الغريزة.. والإلهام

بعد أن انتهى الخامس من حديثه، قال السادس، وهو يلتفت لي: أظن أن الدور وصل لي.. ولهذا سأحدثك بحديثي الذي لا يقل جمالا عن حديث زملائي، بل قد يفوقهم جميعا، فسترى فيه من بدائع الصنعة الإلهية ما يملؤك بالعجب.
ولا تخف.. فلن أحدثك في حديثي هذا عن دقائق علوم الحياة، ومصطلحاتها وتعقيداتها، بل سأذكر لك أشياء بسيطة يراها الكثير من الناس.. ويمكنهم التعبير عنها.. ولكن الفلسفات المادية راحت تعبث بها كما عبثت بغيرها من الحقائق لتصرفها عن الله.
قلت: ما تعني؟
قال: ما دام أصحابي قد حدثوك عن الصدفة والخلق.. والتطور والعلم.. والعشوائية والتصميم.. والصراع والسلم.. والتكيف والعناية.. فلن أكرر ما ذكروا، بل سيقتصر حديثي على الغريزة والإلهام.. ذلك أن حكايتي معهما هي مفتاح هدايتي إلى الله، وسبب تخلصي من كل الخرافات التطورية التي كنت أتعلق بها.
قلت: فما تعني بالغريزة.. وما تعني بالإلهام.. وما الفرق بينهما؟
قال: الغريزة ـ كما يتصور الماديون ـ تنبع من ذات الشيء.. أي أن الكائن الحي لوحده استطاع أن يملك تلك القدرات العظيمة التي تيسر له حياته.. بينما الإلهام يعني وجود جهة خارجية تهدي الكائن لما ينفعه.
قلت: لعلك تقصد ما ورد في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النحل: 68، 69]
قال: أجل.. فالله تعالى يخبر في هاتين الآيتين الكريمتين أنه أوحى إلى النحل، وألهمها بما عليها فعله، لتخدم نفسها، وتخدم المحتاجين إلى عسلها، فما يمكن لعقلها البسيط أن يدرك كل ذلك من دون إلهام وهداية إلهية.
قلت: فهلم حدثني بحديثك.. فلا شك في كونه ممتعا.
***
اعتدل صاحبنا السادس في جلسته، وحمد الله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم قال: تبدأ قصتي من طفولتي حيث كنت حينها لا أزال أدرس في المدرسة الإعدادية، وكان لنا حينها أستاذ يدرسنا علوم الحياة، وكان عاشقا لداروين ونظريته لدرجة الهيام.. وكان يحدثنا عنهما كل حين بإعجاب شديد..
لكنه وفي ذلك اليوم.. وفي حديقة الحيوان التي ذهبنا إليها في رحلة مدرسية.. وبعد أن عاين ما عاين من سلوكات غريبة للحيوانات المختلفة.. راح يتملص من تلك النظرية العاجزة، ويحاول أن يفر منها، بل وصل به الأمر في الأخير إلى درجة التبرئ منها ومن صاحبها.
بعد أن دخلنا الحديقة، كلفت إدارتها بعض الخبراء بعالم الحيوانات أن يصحبنا فيها، ويعرفنا بالحيوانات المختلفة، وسلوكها.. وقد اختارته عمدا ليخاطب من هو في مثل سننا.
في مدخل الحديقة، سأل بعض التلاميذ عن سر الحياة ومبدئها وتنوعها، فقال الأستاذ: كما ذكرت لكم مرات كثيرة فإن قصة الحياة تبدأ بعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال.. وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.
ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا، وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.. ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.
وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت كائنات كثيرة لا عدد لها.. وهي التي سنرى بعضها هنا في هذه الحديقة.
قال تلميذ آخر: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟
قال الأستاذ: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.
قال التلميذ: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟
سكت الأستاذ قليلا، ثم قال: هناك أجوبة كثيرة عن هذا قد لا يطيق عقلكم الصغير الإجابة عنها..
قال التلميذ: أخبرنا فقط.. فلعلنا نطيق فهمها.
قال الأستاذ: هي أجوبة.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.
ثم أضاف: هناك اختصاصي في علم الجينات، وأحد أصحابنا من دعاة نظرية التطور، كتب كتابا سماه [سر التطور العظيم] ذكر فيه صعوبة الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة، فقال:(لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي، وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة)
وهناك آخرون من أصحابنا يؤمنون بنظرية التطور، أجابوا على ذلك بكون الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستناداً إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية، وبمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزياً وفق الشكل المعروف.
قال التلميذ: وهل تؤمن أنت بهذا؟
قال الأستاذ: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.. أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟.. أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.
قال التلميذ: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟
قال الأستاذ: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة أخرى.
قال التلميذ: فما قالوا؟
قال الأستاذ: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..
قال التلميذ: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟
قال الأستاذ: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.
قال التلميذ: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل أظن أن الجميع يسأله..
حينها تدخل المرشد، وقال: إن عقولنا جميعا تحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.. فالطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات.. فمن من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟.. وأي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟
هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة:(ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة)؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.. إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي.
ثم قال موجها كلامه للأستاذ: أنا أعرف الكثير من دعاة نظرية التطور، أو دعاة التفسير المادي للحياة، فهم يزورون هذه الحديقة كثيرا، ويرون السلوكات الغريبة التي تبديها الكثير من الحيوانات، وعندما أسألهم عن تفسيرها لا يجيبون بشيء، بل يذكرون أن نظرية التطور تعجز عن التفسير المنطقي للحياة، ولسلوك الحياة..
لقد سمعت بعضهم.. وهو من كبارهم.. يقول ـ وهو يتحدث عن سلوك دودة القز ـ لعلك تعرفه.. إنه [هيرمان فون ديثفورت].. لقد سمعته يقول:(إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية.. كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة، ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف)
ثم يتساءل متعجبا:(ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها، وهي بهذا الضعف من التكوين؟. وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيراً إلا بالمعجزة؛ أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة، أي أنهم آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلى هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة، ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيراً خالياً من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا، فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محدودة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل)
ثم قال:(هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي، ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره بوحي إلهام إلهي.)
التفت للأستاذ، وقال: هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور، وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز، هذا السلوك العقلاني المدروس.
أنت لا ترى في إجابته ـ كما في كل الكتب والإصدارات التي تصدرها هذه النظرية ـ إلا أسئلة بدون ردود واضحة، أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
حتى صاحب النظرية تشارلز داروين قد اعترف بهذه الحقيقة، فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً واضحاً لصحة نظريته.. لقد ذكر ذلك في كتابه (أصل الأنواع) عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها.. اسمع ما يقول مثلا:(أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ، وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس)
أما نجل تشارلز داروين المدعو فرانسيس داروين، فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتابه [الحياة ورسائل تشارلز داروين]، وذكر فيه مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلاً في الكتاب، يعني [أصل الأنواع]:(وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها، والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب (أصل الأنواع)
قال الأستاذ: لداروين ولنجل داروين أن يقولا ما يشاءان.. ولكن النظرية لا تقتصر عليهما.. نعم ربما تكون قد بدأت منهما، لكنها لم تنته عندهما.. بالإضافة إلى هذا، فإن لدينا الجواب على ما طرحته من تساؤلات، فنحن نعتقد أن الحيوانات تكسب أنماطاً سلوكية عن طريق التجربة، ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة.
ابتسم المرشد، وقال: كلامك هذا يحوي معنين.. ثانيهما يبنى على أولهما.. ففسر لي أولهما، لأبين لك وجهة نظري حوله.
قال الأستاذ: المقدمة الأولى التي تعتمد عليها نظريتنا لتفسير الغرائز هي ما نسميه (الانتخاب الطبيعي).. إنه الحجر الأساس لنظرية التطور.
قال المرشد: فما تعنون بالانتخاب الطبيعي؟
قال الأستاذ: هو يعني بكل بساطة اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكلياً أو سلوكياً)، ثم اختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة.
قال المرشد: فأنت بقولك هذا تجعل الطبيعة هي المحك لتمييز المفيد من الضار، وأنها القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود.
قال الأستاذ: أجل.. قولي يستلزم ما ذكرته.
قال المرشد: ولكن، أنت ترى أنه لا يوجد في الطبيعة من يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ذاك الذي يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار.
لقد اعترف داروين نفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود ويدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه على الرغم من كونه هذراً وغير منطقي حيث يقول:(في النهاية يمكن اعتبار أنّ الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء، وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير والتغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقياً ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي)
هذه هي المقدمة الأولى.. وذاك ما يبين تهافتها، فما المقدمة الثانية؟
قال الأستاذ: أنا لم أسلم لك بكل ما ذكرته في الرد على المقدمة الأولى.. ومع ذلك، فالمقدمة الثانية هي أنا نرى أن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال.
قال المرشد: هل حقا بقي من العلماء من يقول هذا.. إن أي عقل يعلم أن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال، لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده، ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقاً.
فالمعروف علميا أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتم بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي بصورة عامة.
فمثلا يكون الحيوان نشيطاً أو بالعكس خاملاً أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطاً بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف.
ولو كان الأمر كذلك، فإن هذا يستدعي البحث عن الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال.
التفت إلى الأستاذ، ثم قال: إن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علمياً، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة، كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال.
دعنا من كل هذا.. هناك مثال آخر يفرض نفسه بشدة.. وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل.
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، قد ترجع الأمر إلى الوراثة.. ولكنك تصطدم بأن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد هو كونها قاصرات، ولا يمكن لها التكاثر لذا لا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة.
وما دام الأمر بهذه الصورة كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر؟
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهداً في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة.
ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم وجميع سلوكها مكتسب بالفطرة، وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية؟
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة تورث إلى جيل لاحق وهكذا، لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي؟
ألا يتبين لك من خلال هذا استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور، بسبب بسيط، وهو أن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي، ولا يمكن توريثها بالتالي إلى أجيال لاحقة.
سكت قليلا، ثم قال: والأمر الأخطر من ذلك كله هو زعمكم بأن الغرائز تتطور بتطور الأحياء، فأنتم تزعمون بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور.
ووفقاً لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك، والطيور من الزواحف.. مع أن النوع الواحد يختلف تماماً من حيث السلوك، حيث تختلف السمكة عن الزواحف اختلافاً كلياً.
لم يجد أستاذنا ما يجيب به، لكنه راح يمسك بطنه، ويقول مخاطبا المرشد: أظن أن مغصا أصابني.. لقد تعودت أن يصيبني مثله.. لذلك أرجو أن تتجول بالتلاميذ في الحديقة، ودعني هنا أنتظركم.
كان ذلك فرصة عظيمة لنا حينها لتكون لنا الحرية في أن نسأل المرشد عن أي شيء يخطر ببالنا، وبكل حرية.. وقد كان له من دماثة الأخلاق ما جعلنا جميعا نتعلق به.
قال لنا، وهو يتجول بنا في أرجاء الحديقة([1]): ستكتشفون ـ أبنائي ـ في هذه الجولة البسيطة بعض المميزات الخارقة للكائنات الحية الموجودة في محيطنا، وستتعلمون من خلالها الخصائص المدهشة والطريفة عند هذه الكائنات..
وسترون كيف خلق الله تعالى في المخلوقات المختلفة ما تتميز به من خصائص مدهشة وخارقة لتمارس حياتها بكل راحة واستقرار.. لكن، تأكدوا أن ما سترونه ليس سوى بعض الحيوانات فقط، إذ يوجد ما لا يحصى ولا يعد من أنواع الحيوانات الأخرى.
والله تعالى يريد منا عند اكتشافنا خصائص هذه الحيوانات أن نفكر في قدرته اللامحدودة وإبداعه المدهش، وأن نعي أن الله خالق كل شيء، كما علينا أن نشكر الله تعالى ـ ونحن نتمتع بالنظر إلى مخلوقاته ـ على هذا الجمال اللامحدود الذي نستمتع به من خلال مخلوقاته.
بعد أن حدثنا بهذه الأحاديث المفعمة بالإيمان، والتي لم نتعود سماعها من أساتذتنا، راح يتجول بنا في القسم الأول من أقسام الحديقة، وهو قسم الحيوانات الأليفة.
وكان أول من مررنا عليه في جولتنا تلك هي الأرانب.. والتي رحنا نستمتع بالنظر إليها، وهي تلتهم كل ما يقدم لها من مأكولات.. وقد قال لنا المرشد، وهو يشير إليها: ألا تلاحظون أنكم كلما حاولتم الاقتراب منها تهرب بسرعة؟
فسألناه عن سر ذلك، فقال: إنها تملك حاسة سمع قوية، ولذلك نراها بمجرد الإحساس بأي صوت أو خشخشة تهرب بسرعة كبيرة..
ثم قال: لقد خلق الله في الكائنات الحية خصائص أخرى إضافة إلى الخصائص التي تخص الأكل والشرب، إذ توجد على وجه الأرض أنواعا مختلفة من الأرانب تتميز بخصائص مختلفة بعضها عن بعض.. فالأرانب التي تعيش في المناطق الباردة مثلا تكون عادة بيضاء اللون، وهي خاصية هامة تسهل عليها الاختفاء وعدم تمييزها من الثلوج.. أما الأرنب الوحشي فهو أكبر وله أرجل وأذنان أطول مقارنة بالأنواع الأخرى من الأرانب.. أما الأرنب الأمريكي الذي يعيش في الصحاري الأمريكية فله أذنان كبيرتان تساعدانه على اتقاء الحرارة.
وعندما سألناه عن سر تجمع الحيوانات بعضها مع بعض، قال: تعيش الحيوانات عادة في المناطق الطبيعية التي تناسب خصائصها مثل البيوت التي يعيش فيها الإنسان مع عائلته، وغالبا ما تتجنب مجموعة الحيوانات دخول المنطقة التي تعيش فيها مثيلاتها من الحيوانات الأخرى.
قلنا: فكيف تعرف ذلك؟
قال: تحدد الحيوانات حدود منطقتها بطرق مختلفة.. ومن أمثلة ذلك إصدار الروائح، حيث نرى الغزلان ـ مثلا ـ تفرز من فكها الأسفل لعابا له رائحة تشبه رائحة القطران تتركه فوق الأغصان الرقيقة والحشائش، وهذه الرائحة تتقبلها بقية الغزلان فتعرف أن هذه المنطقة هي مكان عيش غزلان أخرى، أما الأيل فيخرج هذه الرائحة من أسفل أرجله الخلفية وتساعده على وضع إشارة على المكان.. وهكذا الأرانب، فهي تفرز من أفواهها رائحة تشير بها إلى المنطقة التي تعيش فيها.
***
مررنا بعدها على قفص خاص بالكلاب بأنواعها المختلفة، فقال لنا المرشد: إن الكلاب ذكية، ولها قدرة على التعلم بسهولة مقارنة بالكثير من الكائنات الأخرى، وهي تستعمل للحراسة في أغلب الأحيان، بسبب قدرتها على التغلب على حيوان أكبر منها بخمسة أو ستة أضعاف.
لكن الطريف أن هذه الكلاب التي تتحول أحيانا إلى وحشية، شرسة لا تضر صاحبها أبدا وتفديه بروحها لإنقاذه من الخطر ولا تتخلى عنه مهما كان الخطر.
وعندما سألناه عن الخصائص التي تتميز بها الكلاب، قال: وهب الله لكل كائن حي مميزاته الخاصة به، والتي تتناسب مع حاجاته، ووظائفه، فلذلك جعل للكلاب والكائنات الأخرى أجساما مختلفة.
فعدد أسنان الكلاب هي أكثر من عدد أسناننا بعشرة أسنان، إذ تعد 42 سنا، وهكذا تستطيع الكلاب أكل العظام بكل سهولة.. وهي تتمتع بعيون أفضل بكثير من عيوننا، حيث تستطيع رؤية الأشياء في الظلام أفضل بكثير من الإنسان، ولها القدرة على تمييز الأجسام بسرعة.. وهي تتمتع أيضا بقدرتها على سمع أصوات لا يمكننا نحن سماعها، فقوة سماعها للأصوات هي أربعة أضعاف قوة سماع الإنسان، إذ أنها تميز الأصوات من مسافات بعيدة.. وهي تتمتع أيضا بقوة حاسة الشم، فمركز استقبال الروائح الموجود بالمخ هو 40 مرة أكبر من مركز استقبال الروائح عند الإنسان، لذلك، فقدرة الكلاب على استيعاب الروائح أعلى بكثير من قدرة الإنسان.
و بفضل جميع هذه المميزات تتعقب الكلاب رائحة الصيد وتجلب الصيد الذي يصيبه الصيادون ولو كان على بعد عدة كيلومترات، كما أن كلاب البوليس تشم الملابس فتستطيع العثور على صاحبها.. فالكلاب التي هي من نوع [برنارد] لها أنوف حساسة جدا إلى درجة أنه بإمكانها إخراج الجرحى من تحت الثلوج.
***
بعدها مررنا على قفص خاص الخيول، فقال لنا المرشد: الخيول من أكثر الحيوانات وفاء للإنسان عبر التاريخ، فهي لا تفارق صاحبها أبدا.. ويوجد منها 25 نوعا، ويمكنها أن تحملنا لمسافات طويلة دون تعب أو كلل.
ثم حدثنا عن الخواص المودعة في أسنانها، فقال: تتآكل أسنان الخيول عبر الزمن لأنها تأكل الحشائش الصلبة والملوثة بالتراب والغبار، لكن الله جعل لها أسنانا طويلة مغروسة في عمق الحنك.. فلهذا كلما تآكلت يظهر القسم الذي بداخل العظم.. وكل سن يمكنها أن تتآكل بمعدل 2 ونصف إلى 5 سم دون أن تفقد قدرتها على قطع الطعام..
ثم قال لنا: تخيلوا لو أن الله لم يهب الخيول هذه الميزة، لا بد أنها ستفقد أسنانها خلال زمن قصير، وبذلك تموت من الجوع.
ثم ذكر لنا ما أودع الله في هامة شعرها من خصائص، فذكر لنا أنها تعمل كالمصفاة، فهي تقوم بضبط درجة حرارة الجسم، ذلك أن أجسام الخيول تحتاج دائما إلى درجة حرارة تساوى 38 درجة مئوية، لذلك يطول شعر الخيل في فصل الشتاء، ويسقط في فصل الصيف ليحافظ الجسم على المستوى نفسه من الحرارة في الفصول الحارة.
ثم ذكر لنا من خواصها المثيرة أنها تنام واقفة، وأنها لا تسقط على الأرض أثناء نومها.. وعندما سألناه عن سر ذلك، قال: سبب ذلك هو أن لها خاصية تثبت بها أرجلها، فالله وهبها هذه الخاصية في أرجلها، فتنام وهي واقفة كما أنه باستطاعتها حمل ثقل جسمها، بخلاف الإنسان الذي لا يستطيع منع نفسه من السقوط على الأرض إذا ما جاءه النوم وهو واقف.
ثم ذكر لنا أن الله تعالى وفر لها كل ما تحتاجه للركض بسرعة، فأرجلها ليست صالحة لتحمل الأثقال فقط، بل لها ميزة الركض أيضا.. وهي أيضا ليس لها ترقوة مثل سائر الحيوانات الأخرى، وهذا يساعدها على الركض بسرعة وبخطوات كبيرة.. وعلاوة على ذلك، يوجد لديها قدرات في عظام أرجلها تساعدها على مجابهة التعب كلما ازدادت سرعتها.. وهذه القدرات تشبه نظام ضبط السرعة عند السيارة، فكلما ازدادت السرعة يغير ذراع تغيير السرعة فتقل بذلك طاقة الدفع وتزداد السرعة.
***
مررنا بعدها على قفص خاص بأنواع القطط، فذكر لنا المرشد الكثير من خصائصها، ومنها أنها ترى في الليل بشكل جيدا.. ذلك أنها لا تحتاج إلا لقليل من الضوء حتى ترى، وسبب ذلك أن عيونها تختلف عن عيوننا، فقزحية عيونها تكتمل عندما تكون في الظلام، وهكذا يمكنها رؤية الأشياء بسهولة، علاوة على ذلك، توجد طبقة داخل عيونها لا توجد داخل عين الإنسان، وهذه الطبقة تتمركز مباشرة خلف غشاوة العين.. وبذلك فإن الضوء الذي يخترق العين باتجاه الغشاوة الأولى ينعكس أولا ثم يدخل مباشرة إلى هذه الطبقة فيتم بذلك انعكاس الضوء مرتين، وهكذا ترى القطط جيدا في الأماكن المظلمة التي يصعب على الإنسان الرؤية فيها.
ثم ذكر لنا مميزات مخالبها، فذكر لنا أنها تتحول من أقدام ناعمة فجأة إلى مخالب حادة، عند الإحساس بالخطر، فلذلك تخرج أظافرها الحادة، وتكبر أقدامها استعدادا لمواجة العدو.
وعندما سألناه عن سر سقوط القطط دائما على أرجلها الأربعة، قال: الهدف من ذلك هو المحافظة على توازن جسمها عند القفز من الأعلى.. وبما أنها تستمتع بالقفز من شجرة إلى أخرى لذلك منحها الله عز وجل هذه المميزات للدفاع عن نفسها من الخطر.
***
بعدها مررنا على قفص خاص بالكنغر، فقال لنا المرشد: هذا الحيوان من الحيوانات الغريبة التي خلقها الله لتدل على بديع صنعته، وكونه فعالا ما يشاء.. وهو بشكله هذا وما ميز به من خصائص يهدم نظرية التطور وكل التصورات المادية للحياة..
ففي بطن هذا الحيوان منطقة تعرف باسم [الكيس] فيه تغذي أنثى الكنغر صغيرها وتحميه وتعتني به.. انظروا إلى صغير الكنغر وقد أخرج رأسه من جيب أمه التي تضعه داخله، إنه يخرج من رحمها، وطوله لا يتعدى 1 سم، أي لم يكتمل نمو أعضائه بعد..
ويوجد داخل كيس الأم أربعة أنواع من الأثداء، واحد منها ينتج حليبا للمولود الجديد حسب قوامه وحرارته، أما بقية الأثداء فهي تنتج الحليب للمولود الذي يكون قد اشتد عوده قليلا.. ويبدأ خلال أسابيع برضع الثدي الذي يناسب سنه، وكلما كبر يمر إلى الثدي الذي يليه.. وهذا عجيب جدا، فكيف يميز صغير الكنغر الذي يبلغ طوله 1 سم؟.. وكيف توفر الأم حليبا مختلفا في كل ثدي؟
ثم قال لنا: إن الحليب الذي يشربه صغير الكنغر من الثدي أكثر حرارة مقارنة بالحليب الذي يخرج من بقية الأثداء، كما أن القيمة الغذائية تختلف أيضا.. فكيف تسخن الأم حليبها؟ وكيف تفرز الحليب حسب قيمته الغذائية داخل أثدائها؟.. انتبهوا ولا تنسوا، إن من يقوم بهذا العمل ليست أنثى الكنغر فهي لا تعي حتى بما يوجد بداخلها من أنواع الحليب، إذ لا يمكنها ضبط حرارة حليب كل ثدي من أثدائها، كما أنها لا تعرف ضبط خصوصية كل نوع من أنواع الحليب، فهي ـ كما ترون ـ كائن ضعيف تعيش كما أمرها الله تعالى، والله تعالى هو الذي أوجد فيها ما يحتاجه صغارها.. فالله الرحمن الرحيم هو الذي وضع الحليب في أفضل مكان ببطن الأم.
ثم قال لنا: يقضي صغير الكنغر ستة أشهر ونصف متواصلة داخل كيس الأم دون أن يخرج، ثم يقضى ثمانية أشهر تارة خارج جيب الأم وتارة داخله، ثم بعد ذلك يعيش خارج هذا الجيب باستمرار.. وفي الأثناء تنجب الأم صغيرا آخر، ويعيش الاثنان معا مدة طويلة داخل الجيب دون أن يتضرر أي منهما.. بل يرضع كل واحد منهما من الثدي المناسب لسنه.. فمن أين عرف كل واحد من الأخوين الثدي المناسب له؟.. وهل يمكن لأي نظرية في الدنيا أن تجيب على ذلك، ما لم تسند الأمر إلى عناية إلهية خاصة؟
ثم قال لنا: إن جسم الكنغر يدعو إلى التأمل، فطوله حوالي متر ونصف، وطول ذيله متر واحد، وبإمكانه قطع مسافة ثمانية أمتار بقفزة واحدة بفضل طول أرجله الخلفية، ويساهم ذيله المائل في الحفاظ على توازنه عندما يركض بسرعة.. فهل ترون أن أرجله الكبيرة كانت بهذا الشكل صدفة.. أم أن أمه فكرت في حاجة صغيرها إلى أرجل كبيرة كي لا يتعب؟..
ثم أجاب عن سؤاله بقوله: طبعا، لا شيء يوجد بالمصادفة، فكل شيء من خلق الله الذي خلق للكائنات خصائص كل حسب احتياجه، وهو الذي خلق الكنغر وجميع الكائنات الحية الأخرى في أحسن صورة.
***
كانت أحاديث المرشد في غاية اللطف والأدب، فلذلك جعلتنا نرى تلك الحيوانات بصورة أجمل من الصورة التي كنا نراها عليها..
مررنا بعد الكنغر على حيوان يسمى [الكوالا]، ذلك الرمادي الذهبي الشعر الذي يلف رجليه وذراعيه فوق شجرة الكافور.. والذي نطلق عليه وصف [النؤوم].. وقد شرح لنا المرشد سر تلك التسمية، فذكر لنا أن هذا الحيوان ينام 18 ساعة يوميا، وبذلك فإن القسم الكبير من حياته يقضيه فوق شجرة الكافور..
وذكر لنا أنه يمكنه تسلق الأشجار بسرعة بفضل ذراعيه ومخالبه الحادة وإصبعي رجليه الأماميتين المنفصلتين عن أصابعه الثلاثة الأخرى.. أما رجلاه الخلفيتان ففيها أصابع أمامية بها مخالب حادة وأصابع خلفية لا يوجد بها مخالب.
وذكر لنا أن اختلاف الأصابع يساعده على تسلق الأغصان الصغيرة، كما أنه يغرز مخالبه في الأماكن اللينة من الشجرة فيقبض عليها تماما مثلما يقبض الواحد منا على العصا، وهكذا يتسلق الأغصان بسهولة، وهذا ما يسهل حياته فوق الأشجار.
وذكر لنا أن أهم شيء يفعله عند إحساسه بالخطر هو التحرك بسرعة فوق الأشجار حتى إنه يقدر على القفز من غصن يبعد مسافة متر عن الغصن الآخر.
وذكر لنا أن أنثى الكوالا تلد مولودا واحدا خلال سنتين، وهي تحمله في كيسها مثل الكنغر، والمولود يخرج من كيس أمه خلال الأشهر الأولى حتى إذا بلغ السنة من عمره تحمله فوق ظهرها.
وذكر لنا من العجائب المرتبطة به، أنه يتغذى من شجرة الكافور، والتي تنتج مواد سامة لجميع الحيوانات ما عدا الكوالا الذي يمضغها بأسنانه قبل أن يبتلعها، وتقوم رئتاه بتنظيف المواد السامة الموجودة في ورق الشجرة، ثم يلفظها خارج جسمه.. ولذلك يسمم هذا الطعام بقية الحيوانات لكنه لا يضره، مع أنه يأكل الكثير منه دون أن تحصل له أي مشاكل.
وذكر لنا أنه يأخذ ما يحتاجه من الماء من أوراق تلك الشجرة نفسها لأنها تحتوي على قدر كبير من الماء في وقت معين من السنة.. ولهذا السبب يمكنه أن يبقى أشهرا عديدة دون أن يشرب الماء.
وذكر لنا أنه عندما تهب رياح عاتية فوق قمم شجرة الكافور لا يحس الحيوان بالبرودة لأن له فروا غليظا يحميه من قساوة البرد.
وبعد أن ذكر لنا كل ذلك: ألا ترون أبنائي كيف يعيش هذا الحيوان من ورق مسموم، ودون أن يشرب ماء لمدة طويلة، وفوق ذلك كله يعيش فوق شجرة، وفي البرد القارس.. ألا ترون العناية الإلهية التي خصته بذلك، فلولاها لم يتمكن من العيش لحظة واحدة؟
***
مررنا بعد الكوالا على الفيلة، وقد شدنا فيها ضخامة حجمها، وقد ذكر لنا المرشد أنها أكبر الحيوانات التي تعيش على اليابسة، وذكر لنا من عجائبها التي خصت بها الخرطوم، والذي يتكون من 50 ألف عضلة.. وذكر لنا أن الفيلة تستعمله لتعبئة الماء وصبه في أفواهها، كما تستعمله لحمل الأشياء وشمها.
وذكر لنا أنه يمكن لخرطوم الفيل استيعاب أربع لترات من الماء، يستعمله إما للشرب أو الاستحمام.. وفي المقابل يستطيع الخرطوم الذي يحمل الأشياء الثقيلة قطع ورقة البازاليا الصغيرة ووضعها في فم الفيل ليأكلها.
وبعد أن ذكر لنا ذلك وغيره، قال: ألا ترون أبنائي كيف أن هذا الخرطوم يصلح للكثير من الأعمال، فتارة يكون كالإصبع الطويل، وتارة كالبوق، وتارة كمكبر الصوت، وتارة يستعمل للاستحمام ونفض الغبار؟.. ألا يدعونا إلى التساؤل عن سر هذه الخصائص العجيبة، ومن أودعها في هذا الكائن العجيب؟
وذكر لنا أنه، وبسبب صعوبة التعامل مع الخراطيم تقوم الأم بتعليم صغارها كيفية ذلك، بل إنها تظل تستمر في تعليمهم ذلك ستة أشهر كاملة دون كلل أو تعب.
وذكر لنا أنه يوجد في طرفي فم الفيل سنان كبيران يساعدانه على الدفاع عن نفسه، كما يستعملهما لحفر الأرض بحثا عن الماء، لكن هذه الأسنان تتآكل كالألياف الممضوغة، لذلك خلق الله فيها خصائص مهمة جدا، فكلما تآكل سن خرج مكانه سن آخر.
وعندما سألناه عن الطريقة التي يستخدمها الفيل لكي يبرد جلده الغليظ، قال لنا: إن للفيل طرقا مختلفة في ذلك.. منها أن يستعمل أذنيه للتبرد من حرارة الطقس، فيحولها بذلك إلى مروحة، فالشرايين الدموية الموجودة في الأذنين تبرد أولا مما يساعد على برودة الجسم بأكمله..
وذكر لنا أن للفيلة ميزة مهمة حيرت الصيادين وعلماء الحيوان مدة طويلة، وهي قرقرة بطنه، فهي عندما تقرقر تصدر صوتا عاليا.. والمدهش ليس الصوت الذي يخرج من بطنه، وإنما قدرة الفيل على التحكم فيه.. ذلك أنه لا علاقة له بعملية الهضم، بل الهدف منه بعث رسالة إلى أصدقائه يخبرهم فيها بمكان وجوده.
وذكر لنا أنه يوجد شيء آخر أكثر إثارة، وهو أن الفيل عندما يحس بخطر محدق يوقف هذا الصوت على الفور.. وهكذا، يمكن للفيلة أن تتواصل مع بعضها البعض على بعد أربعة كيلومترات.
وذكر لنا أن هجرة الفيلة موضوع حير العلماء أيضا، إذ تهاجر هذه الحيوانات كبيرة الأذنين عظيمة الجسم في مواسم الجفاف وتتبع جميعها طريقا واحدا.. والغريب أنها تنظف الطريق من أغصان الأشجار أثناء قيامها بعملية الهجرة.
وذكر لنا أن الفيلة بحكم معيشتها في الأماكن الشاسعة، فإنها تحتاج إلى التواصل فيما بينها، ولهذا فإن هذا التواصل لا يقتصر فقط على قوة حاسة الشم والسمع، بل وهبها الله مع تلك الخصائص قدرة على إصدار أصوات قوية لا يستطيع الإنسان تحملها.. وبفضل ذلك تتواصل فيما بينها بحيث لا تستطيع الحيوانات الأخرى فهمها، فكأنها تستعمل لغة الرموز للتخاطب عن بعد.
***
مررنا بعدها على الزرافة، وقد شدنا فيها طولها وطول عنقها، وقد ذكر لنا المرشد أن طولها يصل إلى ما بين 5 و6 أمتار..
وعندما سألناه عن غاية ذلك الطول، ذكر لنا أنه يساعدها للوصول إلى أعلى أغصان الشجر، فتأكل الأغصان، وتبتلع النباتات دون هضم، فتذهب إلى معدتها المقسمة إلى أربع مناطق، ثم تخرجها مرة أخرى، وتجترها ثم تبتلعها، وبذلك يستقر الطعام في المعدة..
وذكر لنا أن الطعام يقطع مسافة ما بين 3 و4 أمتار من الأسفل إلى الأعلى، وهو طول عنق الزرافة المزركش ليصل إلى الفم..
وعندما سألناه عن كيفيه رجوعه كل تلك المسافة، قال: يوجد في عنق الزرافة نظام متطور جدا مثل المصعد يحمل الطعام من الأسفل إلى الأعلى.. ومن المستحيل أن يكون هذا النظام قد وجد مصادفة كأن يقول أحدهم: قبل عدة سنوات وضعت في أرض فارغة ما يلزم لبناء منزل، وفجأة انتصب بناء مكان تلك اللوازم التي وضعتها، لقد حدث هذا الأمر نتيجة اختلاط قليل من المطر وقليل من الطوب وقليل من الشمس.. إنكم ستضحكون من هذا القول حتى إنكم ربما تتأسفون عليه لفقده مداركه العقلية، وهذا ينطبق تماما على القول بأن نظام المصعد الموجود داخل عنق الزرافة تكوّن عن طريق المصادفة، فمثل هذا النظام من المستحيل أن يكون من صنع المصادفة، علاوة على أن الزرافة ليست بناء جامدا يتكون من الحجر والتراب والطوب، إنه كائن حي يركض ويأكل وله صغاره أيضا.. فهل تستطيع المصادفة منحه هذا الجسم الطويل والأنظمة التي بداخله؟ طبعا لا يمكنها أن تفعل شيئا من ذلك.
ثم قال لنا بتأثر جعلنا نشعر بقشعريرة الإيمان: واضح جدا أن الله هو الذي منح الزرافة كل حاجياتها منذ ولادتها.. والله تعالى هو الذي وهبها فما ومعدة تستطيع بهما أكل النباتات الشوكية بكل سهولة.. كما وهبها طريقة نوم خاصة حيث أنها تمد عنقها وراء جسمها وتنام للحظات واقفة على أقدامها.
ثم راح يذكر لنا تعاون الزرافات فيما بينها وتضحيتها بنفسها في سبيل جماعتها، فقال: الزرافات لا تنام جميعها معا، وإنما يبقى بعضها مستيقظا لحراسة المجموعة.. وبهذا نتبين أن اتفاق الزرافات على بذل التضحية من أجل المجموعة دليل واضح على أنها ـ وجميع الكائنات الحية الأخرى ـ تتحرك وفق العناية الإلهية.
***
مررنا بعدها على حيوانات كثيرة.. منها النمل الذي ذكر لنا عند مرورنا ببعض قراه: من النمل أكثر حيوانٍ اجتماعيّ موجود على الأرض من حيث العدد، كما أنّه من عجائب هذا الحيوان أنّه يَستطيع أن يَشمّ الأشياء برجله.. حيث يؤكّد العلماء أنّه يمكنه أن يَعود للمكان الذي قصده مرّةً أخرى عن طريق أرجله.
ومررنا على بركة ضفادع، فقال لنا: من الغرائب المتعلقة بالضفادع أنّه يُمكنها أن تمتصّ الماء من خلال جلدها، كما يُمكنها أن تمتصّ الماء من منديل مبلّل.. كما أنّها لا تتنفّس باستعمال فمها، لأنها إذا فتحته تموت مختنقة.
ومررنا على بعض ديدان الأرض، فقال: يُمكن للدودة أن تعيش حتى لو قسمتها إلى أجزاء، كما يُمكن لكلّ قسمٍ منها أن يعيش ويُعوّض الأجزاء التي فقدها.
بعد أن مررنا على الكثير من الحيوانات البرية، مما ذكرت لكم ومما لم أذكر، راح المرشد يمر بنا على جناح الحيوانات البحرية، وكان عبارة عن حوض مائي كبير، مصنوع بغاية الإتقان، حيث تظهر فيه الحيوانات وكأنها تعيش معنا.. أو كأننا نعيش معها.
قال لنا المرشد عند دخولنا: كل ما مررنا عليه في الجناح السابق موجودات في دنيانا التي نعيش فيها، ويمكننا أن نراها بسهولة في الغابات والحدائق.. لكن هناك عالم آخر لا نعرفه إلا من خلال السماع أو شاشة التلفاز أو مثل هذه الأحواض المائية.. وهو عالم من الحيوانات والنباتات التي لا نعرف عنها إلا القليل، وهي لا تستطيع العيش على اليابسة..
إنه عالم أعماق البحار الذي لا تعيش فيه الأسماك فقط، بل تعيش فيه الزواحف والحشرات والنباتات وملايين الأنواع من الكائنات الحية.. ولها جميعا طرقها الخاصة في الأكل والتنفس والنوم.
ثم ذكر لنا أن نظام التنفس عند الأسماك يختلف تماما عن نظام التنفس عند بقية الكائنات الأخرى.. فالأنف الذي عندنا تقابله الخياشيم عند الأسماك، وبها تتنفس الأكسجين تحت الماء، ويمر من الخياشيم ويخرج من مؤخرة السمكة.. أما الأشواك التى توجد في الخياشيم فتأخذ الأكسيجين وتخرج الكربون من الجسم إلى الخارج..
وذكر لنا أن أغلب الأسماك لها أنوف مثقوبة لكنها لا تستعملها أبدا للتنفس، بل لتشتم الروائح داخل الماء كأن تشتم رائحة كلاب البحر.
وقال: لا توجد عند الأسماك رموش مثل التي عند الإنسان، فهي تنظر من وراء غشاء شفاف يغطى العينين.. وهذا الغشاء يشبه النظارة التي يستعملها الغواص في أعماق البحار.. وقد صممت لترى بها الأجسام القريبة منها، أما عندما تنظر السمكة إلى أماكن بعيدة فينقشع هذا الغشاء وتظهر مكانه آليات خاصة تقوم بهذا الدور على أحسن وجه.
ثم ذكر لنا أن الأسماك تتواصل بمحيطها باستعمال الحواس الخمس وهي الشم والسمع واللمس والذوق والبصر إضافة إلى أن لها قوة إدراك حساسة وسريعة تمكنها من الإحساس بأي جسم سواء كان كبيرا أو صغيرا يقترب منها.
وذكر لنا أن أسماك المغارات المظلمة تستطيع التحرك بسهولة داخل الظلام الدامس، وأن كثيرا منها لها نظام رادار أو ما يسمى نظام المراقبة عن بعد..
وذكر لنا أنه توجد داخل الأسماك بالونات بيضاء مليئة بالهواء.. وأنها تساعد على حفظ توازن الأسماك داخل أعماق الماء.
وبعد أن ذكر لنا هذا كله، قال: لقد خلق الله تعالى أنواعا كثيرة من الأسماك بألوانها المختلفة وأشكالها وحركاتها مما جعل الإنسان يبقي مندهشا إزاءها.. فالألوان البراقة التي نراها عند بعض الأسماك هي في الأصل مصدر قوة للأسماك تعيش بها بين الحيوانات.
ثم ذكر لنا أن الأسماك الكبيرة قد تجد حاجتها لتنظيف فمها مما علق به من طفيليات.. ولهذا تسمح للأسماك الصغيرة بالدخول داخل فمها دون خوف وبكل راحة بال فتنظف أسنانها وخياشيمها، وتتغذى بذلك..
ثم علق على ذلك بقوله: الغريب في الأمر أن الأسماك الكبيرة لا تؤذي هذه الأسماك المنظفة على الإطلاق.. حسنا، كيف تطمئن الأسماك المنظفة للأسماك الكبيرة؟.. ألا تخشى أن تأكلها؟.. من أين تعرف أن الأسماك الكبيرة لا تصيبها بأي ضرر؟.. كيف تثق بها وكأنه يوجد اتفاق مسبق بينهما؟.. لو افترضنا أن هذا الاتفاق قد حصل بالفعل، كيف تضمن الأسماك الصغيرة التزام الأسماك الكبيرة بالاتفاق؟.. نعم، إن الأسماك الصغيرة لا تملك أي ضمانات أمام هذا الخطر، ولكن الله تعالى ألهم الطرفين تبادل المنفعة بينهما، فلا تضر الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة، ولا تخشى الأسماك الصغيرة شر الأسماك الكبيرة فتفر منها.. فتنظف الأسماك الكبيرة نفسها، وفي الوقت نفسه تشبع الأسماك الصغيرة بطونها من تلك الطفيليات.. وهكذا بإلهام من الله تعالى تعيش الأسماك في تعاون وانسجام مع بعضها البعض.
***
بعدها مررنا على [عجل البحر]، والذي وصفه المرشد بكونه السباح الماهر.. لكونه يقضي معظم حياته في الماء، وقال لنا: إنه سباح وغواص ماهر، هو سعيد ومرتاح وسط الماء والثلوج مثلما نكون نحن سعداء فوق اليابسة.. إنه يستطيع أن يعيش في برودة شديدة قدرها 5 درجات تحت الصفر في فصل الربيع.. ونحن في مثل هذا الطقس علينا أن نلبس ملابس كثيرة، وعلينا أن نأخذ الكثير من التدابير حتى لا نبرد، أما هو فلا يبرد أبدا لأن الشحم الكثير الذي في جسمه يحول دون ذلك.
ثم راح يسألنا قائلا: بما أن عجل البحر يعيش في شكل جماعات كبيرة.. فكيف تعرف أنثى عجل البحر صغيرها داخل ذلك الازدحام؟
ولما عجزنا عن الإجابة، قال: هذا سهل جدا، فالأم تقبل مولودها عندما يولد قبلة نسميها قبلة التعرف، وبفضلها تتعرف على رائحة صغيرها، ولا تخلطه أبدا بصغير آخر.
وذكر لنا أن صغار عجول البحر يولدون مغلفين بطبقة شحم تسمى شحم الصغار، وبفضل هذه الطبقة يبقى الصغار دائما في درجة حرارة مرتفعة.. بالإضافة إلى جعلها تطفو فوق الماء عندما تعلمها أمها السباحة، فلا يغرق لأن الزيت أخف من الماء.
***
مررنا بعدها على [سمك السوتاريا] المزركش بألوان جذابة، وقد ذكر لنا المرشد أن أهم خصائصه الطريفة المكان الذي اختاره له الله ليعيش فيه، إذ يعيش بين أغصان نباتات بحرية تعرف بدعابة البحر.. وهذه النباتات لها أغصان سامة، وهي تضر الأسماك الأخرى، أو تقتلها بينما لا تضر السوتاريا أبدا حتى أنها تدخل بين الأغصان لتحمي نفسها من الأعداء.
وذكر لنا أن سر ذلك يعود إلى مواد تفرزها، بها تبطل مفعول السم الذي يوجد في أغصان النباتات السامة.
ثم قال لنا: تأملوا جيدا.. سمكة تفرز إفرازات مختلفة عن الأسماك الأخرى تساعدها على التأقلم مع المحيط الذى تعيش فيه وتحميها من التسمم بسم الكبسولات السامة الموجودة في النباتات.. كما أنها تختبئ فورا بين تلك الأغصان السامة حين تحس بالخطر الداهم.. حسنا، كيف يعرف سمك السوتار أن الأسماك الأخرى تخاف الاقتراب من تلك النباتا،ت وأنها لا تستطيع إخراج إفرازات تمنع التسمم؟.. بالطبع لا يمكن لسمكة صغيرة ليس لها عقل أن تدرك ذلك.. ولكن هناك قوة علمتها وألهمتها، وهذه القدرة قد أحاطت بكل شيء، إنها قدرة الله خالق السماء والأرض وما بينهما.
***
مررنا بعدها على [الدرفيل] صاحب الوجه البشوش.. والذي يحبه الجميع.. ومما لا أزال أذكره من حديث المرشد عنه قوله: هل تعلمون أن الدرفيل لا رائحة له وهو لا يرى؟ لكن في المقابل وهبه الله حاسة سمع قوية جدا، إذ له القدرة على سماع الأصوات التى تبعد كيلومترات طويلة بكل سهولة.. وإلى جانب ذلك يستطيع مواصلة رحلته تحت الماء وتحديد مكان فريسته بكل سهولة، وذلك بفضل نظام الإدراك عن بعد.. فالأصوات التى لا يستطيع الإنسان سماعها تنتشر مثل الأمواج البحرية، وهذه الأمواج الصوتية عندما يعترضها حاجز تصطدم به وتعود فعندما تعود تصطدم الموجات الصوتية بالسمك أو الأحجار، وعندئذ يتمكن الدرفيل من تحديد المسافة التى تفصله عن مكان فريسته.
ثم ذكر لنا أن نظام الإدراك عن بعد، والموجود عند الأسماك قلده الإنسان، وصنع أنظمة اتصالات مماثلة له.
بعد أن مررنا على حيوانات برية وبحرية كثيرة، قال لنا المرشد: والآن تأملوا فيما تعلمتموه من معلومات حول الحيوانات التي ذكرناها.. فقد رأيتم من خلالها كيف خلق الله الكائنات ووهبها الخصائص الضرورية لتحافظ على حياتها.
***
بعد أن انتهينا من جولتنا في تلك الحديقة بصحبة ذلك المرشد، ذهبنا إلى المحل الذي تركنا فيه أستاذنا، وقد تعجبنا كثيرا إذ رأيناه يتأمل في بعض الحيوانات، ويبكي، فسألناه عن سبب ذلك، فقال: اعذروني أبنائي.. فقد كنت ممتلئا أوهاما.. وقد سربت إليكم الكثير منها.. فلذلك لا تلتفتوا لكل ما سبق أن قلته لكم.. واسمعوا لهذا المرشد الناصح، فهو أدرى مني بهذا العالم العجيب.
تعجبنا من حاله هذا، وسببه، لكنا، وبعد ذلك اليوم رأيناه قد تغير تماما، وأصبح يحدثنا عن الله.. وعن عظمته.. ويذكر لنا كل حين من المعلومات عن عالم الحياة وعجائبها ما تسقط به كل الفلسفات المادية الهاربة من الحقيقة.
لم أكتف بما استفدته من الأستاذ والمرشد، بل رحت أتخصص في علوم الحيوان.. وأبحث أكثر عن عوالمها العجيب.. وقد أدركت من خلال بحوثي الطويلة مدى عناية الله بعباده جميعا، إنسانهم وحيوانهم.. بل كل ما في الكون هو محل عناية خاصة من الله تعالى.. فهو رب العالمين جميعا.
وقد جعلني ذلك كله أصل ـ من خلال صحبتي
لعالم الحيوان ـ إلى معارف كثيرة وحقائق عظيمة ترتبط بالوجود جميعا.. وكان كل ذلك
سببا في زيارة معلم الإيمان لي، وإرشاده إياي لأكمل الطريق.. فمعارج الإيمان لا
نهاية لها.
([1]) لخصنا المادة العلمية الواردة هنا من كتاب: رحلة فى عالم الحيوان، هارون يحي، ترجمة: محمد رضا بن خليفة.