العشوائية.. والتصميم

بعد أن انتهى الثاني من حديثه، قال الثالث، وهو يلتفت لي: لقد جاء الآن دوري لتكتب شهادتي، وكما أمليها عليك بالضبط.. فلا يصح لكاتب أن يكتب إلا الحقيقة كما قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282]
قلت: لا تخف.. فقلمي لا يكتب إلا ما يسمع، وليس لديه القدرة لأن يضيف شيئا، فهو أعجز من أن يفعل ذلك.
قال: كما حدثك صاحبي عن تخلف تلك النظريات التي أرادت أن تفسر نشأة الحياة وتنوعها عن العلم والعقل والمنطق.. فإني سأحدثك عن تخلفها كذلك عن التصور الصحيح لذلك التصميم البديع للكون.. فقد راحت ترمي قمة الإبداع والإتقان والدقة بالعشوائية والصدفة والعبث.
وسر ذلك كله هي أنها لم ترحل بقلبها ولا عقلها إلى آفاق قوله تعالى، وهو يعدد صفات كماله وآثارها: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: 1 ـ 4]
ولم يرحلوا إلى قوله تعالى، وهو يصف صنعته المحكمة الدقيقة: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]
قلت: وكيف رحلت أنت إلى هذه الآيات الكريمة؟
قال: قصة ذلك طويلة، فقد بدأت كما يبدأ سائر من ولد في تلك البلاد بنظرية التطور التي رضعناها مع حليب أمهاتنا، فصرنا نراها بديهة من البديهيات، ومسلمة من المسلمات القطعية التي لا يصح أن يجادَل فيها.
لكن الله تعالى بكرمه العظيم نقلني بعد مرحلة من حياتي من كوني من القائلين بنظرية التطور والمدافعين عنها إلى أصحاب نظرية جديدة وضعها بعض أصدقائي سماها نظرية [التصميم الذكي].. ثم نقلني بفضله من تلك النظرية إلى نظرية الخلق البديع.. والصنع المتقن.. والتي أتقلب الآن في رحابها، وأتذوق حلاوة شرابها.
قلت: ما تقصد بذلك.. وهل هناك نظرية بهذا الاسم؟
قال: أجل.. فهناك نظرية موجودة في الواقع العلمي يحاول التطوريون أن يتستروا عليها، ولا يظهروها، ولذلك يجعلونها مع المؤمنين في محل واحد، مع أنهما ليس كذلك..
قلت: عجبا.. هل يمكن ألا يكون القائلون بهذه النظرية من المؤمنين؟
قال: القائلون بهذه النظرية يذكرون الحقائق العلمية، كما هي موجودة في الواقع، ويحاولون ألا يربطوها بالجانب الغيبي والميتافزيقي، حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه سائر العلوم المادية التي ارتبطت بالإلحاد.
قلت: ولكن ذلك عجيب.
قال: ليس عجيبا.. فدور العالم أن يصف لك الواقع بدقة.. ثم يترك لعقلك بعد ذلك أن يحكم بالنتيجة التي تفرزها تلك الحقائق.
قلت: فما الحقائق التي يصفها هؤلاء التصميميون؟
قال([1]): لقد بدأت حركة التصميم الذكي أوائل التسعينات من القرن العشرين، وقد نشأت كنظرية علمية في مقابل نظرية التطور، لتقدم فروضا علمية لتفسير نشوء الأنواع الحية في ضوء المكتشفات العلمية التي لم تكن متاحة في عهد داروين ولا فريق الدراونة الجُدد الذين وضعوا النظرية التركيبية الحديثة، وتتعارض فرضياتها تماماً مع فرضيات التطور.
وهي لذلك نظرية علمية لتفسير التنوع البيولوجي، وليست نظرية دينية مرادفة لنظرية الخلق كما يُشيع عنها التطوريون؛ لذلك نراها تضع فرضيات متناسقة، تتعلق باقتراحات محددة، كما أنها تشكل إضافة علمية وتهذيباً للنظريات السابقة عليها في المجال نفسه، ولها قيمة تفسيرية وقيمة تنبُّؤية، وفرضياتها قابلة للاختبار، وقابلة للتخطئة، وقابلة للتعديل والتصحيح في ضوء نتائج التجارب، فهي مفتوحة أمام الفحص التجريبي.. وهي بذلك تتوفر على كل شروط البحث العلمي، بخلاف نظرية التطور.
قلت: فهلا حدثتني كيف اهتديت إلى هذه النظرية التي كانت السلم الذي رقيت به إلى الإيمان.
قال: أجل.. فكل حديثي الذي أمرت أن أبثه لك يتعلق بها.
قلت: فكلي آذان صاغية.. فهلم بحديثك.
قال: أنا لا تهمني آذانك بقدر ما يهمني قلمك.. فإياك أن تشرد عنه.. وإياك أن ينفلت منك، فيكتب ما لم أمله.
قلت: لك ذلك.
اعتدل في جلسته، وحمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم قال: لا أزال أذكر ذلك اليوم الذي التقيت فيه صديقي [ألبرت وليام ديمبسكي]، وهو عالم رياضيات وفيلسوف، وقد كان مهتما منذ فترة طويلة بنظرية التطور..
عندما دخلت إليه، قال لي: هل علمت بآخر كتاب ألفته؟
قلت: لا.. ولا بأول كتاب.. فلم أكن أعلم أنك تشتغل بتأليف الكتب.
قال: وكيف تزعم أنك صديقي، وأنت لا تقرأ كتبي.. والتي أثارت من الجدل، ما سمع به خواص الناس وعوامهم.
قلت: اعذرني.. فقد شغلتني المخابر، والفئران البيضاء، والمواد الكيميائية عن كل شيء حتى عن نفسي.. فقط أنا أعلم أنك عضو مرموق في مركز العلم والثقافة التابع لمعهد ديسكفري.. وأنك في الفترة من 1999 إلى 2005، كنت في هيئة التدريس في جامعة بايلور.. وأنك تحمل سبعة درجات جامعية بما فيها دكتوراه في الفلسفة من جامعة إلينويز في شيكاغو ودكتوراه في الرياضيات من جامعة شيكاغو.
قال: معارفك عني محدودة وسطحية جدا.. وهي لا تساوي شيئا أمام تلك النتائج العظيمة التي وصلت إليها.. والتي بها استطعت تحطيم نظرية التطور.
كدت أغمى علي حين قال هذه الكلمة، وقلت: أتدري ما تقول.. وهل يمكن لأحد في الدنيا أن يزعم أنه يحطم هذه النظرية التي وقف في صفها جحافل العلماء في كل عصر؟
قال: لا ينبغي أن تغرك الكثرة، ولا الجيوش المجيشة.. ابحث عن الحقيقة بعيدا عن الرجال.. وكن مجتهدا لا مقلدا.
قلت: صدقت.. فما سميت نظريتك؟
أخرج لي كتابا من خزانة كانت أمامه، كان عنوانه [تصميم الحياة]، وقال: هذا الكتاب يؤصل لهذه النظرية، ويبرهن عليها بالأدلة الكثيرة.. وقد كتبته مع صديقي [جوناثون ويلز].. وهذه النسخة التي تراها هي الطبعة الثالثة من الكتاب.
وقد اعتبره الكثير من الباحثين من أحدث وأقوى ما كتب في الانتقاد العلمي لنظرية التطور التدريجي العشوائي.. بل وضعه بعضهم مع كتاب [نظرية التطور: نظرية مأزومة] في محل واحد.. فكلاهما ساهم في تهديم هذه النظرية الممتلئة بالثغرات والأخطاء والخدع.
لقد قال الدكتور [مايكل بيهي]، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ليهاي متحدثا عنه: (عندما يعد المؤرخون المفكرون في المستقبل الكتب التي أطاحت نظرية داروين، فإن كتاب تصميم الحياة يكون على رأسها)
وقال الدكتور [دين ح. كينيان]، وهو أستاذ في علم الأحياء، جامعة ولاية [سان فرانسيسكو]: (أود بحماس أن أعتمد كتاب تصميم الحياة كمقرر دراسي مطلوب في الدورات التدريبية في نظرية التطور وأصل الحياة، وفي حلقات الدراسات العليا في نظرية المعلومات والبيولوجيا الجزيئية، واستخدامها كمرجع مكمّل في فصول علم الأحياء التمهيدية)
وقال الدكتور [ويليم س. هاريس]، أستاذ باحث، كلية طب سانفورد، جامعة داكوتا الجنوبية: (يعطي جميع الأطراف المعنية في النقاش حول الأصول البيولوجية: الأدلة الدامغة العلمية التي يحتاجونها لتقييم الحالة الحقيقية لنظرية داروين.. بل أكثر من ذلك بكثير: فهو يشجع بعناية الموقف من التحقيق المفتوح الذي تحتاجه العلوم ليس فقط لتزدهر، ولكن أيضاً لتجتنب أن تصبح ألعوبة في أيدي أصحاب المصالح الخاصة!)
وقال [مايكل ريوز]، وهو أستاذ الفلسفة، جامعة ولاية فلوريدا ـ مع العلم أنه دارويني ملحد ـ: (أنا أختلف بشدة مع الموقف الذي اتخذه وليم ديمبسكي، ولكنني أعترف أنه يجادل بقوة، وأن أولئك منا الذين لا يقبلون استنتاجاته يجب علينا أن نقرأ كتابه ونشكل آرائنا الخاصة والحجج المضادة، فإن هذا الرجل لا ينبغي أن يُتجاهل على أية حال)
قلت: بورك لك في كل هذه الشهادات.. لقد جعلتني أفتخر بأن يكون لي صديق مثلك.. ولكن ذلك لا يكفي لأقتنع بطروحاتك، فأنت تعلم أني مجادل لجوج.. لا أقبل إلا ما يقبله عقلي.. لا ما يملى عليه.
قال: وهذا ما يعجبني فيك.. وهو ما رغبني في صداقتك أوقات دراستنا.. هل تذكر تلك الأيام التي كانت تملى علينا فيها نظرية التطور باعتبارها حقيقة علمية.
قلت: أجل أذكرها.. وأنا إلى الآن لا أزال أقتنع بها.
قال: أنت تقتنع بها، لأنك لم تجد غيرها.. هم لم يذكروا لنا غيرها.
قلت: فهل هناك غيرها؟
قال: أجل.. وستكتشفه أنت بنفسك.
قلت: كيف ذلك؟
قال: أجبني.. عندما ترى في شيء من الأشياء تعقيداً متخصصاً ألا ترى احتياجه ضرورة إلى مسبب ذكي، ومصمم يعرف ما يفعل؟
قلت: لم أفهم ما الذي تريده من التعقيد المتخصص؟
قال: سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. عندما نرى أحد أحرف الأبجدية لوحده، فإننا نذكر أنه متخصص دون كونه تعقيداً.. لكننا عندما نرى جملة طويلة من الأحرف العشوائية، فإننا حينها نصفها بكونها تعقيدا.. ولكن ليس متخصصاً.. لكن عندما نرى قصيدة لشكسبير حينها نقول: إنها تعقيد متخصص.
قلت: يمكنك أن تصطلح على ما ذكرت من المعاني بما ذكرت من المصطلحات.. لكن ما علاقة ذلك بنظريتك؟
قال: عندما ندقق النظر في تفاصيل الكائنات الحية نجدها جميعا في غاية التعقيد والتخصص للدرجة التي لايمكن فيها اعتبارها وجدت هكذا صدفة.. وقد وجدت ببعض العمليات الرياضية المعقدة أن أي شيء احتمال حدوثه في الطبيعة أقل من 1 من 10150 يعتبر من هذا النوع.. ويعتبر في نفس الوقت من الأمور التي يستحيل في حقها أن تكون صدفة.
قلت: فما علاقة هذا بنظرية التطور.. وكيف يتسبب في هدمها؟
قال: لأن كل شيء في الحياة، بل في الكون من هذا النوع.. فالتعقيدات المتخصصة دليل لايقبل الشك على وجود مصمم ذكي قد تحكم بإنشاء هذه التعقيدات، وهذا ماينقض نظرية التطور التي تعتبر أن الكائنات قد تكونت بمحض الصدفة.
قلت: فهلا ضربت لي أمثلة على ذلك.
قال: الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. ومنها مثلا تصميم النظام الميكانيكي للمخلوقات.. فهو تصميم في غاية التعقيد والتخصص لدرجة لا يمكن تصورها، ذلك أنه غالباً ما يكون تصميم الأنظمة المتحركة أكثر تحدياً للمصممين من الأنظمة البنيوية الثابتة.
قلت: كيف ذلك؟
قال: كمثال على ذلك نرى المشاكل التي تظهر في المثقب اليدوي أكبر بكثير من تلك التي يمكن أن تنتج عن الإبريق، ذلك لأن الأولى تعمل على أساس ميكانيكي، بينما يقوم الثاني على مبدأ الشكل الفيزيائي، والتصاميم العملية تميل لأن تكون أكثر تعقيداً.
قلت: لم كان الأمر كذلك؟
قال: لأن كل عنصر من عناصر التصميم يؤدي هدفاً معيناً.. وغياب أو تعطّل أيٍّ من هذه العناصر يؤدي إلى عجز النظام عن العمل في عنصر واحد يجعل النظام عديم الفائدة.
قلت: ألأجل هذا نرى نهاية الكثير من هذه التصاميم مملوءة بالعيوب والأخطاء؟
قال: أجل.. لكن ذلك لا يصدق إلا على الأنظمة التي يصممها الإنسان، حيث نرى فيها أخطاء أكبر بكثير مما يمكن تصديقه، لأن معظم هذه التصاميم أنجزت عن طريق التجربة والخطأ، على الرغم من أن بعض الأعطال يمكن تجنبها في الطور البدائي الذي يسبق إدخال المنتج إلى الأسواق، إلا أنه يبقى من المستحيل تلافي جميع الأخطاء.. ومع ذلك لم يزعم أحد من الناس أن أي تصميم صممه الإنسان وجد هكذا صدفة.
قلت: والتصميمات الطبيعية؟
قال: عندما ننظر إلى جميع الأنظمة الميكانيكية في الطبيعة نراها ترقى إلى درجة الكمال.. فجميع المخلوقات مصممة بإتقان محكم لا يمكن تصور مدى دقته.
قلت: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.
قال: من الأمثلة الواضحة على ذلك جمجمة نقار الخشب.. فهي مصممة بإتقان بديع لا يمكن تصور مدى دقته وتعقيده وغائيته.
قلت: كيف ذلك؟
قال: أنت تعلم أن نقار الخشب يتغذى على الحشرات واليرقات التي تختفي في جذوع الأشجار، ويستخرجها عن طريق النقر.. حيث يستطيع أن ينقر ما بين تسع إلى عشر نقرات في الثانية الواحدة، ويزداد هذا العدد ليصل إلى ما بين 15 ـ 20 عند الأنواع الأصغر حجماً، ومنها نقار الخشب الأخضر.. وتصل سرعة عمله إلى 100 كم/سا.. أما الزمن الفاصل بين النقرة والأخرى فهو أقل من 1/1000 من الثانية.
قلت: أعلم هذا لكن ما علاقته بتصميم جمجتمه.
قال: إن الصدمة التي تنتج عن هذه الطرقات المتتالية لا تختلف عن تلك التي يسببها ضرب الرأس في حائط إسمنتي، إلا أن التصميم المعجِز لدماغ نقار الخشب يجنبه التعرض لأي نوع من الإصابة.
قلت: فهل جمجمة نقار الخشب تتميز عن سائر الطيور في هذه الناحية؟
قال: أجل.. فعظام الجمجمة تتصل عند معظم الطيور ببعضها، ويعمل المنقار مع حركة الفك السفلي إلا أن منقار وجمجمة طائر نقار الخشب منفصلان عن بعضهما بأنسجة إسفنجية تمتص الصدمات الناتجة عن عملية النقر.. بل إن هذه المادة المرنة تؤدي عملها بشكل أفضل من ماص الصدمات في السيارات.. وجودة هذه المادة تأتي من قدرتها على امتصاص الصدمات المتتالية بفواصل قصيرة جداً واستعادتها لحالتها الطبيعية على الفور، وهي تفوق بجودتها المواد التي أفرزتها التكنولوجيا الحديثة بأشواط.
حيث أن هذه العملية تكتمل حتى في حالات أداء الطائر عشر طرقات في الثانية، وفصل المنقار عن الجمجمة بهذه الطريقة الخارقة تسمح للحجرة التي تحمل دماغ الطائر بالحركة بعيداً عن المنقار العلوي أثناء عملية النقر، وهكذا تكون وتتشكل آلية ثانية في امتصاص الصدمات.
قلت: وعيت هذا.. فهلا ذكرت لي مثالا آخر يزيدني يقينا.
قال: الأمثلة أكثر من أن تحصى.. ومنها التصميم المثالي للقفز العالي لدى البرغوث.. لاشك أنه يدعو إلى الانبهار.
قلت: لم أسمع بذلك من قبل.. فهلا شرحت لي.
قال: لك الحق في ذلك.. فقد شغلونا في نظرية التطور بالبحث عن الحفريات والعظام عن البحث عن هذه الدقة العجيبة والتصميم المتقن الذي تمتلئ به كل جوانب الحياة.
قلت: صدقت في ذلك.. فأنا أحيانا عندما أدرس نظرية التطور أشعر أنني لا أزال أعيش في عصر الديناصورات.. فهلم حدثني عن البرغوث وقفزه العالي.
قال: لقد وجد الباحثون المتابعون لحركات البرغوث أنه يحقق قفزة تصل إلى 100 ضعف ارتفاعه عن الأرض، أي ما يساوي 200 متراً من القفز العالي الذي يقوم به الإنسان.. علاوة على ذلك يمكنه أن يستمر في القفز دون توقف لمدة 78 ساعة.. وهو بشكل عام لا يسقط على ساقيه بعد القفزة الخامسة، بل يهبط إما على رأسه أو على ظهره، ومع ذلك لا يصاب بالدوار، ولا يلحق به أي أذى..
قلت: إن ما تذكره عجيب.. لأول مرة في حياتي أسمع بهذا.
قال: أجل.. فعالم الحيوانات مملوء بالعجائب..
قلت: لكن ما التصميم العجيب الذي وفر له كل هذه القدرات العجيبة؟
قال: لقد حاول العلماء أن يبحثوا عن ذلك ويفسروه، فوجدوا أن الهيكل العظمي لهذه الحشرة لا يتوضع داخل جسمها.. ووجدوا أن هذا الهيكل يتألف من طبقة صلبة من مركب يطلق عليه اسم [السكليروتين] الذي يغلف كامل الجسم ويتصل بالكيتين.. ووجدوا أن هذا الهيكل الخارجي يتكون من شرائح مسلحة كثيرة جداً ومحدودة الحركة، ولكنها تمتص الصدمات وتبطل الصدمة الناتجة عن القفز.
وفوق ذلك كله وجدوا أنه لا يوجد في جسم البرغوث أي أوعية دموية، بل يسبح جسمه الداخلي بسائل دموي صافي يبطن الأعضاء الداخلية ويحفظها من ضغط القفزات المفاجئ.
قلت: لكن كيف تتم تنقية الدم ما دام جسمه بهذا التصميم؟
قال: لقد وجدوا أن ذلك يتم من خلال الثقوب الهوائية المنتشرة في أنحاء الجسم، وهذا يغني عن الحاجة إلى مضخة ضخمة تقوم بضخ الأكسجين بشكل متواصل، فقد صمم قلب هذه الحشرة على شكل أنبوب، معدل نبضاته بطيء بحيث لاتؤثر عليه القفزات السريعة على الإطلاق.
زيادة على ذلك كله، فقد اكتشفوا أن عضلات ساقه ليست بالقوة التي تتطلبها القفزات التي تقوم بأدائها، إلا أن هذا الأداء المدهش يقوم به البرغوث بمساعدة نوع من النظام النابضي الذي أُضيف إلى سيقانه.. وهذا النظام يعمل بفضل البروتين الذي يطلق عليه (resilin) إذ يخزن البرغوث الطاقة الميكانيكية.
والخاصية البارزة لهذه المادة هي قدرتها على تحرير 97 بالمائة من الطاقة المختزنة بداخلها عند التمدد، بينما لا تتعدى النسبة التي تغطيها المواد المرنة الموجودة في الأسواق اليوم إلى 85 بالمائة كحد أقصى.
***
شوقتني أحاديث صاحبي كثيرا، فرحت ألح عليه أن يذكر لي مثالا آخر، فقال: من الأمثلة على ذلك سوسة البلوط والتصميم العجيب المرتبط بآلية الثقب.
قلت: هلا شرحت لي ذلك.
قال: أنت تعلم أن سوسة البلوط تعيش على ثمرة شجرة البلوط،وتعلم أيضا أن هذه الحشرة تحمل خرطوماً طويلاً في رأسها أطول من جسمها، وفي نهاية هذا الخرطوم يوجد منشار صغير حاد يشبه الأسنان.. وفي أحيان أخرى تحمل الحشرة هذا الخرطوم بشكل أفقي مستقيم مع جسمها، حتى لا تتعثر أثناء سيرها.
قلت: أجل.. أعلم ذلك.. لكن ما العجيب في ذلك، وما علاقته بالتصميم؟
قال: ستعلم ذلك، وسترى مدى تعقيد التصميم المرتبط به.. فعندما تقع هذه الحشرة على ثمرة البلوط توجه خرطومها باتجاهها لتصبح أشبه بآلة الثقب، ثم تضع أسنانها الشبيهة بالمنشار الموجودة في أعلى الخرطوم على الثمرة، ثم تبدأ بنقل رأسها من جانب إلى آخر، مما يعني إعمال المنشار الذي يحمله خرطومها المتحرك مع رأسها، وقد صمم رأس هذه الحشرة بما يتوافق تماماً مع هذه الآلية، فهو يتمتع بمستوى مدهش من المرونة.
وعندما نبحث عن نظام أي جهاز تعمل به الحشرة نجده نتيجة لتخطيط محكم.. سواء كان ذلك خرطوما ثاقبا، أو أسنانا قاطعة، أو رأسا مرنا يساعد في عملية الثقب، وكل هذا لا يمكن تفسيره عل ضوء المصادفة أو (الاصطفاء الطبيعي).
ذلك أن هذه الحشرة لو لم تستخدم الخرطوم في عملية الثقب، فلن يكون أكثر من عبء ثقيل وعضو لا فائدة منه، مما يؤكد عدمية افتراض التطور (مرحلة إثر مرحلة)
***
بعد أن انتهى من حديثه عن سوسة البلوط والتصميم البديع المرتبط بها، رحت ألح عليه أن يحدثني عن كائن آخر، وما ارتبط به من تصميم معقد، فقال: من الأمثلة على ذلك [السوط البكتيري]، حيث تستخدم بعض أنواع البكتيريا ما يشبه السوط، ويطلَق عليه هذا الوصف بسبب كونه يساعدها على الحركة في المحيط السائل.. وهو يتصل بغشاء الخلية، ويسمح للبكتريا بالحركة حسب الاتجاه الذي ترغب به بسرعة محددة.
وقد عرف العلماء هذا السوط منذ زمن، إلا أن بنيته الحقيقية لم يكشف عنها النقاب إلا قبل فترة قصيرة، وقد كانت مفاجأة كبيرة للمكتشفين.. ذلك أنهم اكتشفوا أن هذا السوط يتحرك من خلال (محرك عضوي) في غاية التعقيد، وليس عن طريق آلية اهتزازية بسيطة كما كان شائعاً، حيث تقوم بنية المحرك الدافع على مبدأ المحرك الكهربائي، فهناك جزآن رئيسان له: (الثابت) و(الدوار)
والبنية الداخلية للمحرك معقدة جداً، حيث يشترك ما يقارب من 240 بروتينا مختلفا في بناء السوط، ويتوضع كل منها في مكانه المناسب بكل عناية.
ويعتقد العلماء أن هذه البروتينات هي التي تحمل إشارات تشغيل المحرك وتوقيفه، وتشكل نقاط اتصال تسهل الحركة بمقاييس ذرية، كما تفعِّل بروتينات أخرى مهمتها وصل السوط بغشاء الخلية، وهذه الخصائص التي يمتاز بها عمل هذا النظام تدل على الطبيعة المعقدة له.
وهذا السوط البكتيري بتركيبته المعقدة ـ من وجهة نظري ـ يكفي وحده أن يكون دليلاً كافياً على بطلان نظرية التطور.. فلو حصل وتعطل أو فُقد جزء صغير من هذا النظام لعجز عن القيام بمهمته، وأصبح دون أدنى فائدة للبكتريا.. حيث يجب أن يكون عمل السوط متقناً منذ اللحظة التي خلق فيها.. وهذه الحقيقة تلغي المزاعم التطورية التي تعتمد مبدأ (التطور خطوة خطوة)
بالإضافة إلى هذا فإن هذا السوط يدلنا على أن أشكال الحياة البدائية تحمل تصميماً على جانب من التعقيد.. وكلما تعمق الإنسان في دقائق هذا العالم، كلما اكتشف أن ما كان يظنه علماء الأحياء في القرن التاسع عشر، بما فيهم داروين، أحياءَ أو عضيات بسيطة، هي في الواقع معقدة تماماً كغيرها.
***
كان الوقت فسيحا، والجو جميلا، فطلبت من صاحبي أن يذكر لي مثالا آخر، فذكر لي التصميم البديعة للمضخة عند الزرافة، فسألته عنها، فقال: تعتبر الزرافة بطولها الفارع (5 أمتار) واحدة من أكبر الحيوانات على وجه الأرض وأطولها، إلا أن هذا الحجم الكبير والطول الفارع يتطلبان نظاماً دورانياً فريداً لكي يقضي هذا المخلوق حياة سليمة.. ذلك أنه يجب أن يصل الدم إلى الدماغ الذي يتوضع فوق القلب بمترين، وهذا يتطلب بنية غير عادية للقلب، لذلك كان قلب الزرافة قوياً بما يكفي لضخ الدم تحت ضغط 350 ملم زئبقي.
وهذا النظام القوي، والذي من الممكن أن يقتل الإنسان العادي، يتواجد ضمن غرفة خاصة تغلفه شبكة من الأوعية الشعرية مهمتها التخفيف من الإصابات المميتة.
ومن جهة أخرى، يوجد نظامٌ في المنطقة الواقعة ما بين الرأس والقلب يتكون من الأوعية الصاعدة والنازلة، حيث تقوم السوائل المتدفقة في الأوعية بالاتجاه المعاكس بموازنة نفسها، مما يحمي الحيوان من ارتفعات خطيرة في ضغط الدم التي قد تسبب نزفاً داخلياً.
ويتطلب القسم الذي يقع تحت القلب، وخاصة الساقان والقدمان، عناية خاصة، وقد تحقق ذلك بكون السماكة المضاعفة للجلد في هذه المناطق تحمي الزرافة من الأعراض الجانبية لضغط الدم العالي، كما توجد صمامات في الأوعية الدموية تنظم الضغط.
والخطر الأكبر الذي تتعرض له الزرافة، هو الانحناءة التي تقوم بها عند حاجتها لشرب الماء، وفي هذه اللحظة يرتفع الضغط المرتفع أصلاً بما يكفي ليسبب نزفاً داخلياً، إلا أن الزرافة لا تعاني من ذلك، فقد تم الاحتياط لهذا النوع من الخطر، إذ يقوم سائل خاص، وهو السائل المخي الشوكي الذي يوجد أيضاً في الدماغ والعمود الفقاري، بتوليد ضغط معاكس ليمنع حدوث تمزق الأوعية الشعرية.
كما يدعم هذا التوازن صمامات تعمل باتجاه واحد، وتنغلق عندما يخفض الحيوان رأسه.. حيث تقلل هذه الصمامات من تدفق الدم، لتتمكن الزرافة من خفض رأسها والنهل من الماء بأمان.. ولمزيد من الحرص على تفادي أخطار ارتفاع الضغط، تتميز هذه الصمامات بغلافها الثخين، والذي يتألف من عدة طبقات.
***
بعد أن حدثني عن هذا المثال طلبت منه أن يذكر لي مثالا آخر، فذكر لي التصميم العجيب المرتبط بآليات التنفس عند الدلفين.. ثم شرح لي ذلك بقوله: يتنفس كل من الدلفين والحوت عن طريق الرئتين تماماً كما تفعل باقي الثدييات، وهذا يعني أنه من الصعب عليها أن تتنفس في الماء مثل الأسماك.. وهذا هو السبب وراء زيارتها المتكررة للسطح، حيث تعمل الفتحة الموجودة قي أعلى الرأس على إدخال الهواء.
وقد صمم هذا العضو بطريقة تؤمن له إغلاقاً آمناً عند الغوص في الماء، حيث تغلق الفتحة آليا بغطاء يمنع تسرب الماء، وعندما يعود الدلفين إلى السطح يفتح الغطاء آليا أيضاً.
قلت: فهمت هذا عند اليقظة.. لكن كيف ينام دون التعرض لخطر الغرق؟
قال: وهذا أيضا من التصميم البديع.. حيث يوجد في جسم الدلفين نظام خاص يحميه من الهلاك عندما ينام في الماء.. وهو يتمثل في استخدامه عند النوم نصفي الدماغ بشكل متناوب كل 15 دقيقة، فبينما ينام النصف الأول يبقى النصف الثاني متجهاً إلى السطح للتنفس.
قلت: هذا عجيب لم أعلم أن هناك من ينام بهذا الشكل.
قال: بالإضافة إلى ذلك، فإن خطم الدلفين الموجود في منقاره يعينه على السباحة، ذلك أنه يستخدم طاقة أقل في اختراق الماء، ويسبح بسرعات عالية.. ولهذا نرى السفن الحديثة قد استفادت من هذه الطريقة لزيادة سرعتها.
***
طلبت منه مثالا آخر عن دقة التصميم، فذكر لي التصميم البديع والمعقد للتكاثر عند الضفادع، فسألته عنه، فقال: تحمل الضفادع صفات تساعدها على البقاء في مختلف البيئات. لذلك يمكنها أن تعيش في أي مكان على الأرض ما عدا القارة القطبية.. حيث تتواجد الضفادع مثلاً في الصحارى والغابات والسهول وجبال الهيمالايا والآنديز والارتفاعات التي قد تصل إلى 5000 متراً، إلا أن المناطق المدارية هي أكثر المناطق ازدحاماً بالضفادع، ففي الغابات المطيرة تزدحم الضفادع حيث يمكنك أن تجد 40 نوعاً منها في كل مترين مربعين.
قلت: فما التصميم المعقد المرتبط بتكاثرها؟
قال: هناك طريقة تكاثر عجيبة ينتهجها نوع من الضفادع يطلق عليه [ريو باتراخوس سيلوس]، حيث تبتلع هذه الضفادع بيوضها بعد الإخصاب، ولكن ليس لتأكلها، بل لتحميها، حيث تفقس البيوض في المعدة، وتبقى هناك لمدة ستة أسابيع بعد الفقس.
قلت: ولكن كيف تبقى هناك دون أن تُهضم؟
قال: وهذا هو التصميم البديع المرتبط بذلك.. حيث نرى الأنثى تتوقف في البداية عن تناول الطعام لمدة ستة أسابيع، أي: إن معدتها تبقى مخصصة طول هذه الفترة للشراغيف فقط.
قلت: ولكن هناك خطر آخر يتهددها: إنه حمض الهيدروكلوريك والببسين، وهاتان المادتان كافيتان لقتل الصغار؟
قال: وهذا لا يحدث، لأن الأمور محسوبة وضمن معايير خاصة.. فالسوائل الموجودة في معدة الأم تتم محايدتها عن طريق مادة أخرى تشبه الهرمون تفرزها كبسولات البيوض من جهة والشراغيف من جهة أخرى.. وهكذا ينمو الصغار بصحة جيدة على الرغم من أنها تسبح في بركة حمضية.
قلت: ولكن كيف تتغذى الشراغيف في معدة فارغة؟
قال: هذه أيضاً ترتبط بذلك التصميم البديع.. فبيوض هذه الأنواع أكبر من غيرها بشكل ملحوظ؛ لأنها تحتوي على صفار غني بالبروتين، يكفي لتغذية الصغار لمدة ستة أسابيع.
قلت: ولكن مع ذلك تعرض مشاكل جديدة وكثيرة عندما يحين وقت الولادة؟
قال: أجل.. ولذلك وضعت التصميمات البديعة لتحقيق ذلك.. حيث يتمدد المري خلال الوضع تماماً كما يتمدد الرحم عند الثدييات، وعندما تخرج الصغار يعود كل من المري والمعدة إلى الحالة الطبيعية وتبدأ الأنثى بتناول طعامها.
لم أملك إلا أن أقول من حيث لا أشعر: إن هذا عجيب جدا.. إن هذا وحده كاف لينسف نظام التكاثر لدى هذا النوع من الضفادع لنظرية التطور من أساسها.
قال: أجل.. فهو نظام معقد ومترابط، وكل خطوة من هذه العملية مرتبة بعناية لتضمن حياة هذا الشرغوف.. حيث يجب أن تبتلع الأم البيوض أولاً وأن تتوقف عن تناول الطعام لمدة ستة أسابيع، بينما يتحتم على البيوض أن تفرز مادة هرمونية لتعدّل الوسط الحامضي للمعدة.. أما البروتين الإضافي الذي يقدمه صفار البيضة فهو ضرورة أخرى.. وكذلك لا يمكن أن يتوسع مري الأنثى عن طريق المصادفة لتضع صغارها.
انظر جيدا.. فأي خلل مهما كان صغيراً في هذه السلسلة من الأحداث كفيل بإهلاك الصغير، واستمرار هذا الخلل يعني انقراض النوع.. لهذا لا يمكن أن تكون نظرية (الخطوة خطوة) ممكنة التطبيق على هذا النوع من الضفادع.
بعد أن سمعت الكثير من الأمثلة التي أوردها لي صديقي [ألبرت وليام ديمبسكي] تلاشت الكثير من الإشكالات التي كانت تطوقني، وتحول بيني وبين التفكير السليم.. بل كانت تجعلني أعيش عالما من الخيال والوهم الكاذب المملوء بالدجل.
لكني، وبسبب تلك المضايقات التي يتعرض لها كل من ينكر نظرية التطور راح ما ذكره ذلك الصديق العزيز الذي تحدى واقعه بكل قوة، يتلاشى شيئا فشيئا إلى أن كدت أعود إلى وضعي الأول، لولا أن تداركني الله بفضله، فالتقيت فجأة من أعاد إلي وعيي وحطم كل الأسطورة التي بناها داروين وتلاميذه وسدنته في عقلي.
لقد كان اسم ذلك الرجل الذي أتيح لي أن أستفيد منه كل تلك الفوائد هو [مايكل دنتون]، وهو عالم متخصص في الكيمياء الحيوية، وكان في بدايته كما ذكر لي، يؤمن بنظرية التطور بحكم إلحاده، إلى أن بدأ يكتشف بنفسه، ومع التقدم الرهيب في البيولوجيا الجزيئية، عشرات الثغرات القاتلة التي أزالت عن التطور الهالة العلمية التي ينسجها أتباعه حوله ليمرروه على الناس بغير تفكير ولا مناقشة.
وقد ذكر لي أنه حينها قام بتأليف كتابه الشهير [التطور نظرية في أزمة] عام 1985م، وقد كان من أوائل الكتب التي قلبت نظرية التطور في العصر الحديث رأسا على عقب.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت له مشاركات عديدة في وثائقيات علمية عن الدقة المتناهية، وعلامات التصميم الذكي في الحياة والأرض والكون وصولا إلى الإنسان.
عندما التقيت به، وتحدثت معه عن بعض المعاني التي يذكرها التطوريون تغير وجهه تغيرا شديدا، ثم راح يقول لي: إلى متى تظل هذه النظريات التي ولدت وهي تحتضر تتشبث بالحياة.. وإلى متى تظل تتنفس بأجهزة اصطناعية.. هيا اقطعوا عنها الأجهزة.. فقد ماتت منذ زمن طويل.
قلت: هل تقصد أنك من تلك المدرسة التي تقول بالتصميم الذكي، والتي أبدعها وابتدعها صديقي [ألبرت وليام ديمبسكي]؟
قال: هو لم يبدعها ولم يبتدعها.. بل هي قائمة في كل العصور.. فكل الفلاسفة والعلماء والعباقرة يشهدون بدقة الكون والحياة ولا يجادلون في ذلك إلا هؤلاء التطوريون الذين راحوا يصورون الحياة، وكأنها تنفيذ من غير تصميم، ومنتوج من غير تخطيط، وهذا مما يحيله العقل بالبداهة.
لست أدري كيف حننت إلى حديث صديقي [ألبرت وليام ديمبسكي]، فرحت أستفزه ليحدثني مثلما حدثني، فقال: أنت تعلم أن أهم مرحلة في أي إنجاز نراه أو نعيشه هو الفكرة التي أبدعته وانطلق منها.. أو هي ما يمكن أن يطلق عليه [التصميم]
فالمصمم([2]) يقوم بتصميم النماذج، ورسمها على الورق.. والعادة في هذه التصاميم أن تنطلق من مشاهدات ومعارف سابقة، فلا يمكن لأي مصمم بشري أن يصمم شيئاً لم يره أو يعرفه في حياته، فهو يستمد إيحاءات مشروعه من الطبيعة حوله، فكل ما فيها هو تصميم قائم بحد بذاته.
ولذلك فإن التصميم يمر بمراحل كثيرة.. فالمصمم يقرر أولاً مادة التصميم والغاية منه.. ثم يحدد المستخدم المحتمل لهذا التصميم وحاجات هذا المستخدم.. وانطلاقا من ذلك يحدد مقاييس التصميم..
ولهذا فإن المصممين في العادة أقل الناس استخداماً للمواد أثناء العمل، ذلك أن الحاجة الأولى خلال كل تلك العملية هي اختراع الأفكار الذكي،ة أو التفاصيل الثانوية، إلى جانب العمل الجاد.. فلا يحتاج المصمم في البداية لأكثر من ورقة بيضاء وقلم، وأثناء تشكيله للتصميم يقوم بمراجعة الأمثلة السابقة للنموذج.
وعندما نزور المصممين في مخابرهم نجدهم يضعون مئات من الخيارات المختلفة، والتي قد يستغرق العمل فيها شهوراً كثيرة.. ثم بعد ذلك تتم مراجعة هذه الأفكار، ويتم انتقاء أكثرها فائدة وجمالاً ليتم إنتاجه.. ثم تُدرس تفاصيل الإنتاج المناسبة لهذا العمل.
وبعد وضع نموذج صغير معياري للمنتج، والذي يترجم الأفكار ذات البعدين إلى أفكار ثلاثية الأبعاد.. وبعد إجراء المزيد من التحسينات يتم تركيب نموذج بالحجم الحقيقي للمنتج.. وقد تستغرق هذه العمليات سنوات من العمل.. وخلال هذه المدة تتم تجربة النموذج عدة مرات لإثبات جودته بالنسبة للمستخدم.
ولهذا فإنه من البديهي عندما يدخل تصميم جديد إلى السوق أن يتم تقييم مظهره أولاً من قبل المستهلك من شكله، ولونه، ثم يتم تقييم فعاليته وأدائه.
وبناء على هذا كله فإن أهم مرحلة في أي منتج نراه، وأخطرها، هي مرحلة التصميم، ولهذا، فإن المالك الوحيد لكل التصاميم هو الذي يحكم سيطرته على كل الأمور.
قلت: وعيت كل ما ذكرته.. ولكني لم أع مقصودك منه.
قال: مقصودي واضح.. وهو أن الإبداع الحقيقي ليس في الإنجاز، ولا في إخراج التصميم من عالم الافتراض إلى عالم الواقع، وإنما في الفكرة نفسها.. فإذا كنا نحن البشر لا نرضى لأحد أن ينسب لنفسه ما نخترعه من تصاميم لا تعدو أن تكون تقليدا لما في الطبيعة من تصاميم دقيقة.. فكيف نسم تلك التصاميم الدقيقة التي تمتلئ بها الطبيعة بكونها خرجت هكذا للوجود، وبعشوائية، ومن غير تصميم سابق، ولا فكرة سابقة.
قلت: صدقت في هذا.. فالجهد الكبير الذي قام به شكسبير لكتابة مسرحياته أكبر بكثير من الجهد الذي تقوم به المطبعة لطباعتها وإخراجها.. ولو أخرجت منها ملايين النسخ.. فالعبرة بالإنتاج لا بالصناعة والتكرار.
قال: بورك فيك.. ولهذا فإن عملية الخَلْق من العدم، ودون وجود نموذج سابق للمخلوق أمر عظيم جدا.. ويستحيل أن يأتي هكذا صدفة من غير تدبير عاقل ممتلئ بالذكاء والعلم والحكمة والخبرة وكل صنوف القدرة..
واعتبارا من هذا، فإن قدرة الإنسان نفسها على التصميم دليل آخر على وجود قدرة خارقة وعقل جبار قام بتصميم الإنسان وإعطائه كل تلك القدرات.
قلت: صدقت في هذا.. فنحن نفخر بتلك الروبوتات التي أصبحت تعيننا في الكثير من شؤون حياتنا، مع أنها خالية من أي إبداع حقيقي، فهي لا تعطينا إلا ما نعطيها.
قال: أجل.. وزيادة على ذلك فإن كل ما نراه من أشياء نعتقد أنها جاءت كنتيجة عن التصميم البشري ليست سوى تقليد لأمثلة موجودة في الطبيعة، ومنذ ملايين السنين.
أصابني شوق لتلك الأمثلة التي أوردها صديقي [ألبرت وليام ديمبسكي]، فقلت له: هلا ضربت لي أمثلة تؤكد لي بها ذلك.. وتجعل قلبي مطمئنا لما تقول.
قال: الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. وسأذكر لك بعضها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.. فمن المستحيل حصر مثل هذا.
فكر قليلا، ثم قال: هل تتصور أن كل تلك الاختراعات الذكية جدا، والمرتبطة بالإنسان الآلي، والتي نتيه بها، ونتعاظم، ليست سوى تقليد للحشرات.
قلت: للحشرات؟
قال: أجل.. فقد أظهر الإنسان الآلي الذي قام بناؤه على مبدأ أرجل الحشرات توازناً أفضل.. ذلك أنه عندما تم تركيب وسائد شافطة على أقدام الإنسان الآلي أصبح بإمكانه السير على الجدران مثل الذبابة تماماً.
وحسب أقوال البروفسور [جوهانسن سميث]، فإن محركاً أصغر من مليمتر واحد يمكن أن يحرك إنسانا آلياً بحجم النملة.. وهذا الإنسان الآلي يتم تصنيعه لاستخدامه كجيش صغير أعضاؤه بحجم النملة، ليخترق صفوف الأعداء دون أن يُؤْبَه له، ويقوم بتعطيل الرادارات والمحركات النفاثة، وتعطيل معلومات الحواسيب للاعداء.
وقد بادرت بعض الشركات اليابانية العملاقة إلى تنظيم شراكة للعمل في هذا الموضوع، وأثمرت هذه الشراكة عن إنسان آلي صغير جداً يزن حوالي 0،42 غرام ويسير بسرعة 4 أمتار في الدقيقة.
قلت: هذا عجيب جدا.
قال: والفضل فيه قبل أن يعود للإنسان المصمم يعود للتصميم نفسه.. فالتصميم البديع للحشرات هو الذي أوحى للمخترعين بأن ينسجوا على منوالها.
قلت: صدقت في هذا.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.
قال: من الأمثلة على ذلك أن بعض المصممين راحوا يبحثون في سر كون الحشرات أكثر المخلوقات وجوداً على الأرض، وعن سر مقاومة جسمها لمختلف الظروف المحيطة.. وقد وجدوا أن أحد عوامل المقاومة التي تتمتع بها هو مادة الكيتين التي يتألف منها هيكلها العظمي.
و[الكيتين] مادة رقيقة وخفيفة جداً، فلا تجد الحشرات صعوبة في الاحتفاظ بها، وعلى الرغم من أنها تغلف جسمها بشكل كامل، إلا أنها قوية بما يكفي لتعمل عمل الهيكل العظمي.
ومع قوة الكيتين تتمتع هذه المادة بالمرونة، ويمكنها أن تتحرك عن طريق العضلات التي تتصل بها من داخل الجسم، وهذا لا يضمن الحركة السريعة للحشرات فحسب، بل يخفف من حدة الصدمات الخارجية، بالإضافة إلى أن هذه المادة المانعة لتسرب الماء الحشرة تساعدها على الاحتفاظ بسوائل جسمها.
ولهذا نرى الحشرات لاتتأثر بالحرارة أو الإشعاع، كما أن ألوانها في معظم الأحيان تلائم المحيط تماماً، وفي بعض الأحيان تصدر إنذارات من خلال الألوان الزاهية التي تظهرها.
وانطلاقا من كل ذلك راحوا يبحثون عن كيفية الاستفادة من هذه المادة في جوانب الحياة المختلفة، وخاصة في صناعة الطائرات والسفن.. لكن الحلم لم يتحقق بعد.. ولا زالت الحشرات أكثر تطورا من السفن والطائرات.
قلت: وعيت هذا.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.
قال: من الأمثلة على ذلك الشكل المثالي لخلايا الدم الحمراء.. فهي المسؤولة عن نقل الأكسجين في الدم.. وهذه العملية تتم بواسطة مادة خضاب الدم التي تخزنها خلايا الدم الحمراء، وكلما كان سطح هذه الخلية واسعاً كلما كانت كمية الأكسجين التي تحملها أكبر.
وبما أنه يتحتم على هذه الخلايا أن تمر عبر الأوعية الشعرية، فإن حجمها يجب أن يكون في حده الأدنى، أي أن يكون سطحها كبيراً وحجمها صغيراً.
ولهذا، فإن الخلايا الحمراء صممت وفق هذه المعايير، حيث نراها ذات بنية مسطحة، ودائرية، ومضغوطة من كلا الجانبين، وتشبه حلقة الجبنة السويسرية المضغوطة من كلا الجانبين.. وهذا هو الشكل الذي يضمن أكبر سطح ممكن مع أصغر حجم.
ومع هذا الشكل يمكن أن تحمل كل خلية حمراء 300 جزيء من الهيموغلوبين، إضافة إلى ذلك، فإن الخلايا الحمراء يمكن أن تمر داخل أصغر الأوعية الشعرية وأضيق المسامات بسبب مرونة بنيتها.
قلت: وعيت هذا.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.
قال: من الأمثلة على ذلك العيون اللونية لسمكة البالون.. والذي يعيش في المياه البحرية الدافئة في الجنوب الشرقي لآسيا.. فعندما تسقط كميات زائدة من الضوء عليها، تعمل عيون هذه السمكة عمل النظارات الشمسية المعالجة كيميائياً، حيث تحمل عيون هذه السمكة التي يبلغ طولها 2،5 سم خصائص مشابهة لخصائص العدسات التي تتغير الكثافة اللونية فيها تبعاً لشدة الضوء.
فعندما تواجه العين ضوءاً زائداً تبدأ الخلايا اللونية، والتي توجد حول الطبقة الشفافة (القرنية) بتحرير صباغ أسود يغطي العين، ويعمل عمل المرشح في التقليل من كثافة الضوء، مما يؤهل السمكة للرؤية بوضوح أكبر.. ويختفي هذا الصباغ في المياه المظلمة، وتتلقى العين أكبر كمية ممكنة من الضوء.
فمن الواضح أن هذا النظام هو نتاج تصميم مبدع.. فهذه الخلايا تقوم بإفراز هذا الصباغ بتحكم منظَّم لا يمكن اعتباره وليد المصادفة.
بعد أن سمعت الكثير من الأمثلة التي أوردها لي [مايكل دنتون] مما ذكرته لكم، وغيرها.. اقتنعت قناعة تامة باستحالة العشوائية، ولهذا فإني بعد خروجي من عنده مباشرة قررت الانتماء لمعهد ديسكفري على حسب ما أرشدني مايكل..
فقد قال لي قبل وداعه: أرى أن كل المعاهد التي ترى نظرية التطور صارت لا تختلف عن معاهد السحر والخرافة والدجل.. فالتمس لك معاهد غيرها، لتفيد وتستفيد، وتخدم البشرية، وتخدم قبلها الحقيقة، وتتحرر بها.
قلت: وأنى لي أن أجد ذلك.
فقال لي: اذهب إلى معهد ديسكفري، فإنك ستجد به قوما من العلماء، لا همّ لهم إلا البحث في حقائق الكون، ومدى دقتها وإحكام تصميمها، وسترى عندهم الكون بصورته الجميلة الممتلئة بالدقة والتناسق والعظمة.. ولا عليك بعدها أن تؤمن أو لا تؤمن، فتلك مسألة شخصية.
قلت: فما يشترطون لدخولي لهذا المعهد؟
قال: لا يشترطون إلا صدقك وبحثك، وتخليك عن خرافات التطور، وتقديس رجالها.. فالحقيقة هي المقدسة، لا الأشخاص..
قلت: والمال؟
قال: هذا المعهد منظمة غير ربحية، فهو لا يريد منك إلا أن تساهم معه في نشر أفكار التصميم الذكي، ويعطيك من الحقائق والمناهج ما تمارس به هذه الدعوة.
ذهبت كما طلب مني، وأمام باب المعهد التقيت بـ [جوناثون ويلز]، وقد أخبرني أنه عضو في مركز العلم والثقافة التابع لمعهد ديسكفري، وهو يحمل شهادتي دكتوراه واحدة في البيولوجيا الخلوية والجزيئية من جامعة كاليفورنيا، وأخرى في الدراسات الدينية من جامعة يال.
والأهم من ذلك كله أنه أخرج لي كتابا من محفظته، ثم كتب لي فيه إهداء، وقال: تقبل مني هذا الكتاب، فهو من تأليفي.. إنه كتاب [أيقونات التطور: لم يكون معظم ما ندرسه عن التطور خاطئاً]
فرحت بالكتاب كثيرا، وأخرجت من جيبي الكثير من المال لأعطيه لصاحبه، فقال: لو كنت أؤمن بنظرية التطور، والقيم المرتبطة بها لقبلت المال منك.. ولكني، ولكوني أرى من جمال الكون ما لا يراه التطوريون، فقد كانت فرحتك بالكتاب أعظم هدية أهديتها لي، أو أعظم ثمن أسديته.
بينما كنا كذلك إذ أسرع رجل إلينا، ثم أخذ يصافح ويلز بحرارة، دون أن يلتفت لي، وهو يقول: مرحبا بأهم قائد لفيالق حرب نظرية الدجل والخرافة نظرية التطور.. ومرحبا بصديق الإنسانية والحقيقة الذي دعا لإصلاح تعليم التطور عبر تصحيح أخطاء الكتب المدرسية، وعبر التأكيد على أن الدليل المؤيد والمعارض للدراونية يجب أن يدرس..
تخليت عن بعض كبريائي، ورحت أسأل الرجل قائلا: مرحبا بك.. هلا عرفتني على هذا الرجل، فإنه قد أهداني كتابه من دون أن يعرفني بنفسه.
قال: ألا تعرف هذا.. إنه خادم كبير من خدم الإنسانية.. إنه من دعاة التصميم الذكي الذين راحوا يفسرون نشأة الأنواع الحية تفسيرا علميا بعيدا عن كل أنواع الأيديولوجيا والتفكير الغرضي.
إنه ذلك الرجل الذي تبنى توجهاً مناهضاً للدور العشوائي اللاغائي الذي تعطيه نظرية التطور للطبيعة، باعتبارها أداة فاعلة في الخلق..
ولذلك تراه في كل محفل يناهض دعاوى التطوريين عن وجود عيوب في تصميم الأنواع الحية؛ لكونها تطورت بعضها من بعض، فنشأت العيوب نتيجة السمكرة وإعادة التخليق، وهو لذلك لا يعترف بوجود أعضاء أثرية بلا وظيفة، أو أعضاء غيّرت وظيفتها عبر المشوار التطوري.
بل هو على النقيض من ذلك، يرى ـ كما يرى جميع دعاة نظرية التصميم الذكي ـ في الأنظمة الحيوية تعقيدات وظيفية متخصصة، وتعقيدات غير قابلة للاختزال، ومن ثم تعجز الرؤية التطورية التدرجية التراكمية عن تفسيرها.
قلت: فهي نظرية دينية إذن؟
قال: لا.. هي ليست نظرية دينية.. بل هي تحصر دورها في وصف حقيقة الحياة كما هي، وتزيل عنها الرؤية التطورية الخرافية.. وترى كل نوع من الأنواع عالما قائما بذاته، لم يتطور من غيره، ولم ينشأ عنه.. وهي لذلك تفسر خلق الأنواع الحية بكونها تمت من قِبل مصمم ذكي، ولا تسمي اسم ذلك المصمم ليجتمع فيها جميع الأديان المؤمنة بوجود مصمم ذكي بغض النظر عن اسمه وصفاته وحقيقته، وهذا ما يفرقها عن النظريات الدينية.
قلت: ولم لا تتبنى رؤية دينية معينة؟.. ولم لا تعتبر الله خالقا، وتحدده على أنه ذلك المصمم الذكي؟
قال: هي لا تفعل ذلك لسببين.. أولهما أن ذلك سيبعدها عن أداء دورها الرسالي المرتبط بمواجهة أيقونات التطور وكهنته.. والثاني هو أن تحديد المصمم بدقة وعلمية أمر يخرج عن قدرة العلم.. ولذلك ترى هذه النظرية أن الخلق الخاص لكل نوع حي يتناسب كفرضية تفسيرية مع التصميم الذكي، بينما التطور التدريجي للأنواع الحية بعضها من بعض لا يتواءم مع التصميم.
قلت: فهل يقتصر دورها على هذا؟
قال: لا.. إن دورها يتعدى تقديم تفسير لنشوء الأنواع الحية، وهي الحدود التي تتناولها نظرية التطور؛ بل إنها تضيف إلى ذلك تفسيراً لنشأة الكون ككل، يُستدل عليه من خلال التوافق الدقيق للكون.
قلت: لا شك أن أصحاب هذه النظرية يتعرضون لمضايقات من طرف التطوريين، فأنا أعرفهم جيدا.. أعرف كبرياءهم وغرورهم واعتقادهم أنهم على الحق المجرد، وأن غيرهم خرافيون وضالون.
قال: صدقت في ذلك.. فمنذ بدأت حركة التصميم الذكي، والتطوريون يشيعون عن أصحابها أنهم خَلْقَوِيُّون، مع أن المنضمين إلى هذه الحركة والمؤسسات التابعة لها ليسوا كذلك جميعا.. فبعضهم دينيون مع اختلاف دياناتهم.. وبعضهم لا أدريون.. بل إن بعضهم ملاحدة.
قلت: فهلا ذكرت لي بعض أقطاب هذه النظرية..
قال: هم كثير.. ويتزايدون كل يوم.. وأظن أنك ستصير في يوم من الأيام أحدهم..
قلت: إذا قررت ذلك.. فهل يمكن أن أجد أصدقاء من العلماء المحترمين؟
قال: أجل.. ستجد الكثير منهم.. ومن كثير من التخصصات العلمية.. ستجد منهم البروفيسور [دين كينيون]، وهو من أوائل المؤسسين لهذه الحركة، وأحد المشاركين في وضع نموذج شهير لتفسير نشأة البروتين في بدء الخلق من خلال الأُلفة الكيميائية للأحماض الأمينية، بعد أن تراجع عن نموذجه واعترف بعدم وجود قيمة تفسيرية له.
وستجد منهم البروفيسور [أنتوني فلو]، الذي قضى عمره في الإلحاد، ثم عاد عنه وصنّف كتاب [هناك إله] الذي أعلن فيه تراجعه عن إلحاده، وانضم إلى حركة التصميم الذكي..
وستجد منهم الدكتور البيولوجي [هنري جي] المُحرر بمجلة نيتشر التطورية الشهيرة، وذلك في كتابه [البحث في أعماق الزمن]، والذي علق على الاستشهاد ببضعة عظام لا تملأ صندوقا صغير على تطور الإنسان أو غيره ـ مع كونه من التطوريين ـ: (إن أخذ سلالة من الأحافير وادعاء أنها تمثل خطاً تكاثرياً لا يعتبر فرضية علمية قابلة للاختبار، وإنما هو تأكيد على قصة تحمل نفس قيمة القصص التي تروى قبل النوم ـ ربما مفيدة.. ولكن ليست علمية)
وستجد [جيري فودور]، وهو بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي، والذي كتبت كتابه في التشكيك في حقيقة وجود خرافة الانتخاب الطبيعي مع كونه كان حينها ملحدا، وذلك في كتابه [لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟]، والذي تم نشره في معرض الكتاب بلندن عام 2007م.. وقد شارك مع [ماسيمو بياتيللي بالماريني] في إصدار كتاب بعنوان [الأمر الذي أخطأ فيه داروين] عام 2011م، وقد قالا في مقدمته: (هذا ليس كتاباً عن الله، ولا عن التصميم الذكي، ولا عن الخلق.. ليس أياً من أحدنا متورطٌ في شيءٍ من ذلك.. لقد رأينا أنه من المستحسن أن نوضح هذا منذ البداية، لأن رأينا الأساسي فيما سيأتي يقضي بأن هناك خطأ ما، وربما خطأ لدرجة قاتلة في نظرية الانتخاب الطبيعي)
التفت إلي، وقال: هل سمعت ما قالا.. إن هذا يعني أن أكبر الانتقادات الموجهة لخرافات التطور وآلياته الخيالية وغير العلمية هي من أشخاص ملحدين أو لا أدريين أو لادينيين، إضافة إلى كونهم كانوا تطوريين من قبل أن يرجعوا لصوابهم وعقلهم.
قلت: وعيت هذا.. ولكني سمعت أن هناك جهات كثيرة معادية لكم، ومنها جهات رسمية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.. فقد صرّحت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة بأن التصميم الذكي ليس علماً؛ لكونه يفترض أصلاً خارقاً للطبيعة في نشأة الحياة، واتهمت النظرية بأنها لا تقترح أية فرضيات خاصة بها، ولا يمكن إخضاعها للتجربة، كما أنه لا يمكن التنبؤ منها بشيء!
قال: لا شك أن هذه التصريحات شكّلت درجة عالية من التحيز لنظرية التطور، والتجنّي في المقابل على نظرية التصميم.. فنظرية التصميم لها فرضياتها القابلة للاختبار؛ وأهمها: التعقيد المتخصص، والتعقيد غير القابل للاختزال في الأنظمة الكونية والحيوية.. كما أن النظرية تحقق أهداف العلم الثلاثة (التفسير ـ التنبؤ ـ الضبط)
وهي لذلك تقدم تفسيراً متسقاً غير متعاكس للضبط الدقيق في الكون، وللدقة التي خُلِقت بها أجسام الأنواع الحية، وللقدرة على التكيف الموجودة في المناطق التنظيمية من جيناتها.
بل إنه يمكن من خلالها التنبؤ بالكثير في ضوء فرضياتها مثل توسع أو انكماش الكون، ووصول كائن ما للشيخوخة أو الإصابة بمرض.
وفوق ذلك كله، فنظرية التصميم لا تعتبر الأنواع متسلسلة من بعضها، حتى تُطالب بالتنبؤ بظهور نوع جديد، فهذه فرضيات التطور، وليست فرضياتها، فما بالنا ونظرية التطور ذاتها تعجز عن هذا التنبؤ.
سكت قليلا، ثم قال: من أدلة كون كل ما ذكر أعداء نظرية التصميم الذكي مجرد حاقدين ومنحازين وغير علميين هو عجزهم عن تخطئة ما ذكرته حركتنا، وأيدته بالأدلة العلمية.. فالتعقيد في الكون وفي الأنظمة الحيوية غير قابل للاختزال، وفي التعقيدات المتخصصة.. كلها فرضيات ليست فقط قابلة للدحض؛ بل ولم يتم دحضها، وثبتت صحتها، فبالتجريب على الكثير من الأنظمة الحيوية ثبت أن غياب جزء واحد فقط عن أي نظام حيوي يجعله يتوقف تماماً عن أداء وظيفته.
ذلك أنه لا يمكن تبسيط أي نظام حيوي مهما صغر، ولا يمكن إعطاء تفصيلات تدعم أن أي نظام حيوي هو نظام مبني بشكل تراكمي قابل للاختزال كما يزعم التطوريون.. هذه هي الحقيقة التي تدعمها الكيمياء الحيوية، وهذا هو صلب التصميم الذكي.
سكت قليلا، ثم قال: في المقابل.. انظر إلى الرؤية التطورية كيف تعجز في الغالب عن إعطاء تفسير مفصّل لتكوّن أي نظام حيوي مما تفترض تكوُّنه بشكل تراكمي، كما أن تفسيراتها المبسطة غير المفصّلة ومن ثم غير العلمية؛ تتناقض في أحيان كثيرة.
ونظراً لهذا النقد الذي كثيراً ما وُجِّه للتفسيرات التطورية، فقد لجأوا في العقدين الأخيرين إلى محاولة إعطاء تفصيلات أكثر للخطوات التراكمية التي تُكوِّن بعض الأنظمة الحيوية وفق تصوراتهم.. وهي توقعات تنقصها التفصيلات المنطقية كما هو متطلب في النقد العلمي.
أما بالنسبة للنظام الكوني، فيكفي تغيير قيمة أحد الثوابت الكونية نظرياً لتثبت لنا المعادلات الرياضية كيف سينهار الكون بأكمله.. وهذا يعني صمود فرضيات التصميم الذكي أمام الفحص.. فإن كانت هناك نظرية لا يمكن اختبار فرضياتها، وليست لها أي قيمة تفسيرية، وتحيل إلى المجهول؛ فهي التطور وليس التصميم الذكي.
العشوائية.. والتعقيدات غير القابلة للاختزال:
قال ذلك، ثم انصرف كلاهما.. فدخلت إلى المعهد، وكان أول ما قابلني مدرج كبير اجتمع فيه الكثير من الأساتذة والطلبة.. وقد وقف على المنصة متحدثا رجل أعرفه جيدا كان اسمه [مايكل بيهي]، وهو عالم متخصص في الكيمياء الحيوية، وأستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة ليهاي في بنسلفانيا بأمريكا.
وقد كنت أعرف أيضا أنه من العلماء الذين ساورتهم الشكوك الكثيرة حول نظرية التطور مع كونه لم يكن مؤمنا، لكن نتيجه تخصصه العلمي الدقيق، ونتيجة للاكتشافات العلمية الأخيرة، وخصوصا عندما قرأ كتاب [التطور نظرية في أزمة] لمايكل دانتون، ووجد أن كل النقاط التي ذكرها بالفعل أصابت التطور الصدفي والعشوائي في مقاتله.
وبناء على ذلك قام بتأليف كتابه الشهير [صندوق داروين الأسود] عام 1996م، وهو يعتبر من أشهر من أسسوا ووضعوا قواعد نظرية (التصميم الذكي) في شكلها الأكاديمي الأخير، وخصوصا نقطة (التعقيد غير القابل للاختزال) ودلالته على استحالة التطور التدريجي العشوائي عبر الزمن، وعلى دلالتها على الغائية لظهور الأعضاء المعقدة مرة واحدة من جهة مُصمم ما (هو لا يذكر إله أو خالق بعينه)
عندما دخلت المدرج المكتظ، سمعت مايكل، وهو يخاطب الحضور قائلا: قبل أن أشرح لكم فكرتي حول الأنظمة المعقدة غير القابلة للاختزال، سأضرب لكم مثالاً من خارج البيولوجيا يقرب لكم ذلك.. إنه مصيدة الفئران؛ فهي ـ كما ترونها ـ مؤلفة من عدة أجزاء.. مؤلفة من قطعة خشبية، ومن نابض، ومن ملقط معدني، ومن قطعة جبن.. وعندما نزيل أي جزءٍ منها، فإن باقي الأجزاء لا قيمة لها على الإطلاق، فلن تعمل المصيدة إلا بوجود كامل أجزائها مجتمعةً مع بعضها في أماكنها.. ومثل ذلك القوس الحجري، فإننا إذا قمنا بإزالة أيّ حجرٍ منه فسينهار تماماً.. وبذلك فإن القوس والمصيدة أنظمة غير قابلة للاختزال.
وهذا هو الحال مع الكائنات الحية.. فالأنظمة المعقدة لا يمكن أن تعمل عند إزالة أحد أجزائها، ولذا لا يمكن لهذه الأنظمة أن تكون قد تشكلت بالتطور التدريجي، بل إنها لا بد أن تكون قد وجِدَت كما هي بشكلٍ فوريّ لا على مراحل، والكائن الحي مثالٌ على هذه الأنظمة.
***
قال ذلك، ثم التفت لبعض الحضور، وقال: أما بخصوص سؤالك أنت.. فالجواب عليه بسيط جدا، ذلك أن نظرية التطور تخبرنا أن الكائنات الحية معقدة التركيب الموجودة اليوم قد تطورت عن كائناتٍ أخرى أقل تعقيداً، وبما أن تعقيد الكائنات الحية يزداد عن طريق إضافة أجزاء أو وظائف أخرى إليها عن طريق الطفرات مثلاً؛ فبناءً عليه يمكن أن يقال: كما أن الكائنات تطورت بإضافة أجزاء ووظائف جديدة، فإنه نظرياً يجب أن نتمكن من العودة خطوةً إلى الوراء في المسار التطوري بأن نزيل الجزء المضاف، ويجب على الكائن الحي عندها أن يبقى قادراً على القيام بمهامه الحيوية.
فإذا كانت الرئتان قد ظهرتا مثلاً عندما خرجت السمكة الرئوية من الماء، يجب أن يكون صحيحاً أننا إذا أزلنا رئتي السمكة ستصبح أقل تعقيداً لكن قادرةً على الحياة والقيام بالوظائف الحيوية كما كانت قبل ظهورهما! وبما أن هذا لا يحدث، فإن هذا يؤدي بالضرورة إلى أن نظرية التطور ليست صحيحة.
***
التفت إلى آخر، وقال: بخصوص سؤالك أنت، فإنه إذا كانت نظرية التطور مبنية على تصور أن هذه الوظائف المعقدة الموجودة فى الكائنات الحية جاءت بشكل تدريجى عبر بلايين السنين، وأنه تم انتخاب كل شيء صالح أثناء هذه الفترة فتراكمت هذه الصلاحيات حتى وصلت إلى هذا التعقيد الذى نشاهده، والذى يقوم بكل هذه الوظائف الحيوية فى الكائنات الحية فلاشك أن هذا التصور ينهار إذا وجدنا فى الكائنات الحية وظائف غير قابلة للاختزال.
وهذا ما أقر به داروين نفسه فى كتابه أصل الأنواع حيث قال: (إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يرجح أن يكون قد تكون عن طريق تحولات عديدة ومتوالية وطفيفة، فسوف تنهار نظريتي انهيارا كاملا)
ومعنى أن هذا العضو معقد تعقيد غير قابل للاختزال أى أن الوظيفة التى يقوم بها لا وجود لها قبل أن تجتمع كل الأجزاء التى يتكون منها هذا الشيء.. وأنه لو فقد ولو جزء واحد من المكونات لتلاشت الوظيفة بالكلية.
ومثل ذلك الأجهزة الحديثة المعقدة التى لو قطعت منها أي سلك، أو أخرجت منها جزءا صغيرا، فإنها تفسد بالكلية.. ذلك أن هذه الأجهزة لا يمكن تصور تكونها بشكل تدريجى، نتيجة تراكم الصلاحيات والمنافع التى يمكن تحصيلها من أشكال منها أولية التركيب.
انظروا إلى المصعد الكهربائى، فوظيفته حمل الناس من الأدوار العلوية إلى السفلية أو العكس، وهذه الوظيفة لا يمكن تحقيقها قبل أن تجتمع كل أجزاء المصعد من أسلاك وأحبال ومحركات والصندوق الكبير الذى يدخله الناس، ويكون كل شيء من هذه الأشياء فى موضعه بالضبط، وموصلا بمصدر الطاقة.. وكل هذا يجب أن يحدث أولا قبل أن يتحرك المصعد سنتيمترا واحدا.
أما لو أحضرت ربع المكونات الأساسية للمصعد أو نصفها مثلا، فلن تتمكن من استخدام المصعد لطابقين أو ثلاثة حتى تكمل باقى الأجزاء الناقصة، ولذلك فهذا تعقيدا غير قابل للاختزال، ولا يمكن تكونه بشكل عشوائى بدون علم ولا حكمة ولا غاية.
فى حين أن العضو أو الشيء المعقد تعقيدا يمكن اختزاله لا يحتاج إلى مصمم، ويمكن أن يتكون بالصدفة وتراكم صلاحيات أجزائه، لأن كل جزء من أجزائه يحمل نفس الوظيفة التى يحملها هذا التعقيد المختزل في النهاية لكن بمقدرا أقل، وإلا لما وجد الانتخاب الطبيعى سببا لانتخاب تلك الأجزاء والتدريج يفيد فقط فى زيادة مقدرا الوظيفة.
وبالمقارنة مع مثال المصعد الكهربائى نجد الدرج قابلا للاختزال، ذلك أنه إذا كان عندك درجة واحدة فقد حققت منفعة لأنها سترفعك بمقدار ارتفاع هذه الدرجة من درجات الدرج، ولو أحضرت ربع عدد درجات الدرج المطلوب لمبنى مكون من عشرة طوابق لانتفعت بها ولاستطعت الصعود والهبوط عليها إلى طابقين أو ثلاثة.. بخلاف المصعد الذى لا يمكن الإنتفاع به بأى نفع إلا بعد اكتمال كل أجزائه.
وبذلك، فإن طريقة الدرج هى التى تتبناها الداروينية فى تحصيل المنافع بشكل تدريجى بسيط لتحقيق الوظائف المطلوبة، وهي تنهار إذا لم تستطع تعميم هذا الأسلوب على كل الوظائف الموجودة فى الكائنات الحية.
***
التفت إلى آخر، وقال: بخصوص سؤالك أنت، فالحقيقة أن الأمثلة عن الوظائف الحيوية المتصفة بهذا الوصف لا يمكن حصرها.. ومن أمثلتها السوط البكتيرى، وتخثر الدم، وتشفير الحمض النووي، وتنظيم الجهاز المناعى، وغير ذلك كثير.
التفت إلى آخر، وقال([3]): بخصوص ما ذكرت عن التطوريين، وأنهم اخترعوا فكرة التكيف المسبق، حيث ذكروا أن كل هذه الأعضاء المعقدة تعقيدا غير قابل للاختزال صحيح.. وأنه لم يكن لأجزائها أى قدر من الوظيفة التى سيؤديها العضو في النهاية بعد اكتمال كل أجزائه، لكن كان لها وظائف أخرى زالت وتطورت واندمجت فى الوظيفة النهائية التى نعرفها للعضو.. فإن هذا زيادة على عدم القدرة على إثباته مضحك جدا.
ذلك أننا لو طبقنا هذه الفكرة على المصعد الكهربائى، فسينتج لنا مسرحية هزلية لا مكان لها سوى في أفلام الرسوم المتحركة.. لأننا حينها سنطلق لخيالنا العنان ونفترض أن كل أجزاء المصعد تجمعت فى هذا المكان، وتركبت التركيب الصحيح بدون قصد تركيب مصعد كهربائى، وإنما كان هناك أغراض مختلفة تماما.
دعونا نطبق ما قاله الداروينيون على هذا المثال.. مثال المصعد.. فنفترض أن تكون الحبال الصلبة المتدلية من سطح المبنى حتى أسفله ـ مثلا ـ قد أحضرها لص ليسرق احدى الشقق.. وأنه أحضر بكرات قوية تدور حولها تلك الأحبال ليرفع عليها خزينة كبيرة سيسرقها من دخل الشقة.. ولنفترض أن هذه الخزينة كانت تشبه غرفة صغيرة تسع بداخلها شخصين أو ثلاثة.
ولنفترض أنه كان بالمبنى المجاور شخص قام من حيث لا يشعر بشراء محرك مصعد كهربائى، ثم تسلل ليلا للمبنى المجاور ووضعه فى المكان المجوف وسط المبنى الذى تتحرك خلاله المصاعد.. ولحسن الحظ كان هناك شخص وضع فى هذا المكان محولات كهربائية، وتوصيلات لإضاءة المبنى، وإقامة حفلة سيحضرها كل سكان المبنى، وأثناء اخراج اللص للخزينة تعثرت قدمه، فسقطت الخزينة على المحرك، واختلطت الأسلاك، وشغلت المحولات، وشدت الحبا،ل وتكون مصعد كهربائى بدائى.
ثم ما لبث سكان المبنى عندما رأوا ذلك، حتى راحوا يطورون ذلك المصعد الذي اكتمل بناؤه من غير قصد.. ليصبح وسيلة للصعود والهبوط، بالرغم من أنه تعقيد غير قابل للاختزال.
ضحك بصوت عال، وقال: هذه ليست نكتة، ولا خيالا مجردا، وإنما هذا هو المنطق الذي واجهت به الداروينية فكرة التعقيد غير القابل للاختزال.
ولهذا، فإن من لا يري بأسا فى قصة اللص والمصعد الكهربائى هذه يمكنه أن يكون داروينيا بجدارة.. ومن كان يرى هذه الطريقة التى عارضوا بها التعقيد غير القابل للاختزال طريقة سفيهة لا يمكن أن يتبناها أو يصدقها عاقل فهو متهم من قبل الداروينيين بأنه غير عقلانى، ويؤمن بخرافات وأساطير الأولين، بل ينبغى تجريم هذه الطريقة فى التفكير، وتقديم [مايكل بيهى] وزملائه للمحاكمة كما حدث فى محاكمة دوفر الشهيرة والتى حكم فيها القاضى بمنع تدريس نظرية التصميم الذكى، وفى المقابل يرى الداروينيون أن التكيف المسبق (قصة اللص والمصعد الكهربائى) طريقة علمية رصينة يمكن أن نعتمدها فى تفسير كل تعقيد غير قابل للاختزال، فهذه هى العقلية الدراوينية السخيفة عندما تتعامل مع الأزمات التى تفضحها.
***
التفت إلى آخر، وقال([4]): بخصوص ما ذكرت من التطور الهائل لعلم الكيماء الحيوية منذ أواسط القرن الماضي وحتى اليوم صحيح.. ولكن ذلك كله يصب في خدمة نظرية التصميم الذكي، وخصوصا في خدمة التعقيدات غير القابلة للاختزال.
ذلك أن أنه أدى إلى تغير جذري في معرفة العلم والطب بما يجري في جسم الإنسان، وبالذات في مقومات الحياة، فقد تبين للعلماء وبوضوح قاطع لا لبس فيه، أن حياة أي كائن حي، قائمة على عدد يصعب حصره من الآلات والأجهزة التي تعمل بشكل متكامل ومتزامن.. ولو توقف أي منها عن العمل لكان لها تأثيرات قد تكون مميتة على حياة الكائن الحي.
وهذه الآلات ليست مصنوعة من معادن وأخشاب وغيرها من المواد التي نعرفها، ولكنها مصنوعة من جزيئات كيميائية، تقوم بكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من أعمال، وتتحكم بكل ما يجري في الكائن الحي من مهام.
فهي تحمل المواد، وتنقلها، ثم تفرغ حمولتها في المكان المناسب، وتنسخ الخلايا وتعطيها شكلها ولونها، وتنقل صفات الكائن الحي لذريته وتدافع عنه ضد الأعداء، وتولد التيار الكهربائي وتنقله وترسله إلى الأماكن المطلوبة وتقطعه عندما تنتهي مهمته، ولو عددنا كل ذلك بتفصيل لما انتهينا.
باختصار أقول لك، ولكم جميعا: إن الجزيئات الكيميائية هي آلات تتحكم تماما بكل ما يجري في خلايا الكائن الحي من أعمال.
وقد كان هذا التغير في المعرفة أحد المعاول الكبرى التي ساهمت مع غيرها في هدم نظرية التطور، ذلك أنه من المعروف أن نظرية داروين تقوم على أسس ثلاثة.. أولها أن الكائنات لها أصل مشترك.. والثاني أن الاختلاف والتنوع والتعقيد الذي نراه في الكائنات هو نتيجة طفرات عشوائية كانت تحدث للكائنات على مر الملايين من السنين، وأن تراكم هذه الطفرات كان يؤدي إلى تغيرات في الكائنات الحية.. وثالثا الاصطفاء الطبيعي، الذي ينتقي من الكائنات ما تؤدي طفراته المتراكمة إلى تحسن في نوعه، فيبقى ويتكاثر وينقل صفاته المحسنة الجديدة إلى ذريته، في حين ينقرض الكائن الأضعف أو ذو الصفات الأدنى.
لكن اكتشاف العمليات البيولوجية المتسلسلة والمعقدة، والتي لا تكاد تحصى، والموجودة في الخلايا الحية، كان أحد أهم عوامل انهيار مبدأ تراكم الطفرات، وبالتالي انهيار النظرية من أساسها.
***
قام رجل من الحضور، وقال: هلا وضحت لنا ذلك.
قال: أنتم تعلمون أن تصنيع أي آلة معقدة مثل السيارة أو غيرها يحتاج إلى مصانع متقدمة، تحتوي على خطوط إنتاج، تعمل بدقة شديدة، وبخطوات متعاقبة..
حيث تدخل المواد أولها على شكل معادن ولدائن وقماشاً وجلداً وأسلاكا، وتخرج آخرها سيارة متكاملة جاهزة للعمل.
وأهم ما يلاحظه من يتأمل خط الإنتاج هو أنه يتألف من مراحل أو محطات متعددة متوالية، وأن كل محطة يتم فيها عمل ما يعتمد على ما تم في المحطة السابقة، ويعتمد عليه العمل الذي يتم في المحطة اللاحقة.. وبتعبير آخر كل مرحلة هي نتيجة لما قبلها وتوطئة لما بعدها، فالمواد التي تصنع منها السيارة موزعة على المحطات، كل مادة في المحطة المناسبة، وكل مادة ذات مواصفات دقيقة محددة معروفة مسبقاً.
فمثلاً في المراحل الأولى للتصنيع نرى على خط الإنتاج هيكل السيارة المعدني مجرداً، وفي مرحلة لاحقة يتم معالجته فنرى عليه ثقوبا وفتحات وتفاصيل مجهزة للمراحل اللاحقة، وهناك فتحات للأضواء، وثقوبا لكل سلك أو أنبوب سيعبر من المحرك إلى مقصورة الركاب، وأماكن مخصصة محفورة بدقة شديدة لكل صمام أو زر أو غير ذلك.. وهكذا كلما مشت السيارة على خط الإنتاج كلما أخذت أجزاؤها بالتكامل، حتى يتم التصنيع.
ومن البديهي أن هذا لا يتم إلا إذا كان هناك تصميم لكل أجزاء السيارة، من أكبر قطعة في هيكلها إلى أصغر دارة كهربائية في محركها.. ومن البديهي أيضا أن هذا التصميم قد تم تجهيزه مسبقا وبدقة شديدة وبشكل كامل قبل إنشاء خط الإنتاج.. ومن البدهي أن مدير فريق التصميم يعلم تماما كيف ستخرج السيارة في نهاية خط الإنتاج قبل أن يبدأ الإنتاج، ولو حصل خلل أو خطأ في خط الإنتاج، لما اكتمل التصنيع، فخط الإنتاج يكون عادة مبرمجاً بحيث لا يتحرك إلى أية مرحلة قبل أن تنتهي المرحلة السابقة لها، ولو فرضنا جدلاً أنه تحرك وتجاوز إحدى المراحل، فستخرج السيارة غير مكتملة أو فيها خلل يمنع من استخدامها.
سكت قليلا، ثم قال: إن خطوط الإنتاج الصناعية هي مثال تقريبي لنوع من العمليات المتسلسلة المعقدة، التي نطلق عليها (تعقيد غير قابل للاختزال)، أي لا يعمل إلا إذا كان مكتملا من أوله إلى آخره ولا يمكن أن نحذف منه أي مرحلة من مراحله، لأن حذف مرحلة واحدة يعطله تماما، ويعادل حذفه كله.
بناء على هذا المثال، فإن جسم الكائن الحي يحتوي على ما لا يكاد يحصى من خطوط الإنتاج التي تعمل على مدار الساعة، أبطالها هي الجزيئات الكيميائية، ومنتجاتها أكثر تعقيدا وإتقانا من أكثر السيارات تقدما، وتزيد عليها أن منتجات الكائنات الحية هي جزء من منظومة لا محدودة من الآلات التي تعمل معا بتفاعل وتناغم مدهشين لتحافظ على حياة الكائن الحي، بينما السيارة آلة مفردة مستقلة.
قام رجل من الحضور، وقال: هلا ضربت لنا مثالا على ذلك.
قال ما يكل: لك ذلك.. وسأضرب لكم مثالا عن عملية تخثر الدم، فكلنا يعرف أن الدم الذي ينزف من أي جرح يصيب الإنسان، ما يلبث أن يتخثر فيسد الجرح، ولكن الذي لا يعلمه الكثيرون أن هذا التخثر يتم عبر سلسلة معقدة من العمليات، أي عبر خط إنتاج محكم دقيق مشابه لخط الإنتاج الصناعي من حيث المبدأ، إذ يمر بمراحل متوالية متسلسلة تؤدي كل منها إلى ما بعدها حتى يتم الإنتاج على أكمل وجه، وبشكل دقيق محكم، ولو حصل أي خلل في تسلسل هذه العمليات فإن ذلك سيؤدي إلى هلاك الكائن الحي، إما بسبب النزيف حتى الموت، أو بسبب تشكل تخثرات كبيرة تسد مجرى الدم، ولذلك يمكن اعتبار ذلك تطبيقا لما ذكرناه من تعريف (التعقيد غير القابل للاختزال)
قام آخر، وقال: هلا شرحت لنا ذلك أكثر.
قال مايكل: لك ذلك.. فانطلاق هذه السلسلة يبدأ بتمزق نسيج الوعاء الدموي، وختامها يتم بالتئام الجرح.. وتكون المركبات والبروتينات والإنزيمات المشاركة فيها كامنة في الدم تنتظر الإشارة ليبدأ مسلسل تحفيزها.. وهذه الإشارة تنطلق من جدار الوعاء الدموي، الذي تحوي طبقته الداخلية على مادة تسمى [العامل النسيجي]، وهو مركب يوجد في طبقة رقيقة جدا تبطن الجدار الداخلي للوعاء الدموي، فإذا ما تمزق جدار الوعاء، ينطلق العامل النسيجي، معلناً حالة الطوارئ، ومؤذناً ببداية عملية التخثر، فهو الذي يُحفز بداية العملية التي تنتهي بتشكل الثرومبين، الذي يحفر الفايبربنوجين ليتشكل الفايبرين.
وما بين إطلاق العامل النسيجي، وصولاً إلى تشكيل الفايبرين، هناك سلسلة معقدة متسلسلة من العمليات، ولا يهمكم هنا أسماء المركبات، فهي مثل أسماء فريق كرة القدم، لا يهم من يمرر الكرة من أول الهجمة لآخرها، ولكن المهم أن يتحقق الهدف وتسكن الكرة الشباك.
وبناء على هذا، فإن الطبيعة التسلسلية المحكمة لهذه العملية، لا تختلف عن خط إنتاج السيارة، حيث ينطبق عليها وصف (التعقيد غير القابل للاختزال)، فلو حذفنا منها أية مرحلة من مراحلها، لما تمت العملية برمتها، ولما تخثر الدم، ذلك أن كل مرحلة منها تعتمد تماماً على التي قبلها، ولا بد لتتم كل مرحلة من وجود المركب الذي يقوم بها، ولكن بشكل كامن، ومن وجود المركب الذي يحفزه أيضاً، وأن يتم التحفيز في الوقت المناسب تماماً.
فكيف تطورت هذه العملية عبر الطفرات المتراكمة؟.. وكيف اتفق أن توجد كل هذه المركبات في صيغها الكامنة، وأن تتفعل الأنزيمات أو المحفزات اللازمة لعملها في القت المناسب والمكان المناسب.. علما أن هناك أكثر من خمسين مركبا وبروتينا وأنزيماً يشاركون في عملة تخثر الدم؟
سكت قليلا، ثم قال: إن من يزعم أن عملية تخثر الدم وأمثالها نشأت نتيجة تراكم الطفرات العشوائية، لا يختلف عمن يزعم أن جماعة مروا بكومة ضخمة من الخردة والمواد المختلفة، فعبثوا بها.. وأقول: عبثوا.. لأن الدارونيين يقولون إنه لا يوجد تصميم مسبق، بل هي طفرات عشوائية.. وصفوا وركبوا بعضاً منها ثم مضوا، وإذا الذي حصلوا عليه هو الجزء الأول من خط إنتاج سيارة.
ثم جاء من بعدهم جماعة أخرى، فعبثوا بكمية أخرى من المواد وصفوها إلى جانب سابقتها، ثم مضوا، وإذا بنا نحصل على الجزء الثاني من خط التصنيع.
ثم تتابعت الجماعات، كل جماعة تعبث فتحصل على مرحلة جديدة، وبعد أزمان ودهور من تتابع الجماعات، حصلنا على خط كامل لإنتاج السيارات، يعمل بدقة وإتقان وينتج سيارات كاملة قابلة للاستخدام، علماً أن كل الجماعات التي مرت، لم يكن لديها تصميم مسبق لما سيكون عليه هذا الخط عندما ينتهي بشكل كامل، ولم تكن تعلم ماذا ستفعل الجماعة التي بعدها.
إن كان هذا الكلام يمكن تصديقه، فيمكن إذن أن نصدق أن عملية تخثر الدم وأمثالها نشأت بواسطة التطور الداروني.
سكت قليلا، ثم قال: دعونا نسأل: هل كانت عملية تخثر الدم موجودة مع أول كائن حي نتج عن التطور وله دورة دموية؟ إن كان الجواب لا، بل قد تطورت تدريجياً، فهذا محال، لأن هذا الكائن لن يستمر في الحياة وسينقرض قبل أن يتطور، حيث إن دمه سينزف حتى الموت عند أول جرح أو خدش، وإن كان الجواب نعم، لقد كانت آلية تخثر الدم موجودة عند أول كائن ذي دورة دموية، فسنقول: إن هذا لو حصل يدحض تماماً نظرية التطور، حيث إن الوصول إلى مثل هذا النظام المعقد، بشكل مباشر وبهذه الدقة، لا يمكن أن يحدث بطفرة واحدة، بل يحتاج حسب نظرية داروين نفسها إلى عدد ضخم من الطفرات العشوائية المتراكمة عبر زمن سحيق من الدهور، أو يحتاج إلى أن يكون وراءه مصمم خبير.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نسألهم جدلاً: وهل كان هذا النظام لو فرضنا جدلاً أنه نشأ بطفرة واحدة يحتوي أيضا على طريقة لإيقاف التخثر في الوقت المناسب والمكان المناسب والسرعة المناسبة؟.. فإن قالوا لا، قلنا لهم: هذا محال لأن ذلك سيجعل هذا الكائن ينقرض، لأن دمه سيتجلط كله عند أول جرح، وإن قالوا: نعم، فسنقول لهم، عجبا لهذه الطفرة الخارقة، التي ينتج عنها دفعة واحدة نظام كامل متكامل معقد دقيق محسوب، وفي الوقت نفسه ينتج عنها نظام معاكس له لا يقل عنه دقة ولا تعقيدا ولا حساباً ولا إتقانا.
سكت قليلا، ثم قال: لم يتمكن الدراوينيون حتى الآن من إثبات أن عملية تخثر الدم.. ومثلها ما لا يكاد يحصى من العمليات الأخرى المشابهة في خلايا الكائنات.. ناتجة عن آليات التطور، وكل ما يقولونه هو تلك العبارة التي لا يملون من تردادها دون دليل أو إثبات: إن تراكم الطفرات الجينية على مر عصور طويلة كفيل بأن ينتج عنه تطور أي نظام معقد معروف.
صعد إلى المنصة، وراح يصيح بصوت عال: نحن يا سادة في عصر العلم، عصر التجربة والبرهان والدليل، فعليكم أن تثبتوا لنا بالدليل والبرهان والتجربة العلمية الموثقة، كيف تطور نظام تخثر الدم، وأن تثبتوا لنا أن أسلافنا لم يكن لديهم هذا النظام، أو كان لديهم نظام بدائي ثم تطور حتى وصل إلى ما وصل إليه، وسنتبنى نظريتكم إن أثبتم ذلك بالدليل العلمي القاطع.
لاشك أنهم سينغضون إليك رؤوسهم ويقولون: هل تريدن أن تقولوا إن هذا النظام من صنع وتصميم قوة خارقة عليا؟ أنتم تريدون جرنا للإيمان بالله.. وهذا ليس من العلم.
وهنا سنقول لهم: دعكم من هذه الطريقة المعروفة في التهرب من الجواب، لا تقفزوا خطوة للأمام قبل أن ننتهي من الخطوة السابقة، فإن أثبتم أن هذا النظام تطور حسب نظرية دارون، سنؤمن معكم بها، وإلا فدعونا نشطب هذه النظرية من قاموس العلوم ونبحث معا عن جواب مقنع، وما أوضحه وما أسهل الوصول إليه إن تجرد الباحث عن هوى نفسه واتبع المنهج العلمي الصحيح المبني على التجربة والبرهان والدليل القاطع.
***
التفت إلى آخر، وقال([5]): لنعد لما طرحته أنت.. أجل.. فالنفس الاول للطفل تعقيد هام جدا لاستكمال الحياة غير قابل للاختزال.. وقد ثبت ذلك بالأدلة العلمية الكثيرة.
ففي عام 1967 قام الطبيب [كريستيان برنارد] بإنجاز أول عملية زرع للقلب، وفي ذلك الوقت كانت إزالة قلب شخص ما تؤدي إلى موته.. وقد ذهل الناس حينئذ عند سماعهم بالخبر.. ذلك أنه لم يتم فقط إزالة قلب الرجل، وإنما تم وضع قلب آخر في مكانه.
وبعد سنوات من جهود التصميم والاختبارات وصلت البشرية إلى اختراع معقد يتكون من جهاز القلب والتنفس الاصطناعي، والذي يقوم بتدوير الدم، ويعمل كرئتين للمرضى، ويوفر لهم الأوكسجين.
وقد حصل أنه كان في نفس المستشفى، وفي نفس ذلك الزمان أم قد وضعت وليدها للتو، وحصلت له نفس عملية التحول للنجاة بواسطة [جهاز رئتين] أفضل بكثير.. ولكن لم يقم أي مراسل بتغطية هذا الحدث.. على الرغم من أن الحدث الأول يعتبر خطوة عظيمة في هندسة البشر إلان أن الحدث الثاني لم يتم شرحه بواسطة أي عملية طبيعية.. لأن الولادة أمر شائع، لذلك فمن السهل أن نغفل عن حقيقة كون الطفل ينمو في محيط كلي من المياه لمدة تسعة أشهر.
إنه عالم من المستحيل تماما لأي شخص أن يعيش فيه على الفور بعد أول نفس له.. ويتم إنجاز هذه الخطوة من خلال كون الطفل يمتلك، وداخل الرحم فقط، أوعية دموية بتركيب وترتيب يختلف عما عليه في البالغين.
حيث نلاحظ أن الدم الغني بالأوكسجين عند البالغين ينتقل بعيدا عن القلب من خلال الشرايين تحت ضغط دم عال، ويعود إلى القلب عن طريق الاوردة تحت ضغط واطئ.. ولهذا فإن القلب والرئتين تتعاونان مع بعضهما بشكل اعتمادي لتحقيق غرض إيصال الأوكسجين لكل أنحاء الجسم.
أما ترتيب الدورة الدموية في الجنين، وبالنسبة للطفل في الرحم، فإن كل شئ يتعلق بالوظائف الحيوية الخاصة بالقلب والدورة الدموية معكوس تماما، ويرجع ذلك لسبب مهم، وهو أن الرئتين وإن كانتا مكتملتين من الناحية الوظيفية إلا أنهما لا تزالان غير فاعلتين في عملية تبادل الأوكسجين.. وعليه فمن أجل ان يستمر الجنين في الحياة المؤقتة داخل الرحم ينبغي توفر ثلاثة تغييرات تركيبية رئيسية في نظام الدورة الدموية..
أولها، هو أن تتوفر لديه رئة بديلة، وهى المهمة الصعبة التي يستحيل على مهندسي الإحياء الطبية توفيرها، لكنها وفرت للجنين في صورة المشيمة، وهي العضو المميز الذي يوجد لفترة بسيطة، ولكنه يلعب دورا مهما في عدد لا يحصى من الوظائف الحيوية خصوصا في كونه رئة وكلية للجنين.
وثانيها، هي أنه يجب تجاوز الدورة المؤدية إلى الرئتين، لذلك يجب على الأوعية الدموية أن تتغير لتحقيق هذا الالتفاف المؤقت.
وثالثها، هو أن على الأوعية الدموية ألا تقتصر وظيفتها فقط على ربط المشيمة بالطفل، وانما أيضا داخل الجنين من نقطة اتصالها به إلى الأوعية الطبيعية التي تؤدي من وإلى القلب.. ويؤدي الحبل السرّي وظيفة تحقيق الاتصال بين المشيمة والجنين، حيث يحتوي على وريد واحد عريض القطر وشريانين اثنين أصغر من الوريد، وتمتد داخل الجنين على شكل الوريد السرّي، والشرايين السرّية.
هناك تفاصيل كثيرة مرتبطة بهذا، لا يمكن ذكرها هنا، وهي معقدة تعقيدا شديدا، وخلاصتها هي أن كل تلك الأجهزة تؤدي وظيفة واحدة، وهي مراعاة ذلك العالم المحيط بالجنين، والذي سيتغير جذريا، ولذلك، فإن تلك التراكيب المؤقتة تمتلك آليات حاسمة تؤمن الانتقال الآمن إلى خارج الرحم.
سكت قليلا، ثم قال: لقد كتب داروين يقول: (إذا ما أمكن إثبات أن أحد أعضاء الجسم المعقدة قد تشكل من دون تعديلات طفيفة متعددة ومتعاقبة فإن نظريتي ستكسر بصورة مطلقة)
وعندما نطبق هذه المقولة على تلك التراكيب والوظائف التي تتم إعادة ترتيبها عند الولادة وفي خلال أقل من دقيقة بعد الولادة، نلاحظ أن كل مولود يولد ومعه شهادة بانهيار نظرية التطور.
***
التفت إلى آخر، وقال: بخصوص سؤالك أنت.. أقول لك من البداية: إن نظرية التطور لا تستطيع الإجابة عن ذلك بأي حال من الأحوال.. فجودة الإدراك الممتازة في العين والأذن لايمكن تصورها.. وهي من التعقيدات غير القابلة للاختزال.. ولذلك يستحيل أن نصفها بالتطور
ذلك أن أشعة الضوء القادمة من أي جسم تسقط أولا على شبكية العين.. ثُمّ يتم تحويل هذه الأشعة إلى إشارات كهربائية لتنتقل إلى نقطة صغيرة في الجزء الخلفي من المخ والتي تعرف باسم [مركز البصر].. وهناك يتم إدراك هذه الإشارات الكهربائية كصورة بعد أن تتم سلسلة من العمليات.
والصورة التي تتكون في العين واضحة جدًا لدرجة أن تكنولوجيا القرن العشرين لم تستطع الوصول إلى هذه الدّقة.. حتى شاشة التليفزيون الأكثر تطورًا، والتي أنتجها أفضل مُنتج في العالم لا يمكن أن تقدّم صورة بمثل هذا الوضوح.
بالإضافة إلى أن هذه الصورة التي نراها صورة ثلاثية الأبعاد، ملونة، وواضحة إلى أقصى درجة.. وقد حاول آلاف المهندسين لأكثر من 100 سنة أن يصلوا لهذا الوضوح وهذه الدّقة فلم يستطيعوا..
لقد حاول عشرات آلاف المهندسين لسنوات عديدة أن يصنعوا تلفزيونا يعرض صورة ثلاثية الأبعاد، وذات جودة مشابهة لرؤية العين.. وبالرغم من تمكنّهم من صُنع تلفزيون يعرض صورة ثلاثية الأبعاد، إلا إنه لا يمكن مشاهدته دون ارتداء نظّارات مخصصة، بالإضافة إلى كونها صورة ثلاثية الأبعاد مصطنعة.. ولم تصل هذه الصورة بعد إلى درجة من الوضوح كالتي ترى بها العين.
وبالرغم من هذا كله يزعم التطوريون أن آلية إنتاج صورة واضحة مميزة كهذه قد نشأت عن طريق الصدفة.. مع أنه لو أخبرك أحد أن التلفزيون الذي في غرفتك قد يكون نتيجة الصدفة، وأن ذراته تجمّعت مع بعضها وكوّنت جهازًا يُنتِج صورًا.. سوف ترميه بالكذب والجنون والخرافة.
فإذا كان الجهاز الذي يُنتِج صورًا أقل جودةً من صور العين لا يمكن أن يكون قد نشأ عن طريق الصدفة، فمن المؤكّد أن العين لم تنشأ عن طريق الصدفة..
سكت قليلا، ثم قال: والأمر نفسه ينطبق على الأُذُن.. حيث تلتقط الأذُن الخارجية الأصوات عن طريق صيوان الأذن، وترسلها إلى الأذُن الوُسطى.. والتي تنقل الاهتزازات الصوتية مُضخّمة.. ثم ترسل الأذن الداخلية هذه الاهتزازات إلى المخ عن طريق ترجمتها إلى إشارات كهربائية.. تمامًا كما يحدث في العين، يحدث السمع في مركز السمع داخل المخ.
والوضع بالنسبة للسمع مشابه للبصر، فالمخ معزول عن الصوت مثلما هو معزول عن الضوء، إذ أنه لا يصله أي صوت مهما بلغت الضوضاء بالخارج.. وعلى الرغم من ذلك، فإن أشدَّ الأصوات يتم إدراكها داخل المخ.. فداخل المخ الصامت تمامًا، يمكننا الاستماع إلى كل شيء.. مع أنه لو أتينا بجهاز دقيق لقياس شدّة الصوت، وقمنا بقياسه داخل المخ، فإننا ستجد الصمت التام يسود هناك.
وهكذا كما هو الحال مع التصوير، بذل الإنسان جهودا جبارة لعشرات السنوات في محاولة إنتاج صوت مطابق لما تسمعه الأذن، فأنتج مُسجِّلات الصوت والأنظمة الصوتية عالية الدِّقة وأنظمة استشعار الصوت.. وبالرغم من وجود كل هذه التكنولوجيا ووجود آلاف المهندسين والخبراء الذين عملوا على ذلك، لم يتمكنوا من الحصول على صوت له نفس دِقّة ووضوح الصوت الذي تدركه الأذن حتى في أعلى الأنظمة الصوتية جودة، والتي هي من إنتاج أكبر شركات صناعة الموسيقى، فإنك تسمع صفير قبل بدء الموسيقى.. بخلاف الصوت الذي تدركه الأذن البشرية، فإنه لا يصاحبه صوت صفير أو صوت الهواء المحيط كما يحدث عند سماع صوت مُسجّل.
***
بقيت بعدها مدة طويلة أتردد على [معهد ديسكفري] لأبحاث [التصميم الذكي]، وقد حضّرت معهم للكثير من المؤتمرات العلمية، وساهمت معهم بالكثير من الأبحاث.
لكني مع ذلك كله، ومع احترامي الشديد للجهود التي بذلها ذلك المعهد في مواجهة نظرية التطور.. إلا أن همتي كانت تطمح لأكثر من ذلك.. فقد كانت همتي تهفو إلى التعرف على الحقيقة..
فلذلك لم أكتف بالتعجب من تلك التصميمات البديعة، ولا الانبهار بها، ولا الرد بها على التطوريين، وإنما رحت أبحث عن المبدع الذي أبدعها، والصانع الذي صنعها.
وعندما رأى الله صدقي وإخلاصي وتجردي من نفسي وكبريائي، رزقني من فضله من دلني على الطريق، وكان أولهم [معلم الإيمان] الذي كان مرشد عقلي الأول.. وبناء على توجيهاته سرت في الأرض لا أدع صاحب دين إلا وأسأله عن دينه، ولا صاحب مذهب إلا وأسأله عن الأسس التي يقوم عليها مذهبه.
وقد ظللت على ذلك دهرا من عمري إلى أن هداني الله لولي من أوليائه وجدته في بلدة من بلاد الإسلام.. والتي كنت أنفر منها بسبب ما أسمعه وأراه من مشاهد العنف والتطرف، لكن ذلك الولي، أخبرني بحقيقة الأمر.. وأن كل ما أراه ليس سوى وسيلة من وسائل الشيطان لصرف البشر عن الدين الصحيح.. ولذلك أهداني نسخة من القرآن الكريم.. فرحت أقرؤها، وأعيش معانيها.. وما هي إلا فترة قصيرة حتى وجدتني مسلما مؤمنا.. أمارس كل ما يمارسه المسلمون من صنوف العبادة والتوجه إلى الله.
وقد كنت أنوي أن أعلن إسلامي على الملأ.. لكن معلم الإيمان نهاني عن ذلك.. وطلب مني أن أبقى على كتماني لإيماني، لأؤدي من الوظائف ما لا أستطع أن أؤديه لو أعلنت إيماني.
وقد ظللت على ذلك إلى ذلك اليوم الذي
اجتمعت فيه مع أصدقائي.. مما ستعرفه في آخر قصتنا.
([1]) المادة العلمية الواردة هنا مقتبسة من مواقع متعددة منها بعض الموسوعات ودوائر المعارف الالكترونية.
([2]) انظر: التصميم في الطبيعة: هارون يحيى، ترجمة : أورخان محمد علي.
([3]) انظر: مقالا بعنوان: ما هو التعقيد الغير قابل للإختزال؟، د. أحمد إبراهيم.
([4]) انظر: تطور الكيمياء الحيوية يهدم نظرية دارون، مقالة نشرت في العدد 89 (نيسان 2015) من مجلة التقدم العلمي الكويتية.
([5]) انظر مقالا بعنوان: النفس الأول للطفل: تعقيد هام جدا غير قابل للاختزال لاستكمال الحياة.