصل الأول: المزارات الدينية.. والمصادر المقدسة

الفصل الأول

المزارات الدينية.. والمصادر المقدسة

المشكلة التي ينطلق منها أصحاب الرؤية التكفيرية ليست في حرصهم على التوحيد، ولا على سلامة العقيدة، فهم يتلاعبون بكليهما بكل صنوف التلاعب..

أما التلاعب بالتوحيد، فهم ممتلئون بعشرات آلاف الأنداد الذي يجلونهم ويعظمونهم من دون الله، فأكثر سلفهم الذين يحرمون نقدهم، أو عرضهم على قوانين الكتاب والسنة، لا يفعلون ذلك بهم إلا لاعتبارهم ـ من حيث لا يشعرون ـ أندادا من دون الله..

وهكذا عندما يفعلون مع أولئك الظلمة المستبدين من أصحاب الملك العضوض، قدمائهم ومحدثيهم، حين يدافعون عنهم، ولو على حساب القيم الإسلامية، هم لا يفعلون ذلك إلا لاعتبارهم أندادا من دون الله.

ومن شك في ذلك، فليذهب إلى الأسواق، والمحال التي يجتمع فيها الصعاليك والمنحرفين، وسيرى كيف يُسب الله ورسوله والدين، ويمر ذلك التكفيري بهم، فلا يكاد يبالي، بل ربما يجلس إليهم، ويضحك معهم، لكنه لو مر بمجلس من مجالس العلم، فرآهم ينتقدون تلك الأنداد التي عبدها من دون الله، صار حينها أسدا هصورا، يغرز أنيابه في أولئك الذين لم يستسيغوا أن يدخل في دين الله ما ليس منه، أو أن تشوه قيمه تحت أي اسم أو أي شعار.

وهكذا إن رأى ناسا ملتفين بضريح، وهم يقرؤون القرآن، أو يرفعون أيديهم بالدعاء، يتوسلون به إلى الله، لعلمهم أن الله تعالى كما أتاح الوسائل في شؤون الدنيا، أتاحها في شؤون الدين، يصم آذانه عن قراءتهم للقرآن الكريم، وعن ذكرهم الكثير لله، وعن حبهم في الله لذلك الذي يعتقدون فيه الولاية والصلاح، ويرى شيئا واحدا يزينه له الشيطان، وهو أنهم يشركون بالله، مع أنهم في قمة العبودية لله، وقمة التواضع مع من يعتقدون فيه الولاية لله.

فإذا سألته عن سر ذلك الحكم الخطير، دلك على تلك الأنداد التي جعل لها حق التشريع والحكم، وأعطاها أعظم معاني العبودية، وهي الطاعة المطلقة، التي اعتبرها الله تعالى شركا، فقال مخبرا عن أهل الكتاب: Pاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ O [التوبة: 31]، وقد ورد في الحديث تفسيرها، فقد سُئل حذيفة عن معناها، وعن كيفية عبادتهم للأحبار والرهبان، فقال: (أَحَلُّوا لهم الحرام فاستحلوه، وحَرَّمُوا عليهم الحلال فحرموه)([1])

بل روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عَدِيّ بن حاتم قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي عُنُقِي صَلِيبٌ من ذَهَبٍ، فقال: (ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن)، وسمعته يقرأ في سورة براءة Pاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَO [التوبة: 31]، ثم قال: (أما إنهم لم يكونوا يَعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرَّموه)([2])

وهذا حديث يبين أن الشرك الجلي الحقيقي هو ذلك الخضوع المطلق لتلك الأنداد الكثيرة من أصحاب الملك العضوض، وأعوانهم من علماء السلاطين الذين أخذوا عنهم أمثال تلك الأحكام الخطيرة، غافلين عن آلاف العلماء، ومن جميع المدارس الإسلامية، والذين يخالفونهم في ذلك.

وهكذا نجد الذين يشمتون بأولئك المتواضعين الذين يقفون على أبواب الأضرحة أو شبابيكها يبكون ويتضرعون إلى الله، وهم في غاية التوحيد والتنزيه والإيمان، يقعون في كل صنوف التجسيم والخرافة، والتي تمثل أعظم مظاهر الشرك والتشويه لحقيقة الألوهية وعظمتها.

ولذلك كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينيه) ([3]) صادقا في أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حماة للتوحيد، بينما هم غارقون في التجسيم والشرك إلى أذقانهم.

ولذلك لا ينطبق عليهم إلا تلك النصوص التي يحذر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته من ظهور أمثال هؤلاء المكفرين، والذين يعمدون إلى نصوص وردت في المشركين ليطبقوها على المؤمنين، ومنها ما رواه حذيفة بن اليمان، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك)، قال حذيفة: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟، قال: (بل الرامي)([4])

وهكذا قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم مبينا عظم خطرهم على الدين: (رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه)([5])، وفي رواية: (كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن أكفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب)

فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضابطا واحدا لإدخال المؤمن في الدين، وحماية عرضه من التكفير، وهو قول لا إله إلا الله، أو هو التوجه للقبلة في الصلاة، وهي محل اتفاق بين المسلمين جميعا.

ولو أن هؤلاء الذين يدعون الانتساب للسلف، وفهم السلف، عادوا إليهم، لوجدوا أن كل تلك الأحكام المجحفة التي نطقوا بها في حق المسلمين لم تكن من مذاهب السلف الصالحين، بل هي من مذاهب الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تخرج على الأمة بالسيف والتكفير.

ففي الحديث أن رجلا سأل جابر بن عبد الله الصحابي الجليل: هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله، ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا([6]).

وعن يزيد الرقاشي أنه قال لأنس بن مالك: يا أبا حمزة ! إن أناسا يشهدون علينا بالكفر والشرك، قال: أولئك شر الخلق والخليقة([7]).

وهكذا روي عن عمرو بن مرة الجملي، فقد ذكره مسعر بن كدام، فقال: (ما أدركت من الناس من له عقل كعقل ابن مرة، جاءه رجل فقال: ـ عافاك الله ـ جئت مسترشداً، إنني رجل دخلت في جميع هذه الأهواء فما أدخل في هوى منها إلا القرآن أدخلني فيه ولم أخرج من هوى إلا القرآن أخرجني منه حتى بقيت ليس في يدي شيء، فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلا هو جئت مسترشداً؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد جئت مسترشداً. قال: نعم أرأيت هل اختلفوا في أن محمداً رسول الله وأن ما أتى به من الله حق؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في القرآن أنه كتاب الله؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في دين الله أنه الإسلام؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنها قبلة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنها خمس؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في رمضان أنه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الحج أنه بيت الله الذي يحجونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنه واجب؟ قال: لا. قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7]، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا، قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه والمتشابه ما اختلفوا فيه شد نيتك في المحكم وإياك والخوض في المتشابه. فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك فوالله لقد قمت من عندك وإني لحسن الحال. قال: فدعا له وأثنى عليه([8]).

وهكذا أفتى جميع العلماء المحققين ـ الذين يعتبرهم أصحاب الرؤية التكفيرية أنفسهم ـ بعدم جواز التكفير في المسائل المختلف فيها، فقد قال الشوكاني: (اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن (من قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما).. ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير)([9])

وقال الباقلاني: (ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لايوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك، فيكفر)([10])

وقال ابن الوزير: (في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط.. أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، نعوذ بالله من الخطأ في الجميع، ونسأله الإصابة والسلامة والتوفيق والهداية)([11])

وقال: (وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهـله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارَضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة، ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق، وتجتمع عليه الكلمة، وتحقق إليه الضرورة)([12])

وقال الغزالي: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأِ في سفك محجمة من دم مسلم)([13])

وقال: (الوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، غير مناقضين لها.. فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه)([14])

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل العودة للمصادر المقدسة التي يعتمدها جميع المسلمين، لنعرض عليها المسألة، ونتحاكم إليها في حلها، وقد رأينا أنه يمكن تفكيكها إلى ثلاثة مسائل فرعية ([15]):

المسألة الأولى: البناء على المقابر، وهل هو مشروع أو غير مشروع، وفي حال كونه غير مشروع هل يرقى إلى الشرك الجلي، كما يزعم أصحاب الرؤية التكفيرية أم لا يرقى إلى ذلك؟

المسألة الثانية: التوسل والاستغاثة باعتبار أن التكفيريين يعتبرون كل توسل واستغاثة سواء أمام الضريح أو بعيدا عنه شركا جليا.

المسألة الثالثة: زيارة الأضرحة، والتي يعتبرها التكفيريون شركا، ويطلقون على من يقومون بها لقب القبوريين.

هذه هي المسائل الكبرى التي ينطلق منها أصحاب الرؤية التكفيرية في الحكم بالشرك الجلي على كل ما يرتبط بالمزارات الدينية، سواء ما تعلق ببنائها، أو بما يفعل فيها.

وقد حاولنا أن نعتمد في الرد على على أدلتهم ـ بعد عرضها ـ من خلال صنفين من الأدلة:

الصنف الأول: المصادر المتفق عليها، وهي الكتاب والسنة المطهرة، وكلاهما محل اتفاق بين الأمة جميعا، وقد بدأنا بهما باعتبارهما الأصل الذي يرجع إليه عند كل اختلاف، كما قال تعالى: Pيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًاO [النساء: 59]، وقال: Pيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌO [الحجرات: 1]

الصنف الثاني: المصادر المختلف فيها، وهي تلك المصادر التي حاولت فهم الكتاب والسنة، أو تفسيرها، باعتبارها أقرب إلى زمن النبوة، وقد أشار إليها قوله تعالى: Pوَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًاO [النساء: 83]

فأولي الأمر في الآية الكريمة ينطبق على السلف من الصحابة والتابعين في المدرسة السنية، كما ينطبق على أئمة أهل البيت في المدرسة الشيعية.

واتفاقهما في هذا المحل يعطيه مصداقية كبيرة، ذلك أن هذه الأمة لا تتفق على ضلالة، لأن ذلك يؤدي إلى انطماس الحق، ووقوع جميع الأمة في الباطل يعني انتصاره على الحق، وقد أخبر أن الله تعالى أن الحق لن ينطفئ نوره أبدا، كما قال تعالى: P يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ O [الصف: 8]، وقال: Pوَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا O [الإسراء: 81]

وأخبر عن بني إسرائيل أنهم لم يجمعوا على تحريف الدين، بل بقيت منهم طائفة صالحة، إلى أن جاء الإسلام فاتبعته، كما قال تعالى: Pوَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ O [الأعراف: 159]

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، بل يعد به، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة)([16])

وهو جزء من حديث دل معناه على صحته، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم، فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة)

أولا ـ المصادر المقدسة والبناء على القبور:

من أهم الأركان التي يتأسس عليها الموقف التكفيري من المزارات الدينية الموقف من البناء على القبور، إذ أنهم يتجاوزون به طرح المسألة في أبواب الفروع الفقهية، وربطه بالحلال والحرام، والمشروعية وغير المشروعية، إلى كونه من نواقض الإيمان، ومن أسباب الكفر الجلي المخرج من الملة.

ويبنون عليه تحريم الصلاة في المساجد التي بها قبور، بل يجوزون هدمها، ولو على رؤوس المصلين، باعتبارهم مشركين، مثلما نراه في أحيان كثيرة في المساجد التي بها صوفية أو شيعة أو غيرهم.

وهم يبنون هذا على تلك النصوص التي ذكرها سلفهم القديم والجديد، ومن الأمثلة على ذلك قول ابن القيم بعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي فيه، وكيف أنه صلى الله عليه وآله وسلم هدمه وحرقه: (ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، مسجد يصلى فيه، ويذكر اسم الله فيه، لما كان بناؤه ضرراً وتفريقاً بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع لـه، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار؛ فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بذلك، وأوجب.. وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد.. فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً، أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى)([17])

فهذا النص لا يدل فقط على مجرد التحريم، وإنما يدل على التكفير أيضا، بل يدل فوق ذلك على مشروعية تدمير أمثال هذه المساجد، وهو ما يطبقه كل حين المتأثرون بالرؤية التكفيرية.

مع العلم أن من مقتضيات هذا الحكم تدمير كل المساجد التاريخية، بل حتى تلك المساجد التي دفن فيها أئمة المذاهب الأربعة، فللشافعيّ ضريحه المشهور في مصر، ولأبي حنيفة ضريحه في بغداد، وأحمد بن حنبل كان له قبر مشيّد في بغداد، جرفه شط دجلة حتّى قيل: أطبق البحر على البحر، (وكلّ تلك القبور قد شيّدت، وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء، وأرباب الفتوى، وزعماء المذاهب، فما أنكر منهم ناكر، بل كلّ منهم محبّذ وشاكر)

بناء على هذا، سنذكر هنا ما يرد على هذه الرؤية من خلال المصادر المقدسة المعتمدة لدى هذا الفريق نفسه، وذلك من خلال الأدلة التالية:

1 ـ القرآن الكريم.. والبناء على القبور:

نحب قبل أن نذكر ما ورد في القرآن الكريم من الأدلة على البناء على المقابر أن ننبه إلى أن الكثير من تفاصيل الأحكام الشرعية غير واردة فيه، ولذلك يتشدد التكفيريون أنفسهم مع الذي يطالبون بالأدلة القرآنية حول ما يطرحونه من فروع فقهية.

ومن الأمثلة على ذلك أن الكثير من مسائل التركات والمواريث من أمثال التعصيب والعول وغيرها، مع أهميتها الشديدة لم يرد فيها أي نص قرآني، ومع ذلك نجد الفروع الكثيرة المرتبطة بها.

وهكذا يقال في هذه المسألة، وكان الأصل أن يطالب من يحكم على أكثر الأمة بالكفر بسبب بنائها على المقابر أن يأتي بالدليل القرآني الصريح على ذلك، لا أن يطالب المخالفين بالدليل، ذلك أن مثل هذه المسألة الخطيرة التي يتوقف عليها مصير المؤمنين تحتاج إلى أدلة قطعية قوية، وليس إلى مجرد أحاديث آحاد، قد يساء فهمها، بالإضافة إلى ضعف ثبوتها.

ومع ذلك، وعند العودة للقرآن الكريم، وترك تعطيله أو انتقاء ما يشتهى منه، نجد إشارة واضحة وصريحة على شرعية بناء المزارات الدينية واحترامها وتعظيمها، ومن أشد تلك النصوص القرآنية صراحة ووضوحا قوله تعالى في قصة أصحاب الكهف: Pوَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا O [الكهف: 21]، ومن وجوه الاستدلال بالآية الكريمة كما يذكر أصحاب الرؤية الإيمانية([18]):

1. أنّ الآية الكريمة متعلّقة بأصحاب الكهف، وهم أولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم، وتركوا أهلهم حفاظا على إيمانهم، وهي تكشف عن اختلاف وقع بين المؤمنين المسلمين والمشركين الكافرين فيما يجب فعله بهم، حيث قال الذين لم يؤمنوا: P ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْO، أي ضعوا بنيانا على باب كهفهم ليسترهم، ربّهم أعلم بحالهم، وقال الذين أمنوا واستضعفوا: P لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا O، أي نحن سوف نتّخذ هذا المكان مكانا لعبادة الله عز وجل والتقرب إليه من خلال التبرك بهذا المكان الذي وقعت فيه المعجزة.

2. أن الذين غلبوا على أمرهم هم المؤمنون، لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون، وأما الكافرون فقالوا: ابنوا عليهم بنيانا، والدليل من هذه الآية إقرار الله تعالى إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم، فإن الله تعال إذا حكى في كتابه عن قوم مالا يرضاه ذكر معه ما يدل على فساده وينبه على بطلانه إما قبله وإما بعده، فإذا لم ينبه على ذلك دل على رضاه تعالى به وعلى صحته إن كان عملاً وصدقة إن كان خبراً.

3. أن الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى، على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله تعالى، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة.

4. أن الشرك لم يشرع في أي دين من الأديان، ولذلك حتى لو فرضنا أن هذه الشريعة كانت للنصارى، فإنها تدل على كون البناء على القبور، واتخاذها مساجد لا علاقة لها بالشرك.

5. أن الأديان جميعا تتفق في أصول الشرائع، فكلها تحوي صلاة وصياما وزكاة وحجا وغيرها، كما قال تعالى عن الصيام: Pيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ O [البقرة: 183]، والاختلاف بينها قاصر على الكيفيات، ولذلك فإن مشروعية اتخاذ القبور مساجد في الأمم الأخرى دليل على مشروعيتها في هذه الأمة، وإن كانت تختلف في كيفية تنفيذها.

لكن للأسف، ومع وضوح دلالة هذا النص على عدم ارتباط الشرك بالبناء على القبور، إلا أن أصحاب الرؤية التكفيرية راحوا يعطلون الآية الكريمة من أجل الحفاظ على ذلك الحكم المشدد الذي تبنوه، وكأن الله تعالى ذكر لنا تلك الحادثة للتسلية فقط، وليس لأي غرض آخر.

ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم، أو الكثير منهم في الرد على الاستدلال بالآية: (إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعطِيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي.. (فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس كافة)، فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا!)([19])

وهكذا راحوا يردون الآية بهذا الاعتبار الذي يجعل من السنة متحكمة على الكتاب، فقد قال بعضهم: (هَبْ أن الصواب قول من قال: (شريعة من قبلنا شريعة لنا) فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يَرِدْ في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا)([20])

وكان الأصل هو محاولة الجمع بين الآية والأحاديث الواردة، وليس رمي الآية، وعدم تفعيلها بحجة مخالفتها للحديث، وسنرى كيف يجمع بين الآية والحديث، عند ذكر الأحاديث التي ارتبطوا بها، والتي أساءوا فهمها، لأنهم لم يحاولوا الجمع بينها وبين القرآن الكريم.

وأعجب أنواع الهروب من الآية الكريمة الواضحة هو ذلك الذي ذكره بعضهم، فقال: (لا نسلِّم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا، غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: Pلَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًاO فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: Pقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًاO فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى)

وهذا من غلبة الهوى والتحكم في التعامل مع القرآن الكريم، فمع أن المطالبة ببناء المساجد لا تكون إلا من المؤمنين الصادقين المخلصين إلا أن هؤلاء الطائفيين، لم يكتفوا بالتهجم على صالحي هذه الأمة، وإنما راحوا إلى صالحي الأمم الأخرى، وكأنهم يستدركون على الله تعالى، والذي لم يذكر هؤلاء بما يشينهم، بل فيه إشارات كثيرة إلى صلاحهم، لأنهم عرفوا كيف يعظمون ويحترمون أولئك الذين فروا بدينهم، في مقابل أولئك الذين آذوهم.

بالإضافة إلى تلك الآية الصريحة التي ترد على اعتبار بناء المساجد على القبور شركا، وردت أدلة أخرى يمكن اعتمادها في هذا الباب مثل قوله تعالى: Pذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِO [الحج: 32]، وقوله: Pذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ O [الحج: 30]، وقوله: P يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ O [المائدة: 2]

فهذه الآيات الكريمة تدعو إلى حفظ شعائر الله وتعظيمها والحرص عليها، ومن الحرص عليها البناء الذي يحفظها، ولاشك أن المعالم الدينية من شعائر الله التي تدعو الآية الكريمة إلى حفظها.. وتلك المعالم لا تخلو في العادة من القبور.. كما أشار السبحاني إلى ذلك بقوله: (لاشكّ أنّ صون المعالم الدينية عن الاندراس ـ كالمشاهد المتضمّنة لأجساد الأنبياء والصالحين ـ وحفظها عن الخراب بناءاً وتجديداً نحو من أنحاء التعظيم، كما أنّ حفظ المسجد عن الخراب تعظيم له، لا يخفى أنّ الله تعالى جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التي يجب احترامها، فكيف بالبقاع المتضمّنة لأجساد الأنبياء والأولياء، فإنّها أُولى بأن تكون شعاراً للدين، كيف لا؟ وهي من البيوت التي أذن الله أن تُرفع، ويذكر فيها اسمه، فإنّ المراد من البيت في الآية هو: بيت الطاعة، وكلّ محلّ أُعدّ للعبادة، فيعمّ المساجد والمشاهد المشرّفة لكونها من المعابد، ولو لم يكن في الشريعة ما يدلّ على تعمير المساجد، وتعظيمها واحترامها، لأغنتنا الآية بعمومها عن الدلالة على وجوب تعمير المسجد وتعظيمه، وإدامة ذكر الله فيه، لكونه من البيوت التي أذن الله أن تُرفع)([21])

2 ـ السنة النبوية.. والبناء على القبور:

يمكن تقسيم الحديث في الأدلة الواردة في السنة النبوية المطهرة حول شرعية البناء على قبور الأنبياء والصالحين، وما يرتبط بها إلى قسمين:

أولهما: ما يمكن الاستدلال بها على شرعية البناء وعدم حرمته.

وثانيهما: الروايات المعارضة لذلك، وكيفية توجيهها والجمع بينها وبين النصوص المجوزة لذلك.

وهذا المنهج يعتمد في كل الأبواب الفقهية، وعند جميع الفقهاء، ذلك أنه إذا تعارضت النصوص في أي مسألة يبحثون عن المحكم فيها، ثم يحاولون توجيه المتشابه ليتناسب مع المحكم، وقد يحكمون بضعف المتشابه إذا كان حديثا بسبب مخالفته لما هو أقوى منه.

وبناء على هذا، فإن ما يقوي جانب المشروعية هو ما ذكرنا من الدليل القرآني الصريح والواضح في مشروعية البناء، ذلك أن القرآن الكريم لم يكن ليترك التعقيب على ذكر البناء إن كان حراما، ذلك أن السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز.

بناء على هذا، سنذكر هنا ما يورده أصحاب الرؤية الإيمانية من كلا القسمين:

أ ـ النصوص المحكمة الدالة على مشروعية البناء:

من الأدلة التي ذكرها أصحاب الرؤية الإيمانية على مشروعية البناء على المقابر، وخصوصا قبور الأنبياء والصالحين ([22]):

1 ــ ما ورد من الأحاديث والآثار الدالة على أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم نوحاً، وهوداً وصالحاً، وشعيباً، وأن قبورهم بين زمزم والحجر، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام، وهو أشرف مسجد على وجه الأرض هو ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان وجود القبر في المسجد محرماً لذاته لنبش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجهم فدفنهم خارج المسجد، فإنه أخبر الله أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهم أحياء في قبورهم([23]).

2 ــ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يدفن في البناء فقال: (لن يقبر نبي إلا حيث يموت فأخروا فراشه، وحفروا له تحت فراشه)([24])، وهو دليل صريح على وجود البناء حول القبر، وأن النهي خاص بما كان فوقه، لأنا بالضرورة نعلم أن النهي عن البناء ليس هو عن فعل الفاعل وبناء البناء، وإنما هو عن وجود نفس البناء على القبر، وإذا جوز الشارع وجود الميت داخل البناء فقد جوز البناء إذ لا فارق بين أن يوجد بعد الدفن أو قبله، لأن الغاية واحدة والصورة متفقة وهي وجود القبر داخل البناء، وإذا جاز ذلك فلا فرق بين أن يكون البناء بيتاً أو قبة أو مدرسة لأن الكل بناء والعلة في ذاته لا في أشكاله وصوره فليس النهي متعلقاً بصورة القبة أو المدرسة، بل بذات البناء كيفما وجد([25]).

3 ــ إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يدفن في بيته الذي هو بناء فقد تقرر في قواعد الفقه أن الرضي بالشيء رضى بما يؤول إليه ذلك الشيء، وبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ملاصقاً للمسجد، وبابه شارعة إليه حتى أن الرواة يذكرونه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اعتكف يخرج رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهي في البيت وهو في المسجد، وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستكثر، وأن المدينة ستتسع وتعظم حتى يصل بناؤها إلى سلع كما أخبر هو صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وأمر بشد الرحلة إلى زيارة قبره الشريف وإلى مسجده للصلاة فيه ورغب في ذلك بقوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)([26]) و(صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)([27])، ومسجده صلى الله عليه وآله وسلم كان في عصره صغيراً لا يسع عشر معشار ربع من يقصده من أمته.

4 ــ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده، وزاد فأخبر بـ (أن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة)([28])، وهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى استحباب إدخال قبره الشريف في المسجد لأنه ترغيب يدعو إلى ذلك، إذ المراد فضيلة الصلاة ما بين القبر والمنبر والترغيب فيها في ذلك الموضع إذا لم يكن القبر الشريف داخل المسجد لا تتصور الصلاة بين القبر والمنبر ولا يتأتى التعبير بقوله: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، لأنه إذا كان المنبر وسط المسجد والبيت الذي فيه قبره الشريف خارج المسجد لم يصح في العادة التعبير بالبينية خصوصاً عند إرادة الصلاة، فإن البيت وسوره حاجز بين القبر والمنبر مانع من الصلاة في موضعه.

5 ــ أن الله تعالى قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عند ربه جل وعز أعلى قدراً وأحمى جانباً من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله تعالى ملعون فاعله، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان، فلو كان اتخاذ المسجد عليه صلى الله عليه وآله وسلم ممنوعاً متخذه لحمى الله تعالى جانب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم منه، ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه جائز ومطلوب، (ومن اعتقد خلاف هذا فهو قرني ممقوت لم يذق للإيمان طعماً ولا عرف من منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العليا ومكانته السامية عند ربه شيئاً فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان)([29])

6 ــ أن ذلك ما جرى عليه عمل الصحابة، وهو من الأدلة المعتبرة عند أصحاب الرؤية التكفيرية، ذلك أنهم في سجالاتهم مع المخالفين لهم، يستدلون بفعل السلف، ويقدمونهم حتى على الأحاديث النبوية نفسها، وبناء على هذا يمكن اعتبار إجماع الصحابة واتفاقهم بعد الاختلاف في موضع دفنه على دفنه في بيته عملاً بما أخبرهم به أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان ذلك غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو منسوخاً بما ذكره في مرض وفاته مع أن الخبر لا يدخله النسخ لما أجمع الصحابة عليه، وقد قام الدليل على حجية الإجماع، ولا سيما إجماع الصحابة([30]).

7 ــ إجماع التابعين ومن بعدهم في عهد وجود كبار أئمتهم مثل عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وفقهاء المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها من أقطار الإسلام، ثم أجمعت الأمة بعدهم على إدخال بيته المشتمل على قبره داخل المسجد وجعله في وسطه، وإجماعهم حجة ولو كان ذلك منهياً عنه لاستحال أن تتفق الأمة في عصر التابعين على المنكر والاجتماع على الضلالة لولا أنهم فهموا من النهي أن المراد به علته التي زالت باستقرار الإيمان ورسوخ العقيدة، ولا يقال إنهم سكتوا على ذلك لأجل ضرورة توسعة المسجد فإنه كان في الإمكان توسعته من جهة القبلة والجهة المقابلة لها والجهة الجنوبية لها دون الجهة الشمالية الواقع فيها قبره صلى الله عليه وآله وسلم.

8 ــ أن الصحابة بنوا على القبر مسجداً في حياته صلى الله عليه وآله وسلم فأقرهم على ذلك ولم يأمرهم بهدمه، ويستحيل أن يقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باطل، ويدل لذلك ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي بصير من أن أبا جندل دفن أبا بصير في مكانه الذي مات فيه، ووصلى عليه وبنى على قبره مسجداً، حيث قال: (وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجدا) ([31])

وقد علق الغماري على هذا بقوله: (إن كل ذي حس سليم يعرف سيرة الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدرك أنه لا يمكن إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكرونه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول الله تعالى وخليفته في خلقه، والأمر أمره، والحكم حكمه، والصحابة كلهم جنده ونوابه ومنفذون أمره، وكذلك يستحيل أن يحدث مثل هذا من أصحابه الذين هم تحت حكمه وأمره ويكون ذلك حراماً ملعوناً فاعله يجر إلى كفر وضلال، ثم لا يعلمه الله تعالى به ولا يوحي يوحي إليه في شأنه، كما أعلمه بمسجد الضرار وقصد أصحابه من بنائه وأمره بهدمه بل وبما هو أدون من هذا وأقل ضررا بكثير فإذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على بنائهم المسجد على قبر أبي بصير ولم يأمرهم بهدمه إذ لو أمر بذلك لنقل في نفس الخبر أو غيره، لأنه شرع لا يمكن أن يضيع بل يستحيل ذلك لخبر الله تعالى أنه حفظ الدين من أن يضيع منه شيء ولا يصل إلى آخر هذه الأمة ما وصل إلى أولها. فلما لم يأمر بهدمه دل ذلك على جوازه)([32])

ب ـ النصوص المتشابهة في النهي عن الزيارة وتوجيهها:

يورد أصحاب الرؤية التكفيرية لمن يسمونهم القبوريين عادة بعض الأحاديث النبوية، التي قد يفهم منها ـ بادئ الرأي ـ حرمة بناء المزارات، وحرمة زيارتها، بل اعتبار ذلك بدعة وشركا، ومنها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد)([33])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة حين ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما رأت فيها من الصور: (أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)([34])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)([35])

وقد رد القائلون بشرعية بناء المزارات على ما فهموه بوجوه كثيرة نقتصر منها على الوجوه التالية([36]):

1 ــ أن الله تعالى حكى مشروعية البناء عن المؤمنين في سورة الكهف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حكاه عن اليهود والنصارى وفرق بين حال الفريقين، فإن المؤمنين فعلوا ذلك للتبرك بآثار الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الآية وحفظ أرواحهم وأجسامهم تلك القرون الطويلة، بينما اليهود والنصارى يفعلون ذلك للعبادة والإشراك مع الله تعالى؛ فالدليلان غير متواردين على محل واحد، ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد يعبدون فيها تلك القبور ويسجدون إليها أو يجعلونها قبلة لاتخاذهم الأنبياء شركاء مع الله تعالى فيما يستحقه من العبادة.

2 ــ أنه لو كان كل من بنى على المسجد قبراً ولو للتبرك والزيارة ملعوناً كما في الحديث لكان هؤلاء المؤمنون الذي حكى الله عنهم ملعونين أيضاً داخلين في لعنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من فعل الذي حكاه الله عنهم، ولو كانوا كذلك لكان سكوت النص القرآني عن ذمهم ولعنهم والإشارة إلى ضلالهم وخروجهم عن الصراط المستقيم فيما أتوا كما عرف من عادته في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

3 ــ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تماثيل)([37])، فاتخاذهم الصور والتماثيل فيه دليل على أنهم يفعلون ذلك لأجل عبادتهم، وقد شهد العيان بذلك وأثبت التاريخ مثله، وأنهم ابتدأوا عبادة الأصنام بعبادة صور الصالحين وقبورهم، وهذا لا يوجد منه شيء عند المسلمين.

4 ــ أنه معلل بخشية العبادة، وكما هو مصرح به في الحديث نفسه فلا يكون تشريعاً عاماً في كل زمان، بل هو التشريع المؤقت بزمن خشية وجود العلة، وهو زمن قرب عهد الناس بالإشراك دون الزمان الذي لم يعد أهله شركاً ولا دار في خلدهم شيء منه، بل نشأوا على الإيمان واليقين والتوحيد واعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، فهو غير معارض لدليل الكتاب العام في كل زمان، بل هو مخصص لعمومه بزمن ارتفاع خشية العبادة، وهو زمن استقرار الإيمان وانتشار التوحيد ورسوخ العقيدة رسوخاً لا يتطرق معه أدنى خلل ولا شك في وحدانية الله تعالى وتفرده بكل معاني الألوهية والربوبية.

وقد ذكر الغماري أن (مثل هذا في الشريعة كثير جداً وهو التشريع المؤقت الذي يشرع لعلة ثم يزول بزوال علته، إلى أنه تارة يكون منصوصاً عليه من الشارع نفسه وهو الناسخ والمنسوخ، وتارة لا ينص الشارع على زوال الحكم ونسخه لاحتمال وجود العلة في كل وقت، ولكنه يشير إلى أن ذلك الحكم غير لازم على الدوام إنما يلزم عند وجود علته فيقول أو يفعل ما يخالف الحكم الأول حتى يظن في بادئ النظر أن بين الأمرين تعارضاً) ([38])

وضرب مثالا على هذا بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور([39]) أولاً لما كانوا قريبي عهد بالشرك، فلما استقر الإيمان في نفوسهم أباح لهم زيارتها للاعتبار والتذكر والزهد في الدنيا، وكذلك نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وعن ادخارها لأجل مجاعة ألمت بالناس، فلما ذهبت قال: (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور وأكل لحوم الأضاحى فوق ثلاث، وعن نبيذ الأوعية ألا فزوروا القبور فإنها تزهد فى الدنيا وتذكر الآخرة، وكلوا لحوم الأضاحى وأبقوا ما شئتم فإنما نهيتكم عنه إذا لخير قليل فوسعه الله على الناس ألا إن وعاء لا يحرم شيئا وإن كل مسكر حرام)([40])

5 ـ أن الخلاف في جواز البناء حول القبور نشأ نتيجة الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أولا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً، فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه، ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي، بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف، ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع([41]).

6 ــ أن القائل بكراهة البناء فهم أن النهي عن البناء عام، والدليل يدل على أنه خاص بالبناء الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف (على) الموضوع للاستعلاء، فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر، فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة، فإن اللفظ لا يتناوله، وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به([42]).

7 ــ أن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البناء على القبر على أقوال([43]):

منها أن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار، ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار.ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة.

ومنها إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه، ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه.

ومنها أن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله.

ومنها أن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد.

ومنها أن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه.وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين.

ومنها أنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة.

ومنها أنه يدعو إلى الجلوس على القبر.والجلوس عليه منهي عنه لما فيه من أذية الميت بامتهانه ولهذا استحبوا أن يكون القبر مسنماً ولا يكون مسطحاً لأن التسنيم يمنه من الجلوس، ذكره بعضهم.

ومنها إنه يحول بين الميت وسماع النداء والذكر وتلاوة ما يتلى على قبره من القرآن وسلام المسلم عليه.

وقد أورد الشيخ الغماري لكل علة من العلل الثماني ما يدل عليها، وناقشها، وبين أن العلة الوحيدة المعتبرة، هي البناء على نفس القبر، فقال: (فلم يبق مقبولاً إلا العلل الأخرى وهي خاصة بالبناء الواقع على نفس القبر فوقه لا الذي حوله دائراً به، فلذلك كان مخطئاً من حمل النهي على العموم وأدخل فيه القباب والمدارس والأحواش، لأنها غير داخلة في النهي)([44])

وكمثال على مناقشته العلل مناقشته للعلة المتعلقة باعتبار البناء من الزينة التي لا تنبغي لأهل الآخرة، وقد ناقشها من وجهين([45]):

أحدهما: أن البناء على القبر ليس من الزينة في شيء ولا يراد به الزينة، وإنما يراد به حفظ القبر من الدوس والامتهان واندثار الأثر الذي لا يعرف معه القبر، وإذا قصد به بعضهم الزينة وفعل به ما هو منها فذاك أمر زائد على البناء، فيكون الحكم متعلقاً به لا بنفس البناء.

الثاني: أن كون الزينة الدنيوية لا تنبغي لأهل الآخرة دعوى مجردة عن الدليل فهي باطلة.فإن الشارع أمر بتزيين الميت وتحسين كفنه وتطييبه، ونص الفقهاء على استحباب تقليم أظافره وإصلاح شعر لحيته ورأسه ونحو ذلك من أمور الزينة التي لم تطلب للحي إلا في العيدين والجمعة.

8 ــ أن التعليل بخشية عبادة القبر غير صحيح، وذلك لــ (رسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين وتنشئتهم على التوحيد الخالص واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والإيجاد والتدبير والتصريف لا فاعل غيره ولا مؤثر في ملكه سواه وأن المخلوق الحي لا قدرة له على جلب منفعة لنفسه ولا دفع مضرة عنها إلا بخلق الله تعالى وإيجاده فضلاً عن الميت المقبور، وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين، فإن من يتخذها عليهم لا يفعل ذلك لأجل أن يعبدهم ويتخذ قبورهم مساجد يسجد إليها من دون الله تعالى، أو يجعلها قبلة يصلى إليها، بل هذا ما سمع في هذه الأمة ولا وجد قط من مسلم يدين بدين الإسلام وإنما قصد بتلك القباب مجرد الاحترام وتعظيم قبور الصالحين وحفظها من الامتهان والاندراس الذي ينعدم به الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم، فإذا فرض وجود من بنى قبة أو مسجداً على قبر ليعبده ويتخذه قبلة فهذا كافر مرتد يجب قتله وهدم ما بناه، لأنه لم يبن مسجداً بل بنى كنيسة في صورة مسجد مع أن شيئاً من هذا لم يقع في هذه الأمة والحمد لله)([46])

 أما ما يفعله بعض جهلة العوام إذا أتوا قبور الصالحين (من التعظيم ما يشبه صورته صورة العبادة لا يكون موجباً لكراهة البناء، لأن ذلك لم يأت من جهة البناء ولا هو العلة فيه، إنما علته الجهل بطرق التعظيم والحد اللائق به شرعاً، ولو كان البناء هو علة ذلك للزم ألا يتخلف عند وجوده مع أن جل من يزور الأولياء المتخذ عليهم القباب والمساجد لا يوجد منه ذلك، وإنما يوجد من قليلين جداً من بعض جهلة العوام.كما أنه يلزم أن لا يوجد إلا عند القبور المبني عليها مع أننا نرى بعض الجهلة يفعل ذلك أيضاً ببعض قبور الأولياء التي لم يبن عليها مسجد ولا قبة وليس عليهم بناء أصلاً)([47])

9 ــ أن تعظيم الصالحين لا يرتبط بالبناء وحده، فإنه حتى لو هدمت الأضرحة يبقى التعظيم، لأن الباعث على ذلك هو الاعتقاد الناشئ عن ولايتهم وصلاحهم ومكانتهم السامية عند ربهم الذي وضع لهم المحبة والاعتقاد في القلوب، ولهذا، فإن (على الجهلة القرنيين([48]) المبتدعة الضالين أن يهدموا الاعتقاد ويقلعوا أثره من النفوس ويقضوا على الصلاح والولاية والتقوى والخشية التي يكرم الله تعالى صاحبها، بوضع ذلك في القلوب حتى يستريحوا من تعظيم المخلوق والتوسل والاستغاثة به أما هدم البناء فلا يأتي لهم بنتيجة ولو أتى بها لما احتاجوا إلى حراس عند القبور يمنعون من ذلك بعد الهدم)([49])

وتحدث الشيخ الغماري عن نفسه في تلك الفترة التي قام فيها الوهابيون بهدم القباب، فقال: (فأنا زرت قبر حمزة بعد هدم البناء الذي عليه بأزيد من خمس عشرة سنة ووجدت الحارس قائماً عند قبره يمنع الزوار من القرب من القبر والتمسح به وتقبيله، ولم يكف مضي خمس عشرة سنة على الهدم في قلع ذلك من النفوس، وهكذا يبقى ذلك ما بقي الإيمان ومحبة الله تعالى ورسوله ومحبة أوليائه وأصفيائه.والمقصود أن البناء لا دخل له في تحقيق علة النهي وثبوتها في هذه العصور المتأخرة، بل ذلك قد زال من البناء وانتقل إلى المحبة والاعتقاد فلم يبق حكم متعلق بالبناء، وكان المتمسك بظاهر النهي المعرض عن تحقيق علته ومراد الشارع منه مخطئاً في حكمه غير مصيب في اجتهاده وفهمه)([50])

10 ــ أن القائل بكراهية البناء على القبور تمسك بالنهي ولم يلتفت إلى ما يعارضه من الأدلة، وذلك مما يوجب الخطأ في الحكم وعدم الإصابة في الاجتهاد، فإن الجمع بين الدليلين واجب مفترض والإعراض عن أحدهما دون ثبوت النسخ حرام والحكم باطل، فإن النهي عن البناء ورد ما يعارضه مما هو أقوى منه ثبوتاً ودلالة فلا يقبل حكم مع الإعراض عنه، وسنورد هذه الأدلة المعارضة في العنوان التالي.

11 ـ أن معنى النهي عن اتخاذ القبور مساجد هو السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها، كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان، وهو شرك صريح، وقد وردت الدلالة على هذا المعنى في تلك الأحاديث نفسها، فقد ثبت في حديث عائشة عن الشيخين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذو قبور أنبيائهم مساجد)، ثم علقت على ذلك بقولها: (فلولا ذلك، أبرزوا قبره)([51])

وقد علق الغماري على ذلك بقوله: (شدد في النهي عن ذلك، خوف أن يتناهى في تعظيمه، ويخرج عن حد المبرة.. لأن هذا الفعل كان أصل عبادة الأوثان ولذا لما كثر المسلمون في عهد عثمان واحتيج إلى الزيادة في المسجد وامتدت الزيادة حتى أدخلت فيه بيوت، أدير على القبر المشرف حائط مرتفع، كي لا يظهر القبر في المسجد، فيصلى إليه العوام، فيقعوا في اتخاذ قبره مسجداً ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من جهة الشمال، حتى لا يمكن استقبال القبر في الصلاة، ولذا قالت: لولا ذلك لبرز قبره.. وهذا يبين أن اتخاذ القبر مسجداً، هو السجود له)([52])

12 ـ أن الرواية التي يذكرون فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الذين يتخذون القبور مساجد: (أولئك شرار الخلق)، أي أن الأمة تتصف بذلك هي شر الأمم، وهم يعلمون أن القرآن الكريم والسنة المتواترة، تخالف ذلك، فالله تعالى أخبر أن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي خير أمة أخرجت للناس، وأنها أشرف الأمم وأفضلها على الإطلاق، وأنهم عدول يتخذهم الله تعالى شهداء على الأمم السابق، كما قال تعالى: Pوَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا O [البقرة: 143]، وذكر الله لهم من الفضل ما رغبت الأنبياء والمرسلون فيه وتمنوا أن يكونوا من أمته صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبر أنهم لا يجتمعون على ضلالة، وأن ما رأوه حسناً فهو عند الله حسن وكثير من أمثال هذا، وهذا كله يتنافى مع الحديث الذي ذكروه، فدل على أن المراد منه ليس ما فهموه منه.

يقول الغماري: (وقد علم الله تعالى في سابق علمه وما قضاه وقدره في أزله أن هذه الأمة ستتفق وتجمع أولها عن آخرها على بناء المسجد على قبر نبيها أشرف الأنبياء وأفضل المرسلين، كم علم ذلك بإعلام الله تعالى إياه وأشار إليه كما سيأتي، وأنهم سيتفقون أيضاً سلفاً وخلفاً على اتخاذ المساجد على قبور الأولياء والصالحين والعلماء والعاملين، ومن أولئك الأولياء نفسهم من يتخذها على من قبله من شيوخه ويزوره في حال بناء المساجد والقباب عليهم بل ويشد الرحال من البلاد البعيدة إلى زيارتهم، وقد شد الإمام النووي الرحلة من الشام إلى مصر لزيارة قبر الإمام الشافعي الذي عليه مسجد وقبة، وكم له من ألف نظير في المشرق والمغرب. فيلزم من هذا التناقض بين خبر الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تكون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وشر أمة أخرجت للناس تتفق على فعل المنكر وتبني على قبر نبيها المسجد، وكذلك على قبور الأولياء والصالحين منها، وتكون أمة وسطا عدولاً، وأمة فاسقة متفقة على عصيان الله تعالى ورسوله ومخالفة أمره جهراً، وتكون أمة مرحومة مغفوراً لها كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمة ملعونة باتخاذها المسجد على قبرنبيها كما لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ويكون أولياء الأمة وعلماؤها العاملون أصحاب المناقب والكرامات الظاهرة أحباء الله تعالى وأصفياءه الذي لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، في حال كونهم أعداء الله تعالى وعصاته ومحاربيه بمخالفة أمره والاتفاق على المنكر المحرم الملعون فاعله، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة حتى يكون إجماعهاعلى لأمر حجة ودليلاً شرعياً كالكتاب والسنة، وأن الأمة تجتمع على الضلالة وتتفق على المنكر ومخالفة الله تعالى وأمر رسوله وهذا محال)([53])

ثانيا ـ المصادر المقدسة وزيارة الأضرحة:

تعتبر زيارة الأضرحة أو المزارات الدينية عموما لأجل التبرك أو التذكر ونحوهما من المسائل المتفق على شرعيتها في الأمة جميعا قبل ابن تيمية، ذلك أن أول قبر كان يزار، ومن كل المدارس الإسلامية، ومن جميع البلاد الإسلامية قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهكذا كان يزار معه المدفونون في البقيع، غيره من القبور.. بل كان كبار المحدثين والفقهاء يذكرون زياراتهم لقبور العلماء والصالحين، ويذكرون تبركهم بها، واستجابة الله لدعواتهم فيها، كما سنرى بعض الأمثلة على ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

لكن الوحيد الذي راح يخرج هذه المسألة من المشروعية إلى التحريم والبدعة ابن تيمية، الذي استعمل كل ما لديه من أنواع الجدل في بيان عدم مشروعيتها، ولذلك، وبعد المناقشات الطويلة التي أجريت معه من فقهاء عصره، اضطر إلى أن يحكم على نفس نية زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحرمة وبعدم جواز تقصير الصلاة لمن ذهب إلى المدينة المنورة بتلك النية.

وقد أحدث ذلك لغرابته ردة فعل شديدة في المجتمع الإسلامي بمدارسه المختلفة، والذي كان يقدس زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعتبر الجدل فيها سوء أدب معه صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد قال الحافظ ابن حجر يشير إلى الفتنة التي حصلت بسبب فتاوى ابن تيمية في ذلك: (والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شدِّ الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية)([54])

وقال الحافظ أبو زرعة العراقي في بعض أجوبته المسماة (الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية) عند الكلام على المسائل التي انفرد ابن تيمية بها: (وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة، وقد رد عليه فيهما معاً الشيخ تقي الدين السبكي، وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن)([55])

وقال في (طرح التثريب): (وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السِّقام فشفى صدور قوم مؤمنين)([56])

بل إن الكثير منهم، راح يحكم عليه بأشد الأحكام بسبب ذلك، ومن الأمثلة عليها ما قال الفقيه الشيخ تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الشافعي في بعض كتبه عنه: (الحمد لله مستحق الحمد زيارة قبر سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرّم ومجّد من أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سُنة من سنن المسلمين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه خبث ومرض المنافقين وهو من أفراخ السامرة واليهود وأعداء الدين من المشركين، ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شدّ الرحال إليهعلى ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سواء في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبان، حتى ظهر في آخر الزمان، في السنين الخداعة مبتدع من حـران لبّـس على أتباع الدجال ومن شابههم من شين الأفهام والأذهان، وزخرف لهم من القول غروراً كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبل أهل الإيمان، وأغواهم عن الصراط السوي إلى بُنيات الطريق ومدرجة الشيطان فهم بتزويقه في ظلمة الخطأ والإفك يعمهون، وعلى منوال بدعته يهرعون، صُمّ بُكم عُميّفهم لا يعقلون)([57])

وغيرها من المقالات التي اتفق عليها أكثر علماء المدارس الإسلامية، والتي سنرى بعض الأمثلة عنها في الفصل الثاني.. لكن المشكلة لا تكمن هنا، إذ أن مقولات ابن تيمية، وبعد أن حمل عليها الفقهاء حملتهم الكبرى، وزال أثرها من الواقع، نبتت من جديد في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم بنى عليها أحكامه التكفيرية المعروفة، ولذلك خرجت المسألة في عهده من المحرمات والبدع إلى اعتبارها من نواقض الإيمان، بل اعتبارها من أكبر نواقضه.

وقد ازداد ما ذكره ـ بفعل الدور السعودي في نشر الفكر الوهابي ـ حتى صارت زيارة الأضرحة من الأمور التي لا يختلف الناس في تكفير فاعلها، واعتباره مشركا شركا جليا، بسبة أطلقوا عليها [القبورية]

بناء على هذا سنناقش هذه المسألة من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية، والسلف من الصحابة والتابعين وأهل بيت النبوة، لنرى مدى انسجامها أو اختلافها معها.

1 ـ القرآن الكريم.. وزيارة الأضرحة:

ذكر أصحاب الرؤية الإيمانية ثلاث آيات من القرآن الكريم تشير إلى مشروعية زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بذلك تشير إلى مشروعية زيارة الأضرحة عموما، لأنه إذا ثبتت مشروعية زيارته صلى الله عليه وآله وسلم ثبتت مشروعية زيارة من عداه من العلماء والصالحين.

الآية الأولى:

وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100]

وقد ذكرها الشوكاني ـ وهو من الكبار الذين يعتمد عليهم أصحاب الرؤية التكفيرية في الدعوة للعودة لتفعيل الكتاب والسنة في الأحكام الفقهية بدل تقليد المذاهب الفقهية ـ ضمن الأدلة المشيرة إلى مشروعية الزيارة، بل استحبابها، فقال: (والهجرة إليه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته الوصول إلى حضرته وكذلك الوصول بعد موته)([58])

الآية الثانية:

وهي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]

فهذه الآية الكريمة تشير إلى ما كان عليه الحال في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان يأتيه المذنب، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، وقد وجد المسلمون ـ من لدن سلفهم الأول ـ استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قالوا بمشروعية استمرارها بعد وفاته، وذلك بزيارة قبره الشريف، والاستغفار عنده، وسؤال الشفاعة، ذلك لأنّ إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته.

وقد ذكر الشوكاني وجه الاستدلال بها، فقال: (ووجه الاستدلال بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث: الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءا)([59])

وقال السبكي: (دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيما له.. والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى)([60])

بل إن فقهاء الصحابة استدلوا بهذه الآية على ذلك، فقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: (إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾[النساء: 64])([61])، ففرح ابن مسعود بهذه الآية ظاهر في أنها عامة.

ونفس الشيء طبقوه مع قوله تعالى: Pيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونO [سورة الحجرات:2]، حيث كتبت هذه الآية على الجدار المقابل لقبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتدل على ذلك.

وقد روي في ذلك أن المنصور العباسي سأل الإمام مالك: (أستقبل القبلة وأدعوا، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟، فقال مالك: (ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾[النساء: 64])([62])

وروي عن مالك كذلك أنه أنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: Pيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونO [سورة الحجرات:2]، ومدح قوما فقال: Pإِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌO [الحجرات: 3]، وذم قوما فقال: P إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَO [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا)([63])

والروايات الكثيرة حول الاستدلال بالآية من لدن السلف الأول، تدل على اشتهار ذلك، واعتباره، حتى أصبح معروفا لدى العامة والخاصة، وقد روى العتبي (توفى 228 هـ) في ذلك ـ وهو من مشايخ الشافعي، وحدّث عن سفيان بن عيينة وغيره ـ عن محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثمَّ قال: (يا خير الرسل، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي مستشفعاً فيها بك. ثمَّ بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

   فطاب من طيبهنّ القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه

   فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ

 ثمَّ استغفر وانصرف([64]).

وقد نظم ما قاله من شعر أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بن محمد المقدسي يقول فيها([65]):

أقول والدمع من عينيّ منسجمُ

   لمّا رأيت جدار القبرِ يُستَلمُ

 والناسُ يغشونه باكٍ ومنقطعٌ

   من المهابة أو داعٍ فملتزمُ

فما تمالكت أن ناديتُ من حَرَقٍ

  في الصدر كادت له الأحشاء تضطرمُ

 (يا خير من دُفنت في القاع أعظمه

   فطاب من طيبهن القاع والأكمُ

 نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه

   فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ)

 وفيه شمس التقىٰ والدين قد غربت

   من بعد ما أشرقت من نورها الظُلُم

 حاشا لوجهك أن يبلىٰ وقد هُدِيَتْ

  في الشرق والغرب من أنواره الأممُ

 وأن تمسّك أيدي الترب لامسةً

   وأنت بين السماوات العلىٰ علمُ

 إلىٰ قوله:

لئن رأيناه قبراً إنّ باطنه

   لروضة من رياض الخلد تبتسمُ

 طافه به من نواحيه ملائكةٌ

   تغشاه في كل يوم ما يوم تزدحمُ

 لو كنت أبصرته حياً لقلت له

   لا تمشي إلّا علىٰ خدي لك القدمُ

الآية الثالثة:

قوله تعالى: Pوَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ O [التوبة: 84]

وقد فصل الشيخ جعفر السبحاني بعض وجه دلالتها، وهي ما نلخصه في النقاط التالية([66]):

1. أنّ الآية الكريمة تسعى لهدم شخصية المنافق، وهزّ العصا في وجوه حزبه ونظرائه، والنهي عن هذين الأمرين بالنسبة إلى المنافق، معناه ومفهومه مطلوبية هذين الأمرين (الصلاة والقيام على القبر) بالنسبة لغيره، أي للمؤمن.

2. أن قوله تعالى: Pولا تَقُم عَلى قَبرهO لا يدل على النهي عن القيام وقت الدفن فقط، وإنما يدل على وقت الدفن وغيره، كما قال شهاب الدين الألوسي (المتوفى: 1270هـ): (ويفهم من كلام بعضهم أنّ (على) بمعنى (عند) والمراد: لاتقف عند قبره للدفن أو للزيارة)([67])، ثم نقل عن السيوطي قوله في فتاواه: (المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده، فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم زارها عام الحديبية، والآية نازلة بعد غزوة تبوك، ثم الضمير في مِنْهُمْ خاص بالمنافقين، وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسا، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك؛ فأذن له، وهذا الإذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين، لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار، وأذن له في القيام على قبر أمه؛ فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه)([68])

3. أن لفظة (أحد) في قوله تعالى:P وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًاO [التوبة: 84]، بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم والاستغراق لجميع الافراد، ولفظة (أبداً) تفيد الاستغراق الزمني، فيكون معناها: لا تصل على أحد من المنافقين في أيّ وقت كان، ومع الانتباه إلى هذين اللَّفظين نعرف أنّ المراد من النهي عن الصلاة على الميّت المنافق ليس خصوص الصلاة على الميت عند الدفن فقط، لانّها ليست قابلة للتكرار في أزمنة متعدّدة، ولو أُريد ذلك لم تكن هناك حاجة إلى لفظة (أبداً)، بل المراد من الصلاة في الآية مطلق الدعاء والترحّم سواء أكان عند الدفن أم غيره.

والدليل على أنّ لفظة (أبداً) دليل على الاستغراق الزماني، هو أن لفظة (أحد) أفادت الاستغراق والشمول لجميع المنافقين بوضوح فلا حاجة للتأكيد، بالإضافة إلى أن لفظة (أبداً) تستعمل في اللّغة العربية للاستغراق الزماني، كما في قوله تعالى: Pوَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا O [الأحزاب: 53] فالنتيجة أنّ المقصود هو النهي عن الترحّم على المنافق وعن الاستغفار له، سواء أكان بالصلاة عليه عند الدفن أم بغيرها.

3 ـ أن مفهوم قوله تعالى: Pوَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ O [التوبة: 84] ـ مع الانتباه إلى أنّها معطوفة على الجملة السابقة ـ هو: (لا تَقُم على قبر أحد منهم مات أبداً)، لأنّ كل ما ثبت للمعطوف عليه من القيد ـ أعني (أبداً) ـ يثبت للمعطوف أيضاً، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنّ المقصود من القيام على القبر هو وقت الدفن فقط، لأنّ المفروض عدم إمكان تكرار القيام على القبر وقت الدفن، كما كان بالنسبة للصلاة، ولفظة (أبداً) المقدّرة في هذه الجملة الثانية تفيد إمكانية تكرار هذا العمل، فهذا يدل على أنّ القيام على القبر لايختصّ بوقت الدفن.

وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: إنّ الله تعالى ينهى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق، سواء كان بالصلاة أو مطلق الدعاء، وينهى عن مطلق القيام على القبر، سواء كان عند الدفن أو بعده، ومفهوم ذلك هو أنّ هذين الأمرين يجوزان للمؤمن، وبهذا يثبت جواز زيارة قبر المؤمن وجواز قراءة القرآن على روحه، حتى بعد مئات السنين.

2 ـ السنة النبوية.. وزيارة الأضرحة:

مع أن أصحاب الرؤية التكفيرية يناضلون عن كل ذلك التراث الحديثي المملوء بالتجسيم والتشبيه والخرافة، ليفرضوه على الأمة، ويضعوه في عقائدها وفقهها وتفسيرها، وكل مصادر دينها، ويعتبرون كل مخالف لذلك طاعنا في السنة، بل طاعنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه إلا أنهم في هذه الناحية، ولعدم انسجامها مع أهوائهم، رحوا ـ على العكس من ذلك ـ يضعفون كل ما اتفقت الأمة على قبوله من الأحاديث، بل يتهمونه بالكذب.

وهذا يدل على أن دفاعهم عن السنة ليس دفاعا عنها لذاتها، أو دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو دفاع عن تلك الخرافات التي دخلت في الإسلام باسم السنة، فشوهت العقيدة، وكل القيم القرآنية، وإلا لو كانوا صادقين في دفاعهم عن السنة، لاحترموا المخالف لهم في قبول الأحاديث التي تدل على ما ذهب إليه، ولم يضعوا المسألة في أبواب العقائد، ويكفروا من خلالها المسلمين، مع ثبوت الأحاديث في ذلك.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه حول رفضه لكل أحاديث الزيارة، ومنها فتواه لمن سأله عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي)، و(من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني)، وهل زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الاستحباب أو لا؟ فأجاب بقوله: (أمّا قوله: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي) فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وأمّا الحديث الآخر قوله: (مَن حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه مخالف للإجماع، فإنّ جفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر.. وأمّا زيارته فليست واجبة باتّفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنّة، وإنّما الأمر الموجود في الكتاب والسنّة بالصلاة عليه والتسليم. وأكثر ما اعتمده العلماء في الزيارة قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يسلّم عليّ، إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام)([69])

بل إن الأمر وصل به إلى هذا الجفاء الذي عبر عنه بقوله: (أن إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقصد ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين. فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد وأن يتخذوا قبره عيدا أو وثنا.. وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولى من عند قبره. وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد سواء قصد ذلك أو لم يقصده والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع)([70])

وقال: (لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا وإن لم يسمى هذا زيارة، بل يكره لهم ذلك عند غير السفر!! كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين)([71])

وقال في (الرد على الأخنائي): (ولهذا كان الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين إذا دخلوا المسجد.. لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره.. ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء وإن كان الزائر ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها)([72])

وقال في نفس الكتاب: (ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم… ولكن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس كذلك فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن) ([73])

ولم يكتف بهذا، بل راح يحرم السفر لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتبره بدعة، ويحرم قصر الصلاة لمن فعل هذا، وكأن الذي يريد أن يزور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يفعل معصية، ومن فتاواه في ذلك قوله: (وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع ولا مأمور به، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)([74])

ومنها قوله في (مجموع الفتاوى): (السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة)([75])

ومنها قوله في تبديع أشواق المسلمين لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الهم بالحج: (حتى أن أحدهم إذا أراد الحج لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه الله عليه وهو حج بيت الله الحرام، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين الله بل يقصد المدينة. ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة في مسجده.. بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر الله به ورسوله ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين. وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج وربما سوى بين القصدين وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور – قبر نبي أو غيره – منهي عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه بناء على أنه سفر معصية.. وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف بل موضوع)([76])

بناء على هذه الرؤية التي استعملها التكفيريون بعد ذلك في تكفير من يسمونهم قبورية، نناقش هنا الأحاديث التي وصفها ابن تيمية بالضعف والوضع، لنبين موقف أصحاب الرؤية الإيمانية منها، مع العلم أن الكثير من الأبواب الفقهية الطويلة، قد تعتمد على حديث واحد، وربما يكون من الأفعال لا من الأقوال.

ونحب أن ننبه إلى أن هناك مؤلفات كثيرة ألفت لهذا الغرض من كلا الفريقين، من أشهرها وأقدمها ما ألفه علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) في الرد على ابن تيمية، وذكر أدلة الزيارة، وهو بعنوان [شفاء السقام في زيارة خير الأنام]، ذكر فيه خمسة عشر حديثا بطرقها، بالإضافة لأدلة أخرى كثيرة.

وقد رد عليه ابن عبد الهادي (ت 744 هـ)، وهو من تلاميذ ابن تيمية، في كتاب سماه [الصارم المنكي في الرد على السبكي]، حاول أن يرد به على ما ذكره السبكي من أحاديث الزيارة، لينتصر لابن تيمية.

وقد كان هذا الكتاب الأخير هو المعتمد الأكبر لأصحاب الرؤية التكفيرية، فهم يعتبرونه بكل ما فيه بناء على ذاتيتهم في التعامل مع السنة النبوية، ولهذا يحذرون من كتاب السبكي، ويرفضون أي تعامل معه، على الرغم من كونه محدثا.

وهكذا يرفضون التعامل مع كل الكتب التي ألفت بعد ذلك، ومن كبار المحدثين الذين يستعملون نفس المناهج التي يعتمدونها.

وقد أشار المحدث المعاصر محمود سعيد ممدوح في كتابه (رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة) إلى هذه الذاتية والازدوجية في التعامل مع أحاديث الزيارة، فقال: (شاع بين كثير من الناس أن أحاديث الزيارة كلها ضعيفة، بل موضوعة وهو خطأ بلا ريب، ومصادمة لقواعد الحديث بلا مين، ويكفى اللبيب قول الذهبى الحافظ الناقد عن حديث الزيارة: طرقه كلها لينة لكن يتقوى بعضها ببعض لأن ما فى روايتها متهم بالكذب، نقله عنه السخاوى، وأقره فى المقاصد الحسنة، ومنشأ هذا الخطأ هو الاعتماد على كتاب (الصارم المنكى فى الرد على السبكى) للحافظ أبى عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى.. وكنت أرى الإحالة على هذا الكتاب من كثير من الكتاب سواء من المشتغلين بالحديث أو غيرهم فأكتفى بالسكوت رغبة فى اغتنام فرصةٍ لتحقيق مدى صحة هذه المقولة.. وبعد النظر فى (الصارم المنكي) وتحقيق أحاديث الزيارة، رأيت الهول في هذا الكتاب، فتراه يتعنت أشد التعنت فى رد الأحاديث عند كلامه على الرجال، ويطول الكلام جداً على الرجال ناقلاً ما يراه يؤيد رأيه وهو الجرح، ولا يذكرمن التعديل إلا ما يوافقه كما فعل مع عبد الله بن عمر العمري، وتطويله للكلام يخرجه عن المقصود إلى اللغو والحشو مع التكرار الممل.. وهو يذكر أبحاثاً خارجة عن المقصود كالبحث المتعلق بالمرسل وطرق الحديث الذى فيه حفص بن سليمان القاري.. ويطيل الكتاب جداً بذكر فتوى فى الزيارة لابن تيمية عقب كل حديث فى الزيارة، وحاصلها مكرر ومعروف.. وأحياناً يأتى بتعليلات للأحاديث خارجة عن قواعد الحديث، كقوله عند محاولة تضعيف بعض الأحاديث: لم يخرّجه أحد من أصحاب الكتب الستة ولا رواه الإمام أحمد فى مسنده … إلخ، وغير خفي أنّ هذا التعليل فيه نظر فالعبرة بالإسناد ولو كان الحديث فى جزء غير مشهور)([77])

بناء على هذا سنذكر هنا سبعة أحاديث دالة على مشروعية الزيارة، والأدلة التي تقويها بناء على ما ذكره أصحاب الرؤية الإيمانية، مع التنبيه الذي أشرنا إليه سابقا من أن الكثير من الأحكام الشرعية التي يبالغ فيها أصحاب الرؤية التكفيرية من أمثال النقاب ونحوه، لا نجد فيها ولو حديثا واحدا.

الحديث الأول:

وهو الحديث الذي لا يختلفون في صحته، ولو أنهم يقصرون في الاستدلال به، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها)([78])

فهذا الحديث يرغب ترغيبا عاما في زيارة القبور من غير تحديد لقبر منها، ومن المستغرب أن نقيد ما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نخصص ما عممه، كما فعل ابن تيمية حين اشترط نصا خاصا بزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ذلك أن الزيارة ـ بهذا الحديث ـ تدخل على الأقل في باب المستحبات ـ وهي لذلك يمكن التنقل بسببها والسفر لأي مقبرة، ولأي قبر، ولا يصح لأحد أن يقيد ذلك بقبور معينة، فيمنع من زيارة غيرها.

ومن روايات الحديث هذه الرواية التي رواها الترمذي وغيره: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة)([79])

وقد عقب عليها الترمذي بقوله: (حديث بريدة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم: لا يرون بزيارة القبور بأسا، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق)([80])

وهذا الحديث ـ بهذه الرواية خصوصا ـ يدل على مشروعية زيارة قبر معين، أي أن الغرض ليس زيارة المقابر فقط، كما ينص على ذلك أصحاب الرؤية التكفيرية، بل يمكن أن تدخل أغراض أخرى، مثل صلة الرحم، كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن إذن الله له بزيارة أمه.. ويدخل أيضا زيارة الصالحين، مثلما كان يفعل صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يزور شهداء أحد.. وغيرها كما سنرى.

الحديث الثاني:

ما ورد من الأحاديث الفعلية في قصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبورا معينة بالزيارة، وذلك ما يرد على ما يذكره أصحاب الرؤية التكفيرية من أن الزيارة لا يقصد بها إلا الموعظة، والتي تتحقق بزيارة أي قبر.

ومن تلك الأحاديث ما رواه الحاكم عن بريدة، قال: (زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه في ألف مقنع، فلم ير باكيا أكثر من يومئذ) ([81])، وقد صحح الحاكم الحديث ووافقه عليه الذهبي.

ومثله روي عن أبي هريرة أنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله) ([82])

ويؤكد هذا الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة)([83])

ومن تلك الأحاديث العملية ما رواه طلحة بن عبيدالله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة واقم ([84])، فلما تدلينا منها وإذا قبور ممحية، قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: (قبور أصحابنا) فلما جئنا قبور الشهداء، قال: (هذه قبور إخواننا)([85])

وهذا الحديث واضح الدلالة في قصده صلى الله عليه وآله وسلم لقبور الشهداء، وواضح في الدلالة على أن القصد منه ليس مجرد العظة والاعتبار، وإنما لمكانتهم، ولهذا سماهم صلى الله عليه وآله وسلم (إخواننا) للدلالة على شرفهم ومكانتهم، فالأخوة أعظم شرفا من الصحبة.

ومن تلك الأحاديث العملية ما روي من خروجه صلى الله عليه وآله وسلم مرارا إلى البقيع لزيارة قبور المؤمنين المدفونين هناك، ومنها ما رواه عطاء عن عائشة، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا، مؤجلون، وإنا، إن شاء الله، بكم لاحقون، اللهم، اغفر لأهل بقيع الغرقد) ([86])

وهذا الحديث يدل على كثرة زياراته صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وهو يدل على مدى استحباب ذلك، وعلى أن القصد منه ليس العبرة فقط، لأنها تتحقق بأدنى من ذلك.

ومن تلك الأحاديث العملية ما روي من خروجه صلى الله عليه وآله وسلم مرارا إلى قبور الشهداء بأحد، ومن ذلك ما رواه على رأس كل حول، ومنها ما رواه عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول، فيقول: (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). قال: وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك([87]).

وهذه الأحاديث وغيرها كثير، يدل على فساد ذلك الاستدلال الذي يستدل به أصحاب الرؤية التكفيرية، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)([88])، والذي يذكرونه كثيرا كدليل على تحريم شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعتبرون أن السفر بذلك سفر معصية.

ومن الوجوه التي ذكرها أصحاب الرؤية التكفيرية لفساد هذا الاستدلال([89]):

1. أنه مبني على فهم باطل، فالحديث لا علاقة له بالمقابر، ولا بزيارتها، ذلك أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) جاء على أسلوب الاستثناء، وهو يقتضي وجود مستثنى ومستثنى منه، فالمستثنى هو ما كان بعد إلا، والمستثنى منه هو ما كان قبلها، ولابد من الأمرين، إما وجوداً أو تقديراً، وإذا نظرنا إلى هذا الحديث وجدنا أنه قد جاء فيه التصريح بذكر المستثنى وهو قوله: (إلى ثلاثة مساجد) وهو ما بعد (إلا) ولم يأت ذكر المستثنى منه وهو ما قبل (إلا) فلابد إذن من تقديره.

فإن فرضنا أن المستثنى منه كلمة [قبر] ـ كما يذكر التكفيريون ـ كان اللفظ المنسوب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تشد الرحال إلى قبر إلا إلى ثلاثة مساجد)، وهذا السياق ظاهر في عدم الانتظام وغير لائق بالبلاغة النبوية، فالمستثنى غير داخل ضمن المستثنى منه، والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.

وإن فرضنا أن المستثنى منه لفظ [مكان] يكون السياق المنسوب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الفرض، لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى ثلاثة مساجد، ومعنى هذا تحريم كل أنواع السفر حتى لو كان سفر تجارة أو علم أو خير، وهذا لا يقول به أحد، بل كل النصوص المقدسة تنفيه، وتدعو إلى السير في الأرض، والسفر للعلم والتجارة وغيرها.

وإن فرضنا أن المستثنى منه لفظ [مسجد] يكون سياق الحديث بلفظ: (لا تشد الرحال إلى مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد)، وهذا معنى منتظم وجرى على الأسلوب اللغوي الفصيح، واختفى التهافت الواضح في الصورتين المتقدمتين.

2. أن هناك روايات أخرى للحديث تؤكد أن المستثنى منه المساجد، وليس المقابر، ومنها ما رواه الإمام أحمد عن شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة والسلام في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ينبغي للمطي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي)، وفي رواية: (لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)، وقد قال ابن حجر تعليقا على الحديث: (وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض ضعف)([90])، وقال الهيثمي: (وفيه شهر، فيه كلام وحديثه حسن)([91])

ومنها ما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن يزار، وتشد إليه الرواحل: المسجد الحرام ومسجدي، صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)([92])

وهذه الأحاديث تبين أن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساو في الفضل، فلا فائدة في التعب بالسفر إلى غيرها، أما هي فلها مزيد فضل، ولا دخل للمقابر في هذا الحديث، فإقحامها في هذا الحديث يعتبر من التكلف والكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الحديث الثالث:

وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)([93])، وهو من الأحاديث القوية التي يعتمدها أصحاب الرؤية الإيمانية، ولذلك حاول أصحاب الرؤية التكفيرية رده على الرغم من ثبوته، مستعملين كل ما أتاح لهم علم الحديث من حيل وخدع، تجعلهم يضعفون ما شاءوا، ويصححون ما شاءوا، كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب [التراث السلفي تحت المجهر]

وقد ذكرنا في الفصل الخاص بذلك، مظاهر الذاتية في الحكم على الأحاديث، وهي: (أولا ـ الطائفية في التعامل مع الحديث رواية ودراية.. ثانيا ـ الذاتية في قبول الرواة ورفضهم.. ثالثا ـ الذاتية في تحديد علل الحديث.. رابعا ـ الذاتية في تفسير الأحاديث وتأويلها.. خامسا ـ مزاحمة الحديث بالرواية عن السلف)

وقدمنا لها بقولنا: (وبهذا الترتيب لن ينجو من منخل أهل الحديث إلا ما يرتضونه من أحاديث، أو ما وضعه لهم سلفهم من الحديث.. اللهم إلا الأحاديث التي لا تضرهم، ولا تصيب مقاتلهم، فإنهم يتركونها تمر، فالشيطان لا يأتي من أبواب الشر المجردة، بل يخلط الخير بالشر، حتى يعبث من خلال ذلك بالعقول.. وأول ما يبدؤون به فرزهم للحديث بحسب أهوائهم هو حرمانهم لمن لا ينتسب لهم من الكلام في الحديث حتى لو بلغ ما بلغ من الحفظ والإتقان.. وهكذا يتعاملون مع رواة الأحاديث، فمن حدث بما يوافق أهواءهم قبلوه ووثقوه، ومن خالفها ضعفوه ووهنوه واتهموا حديثه.. فإن نجا الحديث منهم بصحة السند، ذكروا أن السند لا يكفي وحده للصحة، بل قد يضعف لعلة خفية فيه.. ثم راحوا يذكرون أي علة، ولا يحاسبهم أحد في ذلك، لأن العلل الخفية قد لا يطاق التعبير عنها.. فإن نجا الحديث منهم بعد ذلك كله فسروه أو أولوه بما يتناسب مع مزاجهم.. فإن نجا من ذلك ولم يكن هناك محمل آخر يمكن حمله عليه زاحموه بأقوال السلف التي يعتبرونها أكثر حرمة من القرآن الكريم والسنة المطهرة..)([94])

وقد طبقوا كل هذه المناهج مع هذا الحديث وغيره، ومن أمثلتها قول ابن تيمية فيه في كتابه (الفتاوى الكبرى): (وأما قوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، فهذا الحديث رواه الدارقطني فيما قيل بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح، والسنن، والمسانيد. وأما الحديث الآخر: قوله: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله ومعناه مخالف الإجماع فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق)([95])

بناء على هذا، سنلخص هنا ما أورده أصحاب الرؤية الإيمانية من دلائل قبول هذا الحديث، وكونه لا يقل عن تلك الأحاديث التي يستدل بها في الأحكام الفقهية في الوجوه التالية([96]):

1. صحة السند الذي أورده الدارقطني للحديث، وهو يبدأ من القاضي المحاملي، ثم عبيد بن محمد الوراق، ثم موسى بن هلال العبدي، ثم عبيد الله بن عمر، ثم نافع، ثم ابن عمر.

وكل هؤلاء ثقات، بلا خلاف، وإنما وقع الكلام في عبيد الله بن عمر([97])، وهو ثقة أيضا، غير أن بعضهم رواه عن عبد الله، أخي عبيد الله، وهو دون أخيه ([98]) ـ بحسب الرؤية الذاتية للرواة، ذلك أنه كان من الخارجين مع محمد ذي النفس الزكية على العباسيين ـ وبهذا تمسك من ذهب إلى تضعيف الحديث.

غير أن الثابت في جميع نسخ سنن الدارقطني (عبيد الله) مصغرا، وهكذا رواه الدارقطني في غير السنن أيضا، وكذلك أورده أبو اليمن زيد ابن الحسن في كتابه (إتحاف الزائر وإطراف المقيم المسافر في زيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، والحافظ أبو الحسين القرشي في كتابه (الدلائل المبينة في فضائل المدينة)، والخلعي عن الدارقطني، وأورده ابن عساكر عن الخلعي، كلهم يذكرون (عبيد الله) مصغرا، فاتفقت الرواية بهذا الاسناد عن (عبيد الله)([99])، وهكذا في رواية البيهقي بإسناده الذي يلتقي مع إسناد الدارقطني في عبيد بن محمد الوراق، وفيه (عبيد الله) المصغر([100]).

وللحديث رواية أخرى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب من طريق آخر، أخرجها البزار في مسنده، قال: حدثنا قتيبة، ثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، ثنا عبدالرحمن بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري حلت له شفاعتي)، وقد قال فيه الهيثمي: (وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف)([101]).

وبذلك فإن هذا الحديث، وانطلاقا من وثاقة جميع رواته، لا يشكك في صحته وقبوله إلا من يعتمد مزاجه ومذهبه، لا الموضوعية العلمية، ولذلك نرى أصحاب الرؤية التكفيرية يذكرون طرق الحديث الضعيفة، ويتركون القوية، حتى يوهموا القارئ أنه ليس لذلك الحديث إلا تلك الطريق.

ومن الأمثلة على ذلك ما فعله الحافظ ابن كثير ـ تلميذ ابن تيمية ـ حيث اقتصر في رواية هذا الحديث في مسند ابن عمر من هذا الطريق، طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وترك الطريق الذي اعتمده الدارقطني، والآخر الذي اعتمده البيهقي([102]).

وهكذا فعل محقق الكتاب الذي اقتصر على ما ذكره الهيثمي في تضعيفه للغفاري، دون أن يذكر الطريق الآخر للحديث([103]).

وهكذا فعل صاحب (موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف) فقد أخرج الحديث بلفظه عن سنن الدارقطني، و(الكنى والاسماء) للدولابي، و(مجمع الزوائد) للهيثمي، و(تلخيص الحبير) لابن حجر، و(الدر المنثور) للسيوطي، و(إتحاف السادة المتقين) للزبيدي، و(كنز العمال) للمتقي الهندي، و(تذكرة الموضوعات) للفتني، و(الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة) للسيوطي، و(الكامل في الضعفاء) لابن عدي([104])، ولم يشر إلى رواية البيهقي في (السنن الكبرى) وفي (شعب الإيمان) المؤيدة لرواية الدارقطني، مع كونهما من مصادر كتابه.

الحديث الرابع:

وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة)([105])

وقد اتفق على رواية هذا الحديث بصيغ مختلفة كلا المدرستين السنة والشيعة، في نفس الوقت الذي اجتهد فيه أصحاب الرؤية التكفيرية في رفضه مستعملين كل ما لديهم من مناهج في ذلك.

ومن الأمثلة على ذلك هذا المنهج الذي اعتمده ابن تيمية، والذي يبدع التكفيريون من يستعمله، باعتباره يستعمل عقله مع النصوص، فقد قال في كتابه [التوسل والوسيلة]: (إن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته، وكان مؤمنا به، كان من أصحابه، لاسيما إن كان من المهاجرين إليه، المجاهدين معه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، أخرجاه في الصحيحين. والواحد من بعد الصحابة لايكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة ؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه. وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه هو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب. فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟)([106])

وهذه خلاصة للوجوه التي تبين مدى قوة الحديث، خاصة إذا انضم إلى غيره من الأدلة التي ذكرناها سابقا، والتي سنذكرها لاحقا([107]):

1. الحديث رواه الدارقطني عن أبي عبيد، والقاضي أبي عبد الله، وابن مخلد، قالوا: حدثنا محمد بن الوليد البسري، حدثنا وكيع، حدثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون، عن الشعبي والأسود بن ميمون، عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة)([108])، وهكذا رواه البيهقي في (السنن) و(شعب الإيمان)([109])، وأخرجه ابن عساكر بالإسناد نفسه: حدثنا وكيع بن الجراح، عن خالد وابن عون، عن هارون بن قزعة مولى حاطب، عن حاطب([110]).

وقد قال قال الذهبي عن إسناد هذا الحديث: (إنه أجود أحاديث الزيارة إسنادا)، وأقره السخاوي في (المقاصد الحسنة) والسيوطي في (الدرر المنتثرة)([111])

2. مما يقوي الحديث ما روي من طريق آخر عن الإمام علي، رواه أبو الحسين يحيى بن الحسن ابن جعفر الحسيني في كتاب (أخبار المدينة) قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبو أحمد الهمداني، حدثنا النعمان بن شبل، حدثنا محمد بن الفضل سنة ست وسبعين، عن جابر، عن محمد بن علي، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فكأنما جفاني)([112])

3. مما يقوي الحديث ما روي من طريق آخر عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي، ومن زارني كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة)([113]) (2).

4. مما يقوي الحديث ما روي من طريق آخر عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة)، وقد أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) والعقيلي في (الضعفاء الكبير)، وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات ([114])، أما العقيلي، فلم يزد عند الحكم عليه بالضعف على ما نقله عن البخاري: (لا يتابع عليه)([115])

بالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر أن في هذا الإسناد تصحيفا، فهو (رجل من آل حاطب)([116])، مثل الذي ذكرناه من رواية الدارقطني عن هارون بن قزعة نفسه عن رجل من آل حاطب، عن حاطب.

الحديث الخامس:

وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا)، وقد وراه ابن أبي الدنيا والبيهقي وغيرهم([117]).

وقد نقل ابن الجوزي رواية ابن أبي الدنيا في كتابه (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن) ومن خطه نقله السبكي([118]).

ورواه البيهقي بإسناده ويلتقي مع الأول في إسماعيل بن أبي فديك، عن سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة)([119])

وله إسناد آخر هو: أبو عوانة موسى بن يوسف القطان، عن عباد بن موسى الختلي، عن ابن أبي فديك، عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك..

وبذلك دارت الطرق الثلاثة على ابن أبي فديك، وسليمان بن يزيد الكعبي:

فأما سليمان الكعبي، فهو التابعي يروي عن أنس، وقد طعن فيه أبو حاتم الرازي، فقال: منكر الحديث، ليس بقوي، غير أن ابن حبان ذكره في الثقات([120]).

وأما محمد بن إسماعيل بن أبي فديك فهو مجمع على وثاقته، وقد روى عنه الشافعي وأحمد والحميدي وغيرهم، وأخرج حديثه الستة ([121]).. وبذلك، فإن هذا الحديث لا يهبط عن درجة الحسن الغريب.

وله بالإضافة إلى ذلك شواهد تقويه منها ما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلمقال: (من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا – أو قال – شفيعا)([122])، وما روي ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من زارني إلى المدينة كنت له شهيدا – أو – شفيعا)([123])

الحديث السادس:

وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليهبطن عيسى بن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، وليسلكن فجاً حاجاً أو معتمراً أو بنيتيهما، وليأتين قبري حتى يسلم علي ولأردن عليه)، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، ووافقه الذهبي ([124]).

ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بهذا اللفظ: (والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم، إماماً مقسطًا، وحكماً عدلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليصلحن ذات البين، وليذهبن الشحناء، وليعرضن عليه المال فلا يقبله، ثم لئن قام على قبري فقال: يا محمد لأجبته)([125])

وذكر الهيثمي في تخريجه له أن (رجاله رجال الصحيح)([126])، وقد ذكر الشيخ المحدث محمود سعيد ممدوح أنه بحث في الحديث فوجد أنه حسن على الأقل، خاصة مع وجود الطريق الذي في مسند أبي يعلى الموصلي، والذي لم يقف عليه الألباني فقصر كلامه على الحديث في ضعيفته على إسناد الحاكم فقط فأخطأ.

وذكر أن الألباني مع سعيه المستميت في إنكار أحاديث الزيارة ولو بالتحاكم إلى تشدد وشذوذ ابن عبد الهادي، تنازل، فأورد الحديث من رواية أبي يعلى الموصلي في سلسلته الصحيحة، وقال عنه: (وهذا إسناد جيد)([127])

ثم قال بعد كلام: (والجملة الأخيرة لها طريق أخرى عنه بلفظ: وليأتين قبري حتى يسلم علي، ولأردن عليه.. أخرجه الحاكم وصححه الذهبي وغيرهما من المتأخرين، وفيه علتان بينتهما في الضعيفة تحت الحديث (5540)، لكن لعله يصلح شاهداً للطريق الأولى)، وإذا كان كذلك فهذا مصير منه إلى تقوية ما ضعفه، فعليه أن يخرج هذا القوي من ضعيفته.

وهذا الحديث وحده كافٍ لرد دعوى ابن تيمية ومن شايعه كابن عبد الهادي في زعم وضع أحاديث الزيارة، حتى وإن سلمنا بضعفه – وهو بعيد جداً – فما بالك إذ ضم للأحاديث المتقدمة.

الحديث السابع:

وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي)، وقد رواه الدارقطني في (السنن) ([128]) من حديث أبي الربيع الزهراني، عن حفص بن أبي داود، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ورواه بنفس الإسناد البيهقي والطبراني، وأبو يعلى، وابن عساكر([129])، وليس في أحد من رجال إسناد هذا الحديث كلام:

فأما حفص بن أبي داود، وهو حفص بن سليمان القارىء صاحب القراءة المعتمدة، والمعروفة بـ (قراءة حفص عن عاصم)، فهو أخص الناس بعاصم بن أبي النجود شيخ أصحاب القراءات، وقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال البيهقي بعد أن أخرج الحديث: تفرد به عاصم، وهو ضعيف.وضعفه ابن حبان ([130]).

وهذا التضعيف لا يؤثر في الحديث من الوجوه التالية([131]):

1. أن تضعيف عاصم في الرواية مرتبط بالذاتية التي تعامل بها أصحاب الجرح والتعديل مع الرواة، فكيف يقبلون راويته لقراءة القرآن كله عن عاصم، ثم يعدونه في الضعفاء في رواية الحديث، ولو طبقنا هذا المقياس مع الكثير من رواة البخاري ومسلم وأصحاب السنن، لضعفنا الكثير من الأحاديث الصحيحة.

2. أن الضعف المنسوب إلى حفص بن سليمان لا يتجاوز حدود الضبط، أو الرواية عن الضعفاء، وهذه العلة ساقطة هنا، لأنه أسند هذا الحديث إلى ثقات مجمع على وثاقتهم عند أهل الجرح والتعديل: ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر.

3. أن ابن حبان ذكر رجلين باسم حفص بن سليمان، أحدهما المقرىء وهو هذا، والآخر حفص بن سليمان، وهو ابن أبي داود المذكور في الأسناد، وهو ثقة ثبت، قال السبكي: فإن صح مقتضى كلام ابن حبان زال الضعف المذكور([132]).

4. أن أحمد بن حنبل دافع عنه في روايتين، فقد روى الأولى عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن حفص بن سليمان المنقري – وهو المقرىء – فقال: (هو صالح)، وأما الثانية فرواها حنبل بن إسحاق، قال: قال أبو عبد الله (أحمد بن حنبل): (ما كان بحفص بن سليمان المنقري بأس)([133])

5. أن هذا الحديث لم يتفرد به حفص كما ذكر البيهقي، فقد روي عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد عن ابن عمر من طريق آخر عن سبط ليث بن أبي سليم وزوجته: قال سبطه الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم: حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)([134])، وبذلك يزول كل ضعف ينسب إلى الحديث، والاختلاف الوارد في اللفظ بين: (من حج فزار قبري) كما في رواية حفص، وبين (من زار قبري) لا تمس في دلالة الحديث على استحباب زيارة قبره الشريف وفضيلتها، والنص بعدها متطابق تماما.

6. أن للحديث شواهد، منها حديث النعمان بن شبل، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، والذي ذكرناه سابقا.

3 ـ موقف السلف من زيارة الأضرحة:

بناء على كون أصحاب الرؤية التكفيرية لا يكتفون بما ورد في النصوص المقدسة من أحكام، بل يطالبون أيضا بأفعال السلف وأقوالهم التي تؤكد ذلك، ذلك أن الكتاب والسنة عندهم لا يكفي فيها فهم الخلف، بل يشترط لها فهم السلف، كما عبر عن ذلك أحمد بن حنبل في قوله لبعض أصحابه:(إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام)([135])، ويروون قوله في رواية الميموني:(من تكلم في شئ ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ)([136]) والإمام كما يفهمونه هنا هو سلفهم الذي يشاركهم في عقائدهم ومواقفهم.

وهكذا يرون عن مالك بن أنس قوله: (سمعت من ابن شهاب أحاديث لم أحدث بها إلى اليوم، قلت: لِمَ يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكن العمل عليها فتركتها)([137])

ولهذا نراهم يعتبرون من يرجع للسنة وحدها دون أقوال السلف مبتدعا ومنحرفا، ولذلك يعتبرون من عيوب أبي القاسم عبد العزيز بن عبد الله الشافعي المعروف بالدّاركي أنه (ربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم! حدث فلان عن فلان عن رسول الله k بكذا وكذا، والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة)([138])

وقد علق الذهبي على كلام الدّاركي بقوله:(قلت:هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء هذين الإمامين مثل مالك، أو سفيان، أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتاً سالماً من علة، وبأن لا يكون حجة أبي حنيفة والشافعي حديثاً صحيحاً معارضاً للآخر، أما من أخذ بحديث صحيح وقد تنكبه سائر أئمة الاجتهاد، فلا)([139])

وعبر ابن رجب عن موقف السلفية من هذا الشرط، فقال:(فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان، إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم، أو عند طائفة منهم، فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به)([140])

وبناء على هذا الشرط نرى ابن تيمية يشترط على من يسميهم المبتدعة مراعاة إجماع سلفه، فلا يكفي تحاكمهم للقرآن والحديث دون مراعاة ما قال السلف، يقول في ذلك: (وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم، بل قالوا على خلافه، فإنه قول باطل)([141])، ويقول:(فمن بنى الكلام في العلم:الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة)([142])

ويقول موضحا سبب ذلك: (ومن عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل كان مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله k، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً)([143])

وقد سار على هذا المنهج خلفهم من السلفية المحدثين، وقد قال الألباني: (فقد قلنا: إن العلم النافع يجب أن يكون على منهج السلف الصالح، فحينما يحيد كثير من الدعاة الإسلاميين اليوم عن التقيد بهذا القيد الثابت، الذي أشار إليه الإمام ابن القيم في شعره السابق حين قال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه، فعدم الالتفات إلى ما كان عليه السلف الصالح يعود بالناس بعد أن اتفقوا إلى الفُرقة التي تُبَاعِدُ بينهم، كما باعدت من قبل بين كثير من المسلمين، فجعلتهم شيعاً وأحزاباً)([144])

وهكذا قال الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان: (كان جواب شيخنا الألباني على سؤال له: لم الإقتصار على القول بكراهة الجماعة الثانية، وقد قامت الأدلة على منعها، والأصل في العبادات التوقيف، فما المانع من القول بحرمتها أو بدعتها؟ فقل حفظه الله: ما رأينا في ذلك لنا سلفا)([145])

بناء على هذا سنذكر هنا ما ورد في المصادر التي يعتمدونها من فعل السلف من الصحابة والتابعين الذين يعتبرونهم، ولو كنا نعتقد أن دلالة القرآن الكريم والسنة المطهرة كافية لذلك، لأن بيان الدين محصور فيهما، ولكنا طولبنا بأن نخاطب الناس على قدر عقولهم، فمن تلك الروايات:

1 ـ ما رواه أبو هريرة قال: خرج عمر حاجا في نفر من أصحابه حتى بلغ الأبواء، إذا هو بشيخ على قارعة الطريق فقال الشيخ: يا أيها الركب قفوا، فوقفوا له، وقال عمر: قل يا شيخ قال: أفيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قالوا: لا وقد توفي! قال: أوقد توفي؟ قالوا: نعم، فبكى حتى ظننا أن نفسه ستخرج من جنبيه، ثم قال: من ولي الأمة بعده؟ قالوا: أبو بكر، قال: نجيب بني تيم؟ قالوا: نعم، قال: أفيكم هو؟ قالوا: لا وقد توفي. قال: توفي! قالوا: نعم، فبكى حتى سمعنا لبكائه نشيجًا، وقال: من ولي الأمة بعده؟ قالوا: عمر بن الخطاب، قال: فأين كانوا من أبيض بني أمية ـ يريد عثمان بن عفان ـ فإنه كان ألين جانبًا وأقرب؟! ثم قال: إن كانت صداقة أبي بكر لعمر لمسلمة إلى خير، أفيكم هو؟ قالوا: هو الذي منذ اليوم يكلمك، قال: أغثني، فإني لم أجد مغيثًا، قال: ومن أنت بلغك الغوث؟ قال: أنا أبو عقيل أحد بني مليك، لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني إلى الإسلام فآمنت به وصدقت بما جاء به، فسقاني شربة سويق شرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولها وشربت آخرها، فما برحت أجد شبعها إذا جعت وريها إذا عطشت وبردها إذا سخنت، ثم يممت في رأس الأبيض أنا وقطعة غنم، أصلي في يومي وليلتي خمس صلوات وأصوم شهرًا هو رمضان، وأذبح شاة بعشر ذي الحجة أنسك بها حتى إذا أتت علينا السنة فما أبقت لنا منها غير شاة واحدة ننتفع بدرها، فأكلها الذئب البارحة الأولى فأدركنا زكاتها وأكلناها وبلغناك فأغث أغاثك الله، قال عمر: بلغك الغوث بلغك الغوث، أدركني على الماء، قال الراوي: فنزلنا المنزل وأصبنا من فضل أزوادنا، فكأني أنظر إلى عمر متقنعًا على قارعة الطريق، آخذًا بزمام ناقته لم يطعم طعامًا ينتظر الشيخ ويرمقه، فلما رحل الناس دعا عمر صاحب الماء فوصف له الشيخ وقال: إذا أتى عليك فأنفق عليه وعلى عياله حتى أعود عليك إن شاء الله تعالى، قال: فقضينا حجنا وانصرفنا، فلما نزلنا المنزل دعا عمر صاحب الماء فقال: هل أحسنت إلى الشيخ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أتاني وهو موعدك فمرض عندي ثلاثًا ومات فدفنته وهذا قبره، فكأني أنظر إلى عمر وقد وثب مباعدًا ما بين خطاه حتى وقف على القبر فصلى عليه ثم اعتنقه وبكى، ثم قال: كره الله له صلتكم واختار له ما عنده، ثم أمر بأهله فحملوا فلم يزل ينفق عليهم حتى قبض)([146])

والشاهد فيها واضح، ذلك أن عمر أسرع لزيارة قبر شخص بعينه، ثم اعتنقه وبكى، وصلى عنده، أو دعا له، وكل ذلك مما يفعله زوار الأضرحة.. وهذا يدل على أن زيارة القبور ليست خاصة بالموعظة والاعتبار، وإلا لم يكن بحاجة إلى ذلك.

2. ما رواه أبو الدرداء، أن بلالا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزينا، فركب إلى المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال: الله أكبر، الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، خرج النساء من خدورهن، فما رئي يوم أكثر باكيا، وباكية من ذلك اليوم([147]).

وإسناد هذا الخبر جيد، فقد أسند الخبر إلى إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، قال: حدثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء.. وليس في هذا الإسناد من يطعن عليه في سائر كتب الرجال.

وروي بهذا الإسناد من طريقين، ومداره على (محمد بن الفيض الغساني) وهو الذي يرويه عن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال، ومحمد بن الفيض هذا هو المولود سنة 219 هـ، والمتوفى سنة 315 هـ، قال السبكي: (روى عن خلائق، وروى عنه جماعة منهم: أبو أحمد بن عدي، وأبو أحمد الحاكم، وأبو بكر المقرئ في معجمه)([148]).

وهذا الحديث كاف في الدلالة على موقف الصحابة من الزيارة، فقد جاء بلال من الشام بقصد زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبر أبو الدرداء راوي الحديث عن ذلك، وأقره عليه، ولم ينكره، وهكذا سمع جميع أهل المدينة بذلك، ولم ينكروا، وهو ما يعتبرونه إجماعا سكوتيا، وكثيرا ما يستعملون أمثاله، بل ما هو دونه.

3. ما روي من زيارة الإمام علي لقبر خباب، وقد روى ذلك زيد بن وهب قال: سرنا مع علي حين رجع من صفين، حتى إذا كان عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا، فقال: ما هذه القبور؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك إلى صفين، فأوصى أن يدفن في ظاهر الكوفة، وكان الناس إنما يدفنون موتاهم في أفنيتهم، وعلى أبواب دورهم، فلما رأوا خبابا أوصى أن يدفن بالظهر دفن الناس، فقال علي رضي الله عنه: (رحم الله خبابا، أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلى في جسمه، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا، ثم دنا من قبورهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف فارط ونحن لكم تبع عما قليل لاحق، اللهم أغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، وأرضي الله عز وجل)([149])

4. ما روي من زيارة عائشة لقبر أخيها، فعن عبد الله بن أبي مليكة، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، «كان قد نهى، ثم أمر بزيارتها»([150])

والشاهد فيه واضح، وهو أن عائشة خصصت أخاها الميت بزيارة قبره، وهو ما يتنافى مع المقصد الذي حصروا فيه زيارة القبور، وهو التذكير بالآخرة، ذلك أنه متحقق في أي مقبرة.

5. ما روي من زيارة أبي أيوب الأنصاري لقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي رواه الحاكم وصححه، ووافقه عليه الذهبي، فعن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحجر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله»([151])

 وهذا الحديث يكشف الجذور التي انطلق منها ابن تيمية في إنكاره للزيارة، وتبديعه لها، وهي الجذور الأموية، ذلك أن الذي أنكر ذلك التصرف، وربما ربطه بالشرك مروان بن الحكم، والذي يعتبرونه فقيها من فقهاء التابعين، مع أن الذي فعل ذلك صحابي جليل اتفقت الأمة جميعا على مكانته واحترامه.

وهذا يدل على الجذور الأموية للفكر السلفي التكفيري، وكونهم أبعد المدارس عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنتجبين.. فالصحبة عندهم يمثلها الطلقاء والمتخلفون الذين وافقوا الفئة الباغية، ووقفوا معها.

6. ما وري من طرق كثيرة أن عمر بن عبدالعزيز، وهو من السلف المعتبرين الثقاة لدى التكفيريين، أنه كان يرسل البريد من الشام ليسلم له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أي أن ذلك المكلف بالبريد لم يكن له من غرض سوى زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنيابة عن عمر للتسليم عليه.

وقد نقل هذا المتقدمون من الفقهاء وغيرهم، منهم أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم النبيل (توفي سنة 280 هـ) في كتابه (المناسك) الذي قال: (كان عمر بن عبدالعزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلام، ثم يرجع)

ومثله ابن الجوزي في كتابه الذي أفرده لهذا، وسماه (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن)،وقد قال السبكي: (نقلته من خطه)([152])

4 ـ موقف آل البيت من زيارة الأضرحة:

على الرغم من كل ذلك الحقد الشديد الذي يحمله التكفيريون على كل ما يرتبط بالعترة الطاهرة، أو تلاميذهم ومواليهم، إلا أنه لا مناص لنا من ذكر ذلك، لسببين:

أولا ـ أنه لا يعقل أن نقبل بكل من يسمونهم سلفا، حتى لو كانوا ممتلئين باليهودية والنصب والانحرافات بكل أنواعها، ثم لا نقبل ما يذكره آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أولئك الذين أوصى بهم، واعتبرهم سفينة نجاة، ومنارة هدى، ولا شأن لنا بمن يتكبر عن ذلك، فقد تكبر نوح عليه السلام عن الركوب مع أبيه، وتصور أن جبال سلفه ستنجيه من الغرق..

ثانيا ـ أن المراجع الذين يعتمد عليهم التكفيريون قبلوا الكثير من الروايات والآراء الفقهية من أئمة أهل البيت، ومن خلال تلاميذهم الذين يلقبون بالشيعة، وأولهم ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في الكثير من مسائل الطلاق، وخالفوا فقهاء مدرستهم بسبب ذلك.

وقد ذكر ابن القيم في كتابه [الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة] جواز الأخذ عنهم في مسائل الفقه، وذلك عند بيانه لمسألة [الحالف بالطلاق والعتاق إذا حنث في يمينه أنه تطلق عليه زوجته ويعتق عليه عبده أو جاريته]، فقد قال: (حكى ذلك بضعة عشر من أهل العلم وعذرهم أنهم قالوا بموجب علمهم وإلا فالخلاف في ذلك ثابت عن السلف والخلف من وجوه)([153])

ومن تلك الوجوه التي ساقها [الوجه التاسع]، وهو ـ كما عبر عنه ـ (إن فقهاء الإمامية من أولهم إلى آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به، وهذا متواتر عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت)

ثم برر قبوله للروايات المستفيضة عنهم، فقال: (وهب أن مكابراً كذّبهم كلهم، وقال: قد تواطئوا على الكذب عن أهل البيت، ففي القوم فقهاء وأصحاب علم ونظر في اجتهاد وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة فلا يوجب ذلك الحكم عليهم كلهم بالكذب والجهل! وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة وحملوا حديثهم واحتج به المسلمون، ولم يزل الفقهاء ينقلون خلافهم ويبحثون معهم، والقوم وإن أخطأوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ حتى يرد عليهم هذا لو انفردوا بذلك عن الأمة؛ فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممن لم تقف على قوله)([154])

 وبناء على هذا، سنذكر هنا نماذج عن الروايات الواردة عن العترة الطاهرة، والتي تدل على مشروعية زيارة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لغيره من الأولياء والعلماء والصالحين، سواء تلك التي نقلت في المصادر السنية أو الشيعية.

1. ما روي عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبضعته الطاهرة، وسيدة نساء العالمين، ومنها ما ثبت في المصادر السنية من أنها كانت في حياة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج في كل جمعة لزيارة قبر عمها حمزة بن عبد المطلب، فتصلي وتبكي عنده.

وقد أخرج الحديث البيهقي، والحاكم ([155])، وقال الحاكم معقبا عليه: (هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات)([156])

وهكذا كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتبكي عنده، وتشكو له، وقد روى الإمام علي عنها بعض ذلك، فقال: (لما رمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جاءت فاطمة، فوقفت على قبره، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعته على عينيها، وبكت، وأنشأت تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد

   أن لا يشم مدى الزمان غواليا

 صبت علي مصائب لو أنها

  صبت على الأيام عدن لياليا([157])

 2. ما روي أن الإمام علي قال: (من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في جواره)([158])، ويوافقه الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من زارني في حياتي وبعد موتي، كان في جواري يوم القيامة)([159])، وقد سبق أن ذكرنا زيارته لقبر خباب.

وروي أنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان في ما أنزل عليك: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر (قد غفر لك)([160])

3. ما روي عن الإمامين الحسنين سيدي شباب أهل الجنة، فقد حدث الإمام الصادق عن آبائه، قال: (بينا الحسن بن علي في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال: يا أبه، ما لمن زارك بعد موتك؟ فقال: يا بني، من أتاني زائرا بعد موتي فله الجنة، ومن أتى أباك زائرا بعد موته فله الجنة، ومن أتى أخاك زائرا بعد موته فله الجنة، ومن أتاك زائرا بعد موتك فله الجنة)([161])، ونفس الرواية رويت عن الإمام الحسين([162]).

وروي أن الإمام الحسين، وقبل مسيره إلى كربلاء، زاره قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وراح يودعه، ويشكو إليه قائلاً: (السلام عليك يا رسول الله ! أنا الحسين بن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك، وسبطك في الخلف الذي خلفت على أمتك، فاشهد عليهم يا نبى الله. أنهم قد خذلوني وضيعوني وأنهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتى ألقاك)، ثم وثب قائما وصف قدميه، ولم يزل راكعا وساجدا([163]).

فلما كانت الليلة الثانية خرج الى القبر أيضا فصلى ركعتين، فلمل فرغ من صلاته جعل يقول: (اللهم إن هذا قبر نبيك محمد وأنا ابن بنت محمد وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم وإني احب المعروف وأكره المنكر، وانا أسألك يا ذا الجلال والاكرام بحق هذا القبر ومن فيه ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى) ([164])

وقد روي أنه غلبه النوم حينها؛ فرأى جدّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبلَ في كتيبة مِن الملائكة، فضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه، وهو يقول له: (يا بُني، كأنّي عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء، بين عصابة مِنْ أُمّتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، مالهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة؛ فما لهم عند الله من خلاق، حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قد قدموا علي وهم إليك مشتاقون، وإن لك في الجنة درجات لن تنالها إلا بالشهادة)([165])

4. ما روي عن محمد بن الحنفية، وزيارته لقبر أخيه الحسن، وقد روي أنه خنقته العبرة حينها، وقال: (رحمك الله يا أبا محمد، فلئن عزت حياتك، فلقد هدت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، عذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيا وطبت ميتا، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في الخيار لك)([166])

5. ما روي عن الإمام الباقر أنه قال: (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام، فإن إتيانه يزيد في الرزق، ويمد في العمر، ويدفع مدافع السوء. وإتيانه مفترض على كل مؤمن يقر له بالإمامة من الله)([167])

6. ما روي عن الإمام الصادق من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب، ومنها أن بعض أصحابه سأله: إنا نأتي المساجد التي حول المدينة، فبأيها أبدأ؟ فقال: (أبدأ بقبا، فصل فيه، وأكثر، فإنه أول مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه العرصة، ثم ائت مشربة أم إبراهيم فصل فيها، فهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصلاه، ثم تأتي مسجد الفضيخ فتصلي فيه، فقد صلى فيه نبيك، فإذا قضيت هذا الجانب أتيت جانب أحد فبدأت بالمسجد الذي دون الحرة فصليت فيه، ثم مررت بقبر حمز بن عبدالمطلب عليه السلام فسلمت عليه، مررت بقبور الشهداء…)([168])

ومنها ما رواه عنه ابنه الإمام الكاظم قال: (جاء الإمام الصادق يوم عيد الفطر إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسلم عليه، ثم قال: قد فضلنا الناس اليوم بسلامنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([169])

ومنها قوله: (مروا بالمدينة فسلموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريب، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد)([170])، وقوله: (صلوا إلى جانب قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت صلاة المؤمنين تبلغه أينما كانوا)([171])

ومن أحاديثه في هذا الباب ما رواه الشيخ الطوسي عن أبي عامر الساجي واعظ أهل الحجاز، قال: أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد فقلت له: يا ابن رسول الله ما لمن زار قبر أمير المؤمنين وعمر تربته؟ قال: (يا أبا عامر، حدثني أبي عن أبيه عن جده الحسين بن علي عليه السلام: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، فقلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن، إن الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعا من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وان الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقربا منهم إلى الله، ومودة منهم لرسوله، أولئك – يا علي – المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غدا في الجنة…) الحديث([172])

ومنها قوله: (لو أن أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين بن علي عليهما السلام لكان تاركا حقا من حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن حق الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كل مسلم)([173])

7. ما روي عن الإمام الكاظم، فقد روي الشيخ الطوسي أنه عندما: أتى هارون المدينة المنورة ومعه عيسى بن جعفر، فاستدعى الإمام موسى الكاظم لصحبته، فقصدوا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقدم هارون فسلم عليه وقال: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن عم) فتقدم الإمام الكاظم فقال: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه، أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلي عليك) فقال هارون لعيسى: سمعت ما قال! قال: نعم، قال هارون: أشهد أنه أبوه حقا([174]).

8. ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا، فقد روي عنه أنه قال: (إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء، زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة)([175])

9. ما روي عن الإمام الجواد، فقد روي عن ابن أبي نجران، قال: سألت أبا جعفر الثاني عمن زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصدا، قال: (له الجنة)([176]).

ثالثا ـ المصادر المقدسة والتوسل والاستغاثة:

يعتبر التوسل والاستغاثة التي يقوم بها عادة من يزور الأضرحة، من أكثر الأمور التي توجه إليها التكفير السلفي ابتداء من ابن تيمية، وانتهاء إلى هذا العصر، فهم يعتبرون كلا من التوسل والاستغاثة من نواقض الإيمان، ويشبهون من يتوسل أثناء دعائه أو يستغيث بالمشركين، ويطبقون عليه كل ما ورد من آيات القرآن الكريم التي تذكر دعاء المشركين لأصنامهم.

ولهذا نراهم يعتبرون الأضرحة أصناما، ويعتبرون من يدعو هناك متوسلا إلى الله تعالى بها، أو يستغيث، مشركا شركا جليا، يبيح دمه وماله وكل شيء..

وقبل أن نذكر الأدلة على تهافت ذلك، نحب أن نحرر النزاع في المسألة، ونبين مدى صلتها بالشرك، أو بالإيمان..

فكلا الفريقين من أصحاب الرؤية الإيمانية والتكفيرية يتفقون على أن التوسل أو الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بغيره جائزة، وليست شركا، ما دام ذلك المستغاث به حيا، أما إن كان ميتا، فإن أصحاب الرؤية التكفيرية يحولونها من كونها أمرا مباحا وطبيعيا إلى أمر ليس محرما فقط، وإنما شرك جلي، كذلك الشرك الجلي الذي ذكره القرآن الكريم.

أما أصحاب الرؤية الإيمانية، فيختلفون معهم في هذه المسألة، بسبب اختلافهم في حقيقة الموت.. فالموت عند أصحاب الرؤية التكفيرية عدم وفناء، يصبح صاحبه، وكأنه لا وجود له.. بينما يرى أصحاب الرؤية الإيمانية أن موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو موت الصالحين لا يؤثر فيما آتاهم الله تعالى من فضله.. فكما يتوسل بهم في الحياة يتوسل بهم في الممات، وكما يستغاث بهم وهم أحياء، يستغاث بهم وهم أموات، لأن موتهم لن يختلف عن حياتهم، بل إن فضل الله عليهم بعد الموت أكثر.

ولهذا يطبقون ما ورد في النصوص المقدسة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، والتي تجيز التوسل والاستغاثة على الأموات، مثل تطبيقها على الأحياء.

بناء على هذا، سنذكر الأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة وفعل السلف من الصحابة والتابعين والعترة الطاهرة، لنثبت كلا الأمرين:

1. مشروعية التوسل والاستغاثة بالأحياء، وهي من المتفق عليه بين كلا الرؤيتين.

2. مشروعية التوسل والاستغاثة بالأموات بناء على مشروعيتها في الأحياء، وهي التي انفرد بها أصحاب الرؤية الإيمانية، واختلفوا فيها مع أصحاب الرؤية التكفيرية.

1 ـ القرآن الكريم.. والتوسل والاستغاثة:

يورد أصحاب الرؤية التكفيرية الكثير من الآيات القرآنية التي وردت في المشركين في هذا الباب، ويعتبرون إمكانية تطبيقها على المؤمنين الموحدين الذين يقومون بالتوسل والاستغاثة، بل يرون أنهم أولى من المشركين بذلك.

فهم يطبقون عليهم ـ مثلا ـ قوله تعالى:﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (يونس:18)، باعتقادهم أن التوسل والاستغاثة دعاء لهم، والدعاء عبادة، بل مخ العبادة.

وهكذا يطبقون عليهم قوله تعالى: P وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارO [سورة الزمر:3]، ويذكرون أن المتوسلين المتعلقين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بالعلماء والصالحين، اتخذوهم أولياء من دون الله، ليتقربوا بهم إلى الله.

وغيرها من الآيات الكريمة التي لا يمكن الجدال فيها، أو في تأويلها وردها، فالقرآن الكريم كله محكم، ولا يصح أن نضرب بعضه ببعض، ولذلك فإن المشكلة التي جعلت أصحاب الرؤية التكفيرية يقعون في الخطأ في المصاديق تكمن في عاملين مهمين:

العامل الأول: هو الرؤية التجسيمية التي يتفق فيها أصحاب الرؤية التكفيرية مع المشركين.. ذلك أن المشركين كانوا يرون أن هناك إلها في السماء، وأنه جرم من الأجرام، وأنه وضع في كل محل آلهة تنوب عنه، مثلما يضع الملوك العمال والولاة على الأقاليم..

 ولذلك كان المشركون يتصورون أنه يكفيهم التقرب لأولئك العمال والولاة حتى ينالوا ما يشتهون من حظوظ، ولذلك كانوا يقولون، وهم يطوفون بالبيت:(لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)

ولهذا نرى ربط القرآن الكريم الشرك بكونه من [دون الله]، كما قال تعالى: Pوَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ O [سورة البقرة:165]، وقال: Pقُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمO [سورة المائدة:76]، وقال: Pقُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمO [سورة المائدة:76]، وقال: Pقُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمO [سورة المائدة:76].

ويتفق أصحاب الرؤية التكفيرية مع المشركين في اعتقادهم بمحدودية الله وكونه في السماء، مثل سائر الأجرام الموجودة فيها، ولهذا يعتبرون إقامة أي صلة مع عباده الصالحين نوعا من الغلو الذي يؤدي إلى الشرك، لتصورهم أن أولئك الولاة الأرضيين قد يقومون بالتمرد، ويصبحون هم المتحكمين في شؤون ولاياتهم.

لكنهم لو اعتمدوا التنزيه الذي ورد به القرآن الكريم، ويقول به أصحاب الرؤية الإيمانية لرأوا الأمر بصورة مختلفة تماما، ذلك أنهم ينطلقون من أن كل شيء من الله تعالى ابتداء وانتهاء، حتى الرحمة التي نراها في الأم، وهي تحن لولدها، وتضحي في سبيله رحمة إلهية، كما قال تعالى: Pفَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌO (الروم:50)، باعتبار أن الله تعالى غير محدود، ولا مقيد بتلك القيود التي يذكرها أصحاب الرؤية التجسيمية.

ولهذا يرون أن مدح الصالحين، والتعلق بهم، والثناء عليهم ليس إلا مدحا لله تعالى وتعلقا به وثناء عليه، ذلك أن الصالحين ليسوا سوى مظاهر وتجليات للفضل الإلهي.. كما قال تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: Pلَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينO [سورة آل عمران:164]

ولذلك لا يتنافى عندهم التوحيد والتنزيه مع التعلق بالصالحين ومحبتهم والتوسل بهم إلى الله تعالى.. ذلك أن الله تعالى هو الذي جعلهم بتلك الصورة، فهم مرائي للكمال الإلهي.. فكما نرى جمال الله تعالى من خلال الطبيعة الجميلة، نرى كذلك جماله وكماله وفضله وهدايته من خلال رسله والصالحين من عباده.

وحتى نقرب المسألة، نذكر أن المباني التكفيرية تُهدم جميعا مع تلك الآيات الكريمة التي يرد فيها السجود لغير الله تعالى، مثل سجود الملائكة لآدم عليه السلام، أو سجود إخوة يوسف له.. ذلك أن السجود عندهم عبادة لا يستحقها إلا الله.. والذي يسجد لغير الله مشرك، مع أن الله تعالى أثنى على أولئك الساجدين على غيره..

أما عند أصحاب الرؤية التنزيهية، فالأمر معقول جدا، ذلك أن السجود لآدم أو يوسف أو لغيرهما ليس إلا سجودا لله تعالى.. فكلاهما آثار للرحمة والفضل والجمال الإلهي.. وتعظيم الآثار تعظيم للمؤثر.. ومن أثنى على قصيدة شاعر، أو تصميم مهندس، فقد أثنى على الشاعر والمهندس..

العامل الثاني: هو هجرهم وعدم تفعيلهم لكل الآيات الكريمة التي تتنافى في تصورهم مع تلك الآيات التي اعتمدوها، ولهذا اختلط عليهم الأمر، وأصبحوا يبحثون عن أي تأويل يصرف الآيات أو الأحاديث عن معانيها، كاعتبار كل النصوص الواردة في التوسل والاستغاثة خاصة بالحياة دون الموت.

ولهذا نراهم يستعملون كل ما لديهم من حيلة ليوهموا أن الحياة الأخرى لا علاقة لها بهذه الحياة، وأن الإنسان إذا مات، فقد صلته تماما بهذا العالم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يذكرونه في الرد على ما يستدل به أصحاب الرؤية الإيمانية من جواز الاستغاثة بقوله تعالى: P فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينO [سورة القصص:15]

حيث يعتبرون أن ذلك (ليس مَحلّ استدلال بجواز التوسّل أو الاستغاثة بالأموات، بل فيه الاستغاثة بالحيّ القادر فيما يَقدر عليه.. ولو كانت الاستغاثة بِنوحٍ عليه الصلاة والسلام في زمان موسى عليه الصلاة والسلام لربما استدلّ به المخالِف، ولو كان يجوز ذلك في شريعة من قبلنا لم يَكن ليُستَدلّ به في شريعتنا، إلا أن تأتي شريعتنا بإقراره، ولذلك لا يجوز الاستدلال بِفعل يوسف عليه الصلاة والسلام مع أبويه بجواز السجود لغير الله، لأن شريعتنا جاءت بمنعه، وهذا من الأدلة التي يضعونها في غير مواضعها ! فإن استغاثة الرّجل بموسى عليه الصلاة والسلام فيما كان موسى يقدر عليه في حال حياته عليه الصلاة والسلام)([177])

وهذا من الاستدلالات العجيبة، ذلك أن اعتقاد كون الضر والنفع لغير الله تعالى شرك سواء تحقق ذلك في حياة المستغاث به أو موته، بالإضافة إلى النصوص المقدسة الكثيرة التي تخبر عن صلة الموتى بالأحياء، كما قال تعالى عن الشهداء: P وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَO [آل عمران: 169، 170]

وقد ورد في الحديث عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام، ثم قال: (يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السلام، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث أو أربع، فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت)، فقالت أسماء: (هينئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكن أخاف أن لا يصدق الناس فاصعد المنبر أخبر به)، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يا أيها الناس إن جعفرا مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله من يديه سلم علي، ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين)، فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جعفر لقيهم، فلذلك سمي الطيار في الجنة)([178])

بل إن ابن القيم نفسه ـ وهو تلميذ ابن تيمية، والذي يعتمده أصحاب الرؤية التكفيرية ـ عقد في كتابه [الروح] فصلا خاصا بعنوان [هل يعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا]، ومما جاء فيه قوله: (قال ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، فهذا نص في أنه بعينه، ويرد عليه السلام، وفي الصحيحين عنه من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر، فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؛ فإني وجدت ما وعدني ربى حقا؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: (والذي بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا)، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد)([179])

ولم يكتف ابن القيم بكل هذه النصوص القطعية، بل راح يذكر السلف الذين يعتمدهم أصحاب الرؤية التكفيرية على ذلك، حيث قال: (والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به) ([180])

ثم ساق أمثلة كثيرة عن ذلك منها ما رواه عن ابن أبى الدنيا في [كتاب القبور] في باب [معرفة الموتى بزيارة الأحياء]، ومنها أن ما رواه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم)([181])

ومنها ما رواه عن أبى هريرة قال: (إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام) ([182])

ومنها ما رواه عن رجل من آل عاصم الجحدرى قال: رأيت عاصما الجحدرى في منامى بعد موته بسنتين فقلت: أليس قدمت قال: بلى قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الاجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها قال لفضل يوم الجمعة وعظمته) ([183])

وغيرها من النصوص الكثيرة التي لا يمكن لأصحاب الرؤية التكفيرية أن يجادلوا فيها، خاصة وهي مروية عن سلفهم، وفي مصادر الحديث التي يعتمدونها.

وبناء على هذا، فإن كل تلك التأويلات التي جعلتهم يصرفون التوسل والاستغاثة عن الموتى تنهد من أساسها، لأن الموت لا يفرق بين الصالحين والأحياء، بل قد يزيد صلتهم بهم، خاصة مع ورود الآيات القرآنية التي تخبر عن دعاء الملأ الأعلى للمؤمنين، واهتمامهم بما يجري لهم، كما قال تعالى: Pالَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ O [غافر: 7]

وهكذا يمكن تطبيق الآية الكريمة على قوله تعالى: P وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ O [التوبة: 105]، فالآية الكريمة لم تخص رؤية المؤمنين بالحياة دون الموت، بل هي تشملهما جميعا.

وبناء على ذلك كله نرى القرآن الكريم يعتبر الوسائط، ويأمر باحترامها، ويخبر أنها لا تتنافى مع التوحيد، ولذلك كان التوسل بها إلى الله داخلا في العبودية لله، بل لا يمكن تحقيق العبودية مع الإعراض عن الوسائط.

فلا يمكننا التعرف على الله، وأسمائه الحسنى من غير توسط الرسل عليهم السلام الذين جعلهم الله تعالى وسائل لهداية عباده، كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (لأعراف:35)، وقال:﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:38)، وقال: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ (طـه:123)

فالآيات الكريمة تذكر مرة أن الله تعالى سيرسل لعباده رسلا يهدونهم، وترد مرة أخرى بوصف الهدى المجرد عن ذكر الرسل عليهم السلام، باعتبار أنهم ليسوا سوى مصاديق لذلك الهدي الإلهي.

وذلك مثل قوله تعالى عن توفي الأحياء، فمرة يسند الأمر إلى الملك الموكل بذلك، ويسنده مرة أخرى إليه، كما قال تعالى: Pقُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْO [السجدة: 11]، ثم قال عز وجل: Pاللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَاO [الزمر: 42]، فإسناد الأمر للملك ليس شركا، لأن الملك لا يتصرف من عنده، وإنما يتصرف بإذن الله.

وهكذا نرى القرآن الكريم يضيف الأفعال للعباد، ثم يضيفها لله نفسه.. فالعباد يفعلونها باعتبارهم وسائط، بينما الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، كما قال تعالى: Pأَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَO [الواقعة: 63] أضاف ذلك إلينا، ثم قال تعالى: Pأَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًاO [عبس: 25 – 28]

وهكذا قال الله تعالى: Pقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْO [التوبة: 14]، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل.. بل صرح، فقال: Pفَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْO [الأنفال: 17]، وقال: Pوَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَىO

وهكذا قال تعالى: Pوَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْO [غافر: 60]، وقال: Pوَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًاO [النساء: 64]، فالآية الأولى تطلب الدعاء المباشر لله، والآية الثانية تذكر وسيلة من وسائل ذلك الدعاء، أو أدبا من آدابه التي تجعله أكثر جدوى، وهو التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وغير ذلك من آيات القرآن الكريم الكثيرة التي تخبر عن هذه الوسائط التي جعلها الله بينه وبين عباده، وأن مراعاتها لا يتنافى مع التوحيد، فالقيام بالحرث والزرع والسعي في الأرض، لا يتنافى مع الإيمان بكون الله تعالى هو الرزاق، واستعمال كل الوسائل لحفظ النفس من الآفات لا يتنافى مع كون الله تعالى هو الحافظ..

وهكذا عندما يذهب المريض للطبيب، يطلب منه الشفاء لا يتنافى مع كون الله تعالى هو الشافي.. وهكذا فإن التوسل بالرسل أو الصالحين بسبب قربهم من الله تعالى لا يتنافى مع التوحيد، فالله تعالى لم يجعل الصالحين وسائط هداية فقط، بل جعلهم وسائط رحمة أيضا، حيث يغيث الله تعالى بهم عباده، مثلما يغيثهم بالمطر، كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام: P وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُO [مريم: 31]، وقال عنه: Pوَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ O [آل عمران: 49]

وهكذا أخبر تعالى عن أدوار الرسل عليهم السلام في حياة الناس في جوانبها المختلفة، لا الدينية فقط، كما قال تعالى عن سليمان عليه السلام: Pفَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍO [ص: 36 – 39]

وقال عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: Pوَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِO [التوبة: 74]، فالآية الكريمة ـ وفق الرؤية التكفيرية ـ تحمل مضامين شركية، لأنها عندهم تجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ندا لله تعالى، لكنها وفق الرؤية التنزيهيه لا تدل على ذلك، بل هي تدل على أن فضل الله تعالى قد يتنزل على عباده مباشرة، وقد يتنزل عليهم عبر تلك الوسائط، مثلما يتنزل الغيث عبر السحب وغيرها.

وبناء على هذا كله، فإن المؤمنين الذين يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغيثون به، يفعلون مثلما كان يفعل أصحابه الذين يعيشون معه في عهده، ذلك أن فضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكونه رحمة للعالمين ليس خاصا بعصر النبوة، بل هو ممتد لكل العصور، ولذلك لا يصح أن نجيز للذين عاصروه أن يستغيثوا به في كل شيء، فيغيثهم، ثم نحرم المؤمنين بعده من ذلك.

ولهذا ورد في الحديث شوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرؤية المؤمنين الذين لم يكتب لهم أن يعيشوا في عهده، بل سماهم [إخوانا]، وهم ـ لغة ـ أكرم وأرفع درجة من [الأصحاب]، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وددت أني لقيت إخواني)، قال: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)([184])

 هذا مختصر عن الرؤية القرآنية للتوسل والاستغاثة والتي عبر عنها قوله تعالى: Pيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَO [المائدة: 35]، فالآية الكريمة كما تأمرنا بتقوى الله وتوحيده، تأمرنا كذلك بطلب الوسائل ومراعاتها واحترامها.. فمن طلب العلم بحث عن العالم.. ومن طلب الشفاء بحث عن الطبيب.. ومن طلب فضل الله دعاه أو توسل إليه بمن يرى قربه منه.. وليس في ذلك كله أي شرك، لأن المؤمن يعتقد أن الله تعالى هو الذي يملك كل شيء، وما عداه لا يملك إلا ما أعطاه الله.

2 ـ السنة النبوية.. والتوسل والاستغاثة:

من العجائب التي وقع فيها التكفيريون الذين يزعمون لأنفسهم أنهم الممثلون الوحيدون للسنة النبوية، رد كل ما ورد من الأحاديث في التوسل والاستغاثة وما يرتبط بهما، وبأتفه الأسباب، في نفس الوقت الذي يقبلون فيه كل الخرافات التي تؤيد تصوراتهم التجسيمية لله تعالى، أو تؤيد مواقفهم من عصمة الأنبياء، وكون الخطأ يجوز عليهم.

وهم لا يكتفون بتوهين القوي من الأحاديث، وإنما يستعملون معها صنوف التأويل المتكلف الذي لا يمكن لعاقل يحترم نفسه أن يقبله.

وكان في إمكانهم مع ورود تلك الأحاديث، ومثلها الآيات القرآنية المؤيدة للتوسل والاستغاثة أن يعتبروا المسألة خلافية، ويتبنوا الاحتياط فيها؛ فلم يلزمهم أحد بالتوسل ولا بالاستغاثة.. ولم يقل أحد من أصحاب الرؤية الإيمانية بوجوب التوسل والاستغاثة..

ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وإنما راحوا يكفرون المتوسلين والمستغيثين، ويشبهونهم بالمشركين، مع كونهم مجتهدين، لا بناء على قياس واستحسان قد يؤاخذون عليه، وإنما بناء على أحاديث كثيرة صحت لديهم، وهم يطبقونها بناء على تلك الصحة.

لكن التكفيريين، لتكبرهم وغرورهم، راحوا يفرضون عليهم مقاييسهم في التصحيح والتضعيف، ومقاييسهم في تفسير النصوص وفهمهم لها، مع أن الله تعالى لم يكلفنا بفهم أحد من الناس.. فالنص إذا احتمل وجوها كثيرة يصبح متاحا لكل أحد أن يتعامل معه وفق فهمه، من غير أن يفرضه على غيره..

بناء على هذا سنذكر هنا ـ مثلما ذكرنا سابقا ـ سبعة أحاديث في التوسل والاستغاثة، وهي جميعا يقوي بعضها بعضا، وهي كافية للدلالة على مشروعية التوسل والاستغاثة.

ونحب أن نبين أن التوسل والاستغاثة لا يدخلان ضمن المسائل العقدية، وإنما هما من فروع الفقه المرتبطة بآداب الدعاء، مثله مثل تلك السنن التي سنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل تقديم حمد الله والصلاة عليه على ما نطلبه من حاجات، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن رآه يصلى ويدعو ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:(عجل هذا)، ثم دعاه، فقال:(إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي، وليدع بعد بما شاء)([185])، ففي تقديم الثناء على الله معرفة بالله، تدعو إلى محبته وإيثاره والثقة فيه، وفي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقرب منه ومحبة له تصفي القلب وتطهره، فإذا ما صفا القلب بهذه الصورة كان أهلا لقضاء حاجته.

ولهذا ـ أيضا ـ سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقدمات الطويلة لبعض الأدعية لتناسبها مع نوع الدعاء، فذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن سيد الاستغفار أن نقول:(اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ([186])

فإن مقدمات هذا الدعاء تتناسب تماما مع نوعه، فقد قدم الدعاء بمخاطبة الله التي تستدعي حضور القلب معه، ثم الإقرار بالوحدانية، والتي تدل على تصحيح الإيمان، أو تشير إلى أن الذنب لا يتعلق بالتوحيد، لأن الله وعد أن يغفر غير الشرك، ثم تجديد العبد العهد مع الله بحسب الاستطاعة، ثم الاستعاذة بالله من الذنب وشره، مع الإقرار بنعمة الله، وفي الأخير طلب المغفرة المشفوع بمعرفة أن المتفرد بمغفرة الذنب هو الله تعالى.

وهكذا في كل الأدعية نجد الحقائق الإيمانية التي تناسبها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا خفت سلطانا أو غيره، فقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك) ([187])، فهذه الصيغة تتناسب تماما مع نوع الحاجة.

ومن هذا الباب كان التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نوع من الحضور معه، والشعور بمعيته، وله تأثير كبير في ربط القلب بمحبته، وهو السبيل الصحيح لسلوك سنته.

فالتوسل بذلك، والذي يستحضر فيه قلب السائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يستشفع به إلى الله، مع الخلو من اعتقاد الوساطة الشركية، والامتلاء بالشعور بالمنة، يملأ القلب شعورا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لا يفيد السائل فقط في تحقيقه ما أراده، بل يزيده قربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الحديث الأول:

وهو توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء علمه إياه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وهو صيغة من صيغ صلاة الحاجة، ولهذا نجد المحدثين في كتبهم يروونه في الأبواب المرتبطة بالدعاء وصلاة الحاجة، فهكذا ذكره النسائي، وابن السُّني في عمل اليوم والليلة، والترمذي في الدعوات، والطبراني في الدعاء، والحاكم في المستدرك، والمنذري في الترغيب والترهيب، والهيثمي في مجمع الزوائد في صلاة الحاجة ودعائها، والنووي في الأذكار، وابن الجزري في (العدة) في باب صلاة الضرِّ والحاجة، وقد قال الشوكاني فى (تحفة الذاكرين): (وفي هذا الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وأنه المعطى المانع ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)([188])

ونص هذا الحديث هو أن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خير؟ قال: فادعُهُ، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويُصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللهمّ شفّعه فيّ)، قال الراوي: فوالله ماتفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضُرّ([189]).

ونص الحديث واضح في الدلالة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد الأعمى إلى التوسّل به في دعائه الذي علّمه إيّاه: ففي قوله: (بنبيّك) متعلّق بفعلين: أسألك بنبيّك.. وأتوجّه إليك بنبيّك.. والمسؤول به وما يتوجّه به إلى الله هو نفس النبي الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم، لا دعاؤه ـ كما يذكر ابن تيمية ـ وإلاّ كان عليه أن يقول: اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بدعاء نبيّك.. وفي قوله: (محمد نبي الرحمة) دلالة على أنّ المسؤول به نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دعاؤه.. وفي قوله (يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربي) دليل على أن الأعمى بحكم هذا الدعاء اتّخذ منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاهه وسيلة لاستجابة دعائه.. وبذلك يتّضح أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه ونفسه الكريمة، هو محور الدعاء كلّه، وليس فيه أي دليل على التوسّل بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم أصلاً..

وقد أقر ابن تيمية بصحة هذا الحديث، فقال في كتابه [التوسل والوسيلة] ـ الذي يستند إليه التكفيريون كثيرا ـ يعد طرقه، ويحكم له بالصحة من خلالها: (قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه، بطوله. ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف.. قلت: وقد رواه ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة، من طريقين، وشبيب هذا صدوق روى له البخاري.. وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم ـ ثم ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر ثم قال ـ قال الطبراني: روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمير عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسي: والحديث صحيح.. قلت: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمير)([190])

لكنه بعد كل هذا الإقرار الذي لم يجد فكاكا عنه، ومع وضوح الحديث، وكون صيغة التوسل التي وردت فيه هي نفس الصيغة التي يتبناها القائلون بالتوسل، راح يؤول معناه، ويصرفه عن حقيقته، بوجوه من التأويل، وهي التي تبناها أصحاب الرؤية التكفيرية، وتصوروا أنها حقائق لا يجوز الجدال فيها مع كونها فهوما عقيمة لا يراد منها سوى الفرار من مقتضيات الحديث، ومن تلك الوجوه:

التأويل الأول: ذكرهم أنّ التوسّل كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن في محضره، وبذلك لا يصح عندهم التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، مع أن كل الأحاديث تبقى على إطلاقها ما لم تقيد بزمن معين.

بالإضافة إلى ذلك، فإنهم بهذا الموقف يخرجون عما شرطوه على أنفسهم من التقيد بفهم السلف، وخصوصا الصحابة، وخصوصا راوي الحديث، وقد ورد في الروايات ما يدل على أن الراوي للحديث فهم منه شموله لفترة حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، فقد روى الطبراني عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجته، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين وقل: اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي. وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاءه البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال:ما كانت لك من حاجّة، فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمتُه فيك، ولكنّي شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم… إلى آخر الحديث([191]).

بالإضافة إلى هذا فإن التفريق بين حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته عين الشرك، ذلك أن الله هو الفاعل في الجميع، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرد واسطة، فالتفريق بين الحياة والموت يدل على أن الشخص له من القدرة والتأثير في الحياة ما ليس له في المماة، مع أن الأمر لله جميعا.

التأويل الثاني: أن العميان من الصحابة، لم يعد لهم بصرهم، ويعتبرون هذا دليلا على عدم مشروعية التوسل أو عدم جدواه أو كونه خاصا براوي الحديث، يقول ابن تيمية: (ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدعُ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله)([192])، وقد علق على هذا محقق الكتاب بقوله: (وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ابن عباس وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشروعاً لتوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم ولشفي وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عمي عتبان بن مالك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك ابن أم مكتوم)([193])

وقال في موضع آخر: (وكذلك لو كان كل أعمى توسل به، ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه)([194])

ومثله قال الألباني: (لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقدره وحقه كما يفهم عامة المتأخرين لكان المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وآله وسلم بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين وكل الأولياء والشهداء والصالحين وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة والإنس والجن أجمعين، ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال هذه القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم)([195])

وإيراد مثل هذا عجيب، وهو دليل على التلاعب بالنصوص والاحتيال عليها، والجواب عن هذا من جهتين:

الأولى هي أن من الصحابة من رضي بحاله، ولم يسأل الله تغييره رضى بقسمة الله، بل في حديث الأعمى دليل على استحباب ذلك، وقد ورد في الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبها طيف، فقالت: (إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله أن يشفيني)، فقال:(إن شئت دعوت لك أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)، فقالت:(بل أصبر ولي الجنة، ولكن ادع اللّه لي أن لا أتكشف)، فدعا لها فكانت لا تتكشف([196]).

والثانية أن اشتراط تأييد كل ما ورد من الأحاديث القولية أو الفعلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآثار الدالة على الفعل به من كل الصحابة، يكلفنا شططا، بل يلغي أكثر السنن، فلذلك يكتفي العلماء كلهم ـ بما فيهم ابن تيمية ـ بما ورد من الأحاديث، بل يرون أن في خلاف الصحابة للأحاديث دليل على عدم بلوغ الحديث لهم، لا دليلا على ضعف الحديث أو صرفه عن حقيقة معناه، وقد جعل ابن تيمية نفسه ـ هذا المعنى ـ من أسباب الخلاف الفقهي في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، بل اعتبره أول الأسباب، فقال:(السبب الأول أن لايكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فان الاحاطة بحديث رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن لأحد من الأمة)([197])

الحديث الثاني:

ما ورد من الروايات الكثيرة التي تخبر عن الحياة بعد الموت، وعلاقة تلك الحياة بالأحياء على الأرض، أو علاقتها بالقبور، وهي التي يستند إليها أصحاب الرؤية الإيمانية في التعامل مع الصالحين وهم موتى، وكأنهم أحياء، فيخاطبونهم، مثلما يخاطبون الأحياء تماما.

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)([198])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره)([199])

وقد قال ابن القيم – وهو تلميذ ابن تيمية النجيب – في نونيته عند الكلام على حياة الرسول بعد مماتهم([200]):

والرسل أكمل حالة منه بلا ‍
فذلك كانوا بالحياة أحق من ‍
وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ ‍
ولأجل هذا لم يحل لغـيره ‍
أفليس في هذا دليل أنـــــــــه
 شك وهذا ظاهر التبيان
 شهدائنا بالعقل والبرهان
 فنساؤه في عصمة وصيان
 منهن واحدة مدى الأزمان
 حــي لمن كانت له أذنـــــان

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في الروايات الكثيرة ـ التي يقر بصحتها ابن تيمية وغيره من أصحاب الرؤية التكفيرية ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى إماماً بالأنبياء عليهم السلام في الإسراء، وهذا متواتر، وكانوا قد ماتوا جميعاً، وراجعه موسى عليه السلام في الصلوات ورأى غيره في السماوات، فمن كان هذا حاله فكيف يقال بالتفريق بين حياته وموته؟

وبذلك فإن العلة التي وضعها التكفيريون ابتداء من ابن تيمية للنهي عن التوسل والاستغاثة، وهي موت المتوسل بهم، منتفية بهذه الأحاديث، ذلك أن المتوسلين يشعرون أنهم يخاطبون أحياء يسمعونهم، ويجيبونهم، مثلما يتعاملون مع الأحياء تماما.

فكما أنه لا يكفر من يقصد طبيبا، ويطلب منه أن يعالجه، فكذلك لا ينبغي أن يكفر من يقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يقصد بعض الصالحين، وهو يشعر بحياتهم، ويطلب منهم أي طلب كتلك الطلبات التي كان يطلبها الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شؤون دنياهم ودينهم، فيقضيها لهم، وقد ورد الكثير منها بصيغة الاستغاثة كما سنرى.

وقد استعمل التكفيريون كل التأويلات لصرف هذا النوع من الحديث عن معناه، ومن ذلك قول بعضهم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:: (مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره)([201]): (اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها ؛ ومحاولة تكيفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا. هذا هو الموقف الذي يجب أن يَتّخذه المؤمن في هذا الصَّدَد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيِسَة والآراء، كما يَفعل أهل البِدع الذين وصَل الأمر ببعضهم إلى ادِّعاء أن حياته صلى الله عليه وآله وسلم في قبره حياة حقيقية.. فإذا أثبتنا حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها ليست من جنس حياة الأحياء في هذه الدنيا، فليس لأحد أن يتوسّل بهم، ولا أن يَدعوهم، لأن إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن حياته في قبره أو عن حياة الأنبياء ليس فيه إذن ولا أمر بالتوسّل به صلى الله عليه وآله وسلم ولا بِغيره من الأنبياء)([202])

ولست أدري كيف أجاز لنفسه التفريق بين الحياتين في هذا المعنى، مع أن الله تعالى نهى أن يحسب الشهداء أمواتا من جميع النواحي، كما قال تعالى: Pوَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ O [آل عمران: 169، 170]، فأخبر عن حياتهم، وصلتهم بالأحياء، وارتباطهم بهم.

بل إن ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ عقد فصلا في كتابه [الروح] ليثبت فيه أن الموتى يعلمون بما يقوله الأحياء، ويسمعونهم، ويتفاعلون معهم، قال فيه: (ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثا، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل، ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبرانى في معجمه من حديث أبى أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمع ولايجيب، ثم ليقل يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعدا، ثم ليقل يا فلان ابن فلانة يقول أرشدنا رحمك الله، ولكنكم لاتسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما، ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا، وقد لقن حجته ويكون الله ورسوله حجيجه دونهما، فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمه قال ينسبه إلى أمه حواء)، فهذا الحديث، وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولا وأوفرها معارف تطيق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لاينكره منها منكر، بل سنه الأول للآخر ويقتدي فيه الآخر بالأول فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وان استحسنه واحد فا لعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة رجل فلما دفن قال: (سلوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يسأل فأخبر أنه يسأل حينئذ وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا منصرفين)([203])

وغيرها من النصوص الكثيرة التي أوردها ابن القيم ليثبت من خلالها أن حياة الميت حقيقية، وأن له علاقة بالأحياء، يسمعهم، ويتفاعل معهم، ولذلك كان التفريق بين الموت والحياة في التوسل والاستغاثة لا معنى له، خاصة مع ورود النصوص بعدم التفريق.

أما الاستدلال بقوله تعالى: Pوَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورO [سورة فاطر:22]، فبعيد جدا، بل نص المفسرون الذين يعتمدهم أصحاب الرؤية التكفيرية على عدم صحة هذا الاستدلال، ذلك أن الآية الكريمة، تنص على أن الكفار المصرين على الباطل لن ينتفعوا بالتذكير والموعظة كما أن الأموات الذين صاروا إلى قبورهم لن ينتفعوا بما يسمعونه من التذكير والموعظة بعد أن خرجوا من الدنيا على كفرهم، فشبه الله تعالى هؤلاء الكفار المصرين بالأموات من هذا الوجه.

ومن الأمثلة على ذلك قول ابن كثير في تفسيرها: (كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مدبرون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه)([204])

ثم ذكر موقف عائشة من ذلك، فقال: (وقد استدلت أم المؤمنين عائشة، بهذه الآية على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال: (والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون)، وتأولته عائشة على أنه قال: (إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق)([205])

ثم عقب عليه بقوله: (والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له، عن ابن عباس مرفوعا: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام)، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم) ([206])

الحديث الثالث:

ما ورد من الروايات في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، وعلاقته بأمته، ومعرفته بها، وتواصله معها، ومن تلك الأحاديث ما رواه عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم)([207])

وهذا الحديث واضح في الدلالة على علاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، وعدم اقتصارها على حياته الدنيوية، وقد اتفق أكثر المحدثين على تصحيحه، فقد رواه البزار في مسنده ([208]) بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما نص على ذلك الحافظ نور الدين الهيثمي([209])، وقال الحافظ السيوطي: سنده صحيح([210])، وقال الحافظان العراقيان – الزين وابنه ولي الدين –: (إسناده جيد)([211])، وروى الحديث ابن سعد بإسناد حسن مرسل([212]).

وقد ألف فيه المحدث الكبير عبد الله بن الصديق الغماري جزءا حديثيا خاصا سماه (نهاية الآمال في صحة وشرح حديث عرض الأعمال) قرظه له شقيقه الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري الحسني، وذكر فيه بتفصيل كلمات من صححوه من أمثال الحافظ النووي، والحافظ ابن التين، والقرطبي، والقاضي عياض، وابن حجر العسقلاني، والحافظ زين الدين العراقي، وولده الحافظ ولي الدين العراقي أبو زرعة، والحافظ السيوطي، والحافظ الهيثمي كما في «مجمع الزوائد»، والمناوي في «فيض القدير»، والحافظ المحدث السيد أحمد الغماري، وعبد الله بن الصديق وغيرهم كثير.

بالإضافة إلى هذا، فقد أكد هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)([213])

بل إن المحدث الكتاني ذكر تواتر ذلك، فقد قال في [نظم المتناثر]: (قال السيوطي في مرقاة الصعود: تواترت بحياة الأنبياء في قبورهم الأخبار، وقال في [إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء] ما نصه: (حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا، لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت بها الأخبار الدالة على ذلك، وقد ألف الأمام البيهقي رحمه الله تعالى جزءا في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم)، وقال ابن القيم في كتاب الروح: (صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء خصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه: (ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا نراهم)([214])

ويدل لهذا أيضا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدلا، فليكسرن الصليب ويقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فلا يقبله أحد، ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأجبته)، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وسلمه الذهبي ([215]).

ومع ذلك كله راح أصحاب الرؤية التكفيرية يجادلون فيه كعادتهم، فيذكرون أنه ضعيف بسبب غريب جدا، وهو أن هذا الحديث يعارض حديثا ثابتا في الصحيح، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا وإنه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: Pوَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌO [المائدة: 117])([216])

فذكروا أنه لو كانت الأعمال تعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم لعرف ما صنعوا بعده، مع أنهم ينكرون على كل من استعمل عقله في التعامل مع الأحاديث.. بينما هم يجيزون لأنفسهم ما شاءت لهم من صنوف التأويلات البعيدة.

وقد أجاب العلماء الذين يقبلونهم على هذا الإشكال، فقد قال ابن حجر في [فتح الباري] في كيفية الجمع بين الحديثين ناقلا ذلك عن أربع من أكابر حفاظ الأمة وهم: النووي وابن التين والقرطبي والقاضي عياض وهو خامسهم حيث قال: (هؤلاء الذين يذادون عن الحوض هم المنافقون والذين ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء لا تعرض أعمالهم عليه في الدنيا لخروجهم من أمته حقيقة، وان كانوا في الصورة يصلون ويتوضأون فيحشرون بالغرة والتحجيل، فإذا أبعدتهم الملائكة، وقال لهم سحقا سحقا أطفا الله تعالى غرتهم وتحجيلهم وأذهبه ساعتئذ)([217])

الحديث الرابع:

ما ورد من توسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالموتى، وهي من الأحاديث العملية التي يستدل بها كل المسلمين على شرعية الأعمال، ما لم يرد دليل يخصصها، ولم يرد أي دليل من ذلك النوع.

ومن تلك الأحاديث ما روي أنه: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس عند رأسها فقال: (رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة).. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبرها، فاضطجع فيه ثم قال: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين)([218])

وهو حديث حسن، والشاهد فيه واضح على توسله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وبالأنبياء من قبله: (بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي)، وهي من صيغ التوسل، وواضح أن التوسل فيها بذواتهم، وليس بدعائهم، كما يذكر التكفيريون، فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بحق دعاء نبيك)، وإنما قال(بحق نبيك)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمع وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك)

وإسناد هذا الحديث من شرط الحسن، وقد حسنه جمع من الحفاظ منهم الحافظ الدمياطي في (المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح)([219])، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ الحافظ المنذري([220])، وغيرهما([221]).

فهؤلاء الحفاظ كلهم صححوا أو حسنوا الحديث وقولهم حقيق بالقبول، والوقوف عنده، والإذعان إليه.

ودلالة الحديث على التوسل واضحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توسل فيه بحق السائلين على الله، وهو عين التوسل.

ومنها ما أثبته ابن تيمية نفسه من حديث ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة، أن يقول: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

ففي هذا الحديث دلالة واضحة على جواز التوسل بهم بعد موتهم، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بحق السائلين) لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم عليه السلام إلى يوم السائل هذا، بل يستوعب الملائكة وغيرهم، ولا يمكن حصره بالسائلين هذا اليوم أو من الأحياء، إذ لا دليل على هذا يحمله الحديث، ولا مخصص له من خارجه أيضا.

ومن هذا الباب ما رواه الطبراني في معجمه الكبير قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)([222])، وقد قال الحافظ الهيثمي في سنده: (رواه الطبراني ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح)([223])

والدلالة فيه على التوسل واضحة، لأن معنى الاستفتاح هو التوسل.. فإن كان التوسل بصعاليك المهاجرين شرعيا، فكيف بالتوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

الحديث الخامس:

ما ورد صريحا في الاستغاثة، وهو يهدم كل المباني التي بنيت عليها الرؤية التكفيرية، والحديث رواه الطبراني وأبو يعلى في مسنده وابن السني في (عمل اليوم والليلة)، ورواه من بعدهم الكثير من المحدثين مقرين له، داعين إلى العمل به، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا علي، يا عباد الله احبسوا علي، فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم)([224])

 وفي رواية أخرى للحديث: (إذا ضل أحدكم شيئا، أو أراد أحدكم غوثا، وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فان لله عبادا لا نراهم)([225])

ورواه البزار عن ابن عباس بلفظ: (إن لله تعالى ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله أعينوني)([226])

وقد قال الحافظ تعليقا على الحديث: (هذا حديث حسن الإسناد غريب جدا، أخرجه البزار، وقال: لا نعلم يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد)([227])

وهذا الحديث – برواياته المختلفة – ينسف كل ما يدعيه ابن تيمية وأتباعه من اعتبار الاستغاثة بغير الله شرك، وإلا اعتبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا في هذا الحديث إلى الشرك.

وقد أقر كبار المحدثين بالحديث، ودعوا إلى العمل به، ومنهم الإمام أحمد الذي يزعم ابن تيمية أنه ممثل السنة وناصرها، ففي المسائل، وشعب الإيمان للبيهقي: قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج منها اثنتين راكباً، وثلاثة ماشياً، أو ثنتين ماشياً وثلاثة راكباً، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشياً فجعلت أقول: (يا عباد الله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق، أو كما قال أبي)([228])

ومثله أبو القاسم الطبراني، فقد قال بعد أن روى الحديث في معجمه الكبير: (وقد جرب ذلك)([229]).

وقال النووي في الأذكار بعد أن ذكر الحديث: (حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث فقاله، فحسبها الله عليهم في الحال، وكنت أنا مرةً مع جماعة فانفلتت منا بهيمة وعجزوا عنها فقلته فوقفت في الحال يغير سوى هذا الكلام)([230])

وقد حاول أصحاب الرؤية التكفيرية رده بكل ما أمكنهم من صنوف التأويل، ومن ذلك قول الألباني: (وهذا الوصف إنما ينطبق على الملائكة أو الجن ؛ لأنهم الذين لا نراهم عادة، فلا يجوز أن يُلحَق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بيِّن ؛ لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة، وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: P وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ O [فاطر: 13، 14])([231])

ولست أدري هل كان واعيا في استدلاله بالآية الكريمة أم لا؟ لأنها تنطبق على من يعتقد ندية المخلوق لله، وهو يصدق على الجن والملائكة وغيرهم.. وليس خاصا بالبشر أو الجن فقط.

ومقتضى كلامه أن من اعتقد إغاثة الملائكة له، لا يكون مشركا، بخلاف ما لو اعتقد إغاثة الصالحين له، لما آتاهم الله في عالمهم من القدرات على ذلك.

وقد كان في إمكان أصحاب الرؤية التكفيرية لو كانوا متواضعين أن يرحموا أولئك المساكين الذين يعتقدون بأن الله آتى أولياءه في العالم الغيبي من فضله ما يستطيعون به عون الأحياء، لأن العون إلهي، ولا يهم مصدره، هل هو من الملائكة أم من الجن أم من البشر؟

لكنهم لم يفعلوا مع أن ابن تيمية نفسه والفريق الذي ينتمي إليه يرى فضل صالحي البشر على الملائكة، وخاصة بعد موتهم ([232]).. ولكنهم للأسف، ونتيجية غلبة المزاجية والهوى، يرمون بكل عقائدهم التي يتبنونها ويدافعون عنها في سبيل الحكم على المسلمين بالشرك الجلي في قضايا فرعية وردت بها الأدلة الصحيحة الصريحة التي لا يمكن دفعها.

وكمثال على ذلك ما قاله بعضهم في بعض المنتديات مغتاظا حانقا، وهو يعلق على الحديث السابق: (لا يوجد فيه أي نوع من الاستغاثة التي يذكرها الوثنيون المعاصرون ويحتجون -من ضمن ما يحتجون به هذا الحديث- فالحديث يتضمن نداء ملائكة أحياء يسمعون ويجيبون بنص الحديث -إن صح- في أمر مقدور عليه عندهم.. بالإضافة إلى أنه أمر مأذون به بنص الحديث.. وليس في الحديث نداء من في القبور ولا الاستشفاع بهم عند الله تعالى ولا جعلهم واسطات.. وإلا فما علاقة دل الطريق أو إعادة الدابة بالاستغاثة وجعل الوسائط بين الله تعالى وعباده؟! ومن الذي أذن لهم باتخاذ الشفعاء إلى الله تعالى؟! وأين في الحديث الذبح والنذر لهم أو السجود والتمسح بهم؟! فالحديث لا يؤيد الوثنيين الذين يدعون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله!!)([233])

وهكذا يظلون يتخبطون، ويتلاعبون بتأويل النصوص بدل التسليم لها، ومراجعة الأخطاء من خلالها.

الحديث السادس:

ما ورد في الروايات عن استغاثة الصحابة وغيرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حال حياته، وهي إذا ضممنا إليها الأحاديث السابقة الدالة على علاقته بأمته بعد موته، كان في ذلك دلالة على مشروعية الاستغاثة به مطلقا.

ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم من (أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع لنا الله تعالى يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا)([234]). أي أسبوعا كاملا.

وفي حديث آخر عن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك، أتدري ما تقول؟! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك)([235])، فقد أنكر عليه صلى الله عليه وآله وسلم قوله (نستشفع بالله عليك) ولم ينكر عليه قوله (نستشفع بك على الله)

وفي حديث آخر عن أنس بن مالك: جاء أعرابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح، ولا بعير ينط، وأنشد:

أتيتك والعذراء تدمي لبانها

   وقد شغلت أم الصبي عن الطفل

وألقى بكفيه الفتى لاستكانة

   من الجوع هونا ما يمر ولا يحلي

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا

   سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنا

  وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

 فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه، ثم قال: (اللهم اسقنا..) وذكر الدعاء، ثم قال فما رد النبي يده حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (حوالينا ولا علينا)، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالأكليل، وضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: (لله در أبي طالب، لو كان حيا قرت عيناه، من ينشدنا قوله؟) فقال علي بن أبي طالب: (يا رسول الله كأنك تريد قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

   ثمال اليتامى عصمة للأرامل

 يطوف به الهلاك من آل هاشم

  فهم عنده في نعمة وفواضل

 كذبتم وبيت الله نبزى محمدا

  ولما نطاعن دونه ونناضل

 ونسلمه حتى نصرع دونه

  ونذهل عن أبنائنا والحلائل

 فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أجل)، فقام رجل من كنانة، فقال:

لك الحمد والحمد ممن شكر

  سقينا بوجه النبي المطر

 إلى قوله:

فكان كما قال عمه

  أبو طالب أبيض ذو غرر

 فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت)([236])

وهكذا نجد الأحاديث الكثيرة التي يلجأ فيها الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغيثون به لتحقيق بعض مصالحهم الدنيوية، وهي كثيرة جدا، ومنها ما روي عن حبيب بن فديك أن أباه خرج به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا، فسأله: (ما أصابك؟) فقال: وقعت رجلي على بيضة حية فأصيب بصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه فأبصر، فرأيته وهو يدخل الخيط في الإبرة، وانه لابن الثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان([237]).

ومنها ما روي أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فقالوا: حتى تستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستأمروه، فقال: (لا)، فدعي به فرفع حدقته ثم غمزها براحته، وقال: (اللهم اكسبه جمالا، وبزق فيها)، فكانت أصح عينيه وأحسنها([238]).

ومنها ما روي عن رفاعة بن رافع بن مالك قال: رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شئ([239]).

ومنها ما روي أنه أصيبت عين أبي ذر يوم أحد، فبزق فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت أصح عينيه([240]).

الحديث السابع:

ما ورد في الروايات عن استغاثة البشر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المحشر، وبعد أن يعرف الناس جميعا حقائق التوحيد والشرك، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟… فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا، لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصرى)([241])

فهذا الحديث يدل على مشروعية الاستغاثة من نواح كثيرة جدا منها:

1. أن البشر عند اتصالهم بكل الأنبياء عليهم السلام، لا يطلبون منهم دعاء الله مباشرة، بل يرسلونهم إلى غيرهم من الأنبياء، على خلاف ما يدعيه أصحاب الرؤية التكفيرية من أن الكمال هو دعاء الله مباشرة..

2. أنه من الغرابة أن تعتبر الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، واللجوء إليه إيمانا وتسليما، في نفس الوقت الذي يعتبر فيه اللجوء إليه في الدنيا شركا وكفرا.. فهل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجود يوم القيامة، وليس له وجود الآن؟.. أو أن مكانته عند الله، والتي تؤهله للشفاعة، مؤجلة إلى يوم القيامة، أما في هذه الدنيا، فلا مكانة له؟

والأخطر من ذلك كله هو كيفية استحالة القضية الواحدة إلى إيمان من جهة، وإلى شرك من جهة أخرى.. وهذا من أعجب العجب الذي يقع فيه أصحاب الرؤية التكفيرية، إذ أنهم يعتبرون لجوء الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومد أيديهم إليه في الآخرة إيمانا وتسليما، في نفس الوقت الذي يعتبرون مد أيديهم إليه في الدنيا شركا.. مع أنه لو كان ذلك شركا، لكان في الآخرة أكبر لأن الخلق في ذلك الموقف عاينوا أهوال القيامة، وانكشفت الحقائق أمامهم رأي العين.

وهذا التخلخل في مبانيهم ما جعل الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ يقول تعليقا على بعض الأبيات في البردة، واعتبارها شركا: (بلغنا من نحو سنتين اشتغالكم ببردة البوصيري، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله: (يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك) إلى آخر الأبيات، التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، وكونه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده عموماً، وخصوصاً، بل هو مأمور أن ينهى عنه، ويتبرأ منه، كما تبرأ منه المسيح بن مريم في الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ.. وأما اللياذ: فهو كالعياذ، سواء، فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله، وأسمائه، وصفاته، وأما العياذ بغيره: فشرك، ولا فرق)([242])

3 ـ موقف السلف من التوسل والاستغاثة:

لا تنهد المباني التكفيرية من خلال المصادر المقدسة من القرآن والسنة فقط، بل تنهد من طرف أولئك الذين يتصورون أنفسهم موالين لهم، ويصرخون كل حين بتلك الحروب ضد الأمة، وطوائفها بسببهم، مع أننا لو طبقنا عليهم معاييرهم في تكفير المسلمين بسبب التوسل والاستغاثة والقبورية، لوجدناها تنطبق عليهم، مثلما تنطبق على غيرهم.

وسنذكر هنا نماذج عن ذلك من كبار الصحابة الذين يعتمدونهم:

النموذج الأول:

ما روي عن ابن عمر، وهو من كبار الصحابة الذين نجد لهم حضورا قويا في كتب أصحاب الرؤية التكفيرية، ويستدلون به خصوصا على مدى حرصه على السنة.

ومع ذلك لو طبقنا عليه أحكامهم التكفيرية، فسنجدها تنطبق عليه مثلما تنطبق على غيره ممن يسمونهم قبوريين.. فقد اشتهر ابن عمر بتتبعه للآثار النبوية وتبركه بها، وبحثه عنها، وقد أقر بهذا ابن تيمية نفسه، وخطأه فيه، مع أنهم يمنعون غيرهم من تخطئة الصحابة أو نقدهم، يقول في مجموع الفتاوى: (وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينزل مواضع منزله ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحبا ولم يستحب ذلك جمهور العلماء؛ كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر. ولو رأوه مستحبا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به. وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة وأن يستلم الحجر الأسود وأن يصلي خلف المقام وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما. وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده ـ مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصدا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه ـ فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع)([243])

إلى أن قال: (ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن زاذان بالكوفة فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرعه لأمته؛ لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة؛ بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة. وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله: تارة يكرهونه وتارة يسوغون فيه الاجتهاد وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين. فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع) ([244])

وهذا النص كله رمي لابن عمر بالبدعة، وأنه لم يكن يعرف السنة، وأن غيره من الصحابة كانوا أعلم منه بذلك، مع أنه في مواضع أخرى، وخاصة في أحاديث الفتنة، والموقف من يزيد أو ترتيب الأفضلية بين الصحابة، يجعله أفقه الصحابة وأعلمهم.

ولم يكتف ابن عمر بتتبع الآثار النبوية والتبرك بها فقط، بل ورد عنه نص صريح بالاستغاثة، وهو ما يقلب كل المباني التي بنى عليها التكفيريون مواقفهم، ولهذا راحوا يستعملوا كل صنوف التأويلا لتأويل الرواية.

ونص الرواية كما ذكرها البخاري في [الأدب المفرد] هي: (حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن أبي اسحق عن عبد الرحمن بن سعد قال: (خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا محمد)، وما يزيد طين التكفيريين بلة، هو أن البخاري وضع هذا الحديث تحت عنوان: (باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله)([245])

بل إن ابن تيمية نفسه ذكره في كتابه [الكلم الطيب] في فصل في الرجل إذا خدرت، فقال: (عن الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبد الله بن عمر فخدرت رجله فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا محمد فكأنما نشط من عقال)([246])

وهكذا عنون النووي للحديث في [الأذكار] [باب ما يقول إذا خدرت رجله]، ثم قال: (روينا في كتاب ابن السني عن الهيثم بن حنش قال: كنا عند عبد الله بن عمر فخدرت رجله فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا محمد، فكأنما نشط من عقال)، ورويناه عن مجاهد قال: خدرت رجل رجل عند ابن عباس، فقال ابن عباس: اذكر أحب الناس إليك، فقال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذهب خدره)([247])

وهذا الحديث فيه نداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته [يا محمد]، ثم اعتبار لتأثير ذلك [فكأنما نشط من عقال]، وهذا كله شرك في مبانيهم، لأن أفعال المستغيثين لا تتجاوز هذا، فهم يتصورون أنهم باستغاثتهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لمكانته العظيمة عند الله ـ سيحل كل عقال حصل لهم، سواء كان خدر رجل أو غيره.

النموذج الثاني:

ما ورد من استغاثة الصحابة ومن بعدهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة [يا محمداه]، وهي كثيرة جدا، وسنذكر هنا أمثلة عنها من روايات الطبري، وهو معتبر عند التكفيريين، لثناء ابن تيمية الكثير عليه.

ومن تلك الروايات ما رواه في تأريخه للحرب مع مسيلمة الكذاب، وأن شعار الصحابة كان حينها [يا محمداه]، قال الطبري: (ثم برز خالد، حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى البراز وانتمى، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد! ونادى بشعارهم يومئذ، وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه! فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله)([248])

ومنها ما رواه عن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهن شيء، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمداه! فأري فيما يرى النائم ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه مني السلام، وقل له: إن عهدي بك وأنت وفي العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استاذن لرسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام، هل رأيتم مني شيئا تكرهونه! قالوا: اللهم لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس، فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا، وأحي العباد والبلاد!)([249])

فهذا الحديث يدل على اشتهار تلك الصيغة في ذلك العهد، وأنه لم ينكر عليها أحد، وفيها دلالة صريحة على الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الزمن كان زمن جدب، وهم يحتاجون إلى السقيا.

وهكذا روى الطبري هذه الرواية عن زينب بنت الإمام علي، قال: (قال: فما نسيت من الأشياء لا أنس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهي تقول: يا محمداه، يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا قال: فأبكت والله كل عدو وصديق، قال: وقطف رءوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد)([250])

وهكذا ذكر نداءهم بتلك الاستغاثة أيام فتنة ابن الأشعث عام 82 هـ، فقد قال الطبري: (وذكر ضمره بن ربيعه، عن ابى شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه: أن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها.فخرج الناس فعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه يا محمداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون) ([251])

النموذج الثالث:

ما روي أن بلال بن الحارث المزني ـ وهو صحابي معروف ـ جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: (ائت عمـر)، ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مسقيون وقل له: عليك الكيس، عليك الكيس، فأتى الرجل فأخبر عمر، فقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه)([252])

ومع وضوح هذا الحديث، إلا أن أصحاب الرؤية التكفيرية راحوا يردونه بعقولهم، وبمبانيهم التي هدمت كل شيء، ومن ذلك قول بعضهم: (هذا مخالف لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: Pاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًاO [نوح: 10 – 12].. وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة)([253])

النموذج الرابع:

ما رواه الدارمي تحت عنوان [ما أكرم الله تعالى نبيه بعد موته] عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: (قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف. قال: ففعلوا، فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل، حتى تفتقت من الشحم، فسمى عام الفتق)([254])

وهو من الأحاديث الدالة على لجوء الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والاستغاثة به، وبطرق مختلفة، وهو لا يدل فقط على فعل عائشة، بل يدل على موافقة الصحابة لها.

وقد استعمل التكفيريون كل الوسائل لرده وتأويله، ومنها ما عبر عنه ابن تيمية بقوله: (وما روي عن عائشة من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا: أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان باقيا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعضه مسقوف، وبعضهم مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء. بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدارا عاليا وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف. وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين)([255])

وهكذا راح يستعمل العقل الذي ينهى غيره عن استعماله في التعامل مع السنة النبوية، مع أن العقل نفسه يجيز لفتح الكوة وجوها كثيرة، غير التي ذكرها ابن تيمية.. ولكن التعامل المزاجي مع الدين جعلهم يقعون في كل التناقضات.

النموذج الخامس:

ما ورد من الآثار الكثيرة على أن الصحابة كانوا يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وبعد مماته، ولو كان ذلك محرما أو بدعة أو شركا ما فعلوه، وابن تيمية يقر بذلك، بل إنه يبدع ويكفر من يتهمهم بذلك.

ومن الأحاديث الدالة على توسلهم به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته الحديث الذي رواه البخاري وغيره، وهو أن عمر بن الخطاب كان إذا قُحطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: (اللّهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا، فيسقون)([256])

فالحديث يدلّ على أنّ إمام الناس في صلاة الاستسقاء عمر بن الخطاب كان هو الداعي، وأنّه كان يقول في دعائه ذلك القول: (إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعم نبينا فاسقنا)

وهذا يعني أنّهم كانوا يتوسّلون بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وبذاته وكرامته وقداسته لا بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّهم يتوسّلـون الآن بشخـص العبـاس لا بدعائه، وعلى ذلك فتقدير كلمة (بدعائه) تخرّص على الغيب.

وقد اهتم ابن تيمية كثيرا بهذا الحديث، لأنه يخدم ما ذهب إليه في بدعية التوسل بالموتى، وغفل أنه يهدم مذهبه في التوسل بالذوات والأشخاص، لأن عمر ذكر أنهم كانوا يتوسلون بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا بدعائه.. ولذلك إن ثبتت حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، ثبت التوسل به مطلقا.

بالإضافة إلى هذا، فإن زعم ابن تيمية ـ بناء على هذه الرواية ـ بأن الصحابة مجمعون على حرمة التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته تحكم لا دليل عليه، لأن هذا يمثل رأي عمر بالتوسل بالحي، وليس فيه دلالة على حرمة التوسل بالميت.

بالإضافة إلى أنه إذا صح أن رأي عمر كان عدم صحة التوسل بالميت، فليس فيه دلالة على أن هذه هي قناعة كل الصحابة حتى المشاركين له في هذا الاستسقاء؛ فإذا حمل إقرارهم قول عمر على أنه إجماع سكوتي يدل على صحة رأيه، فهو يدل على إقرارهم التوسل بالحي الذي تم بالفعل، ولا يدل على نفي التوسل بالميت.

وهذا كله إذا اعتبرنا الإجماع السكوتي حجة، وهو ليس كذلك، فقد أنكر حجيته المالكية، وهو قول الشافعي، وداود الظاهري إمام الظاهرية، وإليه ذهب الآمدي، والفخر الرازي، والبيضاوي وغيرهم([257]).

وقد قال ابن حزم منتقدا له: (إن القول بمثل هذا الاجماع يعني إيجاب مخالفة أوامره صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يجمع الناس عليها، وهذا عين الباطل.. بل إذا تنازع الناس رددنا ذلك إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد عليه من القرآن والسنة، ولا نراعي ما أجمعوا عليه مع وجود بيان السنة)([258])


([1]) رواه الترمذي، وابن جرير، والبيهقي؛ انظر:جامع الأصول (2/161)

([2]) رواه الترمذي رقم (3094)، وابن جرير رقم (16631) و(16632) و(16633)

([3]) رواه ابن المبارك (ص 70، رقم 212)، والبخارى فى الأدب المفرد (1/207)، وابن حبان (13/73، رقم 5761)

([4]) رواه بن حبان في صحيحه: 1/ 282. ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2907)، والبزار (2793)، قال ابن كثير: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وحسنه الألباني في الصحيحة (3201)

([5]) رواه ابن أبي الدنيا وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، انظر: تخريج أحاديث الإحياء، المغني عن حمل الأسفار (ص: 1007)

([6])  رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،1/ 107.

([7])  رواه أبو يعلى، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 1/ 107.

([8]) أحسن التقاسيم ص366.

([9]) السيل الجرار (4/578).

([10]) فتاوى السبكي (2/578).

([11]) إيثار الحق على الخلق (405).

([12]) إيثار الحق على الخلق (402).

([13]) الاقتصاد في الاعتقاد (223-224).

([14]) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (128).

([15]) ويضاف إلى هذا مسألة رابعة، لم نذكرها هنا لعدم ارتباطها بالتكفير، وهي: إحياء المناسبات المرتبطة بالصالحين أو غيرهم، والتي يعتبرها التكفيريون أيضا من جملة الأمور التي ترتبط بالغلو، ويحكمون عليها بالبدعة.

([16]) رواه أبو داود 4/98، حديث 4253، وابن ماجه، حديث رقم3950، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة (ج 3 / ص 319)

([17]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 501)

([18]) انظر: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص11، وما بعدها، وصيانة الآثار الإسلاميّة، الشيخ جعفر السبحاني، ص26، فما بعدها.

([19]) كشف شبهات الصوفية (ص: 117)

([20]) المرجع السابق، (ص: 117)

([21]) نقلا عن: موسوعة الأسـئلة العقائدية ج3 (لـ مركز الأبحاث العقائدية)، ص27.

([22]) انظر: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص11، وما بعدها، وصيانة الآثار الإسلاميّة، الشيخ جعفر السبحاني، ص26، فما بعدها.

([23]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، أحمد بن الصديق الغماري، ص33.

([24]) رواه أحمد، (1/ 7)

([25]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص26.

([26]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، (6/ 51)

([27]) رواه البخاري(2/ 76)

([28]) نص الحديث (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) (انظر: مسند أحمد بن حنبل (3/ 64)

([29]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص25.

([30]) انظر: المرجع السابق، ص11، وما بعدها.

([31]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، (4/ 1613)

([32]) إحياء المقبور، ص53.

([33]) رواه ابن حبان (6/ 95)

([34]) رواه البخاري (1/ 117)

([35]) رواه مسلم (2/ 67)

([36]) انظر هذه العلل مفصلة مع أدلتها في: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص11، وما بعدها.

([37]) انظر مسند إسحاق بن راهويه، (2/ 264)

([38]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص33.

([39]) نص الحديث كما في (صحيح مسلم (3/ 65): (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحى فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا فى سقاء فاشربوا فى الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا)

([40]) السنن الكبرى للبيهقي، (4/ 77)

([41]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص8.

([42]) المرجع السابق، ص8.

([43]) انظر هذه العلل مفصلة مع أدلتها في: المرجع السابق، ص11، وما بعدها.

([44]) المرجع السابق، ص14.

([45]) المرجع السابق، ص13.

([46]) المرجع السابق، ص13.

([47]) المرجع السابق، ص13.

([48]) يقصد الوهابيين.

([49]) المرجع السابق، ص13.

([50]) المرجع السابق، ص13.

([51]) صحيح البخاري 1/95 ح(435)

([52]) إعلام الراكع الساجد بمعنى إتخاذ القبور مساجد-الغمارى، ص5.

([53]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص32.

([54]) الفتح (5/66).

([55]) الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية ص96–98.

([56]) طرح التثريب (6 / 43)

([57])  الفتاوى السهمية في ابن تيمية، أجاب عنها جماعة من العلماء.

([58]) نيل الأوطار 3/ 105.

([59]) نيل الأوطار 3/ 105.

([60]) شفاء السقام: 81 – 82..

([61]) معجم الطبراني 9/ 220، قال الهيثمي 7/ 71: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).

([62]) شفاء السقام / السبكي: 69 – 70..

([63]) المرجع السابق.

([64]) أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في (مثير العزم الساكن إلىٰ أشرف الأماكن) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) والقسطلاني بأسانيدهم، انظر: شفاء السقام: 62 – 63، مختصر تاريخ دمشق 2: 408، والمواهب اللدنية 4: 583.

([65]) المواهب اللدنية 4: 583.

([66]) الزيارة في الكتاب والسنة، الشيخ جعفر السبحاني، نسخة إلكترونية برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين للتراث والفكر الإسلامي، ص16، فما بعدها.

([67]) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، المحقق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ (5/ 342)

([68]) المرجع السابق، (5/ 343)

([69]) مجموع الفتاوى: 27/25.

([70]) المرجع السابق، (27/ 309).

([71]) المرجع السابق، 27/ 243.

([72]) الرد على الأخنائي ص 385.

([73]) المرجع السابق، ص 386.

([74]) الفتاوى الكبرى 5/ 146.

([75]) المرجع السابق، 27/ 220.

([76]) المرجع السابق، (4/ 519)

([77]) رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسل والزيارة ص 10 – 11.

([78]) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، 2 / 366 / 107، سنن الترمذي 3 / 370 / 1504، السنن الكبرى للنسائي 1 / 653 / 2159، المستدرك 1 / 530 / 1385، مصابيح السنة 1 / 568 / 1239.

([79]) سنن الترمذي 2/361 ح(1054)

([80]) المرجع السابق.

([81]) المستدرك 1 / 531 / 1389.

([82]) المستدرك 1 / 531 / 1390.

([83]) سنن الترمذي 2/361 ح(1054)

([84]) حرة واقم: هي في طرف المدينة الشرقي، وهي التي حصلت فيها وقعة الحرة سنة 62 هـ، بين أهل المدينة المنورة وكلهم من الصحابة وأبنائهم، وبين جيش يزيد بن معاوية.

([85]) سنن أبي داود 2 / 218 / 357.

([86]) صحيح مسلم 2/669 ح(974)، سنن النسائي 4/93 ح(2039).

([87]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني 3/573 ح(6716).

([88]) ابن أبي شيبة 2/358، والحميدي (935)، ومسلم (602)، والترمذي (329)، وابن الجارود (305)، والنسائي 2/114-115.

([89]) انظر: مفاهيم يجب أن تصحح، محمد علوي المالكي، ص201.

([90]) فتح الباري ج3 ص65.

([91]) مجمع الزوائد ج4 ص3.

([92]) رواه البزار. (مجمع الزوائد ج4 ص3).

([93]) سنن الدارقطني 2 / 278 / 194، السنن الكبرى للبيهقي 5 / 245، شعب الإيمان للبيهقي 3 / 49

([94]) التراث السلفي تحت المجهر (ص / 55).

([95]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 147)

([96]) انظر: الزيارة والتوسل، سلسلة المعارف الإسلامية، مركز الرسالة، ص32.

([97]) هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، من صغار التابعين، ولد بعد سنة 70 هـ، سمع الحديث من سالم بن عبدالله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، ونافع مولى عمر، وكان ملازما له، وقد سئل أحمد بن حنبل عن مالك بن أنس، وأيوب السختياني، وعبيدالله بن عمر، أيهم أثبت في نافع؟ قال / عبيدالله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية (سير أعلام النبلاء 6 / 304 ، 305)

([98]) هو عبد الله بن عمر بن حفص، بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن العمري، خرج مع محمد ذي النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن المثنى في ثورته على المنصور، فحبسه المنصور أخرجه عنه، توفي سنة 171 وقبل 173هـ. ويأتي الكلام في أقوال أهل الجرح والتعديل فيه لاحقا. تهذيب التهذيب 5 / 285 ، 286.

([99]) شفاء السقام، السبكي / 2.

([100]) شعب الإيمان / البيهقي 3 / 490.

([101]) مجمع الزوائد 4 / 2.

([102]) جامع المسانيد والسنن 28 / 130 / 244.

([103]) المرجع السابق.

([104]) موسوعة أطراف الحديث 8 / 286.

([105]) الدارقطني في سننه (2/278)، البيهقي في شعب الإيمان (3/488) والمحاملي والساجي كما في الميزان، وعلقه بن عبد البر في الاستذكار.قال ممدوح: ولكن الضعف في هذا الحديث غير شديد، بل ضعفه قريب ويحتج الفقهاء بمثله في إثبات مشروعية أمر ما، ودونك كتب الفقه لتتحقق من صحة مقولتي، فكيف ولأحاديث الزيارة طرق بعضها من شرط الحسن.

([106]) التوسل والوسيلة (ص134)

([107]) انظر: الزيارة والتوسل، سلسلة المعارف الإسلامية، مركز الرسالة، ص41.

([108]) سنن الدارقطني 2 / 287 / 193.

([109]) السنن الكبرى 5 / 245، شعب الإيمان 3 / 488،.

([110]) مختصر تاريخ دمشق 2 / 406.

([111]) المقاصد الحسنة، 413، الدرر المنتثرة، 173، شفاء السقام، 103.

([112]) نقلا عن: شفاء السقام، 39.

([113]) شفاء السقام: 35 ، 36.

([114]) الثقات لابن حبان 7 / 580.

([115]) الضعفاء الكبير 4 / 361 رقم 1973.

([116]) شفاء السقام: 32.

([117]) انظر: البيهقي في شعب الإيمان (3/488)، وحمزة بن يوسف السهمي في تاريخ جرجان (ص434) ومن طريقه السبكي في شفاء السقام (ص35)، وابن أبي الدنيا في (كتاب القبور).

([118]) شفاء السقام: 36 ، 37.

([119]) شعب الإيمان 3 / 490 / 4158.

([120]) الثقات لابن حبان 6 / 395.

([121]) تهذيب التهذيب 9 / 52 / 62.

([122]) الضعفاء الكبير، للعقيلي 3 / 457.

([123]) رواه الدارقطني في السنن 2 / 278 / 194.

([124]) رواه الحاكم في المستدرك (2/595)

([125]) أبو يعلى الموصلي في مسنده (حديث رقم 6584).

([126]) مجمع الزوائد / 8/211).

([127]) السلسلة الصحيحة، (2733)

([128]) سنن الدارقطني 2 / 278 / 192.

([129]) السنن الكبرى / البيهقي 5 / 246، المعجم الكبير 12 / 310 / 13497، مختصر تاريخ دمشق 2 / 406، نيل الأوطار 5 / 108.

([130]) الكامل في الضعفاء 3 / 789 ، 790، السنن الكبرى 5 / 246، المجروحين / ابن حبان 2 / 250.

([131]) انظر: الزيارة والتوسل، سلسلة المعارف الإسلامية، مركز الرسالة، ص46.

([132]) شفاء السقام، 24 ، 25.

([133]) شفاء السقام، 25.

([134]) الطبراني في المعجم الكبير 12 / 406 / 13496، وفي حاشية أخرجه المحقق عن المعجم الأوسط أيضا، 1 / 201 / 157.

([135])  إعلام الموقعين (4/266)

([136])  الآداب الشرعية لابن المفلح (2/60)

([137])  رواه أبو نعيم في الحلية (6/322)، انظر السير للذهبي (8/107)

([138])  وفيات الأعيان (3/189)

([139])  سير أعلام النبلاء (16/405)

([140])  فضل علم السلف على الخلف، ص31.

([141])  منهاج السنة (5/262)

([142])  مجموع الفتاوى(10/363)

([143])  مجموع الفتاوى (13 / 361)

([144])  في شريط الأجوبة الألبانية على الأسئلة الكويتية.

([145])  إعلام العابد (ص10) بالهامش.

([146]) الرياض النضرة في مناقب العشرة (2/ 386)

([147]) اسد الغابة 1: 307 – 308، ترجمة بلال بن رباح، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة بلال أيضا، وفي ترجمة إبراهيم بن محمد الأنصاري، انظر: مختصر تاريخ دمشق 4: 118 و5: 265، وتهذيب الكمال 4: 289/ 782.

([148]) شفاء السقام: 54.

([149]) أسد الغابة (2/ 147).

([150]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 532).

([151]) المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 560).

([152]) شفاء السقام: 55.

([153]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/616)

([154]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/616).

([155]) السنن الكبرى للبيهقي 4: 78، المستدرك على الصحيحين 1: 533/ 1396.

([156]) المستدرك على الصحيحين 1: 533/ 1396.

([157]) ) السيرة النبوية لابن سيد الناس 2: 432.

([158]) مختصر تاريخ دمشق، 2: 406.

([159]) تهذيب الأحكام 6: 3/ 2.

([160]) المواهب اللدنية للقسطلاني 4: 583.

([161]) تهذيب الأحكام 6: 20/ 1، و40/ 1.

([162]) تهذيب الأحكام 6: 21/ 5، و40/ 2.

([163]) الفتوح 5: 19، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 186، وفيه بدل في الخلف (والثقل)، العوالم 17: 177.

([164]) المراجع السابقة.

([165]) الفتوح 5: 20، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 186، بحار الأنوار 44: 328.

([166]) العقد الفريد 3: 13، الغدير 5: 25/ 9.

([167]) تهذيب الأحكام 6: 42/ 1.

([168]) تهذيب الأحكام 6: 22/ 7.

([169]) تهذيب الأحكام 6: 17 – 18/ 19.

([170]) الكافي 4: 553/ 7، تهذيب الأحكام 6: 7/ 4.

([171]) الكافي 4: 552/ 5.

([172]) تهذيب الأحكام 6: 22/ 7.

([173]) تهذيب الأحكام 6: 42/ 2.

([174]) تهذيب الأحكام 6: 6/ 3، تاريخ بغداد 13: 31، وفيات الأعيان 5: 309، سير أعلام النبلاء 6: 273.

([175]) تهذيب الأحكام 6: 78 – 79.

([176]) تهذيب الأحكام 6: 14/ 9.

([177]) الجواب المفصّل عن شبهات في التوسل، الشيخ عبدالرحمن السحيم، مكتبة شبكة مشكاة الإسلامية، ص7.

([178]) رواه الحاكم (3/ 209 – 210 و212) ورواه الطبراني في الأوسط مختصراً -كما في مجمع الزوائد (9/ 272)

([179]) الروح (ص: 5).

([180]) المرجع السابق، ص6.

([181]) المرجع السابق، ص6.

([182]) المرجع السابق، ص6.

([183]) المرجع السابق، ص6.

([184]) رواه أحمد 20/38 ح(12579)، وأبو يعلي (3390)، والطبراني في الأوسط (5490).

([185]) رواه أبو داود الترمذي وصححه، انظر: شرح مشكل الآثار 6/18 ح(2242)

([186]) صحيح البخاري 8/67 ح(6306)

([187]) عمل اليوم والليلة لابن السني 1/305 ح(345)

([188]) تحفة الذاكرين (ص 162).

([189]) رواه أحمد في المسند (4 / 138)، والترمذي (تحفة 10 / 132، 133)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 417)، وابن ماجة في السنن (1 / 441) والبخاري في التاريخ الكبير (6 / 210). والطبراني في المعجم الكبير (9 /19)، وفي الدعاء أيضاً (2 / 1289) والحاكم في المستدرك (1 / 313، 519) وصححه وسلمه الذهبي والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 166)، وفي الدعوات الكبير.

([190]) التوسل والوسيلة: 105 – 106.

([191]) المعجم الكبير للطبراني:9/30 و31.

([192]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 123)

([193]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 123).

([194]) الرد على البكري، ابن تيمية، 1/268.

([195]) في توسله (ص 76).

([196]) رواه البخاري 7/116 ح(5652)

([197]) مجموع الفتاوى:20/233.

([198]) رواه البيهقي في حياة الأنبياء (ص15). وأبو يعلى في مسنده (6/147)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/44)، وابن عدي في الكامل (2 / 739)، وقال الهيثمي في المجمع (8 /211): (ورجال أبي يعلى ثقات).

([199]) مسلم (4/1845)، وأحمد (3 /120) والبغوي في شرح السنة (13 / 351) وغيرهم.

([200]) (النونية مع شرح ابن عيسى 2 / 160)

([201]) مسلم (4/1845)، وأحمد (3 /120) والبغوي في شرح السنة (13 / 351) وغيرهم.

([202]) الجواب المفصّل عن شبهات في التوسل، ص9.

([203]) الروح (ص: 13)

([204]) تفسير ابن كثير (6/ 324)

([205]) تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 324)

([206]) تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 324)

([207]) رواه البزار (كشف الأستار 1/397) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (9/24) رجاله رجال الصحيح.

([208]) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/397)

([209]) مجمع الزوائد (9/24)

([210]) الخصائص الكبرى (2/281)

([211]) طرح التثريب (3/297).

([212]) الطبقات (2/194)، وانظر: فيض القدير (3/401)

([213]) صحيح مسلم 4/1791 ح(2288)

([214]) نظم المتناثر 135 (حديث رقم 115)

([215]) المستدرك (2/595)

([216]) صحيح البخاري 6/ 69، صحيح مسلم 4/ 2195.

([217]) فتح الباري (11/385).

([218]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (24/352) وفي الأوسط (1 / 152)، ومن طريقه أبونعيم في الحلية (3 / 121)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1 / 268)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 257): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقة ابن حبان، والحاكم، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.

([219]) المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح) (ص471_472).

([220]) الترغيب والترهيب (3/273)

([221]) ومنهم الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الحياء (1/291)، والحافظ بن حجر العسقلاني في أمالي الأذكار (1/272)، وقال الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة (1/99): رواه ابن خزيمة في صحيحه، من طريق فضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده..

([222]) الطبراني في معجمه الكبير (1/292)

([223]) مجمع الزوائد (10/262).

([224]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (17 /117) وغيره.

([225]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/217)، وأبو يعلى في مسنده (9/177)

([226]) مسند البزار = البحر الزخار 11/181 ح(4922)

([227]) كما في شرح ابن علان (5 / 151).

([228]) رواه البيهقي في الشعب (2 / 455 / 2) وابن عساكر (3 / 72 / 1).

([229]) معجمه الكبير (17/117)

([230]) الأذكار (ص133)

([231]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (656).

([232]) (مجموع الفتاوى) (11/ 350)، وإلى لوامع الأنوار (2/ 368)، وإلى شرح العقيدة الطحاوية (ص338)

([233]) انظر هذا التعليق في ملتقى أهل الحديث، وهو أكبر منتدى للسلفيين.

([234]) صحيح البخاري / كتاب الإستسقاء، باب 643، صحيح مسلم / كتاب صلاة الإستسقاء..

([235]) سنن أبي داود 4: 232.

([236]) دلائل النبوة 6: 140 – 142، شفاء السقام: 170 – 171..

([237]) المعجم الكبير للطبراني: 4/30، وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ، 1994 م، 8/298..

([238]) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى – 1405 هـ، (3/ 252)

([239]) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6: 82)، وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط.

([240]) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني (المتوفى: 430هـ)، حققه: الدكتور محمد رواس قلعه جي، عبد البر عباس، دار النفائس، بيروت، الطبعة: الثانية، 1406 هـ – 1986 م، (ص: 484)

([241]) البخاري (4712)، ومسلم (194)، والترمذي (2434).

([242])  رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب: 1/82.

([243]) مجموع الفتاوى (1/ 280).

([244]) مجموع الفتاوى (1/ 281).

([245]) رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم/964)، والدارقطني في العلل (13/242) ورواه علي بن الجعد في المسند (ص/369)، وإبراهيم الحربي في غريب الحديث (2/674)، وابن سعد في الطبقات (4/154)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (31/177).

([246]) الكلم الطيب (1/ 172 – 173 برقم 236 طبعة المكتب الإسلامي – بيروت – الطبعة الثالثة – 1977 يتحقيق الالباني.

([247]) الأذكار للإمام النووي ص271.

([248]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (3/ 293)

([249]) المرجع السابق، (4/ 99).

([250]) المرجع السابق، (5/ 456).

([251]) المرجع السابق، (6/ 381).

([252]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 356) والبخاري في التاريخ الكبير (7/304) – مختصرا – والبيهقي في الدلائل (7/47)، وابن عساكر في تاريخه (44/345)، وانظر: فتح الباري:2/496.

([253]) انظر: فتوى بعنوان: خبر الرجل الذي جاء في عهد عمر إلى قبر النبي a يقول: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، موقع الإسلام سؤال جواب.

([254]) رواه الدارمي (1/56) رقم (92) تحت باب: ما أكرم الله تعالى نبيه بعد موته..

([255]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 104)

([256]) صحيح البخاري 2/27 ح(1010).

([257]) راجع: الأحكام / للآمدي 1: 312، موسوعة الاجماع في الفقه الاسلامي / سعدي أبو حبيب 1: 31.

([258]) المحلى 7: 165 – 166.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *