العقيدة الصحيحة

العقيدة الصحيحة

إن نسيت كل شيء في حياتي، فلن أنسى ذلك اليوم الذي زرت فيه صديقا لي في العاصمة، وهناك وعندما حضرت الصلاة ذهبنا إلى مسجد قريب نصلي فيه، وبعد أن انتهت الصلاة نهض الإمام، وقال: سنصلي الآن على جنازة رجل.. وإلى هنا كان الأمر عاديا.. لكن رجلا آخر قام، وقال: صلوا عليه جميعا، فالرجل قد مات على العقيدة الصحيحة.

تعجبت من هذه الكلمة، وسألت صاحبي عندما خرجنا عن سر قوله هذا، فقال: لقد تعودنا على هذا في مسجدنا هذا وغيره، وقد أصبح من الظواهر المألوفة في العاصمة، والتي لا تثير أي استغراب.

قلت: أهم يقولون هذا عند كل جنازة؟

قال: لا.. ولو قالوها عند كل جنازة لفقدت معناها.

قلت: ولكن الذي أعلمه أن صلاة الجنازة لا تقام إلا على المسلمين، ولذلك لا يحتاج الإمام ولا غيره لتنبيه الناس إلى عقيدة الميت.. فما دام مسلما، فعقيدته صحيحة.

ضحك صاحبي بصوت عال، وقال: ذلك في معتقداتك أنت أيها البدوي.. أنت تجهل التطورات التي وصلنا إليها نحن أهل المدن الكبرى..

قلت: أتعد هذا من التطورات؟

قال: أجل.. هذا من التطورات الكبرى.. فالتطور لا يصيب الحياة الدنيا وحدها، بل هو يصيب أيضا الحياة الدينية.

لست أدري هل كان صاحبي يمزح حين قال هذا، أم كان جادا، لكني استمررت في سؤاله على كل حال، وقلت: لا بأس أسلم لكم ـ معشر الحضر ـ بأننا لا نزال بدوا، ولا زلنا نجهل التطورات التي جاء بها رجال التدين الحديث.. فأخبرني عن جدوى قوله: (إن الرجل عقيدته صحيحه)

فقال: هذا وسام عظيم وشهادة عظيمة.. سيظل أهله وأقاربه وأصدقاؤه يفخرون بها.. وسيظل غيرهم يحن إلى أن يشهد له بمثلها.. فهي تشهد له أنه سيثبت عند السؤال، وسينجو من منكر ونكير.. بل ربما يتاح له أن يعاين منزلته من الجنة في ذلك اليوم،وبعد انصراف الناس مباشرة من الجنازة.

قلت مستغربا: ولكن ذلك لله، وقد قال تعالى عن أشرف خلقه: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، فالآية الكريمة تنص على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمكان يكل علم مصيره إلى الله تعالى، بل ورد في الحديث الشريف ما يدل على هذا، فعن أم العلاء أنها قالت بعد وفاة عثمان بن مظعون ـ وهو من الصحابة الأوائل الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفي كل المحن التي مر بها ـ: (رحمة اللّه عليك أبا السائب شهادتي عليك، لقد أكرمك اللّه تعالى)، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلممصححا وموجها: (وما يدريك أن اللّه تعالى أكرمه؟)، ثم قال: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وأني لأرجو له الخير، واللّه ما أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي)، قالت، فقلت: (واللّه لا أزكي أحداً بعده أبداً)([1])

ابتسم صاحبي، وقال: لقد ذكرت لك أنك لا تزال بدويا..فكل استدلالاتك بدوية.. ومفاهيمك أيضا بدوية..

قلت: فما الجديد الذي طرأ، ونسخ تلك النصوص المقدسة؟

قال: فهوم السلف.. ألا تعلم أن القرآن والسنة غير كافيين للهداية.. بل يحتاجان منا إلى مراجعة السلف لنفهمهما الفهم الصحيح؟

قلت: فما قال السلف في هذا؟

قال: لقد نصوا على أنه يمكن الشهادة لمن صحت عقيدته بالجنة.. والشهادة لمن سقمت عقيدته بالنار.

قلت: عجبا.. هل تجرأوا على هذا؟

قال: بل اعتبروه من السنة.. لقد قال ذلك الذي يلقب بشيخ الإسلام: (وكذلك من أجمعت الأمة على الثناء عليه، فإننا نشهد له بالجنة، فمثلاً: الأئمة: أحمد، والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينه، وغيرهم من الأئمة رحمهم الله، أجمعت الأمة على الثناء عليهم، فنشهد لهم بأنهم من أهل الجنة) ([2])

وقد تبعه على قوله هذا كل المشايخ والعلماء، وأضافوا إلى ما ذكره الكثير من أعيان العلماء، فالشيخ ابن عثيمين ذكر أنه يشهد لابن تيمية بالجنة، ويشهد لأعدائه بالنار، فقال في [شرح رياض الصالحين]: (وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس على الثناء عليه إلا من شذ، والشاذ شذ في النار، يشهد له بالجنة على هذا الرأي) ([3])

قلت: أرى أن للقوم من صكوك الغفران ما بزوا به غيرهم.

قال: وهل ترى أن يكون لأولئك الصليبيين الكفرة صكوك غفران، ثم لا يكون لنا مثلها معشر الأمة المرحومة؟

قلت: لا بأس.. سلمت لك بما ذكرت.. لكن ما جدوى أن يعلم الناس بذلك..

قال: هم يقصدون أن يخبروا الناس بذلك لغرضين.. أما أولهما فأن يصلوا عليه جميعا..

انتفضت، وقلت: وفي حال لم يذكر ذلك.. ألا يصلون عليه جميعا؟

قال: طبعا.. إذا لم يذكر الإمام ذلك.. فلن يصلي عليه إلا العامة من الناس.. أما أتباع السلف وأعيان الناس وأهل العلم منهم، فيكره لهم الصلاة عليه.. ألم تسمع بأنه لما أدخلت جنازة محمد بن علوي المالكي الصوفي للحرم في صلاة المغرب لتصلى عليه الجنازة رأى الشيخ السديس زحمة الناس، فسأل عن السبب، فقالو له: هذه جنازة محمد علوي مالكي.. فرفض الشيخ الصلاة عليه.. وتركوا الجنازة الى صلاة العشاء.. وقتها كان الشيخ (…) يصلي بهم العشاء، وكان عنده علم بصاحب الجنازة.. في البداية رفض الصلاة عليه.. وبعدها كثر اللغط من أتباع المالكي.. وقتها دخلت جنائز، فوافق الشيخ الصلاة على كل الجنائز، ومن ضمنهم جنازة المالكي.

قلت: ولكن.. ألا ترى أن في هذا تشددا، فصلاة الجنازة عبادة، وهي حق لكل مسلم.. فكيف تأخذون دينكم ـ معشر الحضر ـ في هذا من رجل إنما هو قارئ قرآن لا علاقة له بعلم ولا بفقه؟

قال: بل نأخذ ديننا من سلفنا الأول.. فقد ترك سلفنا الصالح الصلاة على من هو دونه.. فقد رفض سفيان الثوري الصلاة على بعض المبتدعة، وقال: (والله إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكن أردت أن أري الناس أنه مات على بدعة)

قلت: لا بأس.. فلنفرض أني اقتنعت بما قلت.. فما هي العقيدة الصحيحة التي تمنحني تلك الصكوك، وتضمن لي مصيري إلى الجنة؟

قال: ليس من السهل أن تعرفها في مجلس أو مجلسين.. لأنها عقيدة مؤسسة على الدليل، وكل مسألة منها مشفوعة بما يدل عليها من أقوال السلف..

قلت: فأخبرني عن مجامعها.

أخرج لي من جيبه كتابا صغيرا، ثم قال: سأختصر لك الأمر.. خذ هذا الكتاب، واحفظه عن ظهر قلب، واعتقد بما فيه.. وإياك أن تشك في حرف منه، فإن مت عليه مت على العقيدة الصحيحة.

أخذت الكتاب، وكان اسمه (شرح السنة)، وكان من تأليف أبي محمد الحسن البربهاري، وقد تعجبت من الصورة التجسيمية التي رسمها لله، والتي امتلأ بها كتابه، وقد تعجبت أكثر عندما قرأت في خاتمته قوله بكل جرأة: (فمن أقر بما في هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما، ولم يشك في حرف منه، ولم يجحد حرفا واحدا، فهو صاحب سنة وجماعة، كامل، قد كملت فيه السنة، ومن جحد حرفا مما في هذا الكتاب، أو شك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهو صاحب هوى) ([4])


([1])  رواه البخاري.

([2])  مجموع الفتاوى (18/ 314)

([3])  شرح رياض الصالحين 4/ 570 – 573.

([4])  شرح السنة، ص: 132.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *