الغزالي.. ورحمة الله الواسعة

الغزالي.. ورحمة الله الواسعة

من المغالطات التي يمارسها التنويريون الجدد في مناسبات كثيرة ادعاؤهم الرجوع للعلماء، وخاصة الكبار منهم، أو المقبولين لدى عامة الناس؛ وهو تصرف لا يتناسب مع دعوتهم للاجتهاد، والبحث عن الدليل، ذلك أن الاجتهاد يقتضي النظر في المسألة وحججها من غير اهتمام بمن قال بذلك، أو لم يقل.

وقد كان يمكن أن يقبل منهم ذلك، لو أن رجوعهم للعلماء كان سليما، وكان مبنيا على دراسة وتحقيق، وليس عن تهور وعجلة.. ذلك أن العجلة لا تتناسب مع التحقيق، ولا مع البحث العلمي، القائم على التدقيق والأناة للوصول إلى الحقيقة.

ومن الأمثلة على ذلك أنهم يرددون جميعا مقولة الغزالي في [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة] في سعة الرحمة الإلهية، وفي إمكانية شمولها للأمم جميعا؛ وهو قوله: (وأنا أقول: إن الرحمة تشمل كثيراً من الأمم السالفة، وإن كان أكثرهم يعرضون على النار إما عرضة خفيفة، حتى في لحظة، أو في ساعة، وإما في مدة، حتى يطلق عليهم اسم بعث النار، بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى: أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة) ([1])

ثم ذكر أن هؤلاء ثلاثة أصناف: (صنف: لم يبلغهم اسم محمدصلى الله عليه وآله وسلم أصلاً، فهم معذورون.. وصنف: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.. وصنف: ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً ملبساً اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له المقفع، ادعى أن الله بعثه وتحدى بالنبوة كاذباً.. فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب) ([2])

فهذا النص الذي تعلقوا به، وراحوا ينشرونه في كل محل، وكأنه من آية من القرآن الكريم، لا يدل على ما يقصدونه من الترحم على الكفرة والملحدين، فالغزالي ذكر فيه سعة الرحمة الإلهية العامة، وهو أمر متفق عليه عند جميع المؤمنين، بل عند جميع العقلاء، ولم يذكر فيه الترحم الذي لا يختلف عن طلب الشفاعة والاستغفار وصلاة الجنازة.. فكل هذه أحكام شرعية لم يشر إليها النص الذي اعتمدوا عليه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ذلك النص مقيد بنصوص كثيرة أوردها الغزالي في نفس كتابه هذا، أو في غيره من الكتب ولا يفهم ذلك النص إلا ضوئها.

فقد ذكر في محل قريب من هذا النص ما يناقض كل المستلزمات التي استلزموها من النص السابق، فقد قال: (وأما من سائر الأمم فمن كذبه بعدما قرع سمعه بالتواتر عن خروجه، وصفته، ومعجزاته الخارقة للعادة، كشق القمر، وتسبيح الحصا، ونبع الماء من بين أصابعه، والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه فإذا قرع ذلك سمعه، فأعرض عنه، وتولى ولم ينظر فيه ولا يتأمل، ولم يبادر إلى التصديق، فهذا هو الجاحد الكاذب، وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين) ([3])

وهو بهذا يخرج من تلك الرحمة التي ذكرها في النص الأول كل من سمع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعرض عنه، ولم ينظر، ولم يتأمل، ولم يبحث، ولم يبادر إلى التصديق.. بل اعتبره جاحدا كاذبا.. وهذا الوصف يصدق على الكثير من عوام هذا العصر، فكيف بعلمائهم الذين كانت لهم علاقة بالمسلمين، واحتكاك شديد بهم، بالإضافة إلى سماعهم عن الإسلام.. سواء المشوه والمحرف منه، وغير المشوه والمحرف.. وكان ذلك في الأصل ـ كما يذكر الغزالي ـ داعية للبحث والطلب، كما حصل للكثير من الذين أسلموا بعد البحث والطلب؛ خاصة وأن كل الوسائل متوفرة للتحقيق والنظر.

بل إن الغزالي ـ الذي استعملوه مطية للإرجاء ـ زاد على ذلك التشدد بقوله ـ تتمة للنص السابق ـ: (بل أقول: من قرع سمعه هذا، فلا بد أن تنبعث فيه داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين، ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ فإن لم تنبعث فيه هذه الداعية، فذلك لركونه إلى الدنيا، وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين، وذلك كفر وإن انبعثت الداعية، فقصر عن الطلب، فهو أيضاً كفر) ([4])

وهو قول أخطر من السابق، فلا يكفي عند الغزالي مجرد السماع، بل ينبغي أن يسرع في البحث والتحقيق والنظر، فإن منعه ذلك أي مانع من موانع الدنيا، فقد اعتبره كافرا مثله مثل من سبق.

وهو لم يعذر إلا من كان عاميا بسيطا لا قدرة له على البحث والنظر، أو ذلك الذي (اشتغل بالنظر والطلب، ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو أيضاً مغفور له ثم له الرحمة الواسعة) ([5])

فالغزالي لم يعف إلا من اجتهد، وبحث، ولكن الموت أدركه قبل أن يصل إلى الحقيقة.. لا الذي عاش عمره جميعا جاحدا لها، متبرئا منها، ساخرا من أصحابها.

وهكذا قال قبل ذلك النص الذي اعتمدوا عليه: (فأبشر برحمة الله وبالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح، وبالهلاك المطلق إذا خلوت عنهما جميع.. وإن كنت صاحب يقين في أهل التصديق، وصاحب خطإ في بعض التأويل، أو صاحب شك فيهما، أو صاحب خلط في الأعمال فلا تطمع في النجاة المطلقة.. واعلم أنك بين أن تعذب مدة ثم تخل، وبين أن يُشفَعَ فيك من تيقنْتَ صدقه في جميع ما جاء به أو غيرِهِ.فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء، فإن الأمر في ذلك مُخطِرٌ) ([6])

وقبلها، وفي أول الكتاب ذكر ما هو أخطر من ذلك؛ فقد قال ـ عند بيانه لحد الكفر ـ: (لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر، بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين، فاعلم: أن شرح ذلك طويل، ومدركه غامض، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها، لتتخذ مطمح نظرك، وترعوي بسببها عن تكفير الفرق، وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ماداموا متمسكين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صادقين بها، غير مناقضين لها؛ فأقول: الكفر: هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شيء مما جاء به، والإيمان: تصديقه في جميع ما جاء به) ([7])

ثم راح يبين مصاديق ذلك، فقال: (فاليهودي والنصراني: كافران ؛ لتكذيبهما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. والبرهمي: كافر بالطريق الأولى ؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين.. والدهري: كافر بالطريق الأولى، لأنه أنكر مع رسولنا المرسل، سائر الرسل، وهذا لأن الكفر حكم شرعي: كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه.. الحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي، فيدرك: إما بنص، وإما بقياس على منصوص: وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى، والتحق بهم بالطريق الأولى: البراهمة، والثنوية، والزنادقة، والدهرية. وكلهم مشركون مكذبون للرسل.فكل كافر مكذب للرسل.وكل مكذب للرسل فهو كافر.فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة)([8])

وهذا النص واضح لا لبس فيه، وقد قاله في نفس الكتاب الذي تعلقوا به، ولو أنهم قرأوه بأناة لفهموا أغراض مؤلفه، ولم يخرجوا كلامه عن حده.

مع أن الغزالي لم يذكر أبدا الدعاء بالرحمة ولا بالمغفرة لأعيان هؤلاء الكفرة وغيرهم، بل ذكر إمكانية أن تسعهم رحمة الله تعالى، ما داموا لم يقصروا في البحث والنظر والتحقيق.

أما إذا عدنا إلى كتب الغزالي الأخرى، والتي خصصها للتربية والسلوك، فنجد الأمر أبعد مما تصوروا، فقد ذكر الغزالي عن نفسه ـ مع كونه مؤمنا مسلما، بل عالما من علماء المسلمين ـ كيف أحاطت به المخاوف من النار وعذابها، خشية أن يكون كل ما هو فيه رياء وسمعة، فقد قال في [المنقذ من الضلال]: (ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم – فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جلد الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟)([9])

وهكذا ذكر في كتابه [أصناف المغرورين] الكثير من مظاهر الغرور، والتي تتأسس جميعا على الاعتقاد برحمة الله الواسعة مع التقصير في العمل الصالح، وقد عقد فيه فصلا خاصا بعصاة المؤمنين، وعرفهم بأنهم (من يتكلون على عفو الله ويهملون العمل)

ومما جاء فيه قوله: (وأما غرور العصاة بالله من المؤمنين فقولهم: غفور رحيم، وإنما يرجى عفوه فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال وذلك من قبل الرجا فإنه مقام محمود في الدنيا. وأن رحمة الله واسعة ونعمته وشاملة وكرمه عميم، وأنا موحدون نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان)([10])

وعندما ذكر منشأ غرور الكفار ومن شابههم من العصاة، قال: (ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله تعالى.. وبصفاته.. فإن من عرف الله تعالى فلا يأمن من مكر الله.. وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم.. مع أن الله تعالى أعطاهم من المال.. وقد حذر الله تعالى مكره فقال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99].. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].. وقال تعالى: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق: 17].. فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة)([11])

أما في [إحياء علوم الدين]، فقد ذكر فيه ما هو أعظم من ذلك كله، فكل الإحياء دعوة إلى الورع، ومحاسبة النفس، وتفقد النقير والقطمير من الأعمال، مع ربط ذلك كله بمحاسبة الله لعباده، واعتبار الأمل في رحمة الله الواسعة بعيدا عن العمل مجرد أماني كاذبة.

وقد ذكر في باب الخوف والرجاء، خطورة استعمال أدوية الرجاء والأمل في رحمة الله الواسعة مع من غلبته المعاصي، فقال: (اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة، وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله.. وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال.. فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصي؛ فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه، وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد، وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة، بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له)([12])

وذكر في باب التوبة درجات البشر مع الجزاء الإلهي، وكلها ترتبط بالإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يريد فيه صاحبه وجه الله، وأعطى لذلك تشبيها بديعا، فقال: (الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها، ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة؛ فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس)([13])

ثم راح يحصي هذه الأجناس الكبرى، فذكر أنهم (أربعة أقسام: هالكين، ومعذبين، وناجين، وفائزين).. وضرب مثلا لذلك بأن (يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلى بعضهم فهم الناجون، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون)

ثم بين سبب ما يفعله الملك بهذه الأقسام؛ فقال: (فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة.. ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته.. ولا يخلي إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب، ولم يخدم ليخلع عليه.. ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة)

وعند حديثه عن رتبة المعذّبين، ذكر أنها رتبة (من تحلّى بأصل الإيمان ولكن‏ قصّر في الوفاء بمقتضاه، فإنّ رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلّا اللّه، ومن اتّبع هواه فقد اتّخذ إلهه هواه فهو موحّد بلسانه لا بالحقيقة، بل معنى قولك: «لا إله إلّا اللّه» معنى قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ» وهو أن تذر بالكلّية غير اللّه ومعنى قوله‏ «الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» ولمّا كان الصراط المستقيم الّذي لا يكمل التوحيد إلّا بالاستقامة عليه أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفكّ بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير، إذا لا يخلو عن اتّباع الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصانا في درجة القرب ومع كلّ نقصان ناران نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنّم كما وصفها القرآن فيكون كلّ مائل عن الصراط المستقيم معذّبا مرّتين من وجهين ولكن شدّة ذلك العذاب وخفّته وتفاوته بحسب طول المدّة إنّما يكون بسبب أمرين أحدهما قوّة الإيمان وضعفه، والثاني كثرة اتّباع الهوى وقلّته)([14])

هذا بعض ما ذكره في [إحياء علوم الدين] من مراتب الناس، وخطورة ما ينتظرهم إن قصروا في الإيمان بالله، أو في سلوك سبيله، أو تجاوز حدوده.

وهكذا نجده في سائر مواقفه؛ حيث نرى موقفه من الفلاسفة منسجما مع ما ذكره في كتبه جميعا؛ فهو يكفر الكثير منهم، مع كونهم موحدين، ويمارسون كل ما يمارسه المسلمون من شعائر وعبادات، وذلك لأسباب بسيطة جدا مقارنة بما يقوله هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين اتخذ الغزالي مطية للترحم عليهم؛ فقد قال في [المنقذ من الضلال]، وهو من أواخر كتبه: (ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم، إلا أنه استبقى من رذاذ كفرهم، وبدعتهم، بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين. كابن سينا والفارابي وأمثالهما)([15])

وقال عند الحديث عن قسم الإلهيات في الفلسفة الإسلامية المقتبسة من الفلسفة اليونانية: (وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين، على ما نقله الفارابي وابن سينا، ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر)([16])

وتلك المسائل الفرعية التي رأى الغزالي وجوب تكفيرهم فيها، ولم يبرر خطأهم فيها بكونهم مجتهدين، هي ـ كما يذكر في المنقذ من الضلال ـ: (قولهم: إن الأجساد لا تحشر، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.. وقولهم: إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فهو أيضاً كفر صريح، بل الحق أنه: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3].. ومن ذلك قولهم: يقدم العالم وأزليته، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل)([17])

فكيف يستدل بكلام من يقول هذا في جواز الترحم على من لا ينكر النعيم الجسدي فقط، بل ينكر الآخرة أيضا، وينكر معها الله رب العالمين، ولا يكتفي بالإنكار المجرد، بل يستعمل العلم وسيلة للدعوة لذلك الإنكار؟

ولم يكتف الغزالي بكبار الفلاسفة كابن سينا والفارابي، بل راح للمتابعين لهم على أقوالهم يشن عليهم حملته الكبرى في كتابه [تهافت الفلاسفة]، والذي قال في مقدمته: (أما بعد، فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء قد رفضوا وظائف الإسلام، واستحقروا شعائر الدين، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا)([18])

ونحن، وإن كنا ننكر عليه هذا التكفير، ولكنا أردنا من خلال ذكره أن ننبه هؤلاء الذين قرأوا نص الغزالي مقلوبا، ولم يفهموا مقصوده، فنقلوه من الرحمة إلى الترحم، ومن المجتهدين في البحث عن الحقيقة إلى المقصرين فيها، ومن العامة البسطاء إلى العلماء الكبار الباحثين، ومن الساكتين اللا أدرية إلى المصرحين بإلحادهم.

وهذا كله كيل بالمكاييل المزدوجة، وتلاعب بالعواطف، بل عبث بها، والبحث العلمي يأبى ذلك كله.


([1])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص85.

([2])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص86.

([3])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص86.

([4])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص87.

([5])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص87.

([6])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص88.

([7])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص25.

([8])  فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص25.

([9])  المنقذ من الضلال (ص: 173).

([10])  أصناف المغرورين (ص: 29)

([11])  أصناف المغرورين (ص: 28)

([12])  إحياء علوم الدين (4/ 146)

([13])  إحياء علوم الدين (4/ 24)

([14])  إحياء علوم الدين (4/ 24)

.

([15])  المنقذ من الضلال (ص: 137).

([16])  المنقذ من الضلال (ص: 143).

([17])  المنقذ من الضلال (ص: 148)

([18])  تهافت الفلاسفة ص38..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *