العناية الرحيمة

العناية الرحيمة

ما خطر هذا ببالي حتى جاءني من روضة من الروضات المجاورة رجل على أريكته العجيبة المتحركة، واقترب مني، وقال: صدق الله تعالى حين قال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]

قلت: ما تعني بإيرادك لهذه الآية؟

قال: هذه الآية الكريمة توضح سرا من أسرار الإلحاد.. وهو ذلك التكبر عن الاستجابة.. فأنت تعلم أن الكثير من الذين حجبوا عن شهود الله ومعرفته.. بل حجبوا عن مجرد الاعتراف به والإذعان له.. لم يحصل لهم ذلك بسبب وجود ما يحجب عقولهم عن الله، لأن كل ما هو موجود مستنير بنوره، ومن ثم فهو دال عليه.. وإنما حجبوا بسبب ذلك الإعراض والكبر والغرور.. ولذلك بدل أن يقابلوا بلطف الله ورحمته، قوبلوا بقهر الله وعزته.. فالله لا يعطي الإنسان إلى بحسب قابليته، كما قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء: 20]

قلت: صدق الله العلي العظيم.. لكأنك كنت تسمع حديثي مع نفسي.

ابتسم، وقال: بل كنت أقرؤه في ملامح وجهك.. ألست تؤمن بالفراسة؟

قلت: بلى.. وكيف لا أؤمن بها، وقد ورد في النصوص المقدسة الحديث عنها.

قال: فقد آتى الله المؤمنين في هذه الروضات تلك الفراسة، ولذلك يفهمون بعضهم بعضا من غير حديث..

قلت: ذلك من فضل الله العظيم.. ما أعظم عناية الله بعباده.

قال: أجل.. فالله خلقهم، وهو أدرى بحاجاتهم، ولذلك يعطيهم من فضله بحسب جوده وكرمه، وهو لا حدود له.. ولذلك لا حدود للعناية التي يعتني الله بها بعباده في كل طور من أطوار حياتهم.

قلت: لأجل هذا نرى القرآن الكريم مملوءات بذكر نعم الله على عباده، فالله تعالى يخاطب عباده بكل حنان ورحمة، ويقول لهم: { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 6 – 16]

قال: إن مثل ذلك مثل رجل كريم أعد ضيافة لقوم من الناس، ثم راح يخبرهم بما أعد لهم من وسائل الراحة ليلتفتوا إليها.

قلت: أجل.. فالقرآن الكريم يذكر لنا ذلك، ويعده لنا، حتى نلتفت إليه، بل يأمرنا بعدّه، فيقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل: 18]

قال: ويقول أيضا: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].. أتدري لم ختمت الآية باتهام الإنسان بالظلم والكفران؟

قلت: أجل.. فهي تعبر عن الواقع.. فمع كون هذه النعم من فضل الله العظيم على عباده إلا أن من العباد من راح يعتبرها نعما عبثية وصلته عن طريق الصدفة والتطور، ولم تصله عن طريق إرادة حكيمة، ولطف وتدبير عظيم.

قال: إن مثل ذلك مثل ضيف لئيم، يقابل كل الكرم الذي يبديه له مضيفه بأنواع الإهانة والتحقير والجحود.

قلت: أجل.. فجهل الإنسان الذي ينتج عنه الكفر، وكبره الذي ينتج عنه الظلم، هما اللذان يعميان الإنسان الملحد عن رؤية بداهة نعم الله.. بل تجعلانه لا ينسبها إلى الله بإخلاص وتجرد، بل ينسبها إلى أي شيء، مهما كان تافها وباطلا.

قال: صدق الله العلي العظيم حين أشار إلى ذلك، فقال: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]

قلت: بل أشار إلى ذلك عندما ذكر عجز البشر عن مواجهة ذبابة تلتهم طعامهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]

قال: إن هذه الآية تتحدى كل أولئك الماديين من عبدة الطبيعة والمادة أن يخلقوا ذبابة واحدة.. أو أن يستعيدوا شيئا سلبهم منهم الذباب..

قلت: إن التحدى لا يزال قائما.. فهم مع كل وسائلهم التي يفخرون بها، لم يستطيعوا صناعة الحياة في خلية واحدة.. بينما يتصورون أن الحياة هكذا صنعت صدفة من غير سبب.

قال: ولهذا يبتلي الله عباده بسلب النعم، لا عقوبة لهم، وإنما تأديبا وتربية ليكتشفوا حقيقة المنعم، لأنه لا سعادة لهم إلا في جواره وصحبته، والعيش في ظلال رعايته وعنايته.

قلت: لقد ذكرتني بذلك التأديب الإلهي الذي حصل لقوم فرعون عندما أعرضوا عن موسى عليه السلام، والذي نص عليه قوله تعالى: { وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)} [الأعراف: 132 – 134]

قال: وما أكثر ما يبتلى البشر بمثل هذا في جميع الأزمنة، لكنهم بدل أن يعلموا أن صاحب النعم هو مغيرها، تجدهم ينسبون كل شيء للطبيعة، بل يتهمون الله بأنه صانع للشرور، ويروحون يجحدونه بسبب ذلك.

قلت: لقد ذكر الله ذلك الموقف عن قوم فرعون، فقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) } [الأعراف: 135 – 137]

قال: وهذه سنة الله مع عباده.. فالنعم رسول من رسل الهداية.. فمن رآها بقلب طاهر وعقل سليم عرج بها في سموات الحقائق لينال نعما أعظم، ورعاية أكرم.. لكنه إن لم يلتفت لها، وحجب عنها، وجحدها كانت مصيدة من مصايد الهلاك، ومنهجا من مناهج الخسران.

قلت: أجل.. واسمح لي أني لم أتعرف إليك.. فمن أنت؟ ومن أي روضة من رياض الجنان التي أراها؟

قال: أنا عبد من عباد الله المتمرغين في نعمه، المستضافين في دار ضيافته.. أما روضتي فهي [روضة العناية الرحيمة].. فقد كانت عناية الله هي الطريق الذي عرفنا به ربنا وعبدناه.. وكانت هي ملاذنا الذي فررنا به من جحيم الإلحاد إلى جنات الإيمان.

قلت: فهلم بنا إليها.. فما أجملها من روضة، وما أعقلها من براهين.

***

سرنا بين روضات كثيرة مملتئة بالجمال إلى أن وصلنا إلى روضة العناية الرحيمة، وقد دهشت لجمالها وبهائها وكثرة النعم المفاضة عليها.. ولكن كل تلك الدهشة لم تكن تعدل جزءا من دهشتي لكثرة أولئك الطيبين الذين اجتمعوا يتحدثون عن سر وجودهم في تلك الروضة.. فقد كانوا كثيرين جدا، بحيث لم أستطع عدهم، وكأنهم شعوب كثيرة اجتمعت في تلك الروضة.. والعجب أنها وسعتهم جميعا.

سألت صاحبي عن سر ذلك، فقال لي: إن كل واحد من هؤلاء جذب إلى الله بنوع من أنواع العناية.. وبما أن أنواع العناية لا حد لها، فلذلك كان لهؤلاء من الكثرة ما تراه.. بل إن من لا تراه أكبر بكثير ممن تراه..

قلت: فهل سأسمع هنا براهينهم التي وصلوا بها إلى الله؟

قال: ستسمع بعضها فقط.. وإلا فإن الدنيا جميعا لا تكفي لإحصاء ما يرتبط بهذا النوع من البراهين من الحجج والدلائل.

برهان التسخير:

بعد أن استقر بي المجلس، وزال عني بعض آثار تلك الدهشة والانبهار، وسلمت على ذلك الجمع المنور بنور الإيمان، وسلموا علي، قال أحدهم مخاطبا رسولهم الذي جاء بي إليهم: فلتبدأ أنت يا صاحب النفس الطاهرة، والعقل السليم لتحدثنا عن أسرار إيمانك، وكيف أخرجك الله من قيود الملاحدة، وزج بك في رحاب روضات المؤمنين.

ابتسم، وقال: لا أزال أذكر تلك الأيام جيدا.. فقد كانت من أغلى هدايا الله التي أهداها لي.. وكلها غالية.. لقد ربيت في أسرة طيبة.. كان كل من فيها مسخر لخدمتي ابتداء من والدي، وانتهاء بالخدم الكثيرين الذين لا وظيفة لهم سوى تحقيق مطالبي، وجلب السعادة لي..

لكني مع ذلك كله لم أكن سعيدا.. فقد كان أولئك المحيطين بي والمسخرين بخدمتي يلبون مطالب جسدي، ولكنهم لا يعرفون مطالب روحي، فلذلك لم يكونوا يلتفون إليها..

في ذلك الوقت، وفي تلك الأيام التي من الله علي بالهداية التقيت رجلا من المؤمنين، وقد كان بسيطا جدا، لكنه كان يشعر بسعادة عظيمة، فسألته عن ذلك، فقال: وكيف لا أسعد بذلك، وأنا في رعاية إله حكيم، وفر لي كل ما أحتاجه، وأنا موقن أنه كما لم يضيعني في حياتي هذه، فإنه لن يضيعني في حياتي الأخرى.. وأنه كما سخر لي من فضله العظيم ما ملأني بالسعادة، فإن فضله وكرمه وجوده سيظل معي أبد الآبدين.

كنت في ذلك الحين ممتلئا بتلك الأفكار التي تتربى عليها الأسر الأرستقراطية التي تدعي التنوير، بينما هي تعيش في أحلك أنواع الظلمات، ولذلك قلت له، وأنا أسخر منه: عن أي إله تتحدث؟.. وفي أي حياة تأمل؟.. ليس هناك إلا ما تراه عيناك من حياة.. وليس هناك من مدبر للكون غير تلك الصدفة العبثية، والطبيعة العمياء.

قال لي، وهو يبتسم: ما دام الأمر كذلك.. فكيف سخر الخدم لك، ولم يسخروا لغيرك من الذين تراهم، وما أكثرهم.. أم أن الصدفة اختارتك من بينهم؟

قلت: الخدم الذين يخدمونني.. لا يخدمونني إلا لمالي.. وهم تبع لوالدي.. ولو كان لأولئك الذين تذكرهم أموال كأموالي، ووالد ثري كوالدي، لسخر لهم من الخدم والحشم ما سخر لي.

قال: فاعبر من خدمك وحشمك الذين سخروا لك لتصل إلى الله وتعرف آلاءه التي وفرها لك كما وفرها لكل شيء..فيستحيل على العطية أن لا يكون لها معط، ويستحيل على النعمة أن لا يكون لها منعم.

***

قال لي هذه الكلمات، ثم انصرف، وقد غرس في قلبي بذرة الإيمان التي تعاهدها الله بفضله، فنَمَت رويدا رويدا إلى أن تحولت إلى شجرة باسقة، أثمرت بعد ذلك كل أنواع القيم والفضائل، وخلّصت روحي من كل تلك الكآبة التي كانت تسكن فيها.

كانت كلماته هي المفتاح الذي أزاح عني غشاوة رؤية المنعم.. فقد كنت أعيش النعم، وأتصور أنها هكذا جاءت.. وأنها اختارتني هكذا صدفة.. لكني بعد التأمل والتحقيق.. وبعد الرحلة والسير.. شعرت بصحبة المنعم ولطفه العظيم، وكأنه يناولي بيده كل فضل من أفضاله ونعمة من نعمة.

في ذلك الحين.. وقبل أن يستقر الإيمان في قلبي.. التقيت فيلسوفا من بلاد المسلمين، كان تلميذا لابن رشد، وحدثني عنه كثيرا، وهو ممتلئ بالإعجاب به، فقلت له: عجبا.. هل يمكن أن يكون المرء فيلسوفا، ثم يكون مسلما؟

قال: وما المانع من ذلك.. بل إن الفلسفة الحقيقية هي طريق الإيمان، ومن حجبته فلسفته عن الإيمان، فهو لم يعرف الفلسفة، ولم يشم رائحتها.

ثم حدثني عن أستاذه الفيلسوف، وكيف ألف الرسائل والكتب التي تربط بين الإيمان والفلسفة، وأنه لا تعارض بينهما.. وحدثني في ذلك عن كتاب له بعنوان [فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال]، وأخبرني أنه ذكر فيه أن الفلسفة ليست سوى رحلة إلى الموجودات وحقائقها، وهي لن توصلنا إلا إلى موجدها.. ولذلك لا تعارض بين الدين والفلسفة.. فكلاهما سبيل صالح للتعرف على الخالق الذي حث على وجوب استعمال النظر العقلي والبرهان والحجة بجميع أنواعها.

وأخبرني أنه ذكر في الكتاب كيف أوجبت النصوص المقدسة التي أوحاها الله لرسله النظر العقلي في الموجودات، والذي يسمى بالبرهان.. والذي لا يمكن استعماله إلا بمعرفة أنواعه وقواعده وأشكاله وأوجه الاختلاف بينه وبين باقي أنواع القياس كالقياس الجدلي، والخطابي والمغالطي وغيرها.

كما أخبرني أن البشر مختلفون في طباعهم وطريقة تفكيرهم، فمنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية التي تعتمد على المقدمات الظنية، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية التي تعتمد على المقدمات العاطفية، ومنهم من يصدق بالبرهان العقلي القائم على الحجج المنطقية.

وأخبرني أن صاحبه دافع عن الفلاسفة ضد من أنكر عليهم، مبينا أنهم يؤمنون بوجود الله، وأن البراهين العقلية تؤدي لا محالة إلى معرفة الله حق المعرفة.

وأخبرني أن تلك الإشاعات التي تشاع عنهم بأنهم يقولون بأن الله تعالى لا يعلم الجزئيات كذب عليهم، وتحريف لكلامهم، بل إنهم يرون أن الله تعالى يعلمها بطريقة سامية لا يمكننا فهمها، والدليل على ذلك أنهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارا بالجزئيات الحادثة في المستقبل، وهي كلها من الجزئيات المتغيرة، مما يعني علمه بها كما يعلم بالكليات.

وهكذا راح يدافع عن موقفم من المسائل المختلفة، ولم يكن يعنيني أكثر ما ذكره، بل كل ما ذكره، فقد كنت مشغولا بالبحث عن الحقيقة التي بذرها في عقلي ذلك المؤمن الذي التقيته، ولذلك رحت أسأله: دعنا من الفلسفة والفلاسفة، وأخبرني بما هو أهم من ذلك كله.. أخبرني بالبرهان الذي جعل صاحبك يختار الإيمان على الإلحاد.. وهل هو من البراهين المنطقية، أم هو من الخطابات العاطفية والمغالطية والجدلية.

قال: يستحيل على صاحبي أن يختار في هذه المسألة الخطيرة تلك الأنواع الغثة من الخطابات.. فتلك قد ترتبط بإقناع الجماهير والغوغاء بالمصالح المؤقتة.. أما مسألة وجود الله وكمالاته، فإنها تحتاج إلى الإثبات بأقوى أنواع البراهين.

قلت: فهل تحفظ عن أستاذك شيئا في هذا الباب؟

قال: أجل.. وكيف لا أحفظ.. ولم يكن هناك مجلس، ولا مناسبة إلا حدثنا عنه، ليملأ قلوبنا بالإيمان.

قلت: فاذكر لي ما كان يقول لكم.

قال: لا يمكن ذلك.. فمجالسه في ذلك لا تعد ولا تحصى.

قلت: فأخبرني عن مجامعه.

قال: لقد كان أستاذي الحكيم ابن رشد يعلم كل أنواع البراهين التي أثرت عن الفلاسفة من أمثال برهان الحركة والعلية والتطبيق وغيرها كثير.. ولكنه كان يؤثر ما يسميه برهان العناية على غيرها من البراهين: لوضوحه أولا.. ولتناسبه مع ما ورد في كلمات الله المقدسة ثانيا.

لقد سمعته يقول في ذلك: (الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرىء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذه (دليل العناية).. والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه (دليل الاختراع)([1])

ثم راح يذكر لي وجه الاستدلال على البرهان الأول [برهان العناية].. فذكر لي أنه ينبني على أصلين بقدر فهمهما والرسوخ في معرفتهما، بقدر ما يتوضح البرهان، وتزال الإشكالات المرتبطة به.

أما الأصل الأول، فهو (أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان)، وأما الأصل الثاني، فهو (أن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك، مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق.. أي صدفة)

ثم راح يفصل لي بعض الحقائق المرتبطة بالأصل الأول، فقال: (فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فيحصل اليقين بذلك باعتبار موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضا وهو الأرض، وكذلك تظهر أيضا موافقة كثير من الحيوان له والنبات والجماد وجزئيات كثيرة مثل الأمطار والأنهار والبحار، وبالجملة، الأرض والماء والنار والهواء، وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء البدن وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده.. وبالجملة فمعرفة ذلك أعني منافع الموجودات داخلة في هذا الجنس، ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع المجودات)

وهكذا ذكر لي [دلالة الاختراع] على الله، ولها علاقة أيضا بـ [دلالة العناية]، وذكر لي أنها أيضا تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فِطر الناس، أما أحدهما، فهو (أن هذه الموجودات مخترعة.. فإنا نرى أجساما جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى.. وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما ها هنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة)

وأما الأصل الثاني، فهو (أن كل مُخترَع فله مُختَرِع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترِعا له)

ثم ذكر لي دعوة ابن رشد إلى البحث في الآفاق والأنفس للتعرف على الله.. فقد نصب الله دلائل التعرف عليه في مخلوقاته.. وقرأ علي قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]

ثم ذكر لي قول ابن رشد: (ولذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].. وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في وجود موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به كان وقوفه عى دليل العناية أتم)

ثم ذكر لي أن هذا النوع من الأدلة هو الذي دلت عليه النصوص المقدسة، ففي القرآن الكريم الكثير من (الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز وهي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة، فذلك بيّن لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى.. وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذه المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع: إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا)

ثم أحضر مصحفا، وقرأ لي الكثير من النصوص المقدسة التي تتحدث عن هذه الأنواع من النعم، والتي تبين مجامعها الكثيرة.

وقد شد انتباهي منها تلك الآيات التي تتحدث عن التسخير.. فرحت أبحث عن أسراره.. وكيف أن كل شيء مسخر للإنسان متناسب معه مهيأ له ليستفيد منه، مثلما كان الخدم والحشم المحيطون بي مسخرون لكل غرض من أغراضي، وحاجة من حاجاتي.

وقد جعلني ذلك أخرج من كسلي، ومن حياتي التي لا معنى لها، لأخوض بحار علوم مختلفة، أتعلم أسرارها، وأستكنه أغوارها، وألاحظ في كل طرف من أطرافها العناية الإلهية، وهي تقدم لي خدماتها التي لا تنتهي.

***

بعد هذا اسمحوا لي أن أذكر لكم مجلسا من المجالس التي جلستها، والتي رسخت في قلبي الإيمان، وأخرجتني من رؤية النعم والاستغراق فيها إلى رؤية المنعم والبحث عنه، ومحاولة التواصل معه.

في ذلك المجلس الذي جمع ناسا مختلفي المشارب والأذواق والمذاهب والطوائف قام رجل من أهلنا ممن يزعمون لأنفسهم التنوير المضمخ بخرافات الإلحاد يخاطب شيخا وقورا من مشايخ المسلمين، ويقول له ساخرا: إن قرءانكم يزعم أن كل ما في السموات والأرض مسخر للإنسان.. ففيه هذه الآية: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان:28].. وفيه هذه الآية: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]

وهو دليل على أن الذي كتب تلك الكلمات لا يعرف الكون وسعته.. ولا يعرف أن الأرض ليست ذرة رمل في بحر الكون الواسع.. فكيف يسخر الكون جميعا للإنسان، وهو لا يساوي شيئا في الكون جميعا؟

ابتسم الشيخ، وقال: هل يمكنك أن تغلق أنفك وفمك ولو لدقائق محدودة؟

قال الرجل: ألم يعجبك كلامي.. فرحت تأمرني بالسكوت؟

قال الشيخ: لا.. أنا لم آمرك بالسكوت.. لكني أجبتك عن سؤالك.. فطلبت منك أن تتوقف عن التنفس لبضع دقائق، وأحببت أن أرى هل تطيق ذلك، أم لا؟

قال الرجل: لا حاجة لي لأن أفعل ذلك.. فأنا أعلم أنني لا أطيق ذلك..

قال الشيخ: لم؟

قال الرجل: هذا لن تفهمه أنت.. ولكني مع ذلك سأشرحه للحضور..

ثم توجه للحضور، وقال: لقد دلت الحقائق العلمية التجريبية على أن وظيفة الجهاز التنفسي هي توفير غاز الأوكسجين لكل خلية من خلايا الجسم، ومن ثم تخليصها من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تنتجه هذه الخلايا.. والأوكسجين عنصر ضروري لإنجاز عملية تحويل المواد الغذائية إلى طاقة تلزم لإجراء مختلف أنواع العمليات الحيوية التي تجري في داخل الخلايا، أو ما يسمى بالحرق أو الهدم، وينتج عن عملية التحويل هذه غاز ثاني أكسيد الكربون.. وتقوم مكونات الجهاز التنفسي المختلفة بأخذ الأوكسجين من الجو، ومن ثم يتم إيصاله إلى خلايا الجسم من خلال الدم، والذي يعود محملا بثاني أكسيد الكربون فيقوم الجهاز التنفسي بسحبه من الدم وطرده إلى الجو..

وبما أن الجسم لا يمكنه أن يخزن الأوكسجين في داخله فإنه من الضروري تزويده بهذه العنصر الهام بشكل متواصل؛ حيث أن انقطاع وصوله للجسم لمدة ثلاث دقائق في المتوسط يؤدي إلى موت الإنسان، بينما يمكن أن يعيش الإنسان بدون طعام لعدة أسابيع، وبدون ماء لعدة أيام.

وإلى جانب هذه الوظيفة الرئيسية يقوم الجهاز التنفسي بوظيفتين ثانويتين: أولاهما استخدام الهواء الخارج من الرئتين لتوليد الأصوات من خلال مروره على الحبال الصوتية، ومن ثم الفم والأنف.. وثانيهما استخدام الهواء المستنشق المحمل بالمواد المتطايرة من مختلف المصادر للتعرف على روائحها من خلال مستقبلات الشم الموجودة في سقف الأنف.

قال الشيخ: بورك فيك على هذه المعلومات القيمة التي أفدتنا بها.. فأجبني الآن أو أجب الحضور.. لو أن هذا الأكسجين الذي تتحدث عنه لم يكن موجودا، أو كان موجودا بنسبة ضئيلة أو نسبة زائدة.. هل يمكنك أن تستفيد منه؟

قال الرجل: أظن أنك تريد أن تختبر معلوماتي.. لا بأس.. سأذكر لك معارفي فيها، فأنا مختص في هذه الجوانب([2]).. إن الأكسجين يعتبر بلا شك الغاز الأهم الموجود على الأرض.. فلو كان غير موجود لما تمكن أي كائن حي من العيش على هذا الكوكب.. وقد أثبت العلماء أن هذا العنصر يشكل ربع نسبة الغازات الجوية الموجودة حولنا.. وأثبتوا أنه لو اختفى عن الأرض لمدة 5 ثوان فقط فإن نتائج كارثية كبيرة ستحصل..

منها أن كل شخص تلمس جلده أشعة الشمس سوف يصاب بحروق خطيرة، وذلك لأن جزيئات الأكسجين تحمينا من الأشعة فوق البنفسجية المنبعثة من الشمس.

ومنها أن سماء الصباح سوف تكون مظلمة كالليل تماما، لأنه بانعدام الأكسجين سوف تقل قابلية الجسيمات الموجودة في الجو على بعثرة الضوء الأزرق.

ومنها أن كل قطع الحديد غير المعالجة سوف تلتحم مع بعضها البعض فورا، لأن ما يمنع الحديد من الإلتصاق هو في الواقع طبقة من الأكسيد.

ومنها أنأن القشرة الأرضية ستنهار، وذلك لأن الأكسجين يشكل نسبة 45 في المائة منها.

ومنها أن جميع آذان المخلوقات سوف تنفجر، لأن الأكسجين يشكل 21 في المائة من غازات الهواء الجوي فبانعدامه سوف نفقد نسبة 21 بالمائة من في لحظة، أي ما يعادل الإنتقال فوريا لأعلى قمة في جبال الأنديز بارتفاع حوالي 2000 متر.

ومنها أن كل مبنى صنع من الأسمنت سوف يتحول إلى غبار، فالأكسجين يعتبر مادة مهمة للتماسك بين الجزيئات في المواد الخرسانية، وبدونه المركبات الأخرى لا يمكنها تحمل الثقل.

ومنها أن المحيطات سوف تتبخر وتتناثر في الفضاء، فكما هو معروف الماء مكون من ذرتين هيدروجين وذرة أكسجين، وباختفاء الأكسجين سيبقى الهيدروجين على شكل غاز، ولأنه خفيف الوزن سوف يرتفع إلى طبقات الجو العليا ومنها سوف يتسرب للفضاء الخارجي.

قال الشيخ: فهذا الغاز ـ على حسب ما ذكرت ـ مسخر في خدمة الإنسان.. ولا حياة للإنسان من دونه.

قال الرجل: أجل.. والحقائق العلمية كلها تثبت ذلك.. فخدماته للإنسان والطبيعة التي يستفيد منها الإنسان لا حدود لها.

قال الشيخ: فهل لوجود هذا الغاز بهذا الشكل على الأرض، وبالمقادير التي يوجد عليها علاقة بالأرض فقط.. أم له علاقة بالمجموعة الشمسية أيضا؟

قال الرجل: ما تقول؟.. إن معلوماتك محدودة كثيرا في هذا الجانب.. فهذا الغاز ونسبته له علاقة بكل ما تراه في السماء من كواكب.. فالكون مرتبط بعضه ببعض..

فقد اكتشف علماء الفلك والكونيات مثل العالِم الشهير [سير. مارتن رِيس] أن كوننا يتمتع بخاصية غاية في الإدهاش وهي ما تُسمَّى بـ [الضبط الطفيف] حيث وجد رِيس أن خصائص الكون تتحدَّد بستة عوامل فيزيائية، وهذه العوامل تتخذ قيمًا معينة لا بد منها لوجود حياة في الكون، فإذا حاد أي منهم عن قيمته حيودًا طفيفًا استحال إعالة الكون للشفرة الحيوية، وبالتالي استحالة وجود حياة..

من هذه العوامل ما يطلق عليه [إبسلن]، قيمته في كوننا هي بالضبظ 0.007 وهي نسبة الهيدروجين الذي تحوَّل إلى هيليوم في الانفجار العظيم.. وهذا العامل لو قلت قيمته إلى 0.006 مثلًا لضعفت القوى النووية الضعيفة، وبالتالي لم يُتح للذرات الثقيلة مثل الكربون اللازم للحياة أن تتكون، ولم يُتح للنجوم أن تتكون ولصار الكون كله مليئًا بعنصر الهيدروجين فقط.. أما إذا زادت لقيمة مثل 0.008 فإن كل الهيدروجين سيتحول إلى هيليوم.. ولما تبقى أية ذرات هيدروجين تعطي طاقة اندماجها في النجوم إلى هليوم للكون والحياة فيه.

ومنها ما يطلق عليه [أن] وقيمته في كوننا (1 وعلى يمينه 36 صفرًا) وهي نسبة القوة الكهرومغناطيسية في الكون إلى القوة الجذبوية فيه، فلو كانت الجاذبية أضعف قليلًا لما تكونت النجوم، ولما أدفأت ولا أنارت كوكبنا ولانحدرت درجة حرارته إلى الهاوية السحيقة بحيث الصمت المطبق فلا حياة.. وإذا زادت قوة الجذب الكوني قليلًا لتكونت النجوم سريعًا، واحترقت سريعًا لاندفاع كميات رهيبة من الطاقة منها، وذلك لكثافتها المهولة التي تسمح بازدياد معدل احتراق وقود النجوم النووي وانتهائه سريعًا. ويترتب على ذلك احتراق أي أثر للحياة أثناء تسرُّب الطاقة من النجوم سريعًا ثم يخيم الموت الأسود البارد على الكون.

ومنها ما يطلق عليه [أوميغا]، فلو كانت قليلة لاتسع الكون سريعًا دون كبحٍ لجماحه، وخيمت الظلمة والبرودة على الكون لتتجمد أي حياة.. ولو كانت أكبر من ذلك قليلًا لانكمش الكون سريعًا وعاد إلى انهدام عظيم قبل تواجد الظروف المواتية لخلق أي حياة.. لقد قال مارتن ريس معبرا عن ذلك: (لو اختلفت أوميغا عن الواحد الصحيح بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم بقيمة 1 على مليون بليون -البليون = 1000000000- لما كنت تقرأ مقالتي الآن أيها القارئ العزيز!)

ومنها ما يطلق عليه [الثابت الكونياتي].. وهذه الكمية هي التي تعبر عن تسارع اتساع الكون والتي يجب أن تكون قيمتها في نطاق ضيق جدًا، فإذا زادت قليلًا لاتسع الكون قبل أن تستقر الحياة المخلوقة على الأرض، وكذلك يحدث لو قلت قليلًا فسينهدم الكون بعد قليل من فتق الرتق، وبالتالي فسيكون كونًا مبتسرًا لا حياة فيه.

ومنها ما يطلق عليه [كا] وهي كمية عجيبة تعبر عن مدى عدم انتظام كثافة الطاقة الفائرة عند فتق الرتق وهي تساوي في كوننا (1\100000)، فلو كانت هذه الطاقة منتظمة ومتماثلة تمام التماثل لظلت هكذا إلى الأبد، ولما تكونت النجوم ولا الكواكب، ولما كان يوجد تمايز بين أبعاض الكون، وبالتالى لاستحال وجود أية حياة.. ولو كانت غير منتظمة أكثر مما هي عليه لعج الكون بالثقوب السوداء التي تجعل النجوم قريبة جدًا من بعضها مما لا يتيح تكون كواكب تدور حولها وبالتالي يستحيل وجود حياة.

ومنها ما يطلق عليه [دي] وهي عدد الأبعاد الفضائية، وقد وجد العلماء استحالة وجود حياة إذا كان الكون بعدًا واحدًا لأنه حسب ميكانيكا الكم فإن الجسيمات في البُعد الواحد تمرُّ من بعضها البعض ولا يمكن أن تتماسك بحال.. أما في بعدين فيستحيل وجود حياة لأنها لن تستطيع أن تتغذى.. تخيلوا معي كائنًا ثنائي الأبعاد فإن قناته الهضمية من موضع الفم إلى موضع الإخراج ستقسِمه إلى جزئين وتتفكك الحياة التي تعتمِد على التغذية.. أي كل أنواع الحياة المعروفة. من ناحية أخرى فنظرًا لتعقيد مخ الحياة الذكية للإنسان، فلا يمكن بحالٍ أن تتكون شبكة عصبية معقدة، فكل خلية عصبية ترتبط بـ 10000 خلية أخرى من أخواتها في مخ الإنسان في كون ذي بعد واحد أو بعدين اثنين.. أما لو زادت عدد الأبعاد عن 3 أبعاد فضائية فقد وجد بول ايرينفيست المعاصر لأينشتين سنة 1917م أن مدارات الكوكب والإلكترونات حول الشموس وأنوية الذرات بالترتيب لن تكون مستقرة وبالتالي يستحيل تواجد أية حياة.

قال الشيخ، وهو يبتسم: بورك فيك يا بني.. فقد قمت بدلي بتفسير الآية الكريمة التي سردتها علي.. وقد كفيتني شرحها.. بل لم أكن لأشرحها بمثل ما شرحتها أنت.

قال الرجل: ما تعني بقولك هذا؟

قال الشيخ: أنت ترى ـ بحسب ما شرحت ـ أن كل ما في الكون مسخر للإنسان.. وأنه لو اختل جزء بسيط منه لقضي على كل شيء بما فيه الإنسان.. أنسيت أنك نقلت عن مارتن ريس قوله: (لو اختلفت أوميغا عن الواحد الصحيح بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم بقيمة 1 على مليون بليون -البليون = 1000000000- لما كنت تقرأ مقالتي الآن أيها القارئ العزيز!)

***

لم يجد الرجل ما يجيب.. وانصرف الشيخ، ورحت أتبعه.. فدخل المسجد.. ودخلت معه إليه من غير أن أكون مؤمنا في ذلك الوقت.. وما هي إلا فترة وجيزة حتى صعد المنبر، وراح يقرأ آيات التسخير في القرآن الكريم، ثم يخطب في الحاضرين.. ومما أذكره قوله: هل فكَّرت ـ أيها الإنسان ـ يومًا لماذا تصحو من النوم صباح كل يوم فتجد هناك جاذبية أرضية ولم يحدث مرة في حياتك أن انقطعت خدمة الجاذبية عن منزلك كما تنقطع خدمة الكهرباء بسبب الأعطال الفنية في شركة الكهرباء؟!

هل تفكَّرت يومًا لماذا لا يزداد ثابت الجذب العام فجأة عشرة أضعاف فتجد نفسط ملقىً على الأرض لا تستطيع حِراكًا، بل تجد أن الغلاف الجوي قد انضغط جدًا حتى صار الضغط رهيبًا؟! بل وتجد القمر قد اقترب إلينا بحيث يجرُّ معه مياه البحار والمحيطات جرًّا ليُصبح المدُّ رهيبًا فتغرق المدن الساحلية. بل وتجد الأرض قد اقتربت من الشمس فازدات حرارتها فوق احتمالنا؟ لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، هذا مثال واحد لقيومية الله تعالى على تسخير الجاذبية الكونية لنستفيد منها، فكيف بباقي المسخرات التي لا عد لها؟

ثم أضاف يقول: إن الكون بعظمته مُسخَّرٌ لك أيها الإنسان. وهو ليس مُسخَّرًا لك لتستخدمه في معصية من سخَّره لك، وإنما هو مُسخَّرٌ لك لتقوم بوظيفتك المحدَّدة بوضوح من قِبل ربك تعالى وهي عبادته.

فإن أردت أن تستخدم نعمة الله التي لا تُحصى في معصيته، فلتعصه بدون جسدك المملوك لله المُسخَّر لك وبدون كونه المملوك له تعالى المُسخَّر لك حتى تكون قد تحليت ببعض الحياء. فمن قلة الحياء أن تُعادي ربك بفضله!

***

بعد أن سمعت هذا خرجت إلى بعض المراصد الفلكية، بعد أن سمعت أن هناك فيزيائيين وفلكيين كبارا حضروا البلدة بعد أن اكتشف بعض أهلها اكتشافات فلكية مهمة، فجاءوا لزيارته وتكريمه.

وقد تسنى لي بفعل علاقات الكثيرة، أن أجلس إليهم، وأستمع منهم.. ويا سبحان الله.. فقد كانت أحاديثهم كلها تدور حول تسخير الله لمخلوقاته.. وكأن الله قد أرسل لي هذا المفتاح لألج منه إلى أبواب فضله وكرامته.

لقد كان مما سمعته منهم قول أحدهم: إنه لمن المدهش حقا أن يكون هذا الكون الشاسع الهائل بكل ما فيه من أجرام سماوية، ومخلوقات أرضية، مسخرا تسخيرا خاصا لخدمتنا نحن البشر.

قال آخر: لقد كانت النظرة السائدة إبان الثورة العلمية الأوروبية، وخاصة بعد نظريات لابلاس ونيوتن وغيرهما، احتقار الإنسان، واحتقار ما ورد في الكتب المقدسة من تسخير الكون له.. ولهذا اعتبروا الأرض كوكبا تافها، كتفاهة حبة الرمل إذا ما قورنت بشواطئ البحار.. لكن بعد التطورات الكثيرة التي عرفتها الفيزياء الحديثة ظهرت نظريات أكثر علمية وأكثر دقة، وقد أعادت للإنسان مكانتها التي اعتبرتها الأديان والكتب المقدسة.

قال آخر: لقد قال مؤلف كتاب العلم من منظوره الجديد يحكي قصة ذلك: (وهكذا بعد أن كان الإنسان يعتبر مخلوقاً يسكن كوكباً متواضعاً يدور حول نجم لا شأن له في مجرة تحوى 100 مليار نجم آخر، أصبح الآن يقوم بدور المشارك في مسرحية كونية عظيمة، هذا إلى جانب جميع الأحداث الكونية بدءاً بالانفجار العظيم فصاعداً كانت قد صممت بحيث تسمح بوجود مخلوقات واعية في مكان ما من الكون المتمدد وفي حقبة من حقب تاريخه.. كل هذه أدلة تحمل في طياتها الإقناع الكافي بنشوء تصور كوني جديد للعالم.. فالنظرة القديمة هي في سبيل إفساح المجال أمام نظرة جديدة تركز على الإنسان بوصفه مراقباً ومشاركاً واعياً وتفرد للعقل وللعمليات الذهنية مكانة تضاهي مكانة العالم المادي)([3])

قال آخر: وقال [أندرو كونواي ايغي] أحد أشهر علماء الطبيعة في أوائل القرن العشرين: (ففي علم وظائف الأعضاء تدل خياشيم الأسماك على أسبقية الماء، كما تدل أجنحة الطيور ورئات الإنسان على أسبقية الهواء، وتدل أعين الإنسان على أسبقية الضوء، كما يدل حب الاستطلاع العلمي على أسبقية الوقائع، وكما تدل الحياة على أسبقية القانون الطبيعي اللازم لنشأتها.. وإنني أتساءل الآن: أفلا يدل التدبر العميق والتفكير الصافي والشجاعة العظمى والواجب الأعظم والإيمان الكبير والحب العميق.. أفلا يدل كل أولئك على شيء سابق؟ من الحماقة أن نظن أن أعمق الأفكار والعواطف والأعمال التي نشاهدها في الإنسان لا تدل على شيء سابق.. إنها تدل على أسبقية وجود عقل علوي. إنها تدل على وجود خالق يتجلى في خبرة أولئك الذين لا يضعون الحواجز في طريق عقولهم عند البحث عن العقل الأسمى أو الخالق الأعلى)([4])

ما سمعت هذا حتى رحت أصرخ في القاعة، وأمام الجمع الكثير من العلماء: (يا الله.. يا الله.. يا الله)، وبقيت أرددها وأبكي.. والعجب أن كل القاعة بعلمائها وفلاسفتها وعوامها وخواصها رددوها معي بكل عشق وشوق.

برهان التوفير:

بعد أن أنهى الرجل الأول حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن حدثكم صديقي وأخي عن [برهان التسخير]، وكيف خرج به من ظلمات الجهل والغواية إلى نور الإيمان والهداية.. فاسمعوا حديثي الذي لا يقل عنه عجبا.. وهو عن برهان من براهين العناية الرحيمة، أطلقت عليه اسم [برهان التوفير].. وهو برهان يدل على الله من كل الوجوه، وبكل المقدمات، وبجميع اللغات..

فالله برحمته وفر لنا كل ما نحتاجه.. وبقدر ما نحتاجه.. وفي الوقت الذي نحتاجه.. وبالدقة التي نحتاجها.. وكل ذلك لا يدل على وجوده فقط، بل يدل على مدى عنايته ورحمته ولطفه بعباده، وأنه ما خلقهم إلا ليكرمهم، ويمن عليهم من فضله.

وقد كان التأمل في هذا وحده هو رسول ربي إلي للإيمان.. فقد كنت في بيئة لم يكن فيها مؤمن واحد.. ولا شيخ واحد.. ولم أكن أسمع بالأديان أصلا.. لأني لم أكن أعيش إلا وسط المخابر.

لكن التأمل في الكائنات والبحث في المعارف المختلفة قادوني جميعا إلى الله.. وسأحكي لكم قصة هدايتي.. وكيف جذبني الله إليه بهذه السلاسل من فضله.

كان أول ما أثار انتباهي في هذا هو اللبن.. ذلك الغذاء الأساسي الذي يعتمد عليه الرضيع في نشأته.. والذي لولاه لم تستمر الحياة، ولم تصر إلى الصورة التي نراها.. لقد كان اللبن مثار اهتمام شديد من طرفي في ذلك الوقت الذي كنت لا أؤمن فيه إلا بمادية الحياة، وأنها لم تكن سوى نتيجة تطور وجد بالصدفة..

لقد وجدت ذلك السائل العجيب، وفي تلك المرحلة الدقيقة والخطيرة من عمر الإنسان، آية من آيات الله العظمى، التي لو تأملها الإنسان، واكتفى بها لوصل إلى الله.. ولهذا وجدت في رحلتي إلى الله كيف أشاد القرآن الكريم به، وكيف دعا إلى النظر فيه باعتباره برهانا عظيما من براهين الدلالة على الله.. قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]

لقد كان أول ما بدأت به أبحاثي هو مقارنتي بين اللبن الطبيعي الذي تفرزه الأم بعد الولادة مباشرة، لتوفر لابنها الغذاء الذي يحتاجه، وبين اللبن الذي أنتجته مصانعنا المتطورة، والذي لم تستطع تصنيعه ولا تصميمه إلا بعد أبحاث طويلة، ومن كبار المختصين، وبإسناد كبير من جهات كثيرة متعددة.. وعندما رأيت الفرق العظيم بينهما، قلت في نفسي: هل يمكن أن يكون اللبن الذي وجد صدفة، وبطريقة عشوائية، ومن طبيعة عمياء صماء بكماء أكثر إتقانا وإبداعا من لبن وضعه كبار الباحثين، وبعد خبرة طويلة؟

لقد جعلني هذا أعيد النظر في مواقفي فيمن صمم اللبن الأول.. لقد قلت في نفسي: هل يمكن أن تكون الصورة المتقنة التي لا تحوي أي ثغرة، ولا أي خطأ، صورة عشوائية، لم يقم برسمها أي فنان، بينما الصورة الممتلئة بالأخطاء والثغرات صورة تحتاج إلى مبدع وفنان؟

اسمحوا لي أن ألقي على مسامعكم بعض ما اكتشفت في ذلك الحين، والذي كان من أول البراهين والآيات التي جذبتني إلى الله([5]).

لقد رأيت من خلال أبحاثي، وأبحاث غيري الكثيرة في هذا المجال، أن حليب الأم يتطور تركيبه من يوم لآخر بحسب ما يلائم حاجة الرضيع الغذائية، وبحسب تحمل جسمه، وما يلائم غريزته وأجهزته التي تتطور يوماً بعد يوم، وذلك عكس الحليب الصناعي الثابت التركيب..

فمثلاً تفرز الأم في الأيام الأولى لبنا يحوي أضعاف ما يحوي اللبن العادي من البروتين والعناصر المعدنية، لكنه فقير بالدسم والسكر، كما يحوي أضدادا لرفع مناعة الوليد، وله فعل ملين، هو الغذاء المثالي للوليد.

كما رأيت أنه يخف إدرار اللبن من ثدي الأم، أو يخف تركيزه بين فترة وأخرى بشكل غريزي، وذلك لإراحة الجهاز الهضمي عند الوليد، ثم يعود بعدها بما يلائم حاجة الطفل.

ورأيت أن لبن الأم أسهل هضماً من اللبن الصناعي، وذلك لاحتوائه على خمائر هاضمة تساعد خمائر المعدة عند الطفل على الهضم، وتستطيع المعدة إفراغ محتواها منه بعد ساعة ونصف، وتبقى حموضة المعدة طبيعية ومناسبة للقضاء على الجراثيم التي تصلها، بينما يتأخر هضم خثرات الجبن في غيره من الألبان، لثلاثة أو أربع ساعات، كما تعدل الأملاح الكثيرة الموجودة في غيره من الألبان حموضة المعدة،و تنقصها مما يسمح للجراثيم وخاصة الكولونية بالتكاثر مما يؤدي للإسهال والإقياء.

بالإضافة إلى هذا وجدت أن حليب الأم معقم، بينما يندر أن يخلو الحليب في الرضاع الصناعي من التلوث الجرثومي، وذلك يحدث إما عند عملية الحلب، أو باستخدام الآنية المختلفة أو بتلوث زجاجة الإرضاع.

ووجدت أن درجة حرارة لبن الأم ثابتة وملائمة لحرارة الطفل، ولا يتوفر ذلك دائماً في الإرضاع الصناعي.

ووجدت أن لبن الأم يحتوي على أجسام ضدية نوعية، تساعد الطفل على مقاومة الأمراض، ووجدت أنها تتواجد بنسبة أقل بكثير في غيره من الألبان، كما أنها غير نوعية، ولهذا فمن الثابت أن الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم أقل عرضة للإنتان ممن يعتمدون على الإرضاع الصناعي.

ووجدت أن الإرضاع الطبيعي يدعم الزمرة الجرثومية الطبيعية في الأمعاء ذات الدور الفعال في امتصاص الفيتامينات وغيرها من العناصر الغذائية، بينما يسبب الإرضاع الصناعي اضطراب هذه الزمرة.

ووجدت في مقابل ذلك أن الإرضاع الصناعي يهيء الطفل للإصابة أكثر، بأمراض مختلفة، كالتهابات الطرق التنفسية، وتحدد الرئة المزمن الذي يرتبط بترسب بروتين اللبن في بلاسما الطفل.. والتهاب الأذن الوسطى، لأن الطفل في الإرضاع الصناعي يتناول وجبته وهو مضطجع على ظهره، فعند قيامه بأول عملية بلع بعد الرضاعة ينفتح نفير أوستاش ويدخل الحليب واللعاب إلى الأذن الوسطى مؤدياً لالتهابها.

ووجدت أن الرضاع الصناعي يزيد حالات التهاب اللثة والأنسجة الداعمة للسن بنسبة ثلاثة أضعاف، عن الذين يرضعون رضاعة طبيعية، أما تشنج الحنجرة، فلا يشاهد عند الأطفال الذين يعتمدون على رضاعة طبيعية.

وقد وجدت بعد كل هذا أن هذه الفروق وغيرها ليست بسيطة، أو يمكن المرور عليها مرور الكرام، بل إنها مهمة جدا، وهي تفسر لنا نسبة الوفيات عند الأطفال الذين يعتمدون الإرضاع الصناعي عن نسبة وفيات إخوانهم الذين يرضعنو رضاعة طبيعية بمقدار أربعة أضعاف رغم كل التحسينات التي أدخلت على طريقة إعداد الحليب في الطرق الصناعية، وعلى طريقة إعطائه للرضيع..

بالإضافة إلى ذلك كله وجدت أن هناك فوائد نفسية واجتماعية كثيرة للأم ورضيعها بسبب تلك الرضاعة الطبيعية، فقد أكد علماء النفس أن الرضاعة ليست مجرد إشباع حاجة عضوية إنما هو موقف نفسي اجتماعي شامل، تشمل الرضيع والأم وهو أول فرصة للتفاعل الاجتماعي.

ففي الرضاعة الطبيعية يشعر الطفل بالحنان والحب والطمأنينة، ويحدث اندماج في المشاعر بين الطفل وأمه، وهذا يحدث من التصاقه بأمه أثناء الرضاعة، وخصوصا الرضاعة لفترة طويلة.. وبذلك تقوي العلاقة بين الطفل والأم عكس الطفل الذي يأخذ غذاءه عن طريق الرضاعة الصناعية، فهو محروم من الحب والحنان والشعور، ولهذا يكون دائما خائفا، وتكون العلاقة بينه وبين أمه مضطربة الى حد كبير مما يؤدي فيما بعد أو أثناء فترة الطفولة الى الاستعداد للإصابة بالأمراض النفسية المختلفة.

ولذلك وجدت أن الرضاعة الطبيعية تعتبر مناعة طبيعية ضد حدوث المرض النفسي والعقلي سواء في فترة الطفولة أو باقي مراحل الحياة.. ووجدت أن الأطفال الذين تم تغذيتهم عن طريق الرضاعة الطبيعية أكثر ذكاء، ويمتازون بسلوكيات سوية، مثل التعامل مع الآخرين والتفاعل الجيد والسليم مع المواقف المختلفة.. بخلاف الأطفال الذين كانوا يتعاطون الرضاعة الصناعية الذين كانوا أقل ذكاء، وأكثر توترا، وأقل تعاونا مع الآخرين.. وكانوا يعانون من بعض الأمراض النفسية مثل الحركة الزائدة، أو التخلف في بعض منهم والتردد والإصابة بالنزعات العصبية والأزمات وكذلك الأنانية والتمركز حول الذات والعنف والاندفاعية.

ووجدت بالإضافة إلى ذلك كله أن في الرضاعة الطبيعية فوائد اقتصادية كبيرة، لا على الأسرة وحدها بل على المجتمع أيضا، ولهذا رأيت حرص الشركات الكبرى الممونة للرضاعة الصناعية على إشهار منتوجاتها تحت عناوين مختلفة.

وقد قرأت حينها مقالا لأحدهم يذكر فيه هذه الناحية الخطيرة التي جلبتها الحضارة الحديثة للإنسانية، يقول فيه: (يعتبر مسحوق اللبن الصناعي صنفا محببا من أصناف الغذاء الذي تقدمه الدول الغنية إلى الدول التي تعاني من كوارث ومجاعات، ولكن المعارضة على هذه المعونات تتزايد لأنها تعيق استمرار الرضاعة الطبيعية التي تعتبر أفضل وسيلة لحماية الطفل، فاستخدام قارورة الرضاعة مرة واحدة قد يجعل الطفل يعاف الرضاعة من الثدي مرة أخرى، كما تتعرض هذه المساحيق بسهولة إلى التلوث أثناء تحضيرها نتيجة لتدني مستويات النظافة في المناطق المنكوبة، وهذا كله يعرض الأطفال في تلك المجتمعات الفقيرة للخطر، ويهدد بانتشار أوبئة الإسهال والنزلات الشعبية والرئوية القاتلة.. وعلى الرغم من توصيات خبراء التغذية بعدم التوسع في استخدامها، مازالت المجتمعات الدولية تقدم الألبان الصناعية كمعونات، وتعتبر منظمة الصليب الأحمر أكبر المنظمات التي توزع الألبان الصناعية في العالم، وأحد الأسباب الهامة وراء انخفاض معدلات الرضاعة الطبيعية كان بسبب برامج المساعدات الدولية في فترة الأربعينيات والخمسينيات) ([6])

***

سكت قليلا، ثم قال: لم يكن حليب الأم وحده سبب هدايتي مع أنه كان حقيقا بذلك.. ولكني ولكثرة ما غرس في عقلي وقلبي من شبهات كنت أعاني من تلك الخراسانة المسلحة التي وضعها في عقلي العلم الحديث المطعم بالإلحاد.. ولهذا رحت أستعمل كل معاول العلم الحقيقي لأحطم ذلك الجدار السميك الذي يحول بيني وبين إدراك حقائق الوجود.

لقد قلت في نفسي: فليكن هذا السائل العجيب بداية رحلتي للحقيقة.. فهل التوفير الذي وفر للرضيع في بداية نشوئه، خاص به أم أن مصمم هذا الكون تعامل مع الكل بهذا الاعتبار، فوفر له كل ما يحتاجه بالقدر الذي يحتاجه والنسبة التي يحتاجها والزمن الذي يحتاجه؟

وكان أول ما بدأت به ذلك الطعام الذي لا يستغني عنه أحد من المخلوقات الحية، وهو ذلك الهواء الذي نتنفسه، والذي لولاه لم تكن الحياة، ولم تستمر..

واسمحوا لي قبل أن أحدثكم عنه، أن أذكر لكم شريكي في البحث فيه وفي غيره.. بل شريكي في البحث عن الإيمان.. وهو صديقي العزيز [كريسى موريسون] الذي كان حينها يمارس أهم الوظائف العلمية في أمريكا، فقد كان رئيسا لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيسا للمعهد الامريكي لمدينة نيويورك، وعضوا للمجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، وزميلا في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي، وعضوا للمعهد الملكي البريطاني.. وكل هذه المراتب العلمية الكبيرة التي أتيحت له كانت بسبب أبحاثه الكثيرة والجادة في المجالات العلمية المختلفة.

قال لي في بداية التقائي به في أكاديمية العلوم بنيويورك، وهو يحاورني: لا شك أن لبن الأم قد أثار اهتمامك، وجعلك تتساءل تساؤلات فلسفية، لا صبغة علمية لها؟

قلت: كيف تقول ذلك.. ونحن نمزج في دراساتنا العلم بالفلسفة، بل نخلطهما خلطا عجيبا، لا يتسنى لأحد أن يتخلص منه بسهولة.. هذا إن استطاع أن يتخلص.

قال: كيف ذلك؟

قلت: ألسنا نعبر عن الحليب الصحي المتناسب مع طبيعة الإنسان وحاجاته باسم [الحليب الطبيعي]، بينما نعبر عن منتجاتنا في هذا المجال، والمملوءة بالثغرات بـ [اللبن الصناعي]؟

قال: وما في ذلك؟

قلت: ألم تتساءل عن سر نسبة الحليب الصحي المتناسب مع الإنسان إلى الطبيعة، بينما نسب الآخر للصناعة؟

قال: هم يعبرون عن ذلك لكون الطبيعة هي التي صنعته.. بينما الحليب الآخر نسب إلينا لأننا نحن ومصانعنا المتطورة هي التي قامت بذلك.

قلت: ومن الطبيعة؟.. وهل لها من الذكاء والقدرات العقلية والعلمية ما تستطيع تصميم مثل ذلك اللبن العجيب الذي عجزت عن تقليده مصانعنا المتطورة؟

قال: صدقت في هذا.. فنحن نهرب بنسبتنا الأشياء للطبيعة عن البحث عن منتجها الحقيقي..

قال لي ذلك، ثم أخذني إلى بعض المخابر، وراح يحدثني عن الهواء، ذلك الغذاء الأساسي الذي لا يستغني عنه الإنسان.. بل لا تستغني عنه الحياة.. وقال لي([7]): إن الأوكسجين هو نسمة الحياة لكل الحيوانات التي فوق الأرض، ولا يمكن الحصول عليه لهذا الغرض إلا من الهواء.. وهذا يدعونا إلى التساؤل عن سبب كون هذا العنصر ذي النشاط البالغ من الوجهة الكيموية، قد أفلت من الاتحاد مع غيره من العناصر، وترك في الجو بنفس النسبة تقريبا اللازمة لجميع الكائنات الحية؟

فلو كان الأوكسجين بنسبة 50 بالمائة مثلا أو أكثر من الهواء بدلا من 21 بالمائة، فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر.

ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 بالمائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور، ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان – كالنار مثلا – تتوافر له.. واذا امتص الأوكسجين الطليق، ذلك الجزء الواحد من عدة ملايين من مادة الأرض، فن كل حياة حيوانية تنقرض على الفور.

وقال لي، وهو يشير إلى غاز آخر: إن ثاني أوكسيد الكربون، من الغازات الضرورية التي تعتمد عليها الحياة، وهو يعلق بالأرض، ولا يتم فصله إلى أوكسيجين وكربون إلا بصعوبة كبيرة.. وعليه تعتمد حياة كل نبات.. فأوراق الشجر هي بمثابة رئات، ولها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني اوكسيد الكربون العنيد إلى كربون واوكسيجين.

وبتعبير آخر: يلفظ الأوكسجين ويحتفظ بالكربون متحداً مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره. وبكيمياء سحرية، يصنع من هذه العناصر سكرا أو سيلولوزا ومواد كيموية أخرى عديدة وفواكه وأزهاراً.. ويغذي النبات نفسه، وينتج فائضا يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه، يلفظ النبات الأوكسجين الذي نتنسمه، والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق.

وهكذا نجد أن جميع النباتات، والغابات والأعشاب، وكل قطعة من الطحلب، وكل ما يتعلق بحياة الزرع، تبني تكوينها من الكربون والماء على الأخص.. والحيوانات تلفظ ثاني اوكسيد الكربون، بينما تلفظ النباتات الأوكسيجين، ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأوكسجين أو كل ثاني اوكسيد الكربون، تقريباً، ومتى انقلب التوازن تماماً ذوي النبات أو مات الانسان، فيلحق به الآخر وشيكا.

وقد اكتشف أخيراً أن وجود ثاني اوكسيد الكربون بمقادير صغيرة، هو أيضاً ضروري لمعظم حياة الحيوان، كما اكتشف أن النباتات تستخدم بعض الاوكسيجين.

وقال لي، وهو يشير إلى غاز آخر: ويجب أن يضاف الهيدروجين أيضا، وإن كنا لا نتنسمه، فبدون الهيدروجين لا يمكن وجود الماء.. فالأوكسجين والهيدروجين وثاني اوكسيد الكربون والكربون.. سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة بعضها مع بعض هي العناصر الرئيسية لتكون الحياة.. وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة..

قلت: أليس من الغريب أن تجتمع جميع هذه الغازات الضرورية في محل واحد، وبنسب مضبوطة مع الحياة.. وأن تتوفر في نفس الوقت لجميع الكائنات الحية من دون بذل أي جهد في تحصيلها؟

قال: بلى.. إنه غريب جدا، فالاحتمالات المرتبطة بذلك لا تعد ولا تحصى.. والقول بأن كل ذلك جاء مصادفة من غير يد خارجية صممته مستحيل من الناحية العقلية استحالة تامة.. بل إنه قول يتحدى جميع العلوم الرياضية.

قلت، وأنا أبتسم: ولكن مع ذلك.. هناك غاز قد يشير إلى احتمالية ذلك.. فهو غاز موجود في الطبيعة بشكل كثيف وكثير من غير أن تكون هناك أي دواع لوجوده.. وبذلك قد يكون مبررا للقائلين بالعبثية والصدفة.

ابتسم، وقال: لا أشك أنك تقصد النتروجين؟

قلت: أجل.. ألست تراه لا أهمية له ولا ضرورة، لا للنبات، ولا للحيوان، ولا للإنسان؟

قال: لا تقل هذا أبدا.. فأنت تخطئ في حقه، وفي حق المصمم العظيم الذي صممه، فهذا الغاز لا يقل أهمية عن كل الغازات التي ذكرتها، ونسبته مضبوطة بدقة مثل سائر الغازات.. فهو يعمل كمخفف للأوكسيجين، ويخفضه إلى النسبة التي تلائم الإنسان والحيوان.. وهو يتوافر بقدر حاجتنا بالضبط، لا يزيد عنها ولا ينقص.

بالإضافة إلى ذلك، فإن النتروجين لو توافر بمقادير أكثر أو أقل مما هو عليه، لما أمكن أن تكون الحياة بهذا الشكل، ذلك أن هناك سلسلة من المواد الكيموية التي يجد النتروجين جزءا منها، والتي يمكن أن يقال عنها بصفة عامة أنها نتروجين مركب.. أي النتروجين الذي يمكن ان تتلقاه النباتات، أو النتروجين الذي يتكون منه العنصر النتروجيني في أغذيتنا التي بدونها يموت الإنسان جوعا.. وبدون النتروجين، في شكل ما، لا يمكن أن ينمو أي نبات من النباتات الغذائية.

***

وهكذا بقيت مع صديقي [كريسى موريسون] ننتقل من عنصر إلى عنصر، ومن مادة إلى مادة، وقد وجدنا أن الله تعالى بحكمته ورحمته ورعايته ولطفه بعباده وفر لهم كل ما يحتاجونه، وبدقة عالية لا يمكن تصورها.

لقد جعلنا ذلك نشهد أن لهذا الكون مصمما وخالقا وبارئا، وأنه من الخرافة والجهل عدم اعتبار ذلك.. وقد طرح علي صديقي موريسون حينها أن نشترك في كتابة كتاب يلخص أبحاثنا في هذا الجانب.. وأن نسميه [العلم يدعو للإيمان]، فطلبت منه أن يقوم بصياغته وبحثه، فهو صاحب المبادرة فيه.. وقد نفذ ما طلبته منه، وقال في مقدمته يذكر شهادته في هذا الجانب: (إن وجود الخالق تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة. وإن وجود الإنسان على ظهر الارض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون)([8])

 برهان التيسير:

بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن حدثكم صديقي وأخي عن [برهان التوفير]، وكيف خرج به من ظلمات الجهل والغواية إلى نور الإيمان والهداية.. فاسمعوا حديثي الذي لا يقل عنه عجبا.. وهو عن برهان من براهين العناية الرحيمة، أطلقت عليه اسم [برهان التيسير].. وهو برهان يدل على الله من كل الوجوه، وبكل المقدمات، وبجميع اللغات..

فالله برحمته لم يوفر لنا فقط كل ما نحتاجه، بل يسر لنا أيضا تناوله والحصول عليه والاستفادة منه بطرق عجيبة غاية في الدقة والجمال.

لست أدري ما أقول لكم حول الجديد الذي سأذكره في قصتي إضافة لما ذكره أخي وصديقي صاحب [برهان التوفير]، ذلك أن نفس ما عرض له عرض لي، ونفس الطريقة التي قام بها في البحث قمت بها، ونحن لا نختلف إلا في الصديق الذي لقيه هو، والصديق الذي لقيته أنا.. أما هو فقد لقي عالما غربيا.. وأما أنا فقد لقيت عالما عربيا.. وأنتم تعلمون أن العلم لا وطن له.. والحقيقة لا جنسية لها.

عندما لقيته في ذلك الوقت، وكنت مشحونا من رأسي إلى قدمي بتلك المادية المقيتة التي حفظناها في المدارس كما نحفظ جدول الضرب.. وكنت حينها منشغلا بالاضطرابات السياسية التي أصابت العالم، فكدرت عليه صفوه، وجعلته يستعلي بعضه على بعض، ويظلم بعضه بعضا.. قال لي وهو يحاورني: دعني من سياسة العالم، وهلم بنا نبحث في سياسة الجسد.. لنرى عجائب التنظيم المودعة فيه.. فلعلنا نجد في نظام الجسد ما يحفظ نظام العالم.

قلت: وهل هناك سياسة في الجسد حتى نستفيد منها في سياسة العالم؟

قال: لو لم تكن في الجسد سياسة وتنظيم، لما قام لحظة واحدة.

قلت: ها أنا أستمع.. فحدثني.

قال([9]): يمكن تشبيه الجسم إلى حد بعيد بالأمة والدولة.. فالخلايا هي أفراد الشعب العامل.. وتجمع الخلايا في عمل واحد يشبه المديريات والمؤسسات.. والاختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما.. فالجهاز العصبي المركزي هو بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة، المخلصة، العاقلة، العالمة، والجسم كله يمثل الشعب المتفاني في الطاعة وتقديم الولاء.

قلت مبتسما: وجهاز الدوران.. ما هي الوزارة التي سلمتها له؟

قال: هو يجمع بين خاصية نقل الغذاء والاكسجين إلى الأنسجة العطشى الجائعة وإرجاع بقايا الاحتراق ونفايات الغذاء، فهذا الجهاز يعبّد الطرق، ويشق الممرات ويحس الوصل.. ولذا فهو أشبه بوزارة المواصلات.

قلت: والجهاز الهضمي؟

قال: هو ينقل إلى الأمعاء النشويات والبروتينات والدسم والماء والأملاح المعدنية والفيتامينات، ويلقي الفضلات والقمامة التي لا يحتاجها البدن، ولذا فإن هذا الجهاز أشبه بوزارة التموين في الجسم.

قلت، وكأني أريد أن أتحداه: والغدد العرقية؟

قال بهدوء، وكأنه أعد الإجابة إعدادا: هي أشبه بوزارة السياحة والاصطياف لأنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته.

قلت: والجلد واللحف([10]) والأظافر والاشعار؟

قال: هي تمثل الانسان من الخارج، فهي أشبه بوزارة الخارجية!

قلت: وجهاز التنفس؟

قال: هو يأتي بالغازات الضرورية للبدن مثل الاكسجين، ويطرح غاز الفحم، وهكذا يتصفى الدم من الكدر، ولذا فهو أشبه بوزارة الاقتصاد لأنه يستورد ويصدر.

قلت: والعضلات والمفاصل والعظام؟

قال: هي أشبه بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش، لأنها تدافع عن الانسان كما تقوم بالهجوم إذا لزم الأمر.

قلت: والكبد؟

قال: هو مركز الجمارك العام، لأن كل ما يرد إلى البدن من الطريق الهضمي يمر فيه حيث يبعد المشتبه به، ويدخل المرغوب فيه، كما يعدل الشيء المشكوك به ويرسل معه مراقباً حتى يلقيه خارج الحدود عن طريق الكلية، وهو ما يعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلو كوروني، لأن هاتين المادتين تترافقان مع المادة التي ستطرح إلى الكلية.

قلت: والطحال؟

قال: هو المقبرة الموحشة للكريات الحمر، لأن الكرية لا تعيش أكثر من شهرين وسطياً حيث تنقل إلى الطحال وتواري مثواها الأخير..

قلت: والنخاع الموجود في باطن العظام وأماكن أخرى متناثرة في الجسم؟

 قال: هو أشبه ما يكون بوزارة الصناعة لأنه يصنع الكريات الحمر والبيض والصفيحات، وعناصر أخرى كثيرة.

قلت: والجهاز البولي؟

قال: هو أشبه بوزارة الداخلية، لأنه يطرح العناصر غير المرغوب فيها خارج الحدود، ويحافظ على نظام البدن الداخلي حتى يتزن ولا يتقلب، كما ينظم السوائل الداخلة والخارجة حتى لا يحصل العبث بالنظام الداخلي، ولذا فهو مصفاة البدن الكبيرة والمحافظة على الاتزان الداخلي.

قلت: والحواس؟

قال: هي امتدادات وزارة الخارجية.. أي الجلد.

قلت: واللسان وأعضاء التصويت؟

قال: هي وزارة الإعلام التي تذيع الأخبار وتبث الأحاديث، وتنقل الأفكار والمفاهيم، والإذاعة هي مراكز التصويت المتجمعة في الحبال الصوتية والحنجرة وغضاريفها، واللسان وعضلاته، والجمجمة وحفرها، والشفة ومقدم الفم.

***

لقد كان حوارنا هذا مقدمة لحوارات كثيرة جعلتنا نخرج من عالم الإنسان المحدود إلى عالم الوجود اللا محدود.. لقد جعلنا هذا نتساءل عن سر ذلك التيسير الذي توفر لكل شيء حتى يعيش حياته بأحسن ما يرام، من غير تكلف ولا عنت إلا العنت الذي يجلبه لنفسه.

من تلك الحوارات التي جمعتني مع صديقي الطبيب [خالص جلبي]، والتي جمعها بعد ذلك في كتاب خاص سماه [الطب محراب للإيمان] هذا الحوار، وهو يوضح بدقة البرهان الذي ذكرته لكم [برهان التيسير] بإعطاء نموذج عنه، وهو تيسير حصول الإنسان على غذائه من الطبيعة.. لأن التوفير وحده لا يكفي ما لم يكن هناك تيسير.

قال لي، وهو يحاورني: ألم تتساءل كيف يستطيع الإنسان أن يتغذى بكل هذه الأنواع، من الأطعمة، من الماء الى الخبز الى اللحم إلى الفاكهة الى الخضراوات.. وكيف تهضم أمعاؤه كل هذه الأصناف المتباينة من الأغذية؟.. كيف تهضم المشوي والمقلي والمسلوق؟.. وكيف تهضم المطبوخ والنيء؟.. وكيف تتقبل وبنفس الوقت المالح والحامض والحلو والمر؟.. ثم كيف تتحول هذه الأغذية الى طاقة تحرك البدن، ومواد ترميم، وخامات تصنيع جديدة؟

قلت: بلى.. لقد تساءلت كثيرا عن ذلك..

قاطعني، وهو يقول، وكأنه لم يسمعني: لننظر في الأسنان والشفاه والفم، وكيف ركب بشكل مدهش لتقبل الطعام.. فالأسنان منها القواطع والثنايا الأمامية لتقطيع الطعام، ومنها الأنياب لتمزيق اللحم والأشياء القاسية، والأضراس في كل جانب لطحن وجرش المأكولات، بحيث أن اللقمة تنقلب إلى عجينة عندما تصل إلى المري والمعدة.

التفت إلي، وقال: وهل تعرف دور الغدد اللعابية في هذه العملية؟

قلت: لا.. فما دورها؟

قال: هذه الغدد تفرز المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات، وتبلل الطعام، وتبلل الحلق ويصل إفرازها اليومي إلى قرابة اللتر، والخميرة التي تهضم النشا يبقى تأثيرها حتى الساعة والنصف.. ولولاها لتأخر امتصاص النشويات، كما تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر بطعمها، وهكذا نشعر بطعم المواد ومذاقها، كما تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل بلعها، وفي تليين الغذاء فيسهل مضغه، كما تقوم هذه المفرزات بتعديل المواد الداخلة الى الفم فيما إذا كانت ضارة أو حارة أو باردة، كما تقوم بجرف الخلايا المتوسفة وبقايا الأغذية والجراثيم.. وهكذا تفعل هذه الغدد كما تفعل أمانة البلدية في تنظيف هذه الأماكن وتطهيرها، كما تعتبر مشعراً في العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر الإنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء.

التفت إلي، وقال: ألا ترى كيف اجتمعت كل هذه الوظائف في هذا اللعاب العجيب، فهو المنظف، والمطهر، والمعدل، والمرطب، والمزلق، والملين، والحامي، والمبلل، والمذوق، والمحلل، والمشعر، وجرس الانذار في الفم.. إنها عشرات الوظائف في سائل واحد في الفم ناهيك عن المواد المتعددة الداخلة في تركيبه من الماء والمعادن والأملاح والقلويات والخمائر.

سكت قليلا، ثم قال: هل تعرف دور المعدة في الطعام؟

قلت: ذلك مما يشترك الجميع في معرفته.

قال: بل ذلك مما يشترك الجميع في الجهل به.. فهم يتصورون عملية الهضم عملية سهلة بسيطة، بينهما هي من أعقد العمليات التي لا تستطيع مصانعنا مهما تطورت أن تقلدها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأبدأ لك من الأول.. عندما يصل الطعام إلى المعدة ينفتح الفؤاد على مصراعيه لدخول اللقمة الطعامية، وتتسارع غدد المعدة لفرش المكان لاستقبال الضيف، وينهمر المخاط المزلق، والحمض والخمائر، ومواد أخرى ليبدأ التفاعل التاريخي لهضم الطعام.. فجدار المعدة مفروش بخمسة وثلاثين مليون غدة، فيها أربعة أنواع من الخلايا، وتفرز هذه الخلايا مواد متباينة منها خميرة المعدة المسماة بالببسين، وحمض كلور الماء، والمخاط، وهكذا يتهيأ ربط المعدة بالحمض، كما يتسارع تفاعل هضم الطعام، ويزداد تحلله.. وهكذا ينقلب إلى ما يسمى بالكيلوس بعد أن تعمل به خمائر الهضم الموجودة في المعدة، ويتهيأ الطعام لدخول الأمعاء الدقيقة حتى يمتص ويرسل إلى مركز الجمارك العام وهو الكبد.

قاطعته، وقلت: أجبني.. لم تهضم المعدة اللحم وهي لحم، ولكنها لا تهضم نفسها؟

قال: السر في ذلك يعود إلى المخاط الذي تفرزه ملايين الغدد المستقرة في جدار المعدة، وهو إما أن يحوي مادة معدلة تحمي المعدة أو تحدث فراشاً داخلياً يغطي جدار المعدة كله من الداخل.

قلت: لقد وصلنا بالطعام إلى المعدة، وقامت بهضمه، فما الذي يحصل بعد ذلك؟

قال: بعد أن يصل الطعام إلى المعي الدقيق تتدفق عليه عصارات قادمة من الكبد والمعثكلة لهضم الطعام وتحليله الى عناصره الأولية.. وهكذا يتحلل السكر والبروتين والدسم وغيره، ثم تنشأ عمليات معقدة تشترك فيها عشرات الخمائر من أجل ايجاد الصيغة المناسبة لوضع المواد حتى يمكن ادخالها من زغابات الأمعاء.. وحينذاك ننظر فنرى بستاناً عجيبا من الزغابات، وهي تتراقص على طول نفق الامعاء، وكأنها السنبل الأخضر تداعبه النسمات الرخية، ويبلغ هذا الحقل السحري من الزغابات رقماً عجيباً حيث يوجد في السنتمتر المربع الواحد ثلاثة آلاف زغابة، مع العلم أن طول هذا النفق يبلغ ثمانية أمتار، ويفرش سطحاً يبلغ (48) ثمانية وأربعين متراً مربعاً، أي إن عدد الزغابات يصل في المعي الرقيق (1440) مليون زغابة معوية، ويقع خلفها سطح دموي يبلغ (11) متراً مربعاً ومعه أمتار مربعة من اللنف، لأن العرق اللنفاوي هو الذي ينقل الدسم بشكل رئيسي، وكل زغابة معوية عالم بذاته فهي مؤلفة من شريان ووريد دموي وعرق لنفاوي، كما يوجد على سطحها الخارجي المطل على لمعة المعي طبق من العصيات الصغيرة المترابطة التي تقدر بـ (3000) في كل خلية أي يبلغ عددها في (الملم 2 الواحد) الملمتر المربع الواحد (200) مليون فكم ستبلغ في سطح الامعاء كلها؟!

قلت: فما الذي يحصل بعد ذلك؟

قال: من هذا المكان يتحول الطعام إلى سائل من نوع خاص حتى يمتص، وهنا ترتب جوازات السفر حتى يمكن عبور الغشاء المخاطي، والدخول إلى الزغابة المعوية، وبالتالي إلى الدم الداخلي حتى يمكن الوصول إلى الكبد، لأن الأوردة التي تنقل محتوى الأغذية المختصة من الأمعاء تنقل بواسطة الوريد الباب، وهذا يصل أولاً إلى الكبد مركز الجمارك العام.

قلت: فما الذي يحصل هناك؟

قال: الكبد عبارة عن غدة تزن كيلوغرام ونصف، وهي تقوم بما يصل إلى سبعين وظيفة من وظائف الجسم الهامة، والتي بدونها لا يعيش الجسم أكثر من ساعات محدودة معدودة.. ففي هذا المركز مستودعات التخزين العظيمة للسكر والبروتين والدسم والماء والدم والفيتامينات.. وهذا التخزين متحرك، وليس بثابت، فالمواد في حركة دائمة وتبدل دائم.. كما أن فيه تحولات مدهشة، فالسكر عندما يخزن يكثف إلى الغليكوجين، كما ينحل إلى غلوكوز عندما يراد إطلاقه إلى الدوران، وهذا الاختزان عجيب في تنوعه، فالمستودعات العادية لا يمكنها أن تخزن الجوامد والسوائل وبقرب بعضها البعض، بينما يقوم الكبد بتخزين السكر والبروتين والدسم والماء والدم والأملاح والفيتامينات وبشكل محوّر، وقدرة الكبد في اختزان الدم تجعله احتياطياً محترماً في حالات احتياج البدن للدم، كما تجعله يتدخل في تنظيم كتلة الدم الجوّالة في الدوران، وبالتالي في ضغط الدم.

وأما عمليات التكوين فهي أغرب، فمن الكبد يتم تصنيع بروتينات الدم، والأجسام الضديه والعوامل المتدخلة في تخثر الدم.. وكلها ضرورية للجسم لا يمكن الاستغناء عنها، فمثلاً نجد من وظائف الكبد تكوين [البورترومبين، والهيبارين].. ومن اتزان هذين العنصرين ينساب الدم في العروق كأفضل ما يكون، وينقل الغذاء والأكسجين، ويعود حاملاً غاز الفحم وفضلات الاحتراق، ولو زادت نسبة أحد هذين العنصرين بمقدار طفيف جداً لكان هذا معناه تخثر الدم، أي تجلطه وانقلابه إلى أشبه ما يكون بالوحل، كما أن العكس يجعل الدم في ميوعته كالماء.. وبهذا الاتزان البديع ينساب الدم في مجاريه محتفظا بلزوجته، قائماً بوظائفه.

قلت: لقد ذكرت أن الكبد يقوم بدور الجمارك.

قال: أجل.. حيث أنه يصطاد الجراثيم والصباغات والمواد السامة.. وهو لأجل ذلك يفتش الدم القادم، فيبعد المشبوه ويمرر الطبيعي، فإذا ما لوحظ أن هناك من يبعث بالنظام تصدى له بطرق يعجز عنها أعقل العقلاء.. وهذه العملية تسمى بتعديل السموم، فالسموم الداخلة إلى البدن يقوم الكبد بإيقاف أذاها بعدة طرق، منها الاعتقال والقاء القبض على المجرم الضار حيث توضع في يديه الأقفال ويرسل مخفوراً إلى المراكز التي تتولى طرحه خارج البدن، وهي ما تعرف بالازدواج الكبريتي أو الغلوكوروني، أو الازدواج مع الحمض الأميني.

بالإضافة الى هذا توجد الشبكات المنتشرة في الكبد التي تصطاد الجراثيم والاصبغة، وهي أشبه بدوريات الشرطة التي تقف عند المراكز الحساسة، وهكذا يتخلص البدن من أذى السموم والجراثيم والأصبغة.

هذا جزء بسيط من رحلتي مع صديقي [خالص جلبي] في البحث في هذا البرهان.. برهان التيسير.. وقد كان من نتائج تلك البحوث تنور قلوبنا بالإيمان، وقد كان الطب هو المحراب الذي وصلنا به إلى أعظم هدية من الله لعباده: هدية الإيمان.

برهان التطوير:

بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه، قام آخر، وقال: بعد أن حدثكم صديقي وأخي عن [برهان التيسير]، وكيف خرج به من ظلمات الجهل والغواية إلى نور الإيمان والهداية.. فاسمعوا حديثي الذي لا يقل عنه عجبا.. وهو عن برهان من براهين العناية الرحيمة، أطلقت عليه اسم [برهان التطوير].. وهو برهان يدل على الله من كل الوجوه، وبكل المقدمات، وبجميع اللغات..

فالله برحمته لم يوفر لنا فقط كل ما نحتاجه، ولم ييسر لنا فقط كل ما نتناوله، وإنما أيضا وفر لنا من القدرات، وأعطانا من الطاقات، ورزقنا من المواهب ما نطور به أنفسنا، فنخرج به من عالمنا الحدود إلى عوالم أوسع وأكبر، وهذا ما لم يتوفر في أي صناعة من صناعات الدنيا، فلم نر في حياتنا دراجة تتحول إلى سيارة، أو سيارة قديمة تتحول إلى سيارة جديدة.. وهكذا نرى الفرق الكبير بين صنعة الله وصنعة خلقه.

بداية قصتي تنطلق من مخبري البيولوجي المتطور الذي كنت أعمل باحثا متخصصا فيه، وقد استرعى انتباهي حينها ([11]) تلك المادة العجيبة المسماة [الكولسترول]، التي يصنعها الجسم البشري، فهي ـ مع كونها في الأصل ـ مادة شحمية دسمة، تدخل ضمن دسم البدن.. والأصل فيها كأي مادة أن تبقى كذلك..

لكنها لا تفعل.. بل تظهر بصور مختلفة بحسب الحاجة، وكأنها كائن عاقل يعرف ما يفعل بالضبط.. ولذلك رأيتها تتحول في كل لحظة إلى مركب جديد وشخصية جديدة، فهي تارة كولسترول في الدم بشكل مادة شحمية إذا ترسبت على جدران الأوعية الدموية سببت ارتفاع الضغط.. وتارة بشكل ينافي ذلك تماماً مع أن البناء الكيمياوي واحد في كلا الحالتين.. ولكن تتغير بعض ذرات البناء فقط، فإذا بهذا المركب يصبح هورموناً يعطي صفات الذكورة كلها من توزع الشعر في البدن وخاصة الوجه، وغلظ الصوت، وشدة العضلات.. وغيرها.. وبينما هو يمارس تلك الوظيفة إذا بتحولات بسيطة تطرأ على بعض ذراته، فإذا به ينقلب بشكل عجيب ليصبح هورموناً أنثوياً يعطى للأنثى كل صفات الأنوثة من توزع الشعر، ورقة الجلد، ونعومة الصوت، وضعف العضلات.. وغيرها.

ولا تكتفي هذه المادة العجيبة بكل تلك التحولات، بل إنها تمعن في الغرابة حين تتحول إلى منتج جديد تماما هو [فيتامين د] الذي يلعب دوراً مهماً في امتصاص الكلس من الأمعاء، وترسيبه على العظام، وبناء العظام وتمتينها حتى يتسنى للإنسان أن يعتمد على هذا الهيكل.. وكل ذلك بسبب تغيير جديد بسيط في هذا المركب ينسجم مع حاجة الجسم..

ولا تكتفي بذلك، بل إنها تتحول إلى حموض صفراوية تفرز من الكبد، لتسهل امتصاص الأغذية من الأمعاء، وتقلب الخمائر في الأمعاء من شكل خامل هادىء إلى شكل فعال نشيط.

ولا تكتفي بذلك، بل إنها تتحول إلى أهم هورمونات قشر الكظر الذي يحبس الملح والماء في الجسم.. وتتحول إلى مركب يشد عضلات القلب ويقويها.

وهكذا رأيته يتحول من مادة دسمة.. إلى هورمون.. إلى فيتامين.. إلى حمض صفراوي.. إلى مادة تقوي القلب.. وكل هذه التحولات جعلتني أمتلأ بالعجب.. فكيف لهذه المادة أن تفعل كل هذه الأفعال وتتحول كل هذه التحولات.. وتحت إدارة من؟.. تحت إدارة الطبيعة التي كنت أؤمن بها في ذلك الحين.. وكيف تفعل الطبيعة ذلك؟.. وهي مجرد قوانين لا مقنن لها.. وأعمى لا قائد له.

***

كانت تلك المادة هي أول مرحلة لي في البحث عن الله.. وقد جعلتني أتأمل الكثير من الظواهر الموجودة في جسم الإنسان أو جسم الكون جميعا، فوجدت أنها جميعا تتفق مع تلك المادة في تلك التحولات والتطورات المنظمة والهادفة والغريبة.

وكان من أغرب ما رأيته.. والذي يستحيل تفسيره تفسيرا ماديا مهما أوتينا من قوة الجدل والدجل [العقل البشري]([12]) الذي لم يكتف بتشيدد الأهرام بمضاعفة القوة الفردية.. ولكنه اكتشف الرافعة والطنبور، والعجلة، والنار، وجعل حيوانات الحمل مستأنسة، وأضاف اليها عجلته، وبذلك أطال في ساقيه، وقوى من ظهره..

ولم يكتف بذلك، بل تغلب على قوة سقوط الماء، وتحكم في البخار والغاز، والكهرباء، وحول العمل اليدوي إلى مجرد السيطرة على الأجهزة الميكانيكية التي هي من مستحدثات عقله..

وهو في انتقاله من مكان إلى مكان فاق الظبي في سرعته.. وحين ركب أجنحة لعربته سبق الطيور في طيرانها.. فهل حدث ذلك كله عن طريق تفاعل في المادة وقع مصادفة؟

أذكر جيدا أني ذهبت بتلك الحيرة إلى صديق لي، كان هو الآخر ملحدا وماديا وطبيعيا لا يؤمن بالغيب، ولا بالإله، لكني عندما ذكرت له ذلك، راح هو الآخر يبدي له استغرابه مما لاحظه في مجال تخصصه، وقد كان متخصصا في علم [وظائف الأعضاء]

قال لي، وهو يحاورني، وقد امتلأ بالدهشة([13]): لست أدري ما أقول لك.. لقد ألفت كتب كثيرة في فيزيولوجيا الهضم.. لكن كل عام يأتي باكتشافات جديدة مدهشة تجعله جديدا دائما.. وتجعلنا نرى هذا الجهاز من أخطر أجهزة الدنيا، وأشدها تعقيدا وغرابة.. فنحن نلقي الطعام الذي نأكله إلى هذا الجهاز، ثم نغفل عنه وننام، بينما يعمل هو بكل الوسائل العاقلة ليحول من ذلك الطعام الغفل إلى مواد ينتفع بها الجسم، ثم يطرح ما لا يحتاجه منها.

انظر إلينا، وكيف نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي.. وندفعها بأي قدر من الماء، ثم نختمها بأي مشروب أو فواكه أو حلويات.. وقد نضيف إليها أدوية وعقاقير غاية في التعقيد.. ومن بين كل هذا الخليط، تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيمياوية، دون مراعاة للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة تصبح غذاء لمختلف الخلايا..

ثم تختار أداة الهضم الكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية، وتعني بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان انتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة.

وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله.

التفت إلي، وقال: إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيمياوي، بصرف النظر كلية تقريباً عما تناوله، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية لإبقائنا على قيد الحياة.

وحين تتحلل هذه الأطعمة، وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض.. ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمراً، وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعنية لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وعينين وأسنان كما تتلقاها الخلية المختصة.

سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى أننا أمام معمل كيمياوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الانسان الممتلئ بالغرور؟.. ألا ترى أننا أمام نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم، ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام، ومنذ الطفولة إلى الشيخوخة لا يخطئ هذا المعمل خطأ ذا بال، مع أن المواد نفسها التي يعالجها يمكن أن تكون بالفعل أكثر من مليون نوع من الجزيئات، وكثير منها سام؟

***

عندما قال لي هذا سرت معه إلى صديق لنا كان طبيب أعصاب، وبثثنا له شكوانا من تلك الفلسفات التي درسناها، والتي صورت لنا كل شيء على أنه مولود للطبيعة، وابن لها، مع كونها عدما محضا.. في نفس الوقت الذي نفتخر فيه بمنجزات باهتة لا يمكن أن تساوي معملا بسيطا من المعامل التي تشتغل في جسم كل إنسان ليل نهار دون كلل أو ملل.

عندما قلنا له هذا بدا عليه التأثر الشديد، وقال([14]): أجل.. لقد اكتشفت أننا ضحايا لخدعة كبرى.. فنحن الذين نزعم لأنفسنا العلم نتعامل بكل أنواع المكاييل المزدوجة مع الكون ومدبره، حيث نعطي لأنفسنا وجراء أعمال بسيطة الحق في حفظ براءة اختراعنا وتسجيله بأسمائنا وصفاتنا.. بينما إذا عدنا لمنتجات هذا الكون البديعة، والتي تستدعي مبدعا رحنا نرميها بالعشوائية والصدفة والعبثية والعدمية.. وكل أنواع الهرطقات الفلسفية التي تصرفنا عن حقيقة الأمر.

سكت قليلا، ثم قال: لا تستغربوا مما أقوله.. فما أراه كل يوم من مشاهدات لا يدل إلا على هذا.. انظروا إلى جسم الإنسان.. هذا الجسم المعجزة الذي لا يمكن فك ألغازه.. انظروا في الخلايا العظمية، والنسج، والعضلات، والأجهزة، حتى الشعر، وأي خلية في الجسم ترونها تتبدل من خمس إلى سبع سنوات.. أي أننا بعد كل سبع سنوات نرى إنسانا آخر بخلايا جديدة، وبجسم جديد..

وضع يده على صدري بهدوء، وقال: انظر.. ليس في جسمك خلية واحدة قديمة، فعظمك يتبدل، وجلدك يتبدل، وشعرك يتبدل، وأقصر عمر خلية في جسم الإنسان خلية بطانة الأمعاء، الزغابات تتبدل كل ثمان وأربعين ساعة، أي في كل ثمان وأربعين ساعة هناك زغابات جديدة، وأطول هذه الخلايا تعيش سبع سنوات، أو خمس سنوات، معنى ذلك أنك تتبدل تبدلا جذريا كل سبع سنين على الأكثر..

أطلق يده عني، وسار في القاعة قليلا، وهو يقول: تصوروا لو أن هذا التبدل حصل في خلايا الدماغ المرتبطة بالذاكرة..

وضع يده على صدر صاحبي، وراح يقول له مخاطبا: حينها سيتبدل دماغك.. وحينها ستنسى اختصاصك.. وستنسى حرفتك.. وستنسى معارفك.. وستنسى أولادك.. وستنسى خبراتك.. وستنسى ذكرياتك.. وستنسى زوجتك وأولادك.

انظروا إلى هذا العجب الذي يفرضه علينا أولئك الكهنة الذين يرفضون وجود المبدع المصمم العظيم الذي يدل عليه كل شيء.. إنهم يلقوننا في جحيم الجنون، وهاوية العبث.

***

عندما قال لنا هذا سرنا جميعا إلى صديق لنا كان عالم حيوانات، وبثثنا له شكوانا من تلك المادية التي ملئت بها عقولنا، والتي وجدنا في تخصصاتنا ما يدل على استحالتها.

عندما قلنا له هذا أشار لنا إلى قفص كان أمامه، وكان فيه خفاش.. وقال: ما ذكرتموه لي عن الكوليسترول والمعدة والدماغ رأيته هنا في هذا القفص.. فالخفاش الذي ترون من عجائب هذا الكون التي لا يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا([15]).

لقد رأيت فيه من الطاقات والقدرات ما ملأني بالعجب([16]).. فمقدرة الخفاش على تحديد هدفه عن طريق الصدى أمر يثير الدهشة والاستغراب.

لقد اكتشفت ـ من خلال سلسلة كبيرة من التجارب قمت بها أنا وزملائي ـ أنه يستحيل أن تفسر تلك القدرات تفسيرا ماديا ولا بيولوجيا ولا تطوريا..

سأحكي لكم عن بعض التجارب التي أجريناها عليه.. منها ـ مثلا ـ أننا ـ وفي بداية بحثنا عن أدواته الإدراكية ـ تركناه في غرفة مظلمة تماماً، ووضعنا ذبابة في إحدى زوايا الغرفة كفريسة له.. وضعنا كاميرا ليلية لمراقبة الوضع.. وما إن بدأت الذبابة بالطيران حتى تحرك الخفاش بغاية الخفة نحوها، وانقض عليها.. فاستنتجنا من هذا أن الخفاش يتمتع بحاسة إدراك حادة جداً حتى في الظلام الحالك.

لكنا رحنا نتساءل: هل حاسة الإدراك هذه لها علاقة بحاسة السمع؟ أم أن هذا المخلوق يرى في الظلام؟.. للإجابة على ذلك قمنا بتجربة أخرى، فوضعنا يُسروعين في زاوية من زوايا الغرفة نفسها وغطيناهما بصحيفة، وعندما أطلق الخفاش لم يُضِعْ وقتاً في رفع الصحيفة والتهام اليُسروعين.. فأدركنا أن مهارة الخفاش لا علاقة لها بحاسة الرؤيا.

ثم رحنا نقوم بتجربة جديدة في دهليز طويل، حيث وُضِعَ خفاش في إحدى الزوايا ومجموعة من الفراش في الزاوية الأخرى. وضعت حواجز متعامدة مع الجدران الجانبية، يحتوي كل منها على ثقب كبير بما يكفي لمرور الخفاش منه، ولكن هذه الثقوب لم تكن متعاقبة، بل كانت موجودة في كل حاجز بمكان يختلف عن الآخر، أي أنه يتوجب على الخفاش أن يسلك طريقاً متعرجاً ليجتازها.. وبدأنا المراقبة.. فرأينا أنه بمجرد تحريرنا للخفاش في هذا الدهليز الغارق في الظلام حتى وصل إلى الحاجز الأول، ثم تمكن من اجتياز الثقب بسهولة.. وهكذا لم يتمكن الخفاش من تحديد الحاجز فحسب، بل من تحديد مكان الثقوب أيضاً، وبعدما اجتاز الثقب الأخير كان الخفاش قد ملأ معدته بصيده الثمين.

لقد صعقنا لما شاهدناه.. لكنا رحنا نجري تجارب أخرى أكثر طرافة، منها أننا جهزنا نفقا طويلا مظلم بأسلاك فولاذية يبلغ قطر كل منها 0,6ملم تتدلى بشكل عشوائي من السقف.. وقد رأينا الخفاش يتابع رحلته دون أن يلمس أياً من هذه العوائق على الرغم من ضآلتها.

وقد اكتشفنا من خلال هذه التجارب وغيرها أن لدى الخفاش قدرة معجزة على الإدراك تتعلق بنظام تحديد الصدى لديه، حيث يتمكن بواسطته من تحديد خارطة البيئة التي يوجد فيها من خلال الانعكاسات الصوتية التي تصدر عن الأشياء، والتي لا يمكن للأذن البشرية أن تتحسسها.. وهذا يعني أن إحساس الخفاش بالذبابة كان بسبب الأصوات التي انعكست منها إليه.

وبموجب ذلك عرفنا أن نظام صدى الصوت عند الخفاش يسجل كل نبضات الأصوات الصادرة، ويقارن الأصوات الأصلية مع الصدى العائد، ويقدم الوقت الفاصل بين توليد الصوت الصادر واستقبال الصدى الوارد تقييماً دقيقاً عن المسافة الفاصلة بين الخفاش والهدف.

التفت إلينا، وقال: هذا مثال بسيط عن بعض قدرات هذا الكائن العجيب.. وأرى أنه آية من الآيات ومعجزة من المعجزات التي تدعونا إلى البحث عن مصممها العظيم الذي لا يمكن تصور عظمتها.. فالطبيعة والمادة والصدفة والتطور كل ذلك لا يفسر لنا الحقيقة التي يحتوي عليها دماغ هذا المخلوق العجيب.

***

عندما قال لنا هذا سرنا جميعا إلى صديق لنا كان عالم نفس، وحدثناه عما رأينا من العجائب، وطلبنا منه أن يعطينا تفسيرا لها.. فقال: وهل أكذب عليكم حين أدعي أنه في إمكاني أن أعطيكم تفسيرا لها.. فأنا أيضا ممتلئ عجبا مثلكم.. وأرى أن كل الأطروحات التي فسر لنا بها الكون ممتلئة بالدجل والكذب والتزوير.. فهذا الكون يستحيل أن يقوم وحده.. فكل الأدلة تدل على أنه تحت إدارة إله حكيم قدير لا يمكن تصور عظمته.

سكت قليلا، ثم قال([17]): بما أنكم حدثتموني على ضوء اختصاصاتكم، فسأحدثكم على ضوء اختصاصي، فقد رأيت أن التصور من أعجب طاقات الإنسان التي لا يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا.. فالإنسان ـ باستعماله لتصوره ـ يسافر على الفور إلى حيث يشاء.. والخطيب قد ينتقل بسامعيه إلى حيث يريد.. فهو إذا وصف جزيرة مرجانية من جزر الهند الشرقية انتقل ذهنه وأذهان سامعية إلى تلك الجزيرة.. فإذا بهم يرون بأذهانهم سلسلة صخور مرجانية تحيط بها، ويرون الشاطئ المرجاني، وتغيرات لون المحيط، والسماء المطلة عليها، والنخيل التي تهزها الريح، وجزيرة في الوسط في حلة قشيبة من نباتات المناطق الحارة.

وهكذا قد يصف لهم البحيرة الرائقة، وهي زرقاء مثل صفحة السماء، صافية كالمرآة، واذا انتقل به الفكر إلى أبعد من ذلك، فقد يرى سامعوه أعماق تلك البحيرة.

سكت قليلا، ثم قال: لقد اكتشفت أن قوة التصور هي مصدر سعادة للطفل.. حيث أنه يستخدمها في لعبه كما يحلو له.. وما عليكم إلا أن تطلعوا على ما يعتقده الأطفال في نفوسهم حين اللعب معا.. فالغلام الذي يحمل على كتفه بندقية من الخشب، قد يعتقد أنه جندي بالفعل.

لا تتوقف فائدة ذلك عند الطفل.. فالتعليم والتجربة والبيئة والمهارة، كل أولئك قد تحيل الخيال الرائع إلى قطعة فنية، سواء أكانت رواية تمثيلية أم قطعة موسيقية أم لوحة رسم أم جهازا دقيقا.. والأفكار إنما هي بنات التصور، فهي اذن أسس العبقرية، وأعظم نتاج العقل البشري.

عندما قال لنا هذا، سألناه عن سره، فقال: دعوني من التفسيرات التي درسناها وحفظناها وبسببها رقينا في وظائفنا.. دعونا من كل ذلك.. وهلم بنا نبحث عن الحقيقة من بابها الصحيح، لا من أبوابها العشوائية.

قلنا: ما جئناك إلا لذلك؟

قال: هل رأيتم في حياتكم آلة تتطور من تلقاء ذاتها، لتتحول إلى آلة أخرى، وبوظائف أخرى في منتهى الدقة والكمال؟

قلنا: لا.. لم نر ذلك.. فلم تسعد البشرية بمثل هذا الاختراع إلى الآن؟

قال: فهل يمكن لأي آلة من الآلات التي ترون أن تتطور من تلقاء ذاتها؟

قلنا: كيف؟

قال: مثلا يتطور جهاز الحاسوب من الجيل الأول ليقفز للجيل الثاني أو الجيل الثالث من دون حاجة لأي مطورين أو مصممين أو علماء أو فنيين؟

قلنا: ذلك مستحيل.. بل إن تغييرا بسيطا في أي جهاز، ولأداء وظائف محدودة جدا، نحتاج إلى جيش من الخبراء في كل المجالات.

قال: فكيف إذن يعتبرون عجائب الكوليسترول الذي يتغير بحسب الحاجة.. والمعدة.. والمخ.. والخفاش.. وكل شيء.. كيف يعتبرون هذا حركة من دون محرك، وصنعة من دون صانع؟

سكتنا، فقال: لكم أن تسكتوا.. أما أنا فقد أخذت قراري.

أخرج لنا مصحفا، وقال: لقد رأيت في هذا المصحف كل الأجوبة على أسئلتي.. فربي الذي خلق كل شيء، أرسل لي من يدلني عليه، ويعلمني به، وقد وضع لي في هذا الكتاب كل الأدلة التي تجعلني أرى الكون بصورته الحقيقية، لا بصورته التي علمنا إياها دجاجلة المادة والطبيعة.

قال لنا ذلك، ثم راح يقرأ علينا قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)} [النحل: 78، 79]، وغيرها من الآيات الكونية، والتي ختمت بقوله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83]

ثم قال: ألا ترون أن هذه الآية الكريمة تخاطبنا، فنحن الذين نعرف نعمة الله، ونحن الذين نعرف الكثير من تفاصيل خلقه وعجائبها، ومع ذلك ننكر نسبتها إلى الله العليم المريد القدير.. وننسبها إلى الطبيعة الصماء البكماء العمياء.. أليس ذلك ينطبق علينا؟

لم نجد ما نقوله له.. ولكنا رحنا نسأله عن رحلته إلى ذلك الكتاب المقدس الذي يحمله.. وقد حكى لنا من تفاصيلها ما جعلنا ندخل معه جنة الإيمان، ونفر من جحيم الكفران والطغيان.

***

ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتشرت أنوار لطيفة على تلك الروضة الجميلة التي اجتمع فيها كل أولئك العلماء المنورين بنور الإيمان، وقد سرى أريج تلك الأنوار إلى كل لطائفي، فصرت أرى يد الله الحانية، وهي تمتد إلينا كل حين بكل صنوف الرعاية والحماية واللطف.

ورأيتها أنها كلها تدعونا إلى رحلة أعظم وأشرف نرى فيها الحقائق، ونتصل بها، ونتعايش معها بكل سعادة.. فالله ما أرسل إلينا هدايا لطفه إلا لنهتدي إليه، ونطرق بابه، حتى لا نحجب بالنعمة عن المنعم، وبالهدية عن المهدي، وبالرعاية عن الراعي.


([1])  وهو ما ذكرناه في الفصل التالي لهذا الفصل باسم برهان [الصنعة العجيبة]

([2]) انظر مقالا بعنوان: ماذا سيحدث لو اختفى الأكسجين لمدة 5 ثواني عن كوكبنا؟

([3]) العلم من منظوره الجديد،  ص 12.

([4]) الله يتجلى في عصر العلم، كريسى موريسون، ج 2 ص 156.

([5]) رجعنا للمعلومات العلمية في هذا المطلب إلى كتاب (مع الطب في القرآن الكريم ) للدكتور عبد الحميد دياب، والدكتور أحمد قرقوز.

([6]) انظر: مقالا بعنوان (معونات الألبان الصناعية.. خطـر يهدد أطفال العالم)للدكتور: محمد مصطفى كامل مروان.

([7]) المعلومات التي سنوردها هنا ملخصة بتصرف كبير من كتاب [العلم يدعو للإيمان]، كريسى موريسون، وهو من أهم الكتب التي ألفت في هذا المجال.

([8]) من مقدمة كتاب [العلم يدعو للإيمان]

([9]) اقتبسنا المعلومات الواردة هنا بتصرف من كتاب [الطب محراب للإيمان] للطبيب خالص جلبي كنجو..

([10]) يقصد باللحف الأغشية الخارجية التي تغطي الفوهات الخارجية مثل العين حيث تغطيها الملتحمة، والفم من الداخل الغشاء المخاطي وهكذا..

([11]) انظر: الطب محراب للإيمان، خالص جلبي، ج1.

([12]) انظر: العلم يدعو للإيمان: كريسى موريسون.

([13]) انظر: العلم يدعو للإيمان: كريسى موريسون.

([14]) موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: محمد راتب النابلسي.

([15]) انظر: التصميم في الطبيعة: هارون يحيى، ترجمة:أورخان محمد علي.

([16]) انظر: التصميم في الطبيعة: هارون يحيى، ترجمة:أورخان محمد علي.

([17]) انظر: العلم يدعو للإيمان: كريسى موريسون.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *