الصراع.. والسلام

بعد أن انتهى الثالث من حديثه، قال الرابع، وهو يلتفت لي: أظن أن الدور قد وصل لي.. فليأخذ قلمك قسطا من الراحة، ليبدأ بتسجيل قصتي التي لا تقل جمالا عما قصه عليك أصدقائي.
قلت: لا عليك.. فجمال حديثكم يجعلني أعيش عوالم من الأنس والسلام النفسي، تجعلني أعيش راحة وطمأنينة إيمانية عميقة تزيل عني كل عياء، وترفع عني كل تعب.
قال: ما دمت قلت ذلك.. فسأحدثك عن الصراع والسلم..
قلت: وما علاقة الصراع والسلم بالحياة..
قال: علاقتها كبيرة جدا.. فالله تعالى خلق الحياة، وجعلها وسيلة للتواصل والتعارف والتعايش بين الكائنات جميعا.. لكن نظرية التطور راحت تفسر العلاقة بين الأحياء بالصراع من أجل البقاء..
وقد امتد ذلك المفهوم ليشمل الإنسان نفسه، حيث راحت بعض الشعوب التي تبنت هذه النظرية تزعم لنفسها أنها أكثر تطورا في سلم البشرية، وقد جعلها ذلك الاعتقاد تمارس كل ألوان العنصرية والطغيان والنازية والاستعمار.. حتى تتحقق بالبقاء، لتصورها أن بقاءها رهين بإبادة غيرها.
قلت: ألهذه الدرجة بلغت إجرامية هذه النظرية؟
قال: أجل.. فقد كانت سلما لكل ألوان الاستعمار والظلم والاستبداد، لأن داروين ومن معه من التطوريين وفروا للإنسان كل العقائد والتصورات التي تجعله ينظر للإنسان باعتباره بهيمة لا تختلف عن البهائم التي يركبها ويأكل لحمها.
وقد كان ذلك هو السبب في هداية الله لي.. فقد عادت إلي فطرتي التي نكستها تلك النظرية، وعادت معها الرحمة والإيثار والتضحية وكل المعاني الإنسانية التي قمعتها نظرية التطور في أجيالها المختلفة.
قلت: فهلا حدثتني عن رحلتك إلى ذلك.
قال: أجل.. لك ذلك.. فما جئت إلا لذلك.
الصراع.. والعلاقة بين الكائنات:
اعتدل صاحبنا الرابع في جلسته، وحمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم قال: لا أزال أتذكر ذلك اليوم جيدا، يوم كنت فيه أقرب إلى الكلاب والأسود والحيات مني للإنسان.. لقد كنت حينها ممتلئا بالقسوة.. لا لأن فطرتي كانت كذلك، ولكن لأن العقائد والأفكار التي كنت أؤمن بها كانت تدعوني إلى ذلك.
فنظرية التطور ليست مجرد تكهنات ترتبط بتفسير نشأة الحياة وتطورها، وإنما هي رؤية كاملة للحياة، تنتج عنها الكثير من المواقف والسلوكات العملية الغارقة في المادية.
أتذكر جيدا أنه جاءني في ذلك اليوم صديق لي كان لا يقل عني قسوة وغلظة، كان اسمه [توماس]، وكان يفخر دائما بكونه سميا لذلك المجرم [توماس روبرت مالتوس]([1]) صاحب نظريّة مالتوس في علم السكان، والتي نشرها سنة 1798 تحت عنوان [مقال عن مبدأ العام للسكان كما يؤثر في تقدم المجتمع في المستقبل]، والتي ذكر فيها أن (قوة السكان في التكاثر أعظم من قوة الأرض في إنتاج الغذاء)، ذلك أن البشر يتزايدون كل خمسة وعشرين عاما بحسب متتالية هندسية، في الوقت الذي يتزايد فيه الإنتاج الغذائي وفق متتالية حسابية فقط.
وبناء على ذلك قال: (ولما كان الإنسان لا يستطيع الحياة دون غذاء، فإن هاتين القوتين غير المتساويتين في النمو، لا بد لهما من موانع تدفع بهما إلى التكافؤ، وبما يعني تقليل نسبة التزايد السكاني، لتتعادل مع نسبة الإنتاج الغذائي)
وانطلاقا من هذا كانت دعوته إلى عدم الزواج بسبب الفقر أو غيره من الأسباب، واستخدام وسائل منع الحمل.. وقتل المواليد الجدد بسبب الأمراض، والمجاعات، والحروب.
وبناء على هذا أيضا نصح الحكومات بنصائح كثيرة ممتلئة بالإجرام، منها عدم زيادة أجور العمال، لأن هذا إن حصل فإنه سيدفعهم إلى الزواج المبكّر أو إنجاب عدد أكبر من الأطفال، كما أوصى بعدم الإنفاق على العاطلين عن العمل لأن هذا سيحولهم إلى كسالى.. وغيرها من التعليمات الممتلئة بالإجرام.
وقد كانت آثار مالتوس وأفكاره هي المحرك لكل تصرفات صديقي هذا ومواقفه، فقد كان يفرح لكل زلزال أو طاعون أو حرب تقضي على المستضعفين، لأنه كان يتصور أنهم يأكلون خبزه، ويشربون ماءه، ويضيقون عليه الأرض التي وسعها الله.
في ذلك اليوم، جاءني، وهو يقول، والغضب باد على وجهه: هل رأيت كيف تناسى الناس مالتوس، وراحوا يشيدون فقط بدارون.. وهم يعلمون أنه لولا مالتوس ما كان دارون.. فقد كان مصدر أفكار داروين نظرية توماس مالتوس؟
قلت: كيف ذلك.. هذه دعوى لا يمكنك إثباتها؟
قال: بل من السهل إثباتها.. ففي القرن التاسع عشر، أي في القرن الذي عاش فيه دارون، قُبلت أفكار مالتوس على نطاق واسع، فقد ساند المفكّرون الأرستقراطيّون الأوربّيّون أفكاره القاسية.
وفي النصف الافتتاحيّ للقرن التّاسع عشر اجتمع أعضاء الطّبقات الحاكمة في أوروبّا لمناقشة مشكلة السّكّان المكتشفة حديثًا، ولابتكار طرق تنفيذ التّفويض المالتوسي، لزيادة معدّل الوفيات للفقراء.
وقد كان من التوصيات التي خرجوا بها أنه (بدلاً من توصية إزالة الفقر، ينبغي أن نشجّع العادات المتناقضة.. في بلادنا علينا عمل الطرق الضيقة، وحشد أكثر الناس في البيوت، وبطريقة ما يُعاد وباء الطّاعون. وينبغي على الدولة أن نبني قرانا قرب البرك الرّاكدة، ونشجع بشدة المستوطنات في كلّ المستنقعات والأوضاع الضّارّة)
وكنتيجة لهذه السّياسة القاسية، تحول الصراع من أجل البقاء إلى سياسات تمارسها الحكومات حتى تخفف الزّيادة السّريعة في السكّان..
ومن تلك السياسات ما يسمى بسياسة [اضطهاد الفقر].. وهو ليس اضطهادا للفقر، وحربا له، وإنما اضطهاد للفقراء ومحاربة لهم.. وقد نُفذ فعلياً في القرن التاسع عشر في بريطانيا، فأنشئ النظام الصناعيّ الّذي جعل أطفال الثّمانية والتاسعة يعملون 16 ساعة في اليوم، وفي مناجم الفحم، والآلاف منهم ماتوا في ظّروف قاسية.
وبسبب نظريّة مالتوس، أدّى [الصّراع من أجل البقاء] بالملايين من البريطانيّين لأن يعيشوا حياة مليئة بالمعاناة.. وهو ما خفف المعاناة عنها بعد ذلك، وجعلها تعيش مرحلة أكثر تطورا من المرحلة التي كانت فيها.
قلت: فكيف تأثر داروين بهذه الأفكار؟
قال: لقد تأثّر داروين بهذه الأفكار تأثرا شديدا، بل إنه راح يعمم هذا الصراع على كلّ الطبيعة، واقترح أن الأصلح والأقوى ظهر منتصراً من حرب الوجود هذه.
وقد أعلن في إحدى مقدماته الأساسية عند تطوير نظريّته: أن تطور الكائنات الحيّة يعتمد على الصراع من أجل البقاء، والأقوى ينتصر في الصّراع، والأضعف يُحْكَم عليه بالهزيمة والاندثار.. ووفقاً لذلك، كان هناك صراع قاس، ونزاع أبديّ في الطّبيعة من أجل البقاء.. ودائمًا القوي ينتصر على الضّعيف، حتى يتم التطور.
ولذلك نلاحظ أن العنوان الفرعيّ الذي أعطاه لكتابه [أصل الأنواع] يلخّص تلك الرّؤية وهو [أصل الأنواع بواسطة التّكيّف الطّبيعيّ، أو المحافظة على السلالات المفضلة في الصّراع من أجل الحياة]
بالإضافة إلى ذلك، اعتبر داروين المعركة من أجل البقاء منطبقة على السلالات البشريّة.. وطبقًا لهذا الادعاء، كانت [السلالات المفضلة] هي المنتصرةً في الصّراع.
والسلالات المفضلة، من وجهة نظر داروين طبعا، هم الأوربّيّون البيض.. أما السلالات الإفريقيّة أو الآسيويّة فقد تخلّفت في الصّراع.. بل ذهب إلى مدى أبعد، حين اعتبر أن هذه السلالات ستفقد قريبًا أثناء عملية الصّراع من أجل البقاء، وبالتالي سيختفون.
قلت: وهل ترى أن هذه كاف في الدلالة على فضل مالتوس على دارون؟
قال: أجل.. بل فضله على البشريه جميعا.. فلولا تلك النظرية لما تمكن البشر من التحضر والتطور الذي نراه.
***
بينما نحن كذلك إذ دخل علينا صديق لنا كان سميا لـ [ربرت سبنسر([2])].. صاحب شعار [البقاء للأصلح]، وهو يقول: لا ما لتوس.. ولا داروين من قدما تلك الخدمة للبشرية.. بل إن الذي قدمها هو سميي [ربرت سبنسر]، فهو الذي حولها من مجرد نظرية علمية إلى نظرية أيديولوجية كانت لها آثارها الكبرى بعد ذلك في تنقية العنصر البشري من كثير من الشوائب الضارة.
قلت: صدقت.. فـ [ربرت سبنسر] صاحب تلك المقولة، وهو صاحب نظرية [الدارونية الاجتماعية]
قال ربرت: أجل.. فلاشك أنكم تعلمون أن نظرية التطور الطبيعية تنص على أن هناك صراعًا بين أنواع الحيوان والنبات للاستمرار في الوجود.. فإذا تغيرت البيئة والظروف، فإنه لا يستمر في الحياة إلا تلك الأنواع القوية القادرة على التأقلم مع البيئة الجديدة، أما الأخرى فتندثر وتنقرض في العملية التي سماها أصدقاؤنا التطوريون [الانتقاء أو الانتخاب الطبيعي]
لكن سميي روبرت لم يتوقف بهذه الرؤية عند حدها الطبيعي، بل راح يطبقها على الإنسان والمجتمعات، ولذلك أطلق على فلسفته لقب [الداروينية الاجتماعية]، وهي فلسفة تدعو إلى ممارسة كل الوسائل التي تزيل المستضعفين من الوجود حتى لا يبقى في العالم إلا الأقوياء.. فالبقاء لهم وحدهم.. ولذلك لهم أن ينتهبوا ثروات الفقراء المستضعفين.. ولهم أن يبيدوهم.. حتى لا يبقى في الأرض إلا الأصلح والأقوى.. وهو بالتأكيد ليس سوى (الإنسان الأبيض)، والأوروبي على وجه التحديد.
قال مالتوس: صدقت.. وقد كان هذا المعيار الذي ذكره سميك وسميي وأيدهما فيه دارون، بل حوله إلى قضية علمية بيولوجية، هو الذي فتح المجال للرأسمالية.. والتي تعني عدم تدخل الدولة في الأعمال والسوق التجارية نهائيًا، بل تترك الباب مفتوحًا للمنافسة، ومن يستطع التنافس يبقَى في الحلبة، ومن لا يجاري الأقوياء عليه مغادرة حلبة الصراع، فلا مكان للضعفاء! وليس الضعفاء إلا أولئك الذين لا يملكون من رأس المال ما يمكنهم من منافسة المليارديرات والمليونيرات.
قال ربرت: وقد كان هذا المعيار أيضا هو الذي دعا إلى التخلص من دولة الرفاه.. وهي الدولة التي تقدم التعليم والتأمين الصحي ومعاشات التقاعد والمساعدة في تأمين السكن وغيرها مجانا للمستضعفين.. لأن ذلك سيترك لهم الفرصة البقاء مع استضعافهم.. وهذا مناف للقوانين التي وضعناها.
قال مالتوس: وكان هذا المعيار أيضا هو الذي دعا الأقوياء إلى استعمار المستضعفين.. فتلك الشعوب لا تستحق الحياة.. لأن الحياة لا تكون إلا للأقوى.
قال سبنسر: لم يتوقف تأثير تلك الأفكار التي طرحها سميي على المجال الاقتصادي.. بل راح مع أصحابه من الفلاسفة والمفكرين والسياسيين ورجال الأعمال يستعملون كل الوسائل لإبادة المستضعفين.
قال مالتوس: أجل.. فقد كانوا يعتقدون بتوريث الصفات.. أي أن الوراثة هي التي تلعب دورًا مهمًا في تحديد طبيعة الإنسان، والسمات الفردية له كالذكاء والهوية الشخصية.. وكانوا يعتقدون أن الجينات الوراثية تستطيع تفسير خصائص الشخصية البشرية وحل المشكلات الإنسانية سواء كانت اجتماعية أو سياسية.. ولهذا كانوا يكذبون كل مقولة تذكر أن البيئة هي التي تؤثر في سلوك الإنسان وسماته الشخصية([3]).
قال سبنسر: وبناء على هذه الاعتقادات راحوا يدعون إلى ممارسة كل الوسائل حتى لا يبقى على الأرض إلا العناصر الصالحة القوية، والتي تجعل الإنسان أكثر تطورا ورقيا.
قال مالتوس: ولأجل تحقيق هذا قام الكثير من الباحثين في المجالات المختلفة بالتمييز بين العناصر الإنسانية الصالحة القوية، وبين العناصر التي لم تصل بعد إلى المرتبة الإنسانية.. وقد وصلوا إلى الكثير من النتائج.. وكان من بينها ما ذكره بعضهم، فقال: (إن للبالغين السود جماجم طويلة، وبشرة داكنة، وفكان بارزان بقوة إلى الامام، فى حين أن لدى البالغين البيض ولأطفال السود جماجم قصيرة، وبشرة فاتحة، وفكان صغيران، ومن ذلك فإن العرق الأبيض هو الأكثر رقيا وتطورا بإعتباره الأكثر احتفاظا بسمات الحدث)
وقال [هافلوك إيليس]: (قلما يكون أطفال العديد من الأعراق الإفريقية أقل ذكاءا من الطفل الأوروبي، ولكن فى الوقت الذي يكبر فيه الإفريقي يصبح غبيا وبليدا، ويحتفظ الأوروبي بالكثير من حيويته الطفولية)
قال سبنسر([4]): وقد ميَّز [إرنست رينان] بين الآريين والساميين على أساس لغوي، ثم انتقل من الحديث عن اللغات السامية إلى الحديث عن الروح السامية والعبقرية السامية مقابل الروح الآرية والعبقرية الآرية التي هي أيضاً الروح الهيلينية أو النابعة منها.
قال ربرت: ثم سادت الفكرة العضوية الخاصة بالفولك أو الشعب العضوي، ومفادها أن لكل أمة عبقريتها الخاصة بها، ولكل فرد في هذه الأمة سمات أزلية يحملها عن طريق الوراثة، وانتهى الأمر إلى الحديث عن تفوُّق الآريين على (الساميين)، هذا العنصر الآسيوي المغروس في وسط أوربا، كما دار الحديث عن خطر الروح السامية على المجتمعات الآرية.. مما دفع إلى استعمال كل الوسائل لمحاربتهم.
وكان هذا النوع من العداء يستند إلى نظريات ذات ديباجات ومسوغات علمية عن الأعراق عامة، وعن السمات السلبية الافتراضية (الاقتصادية والثقافية) الثابتة والحتمية للشعوب التي يراد تصنيفها عرقيا.
قال مالتوس: لقد تم بموجب هذه الأفكار تبرير إبادة الملايين في أفريقيا واستعبادهم في آسيا على أساس أن هذا جزء من عبء الرجل الأبيض ومهمته الحضارية.
قال ربرت: بمناسبة الحديث عن الرجل الأبيض.. فقد قسم الكونت جوبينو البشر إلى أعراق: أبيض (آري)، وأصفر، وأسود.. وذهب إلى أن الجنس الآري الأبيض هو مؤسس الحضارة، وأن السمات المتفوقة لهذا العرْق لايمكن الحفاظ عليها إلا عن طريق النقاء العنصري.. وأكد أن التيوتونيين هم أرقى العناصر الآرية لأنهم وحدهم الذين احتفظوا بنقائهم.
قال مالتوس: وبناء على هذه الأبحاث، وعند الحاجة لاستئصال اليهود من أوروبا، أو طردهم لأي مكان آخر في العالم، راح علماؤنا يلتمسون كل الذرائع العلمية، وأولها الأبحاث المرتبطة بالأعراق.. فقد كانت [الأبحاث العلمية] هي وسيلتنا لتحقيق كل ما نرغب فيه.
***
بقي أصدقائي مالتوس وروبرت وسبنسر يتحدثون بمثل تلك الأحاديث، ثم راق لهم أن يشاهدوا فيلما من الأفلام الوثائقية عن مشاهد من الطبيعة، تظهر فيها الغزلان وغيرها، وهي تقع ضحايا للأسود والنمور.. وكان أصحابي يشاهدون تلك المشاهد، وهم ممتلئون فرحا.. بل كانوا يصيحون في تلك السباع بأن تسرع لنتهش أنيابها في الغزلان، مثلما يفعل مشجعو كرة القدم تماما في التعامل مع الفرق التي يشجعونها.
في ذلك الحين، شعرت بضيق نفسي كبير من تلك القسوة.. ففطرتي كانت ترفضها رفضا شديدا، ولولا تلك التعاليم القاسية التي تلقيتها من سدنة الفلسفة المادية، لما وقعت ضحيتها.
بعد أن خرجت رأيت مشهدا لامرأة، وهي تسرع إلى ابنها، وتنقذه من سيارة كانت مسرعة كادت تدهسه، وقد تمكنت الأم من الإبقاء على ابنها، لكنها لم تتمكن من الإبقاء على نفسها، فقد دهستها السيارة، ولم نسمع منها إلا كلمات قليلة قبل وفاتها، وهي: (ابني.. ابني..)
مع مشاهد تلك الصورة الممتلئة بالإيثار والتضحية، والتي لم تفارق ذاكرتي ولا خيالي لحظة واحدة، بدأت تتبدد نظرية التطور في ذهني وعقلي إلى أن تلاشت كليا، وقد أرسل لي ربي الرحيم الودود مع أول دمعة سالت من عيني من راح يعيد لي إنسانيتي، ويطهرني من تلك الوحشية التي حولتني إليها تلك النظريات الغارقة في المادية.
في تلك اللحظات جاءني رجل ممتلئا رحمة، ومسح الدمعة من عيني، وقال: لا تحزن على هذه المرأة، فستلقى ربا رحيما يعوضها عن كل الألم الذي لحق بها، ويجزيها عن هذه التضحية التي قدمتها جزاءا عظيما لا يمكن تصوره.
قلت: ولكنها ماتت.
قال: لم يمت إلا جسدها.. وهو مظهر من مظاهرها، وليس حقيقتها.
قلت: ما تعني؟
قال: إن الله الرحيم الودود الذي وهبها هذا الجسد قادر على أن يخلق لها جسدا أقوى وأجمل..
قلت: أنت رجل دين.
قال: ورجل علم.
قلت: ولكن العلم لا يقول هذا.
قال: والعلم لا ينكره.
قلت: بل ينكره.
قال: وما أدلة إنكاره له.
قلت: لأنه غيب لم نره.. ولم يأتنا أحد من ذلك العالم ليخبرنا بما رأى.. فلم نر ميتا عاد للحياة.
قال: ولكنكم تؤمنون بغيب كثير.. وتتحدثون عن أشياء كثيرة لم تروها.. وتفاصيل كثيرة لم تشهدوها.
قلت: ما تقصد؟
قال: أنا عالم حياة.. ولدي كتب فيها.. وقد رأيت أصحابي من العلماء يتحدثون عن ملايين السنين الماضية، ويفصلون في أحداثها من غير أي دليل ولا بينة.. بل إنهم لا يكتفون بذلك.. بل يذهبون إلى حد تفسير الحياة.. وكونها لا تعدو أن تكون صراعا من أجل البقاء.
قلت: هي كذلك.. وقد أثبته كبار علماء الحياة.
قال: فكيف ضحت هذه المرأة بنفسها من أجل ابنها؟
قلت: لأنه ابنها.
قال: لا.. بل ضحت لكونها تملك قيما ومعاني سامية لا حظ لها من المادية.. ولا يمكن لأي مادي في الدنيا أن يبصرها.
لم أجد ما أقول له، ولو أن حديثه كان متناسبا جدا مع حقيقتي التي غمرها جهلي، وفطرتي التي أفسدتها بيئتي.
قلت: لقد ذكرت لي أنك عالم أحياء.
قال: أجل.
قلت: ولكن هل يمكن لعالم أحياء أن لا يكون مؤمنا بنظرية التطور؟
قال: إن شئت الدليل، فها أنا أمامك.. عالم أحياء.. ولدي كتب كثيرة فيها.. بل لدي إنجازات علمية معترف بها، ولكني مع ذلك لا أؤمن بنظرية التطور.. بل أرى أنها حجاب دون الوصول إلى الحقيقة.. فأنا أعتبر نفسي عالما يحاول أن يستفيد من إمكانات الحياة ليطورها، لا عالم أنساب.
قلت: فلم لم تؤمن بنظرية التطور؟
قال: أسباب ذلك كثيرة.. تبدأ من كونها ليست نظرية علمية، بل هي دجل يلبس لباس العلم.. وتنتهي بكونها فلسفة تشجع على العنف والاعتداء، فالذي يؤمن بها يجتهد لأن يكون قويا كي يصعد على أشلاء الضعفاء.
لقد قال بعض أصدقائي معبرا عن هذا في بعض كتبه: (ومما هو جدير بالذكر في هذا المجال الآثار التي أدت إليها نظرية داروين، وبخاصة في مجال الفلسفة والسياسة والعلاقات البشرية.. فقد ترتبت على نظرية الانتحاب الطبيعي ما يمكن أن يُسمى [فلسفة الاعتداء] أو [فلسفة العنف والاغتصاب] وتجاوبًا واطمئنانًا إلى هذه الفلسفة التي ساعد الفيلسوف الألماني نيتشه على رواجها فدخل العالم في غمار حروب عامة منها حرب السبعين عامًا والحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أثارت النزاعات العدائية والحروب وأطلقت الشعارات بسيادة جنس على آخر)
وقال [أيريل كيرنز]: (لقد استخدمت نظرية التطوُّر لتبرير فكرة سيادة جنس على غيره من الأجناس، وذلك لأن هذه الفكرة تتلائم مع مفهوم داروين عن [البقاء للأصلح،] بل واستخدمت لتبرير عدم الاعتراف بوجود أساس مُطلق للأخلاق.. بل تم أيضًا استخدام نظرية التطوُّر لتمجيد الحرب باعتبارها ممارسة شرعية لمبدأ البقاء للأصلح)
وقال آخر: (وإذا أعتبرنا المفهوم الشيوعي للنزاع الجدلي الذي قتل نحو 120 مليون شخص طوال القرن العشرين (إله القتل) يمكننا حينئذ أن نفهم بشكل أفضل حجم الكارثة التي ألحقتها الداروينية بكوكبنا)
سكت قليلا، ثم قال: هل تعلم بمن تأثر أدولف هتلر في نزعته الدموية؟
لم أدر ما أقول له، فقال: لقد تأثر بفكرة الصراع من أجل البقاء بين الأجناس، واستوحى منها أفكاره في كتابه [كفاحي]، وقال عن [الصراع بين الأجناس]: (سوف يصل التاريخ إلى أوجه في إمبراطورية ألفية جديدة تتسم بعظمة لا مثيل لها، وتستند إلى تسلسل جديد للأجناس تقرره الطبيعة ذاتها)
وقال: (الجنس الأعلى يُخضِع لنفسه الجنس الأدنى.. وهو حق نراه في الطبيعة ويمكن اعتباره الحق الأوحد القابل للإدراك)
وقد عبر عن هذا المعنى بعض الكتاب([5])، فقال: (وانتقلت فكرة التطوُّر لتصبح منهجًا للبعض، وجاء هتلر يومًا فأعلن عن فكرته النازية في استيلاد سلالات بشرية قوية، وإعدام السلالات الضعيفة، واتخذت الفاشية الافتراض المتعلق بالانتقال الطبيعي والبقاء للأصلح مبررًا للقضاء على بعض الأجناس البشرية، وأتخذها تجار الحروب مبررًا لهم لأن الحروب تقضي على العناصر الضعيفة وتستبقي العناصر القوية)
بل إنه عندما سيطرت الدّاروينيّة على الثّقافة الأوربّيّة، بدأت آثار [الصّراع من أجل البقاء] في الظّهور.. حيث بدأت الدّول الأوربّيّة الاستعماريّة في تصوير الدّول التي استعمروها كـ [دول نامية ارتقائيّة]، واعتمدوا على الدّاروينيّة لتبرير ذلك.
وكان الأثر السّياسيّ الأكثر دمويّة للدّاروينيّة هو نشوب الحرب العالميّة الأولى في عام 1914 م.. وقد ذكر الأستاذ المؤرخ البريطانيّ المعروف [جيمس] في كتابه [أوروبّا منذ 1870]، أن أحد العوامل التي هيأت الأرضية للحرب العالميّة الأولى كان إيمان الحكّام الأوربّيّين في ذاك الوقت بالدّاروينيّة.
ومن الأمثلة التي ضربها لذلك أن رئيس أركان [أوسترو ـ هنجريا]، كتب في مذكّراته ما بعد الحرب: (إن الدّيانات الإنسانية، والتّعاليم الأخلاقيّة، والمذاهب الفلسفيّة قد تؤدي أحيانًا إلى إضعاف صراع بقاء البشريّة في شكلها القاسي، لكنهم لن ينجحوا في إزالته كمحرك محفز للعالم، إنه يتوافق مع هذا المبدأ العظيم، أن كارثة الحرب العالميّة حدثت كنتيجة للقوى المحفزة في حياة الدول والشّعوب، كالعاصفة الرعديّة التي يجب أن تفرغ شحناتها بذاتها)
بهذا الأساس الأيديولوجيّ، أرى أنه ليس من الصعوبة فهم سبب تشجيعنا للإمبراطوريّة [النمساوية المجرية] لتعلن الحرب.
كانت مثل هذه الأفكار في ذاك الوقت ليست محصورة على القوّات المسلّحة.. ففي عام 1914م كتب [كورت ريزلر] يقول: (العداوة الأبديّة المطلقة ملازمة أساسًا للعلاقات بين الشعوب، والعداء الذي نلاحظه في كلّ مكان ليس نتيجة لفساد الطبيعة الإنسانية ولكنّه جوهر العالم ومنبع الحياة نفسه)
ومثل ذلك عمل جنرال الحرب العالميّة الأولى [بيرناردي فون فريدريش]، علاقةً متشابهةً بين الحرب وقوانين الحرب في الطّبيعة، إذ أعلن أنّ الحرب حاجة بيولوجيّة، وإنّها بمثل ضرورة صراع عناصر الطبيعة، وبما أن قراراته تستند على طبيعة الأشياء، فإنه فقط يعطي قرارًا بيولوجيًّا.
التفت إلي، وقال: ها أنت ترى أن الحرب العالميّة الأولى لم تندلع إلا بسبب كون المفكّرين الأوربّيّين، والجنرالات والمسؤولين الذين شاهدوا الحرب، وإراقة الدّماء، والمعاناة اعتبروا ذلك نوعا من التطور، واعتقدوا أنهم لم يغيروا [قانون الطبيعة]، فالأصل الأيديولوجيّ الذي جرّ كلّ ذلك الجيل إلى الدّمار لم يكن سوى مفاهيم داروين للصّراع من أجل الحياة والسلالات المفضلة.
وهكذا كانت نظرية التطور هي السبب في قتل ثمانية ملايين قتيلاً، ومئات من المدن المدمّرة، وملايين من الجرحى، والمقعدين، والمشردين، والعاطلين.. الذين خلفتهم الحرب العالميّة الأولى.
وهكذا كانت نظرية التطور هي السّبب الرئيسي للحرب العالميّة الثّانية، والتي اندلعت بعد 21 سنة، وخلفت 55 مليوناً قتيلاً.
وهكذا كانت نظرية التطور هي السّبب في [قانون الغابة] الذي شكلته النّازيّة وجميعا النزعات العنصريّة، ذلك أنها شكّلت القاعدة الإيديولوجيّة التي ستطوّر وتغرّق العالم في مستنقع من الدّم خلال قرن العشرين.
فالنفوذ الدّاروينيّ القويّ يمكن أن يُرَى في الأيديولوجيّين النّازيّين.. فعندما يدرس أحدٌ هذه النّظريّة، يصادف مفاهيم مثل: التّكيّف الطّبيعيّ، واختار التّزاوج، والصّراع بين السلالات من أجل البقاء..
وهكذا نرى هتلر عندما سمى كتابه [كفاحي]، والذي يتكلّم عن الصّراع خصوصًا بين السلالات، كان ملهمًا بالصراع الدّاروينيّ من أجل البقاء، ومبدأ أن النّصر للأصلح، وقد قال معبرا عن ذلك: (في الألفيّة الجديدة سيبلغ التاريخ الذروة في روعة فريدة للإمبراطوريّة، وذلك على أساس سلسلة عرقية جديدة)
وأعلن في اجتماع حزب نريمبيرج سنة 1933م، أن (موضوعات الجنس الأعلى بنفسه جنس أقلّ.. الحقّ ما نراه في الطّبيعة هو الحقّ الوحيد الذي يمكن أن يتصور)
لقد وصف المؤرّخ [هيكمان] تأثير الدّاروينيّة على هتلر، فقال: (كان هتلر مؤمنا للغاية بالتطور وداعياً إليه.. وبغض النظر عن عمق، وتعقيدات هوسه، فإنّه من المؤكد أن كتابه وضع بوضوح عدداً من الأفكار الارتقائيّة، خصوصًا تلك التي تؤكد الصّراع، والبقاء للأصلح والإبادة للأضعف وذلك لإنتاج مجتمع أفضل)
قلت: ما دمت قد ربطت جرائم النازية بنظرية التطور، فستربطها أيضا بجرائم الشّيوعيّة.
قال: كلامك صحيح.. فقد كان الشّيوعيّون من أشرس المدافعين عن نظريّة داروين، بل إن العلاقة بين الدّاروينيّة والشّيوعيّة تعود إلى كلا مؤسّسي هذين المذهبين ماركس وإنجيلز، مؤسّسي الشيوعيّة، فكلاهما قد قرآ [أصل الأنواع] لداروين بمجرد أن ظهر، وأُذْهِلَا بموقف المادّيّة الجدليّة.
والشّيوعيّون الرّوس الذين ساروا على خطوات ماركس وإنجيلز، مثل بليخانوف، ولنين، وتروتسكي وستالين، اتّفقوا جميعاً مع نظريّة داروين للتّطوّر.. فبليخانوف الذي يُعْتَبَر مؤسّسا للشّيوعيّة الرّوسيّة، اعتبر الماركسيّة كالدّاروينيّة في تطبيقاتها في علم الاجتماع، وقال تروتسكي: (اكتشاف داروين هو أعلى انتصار بالكامل للمنطق الجدليّ في مجال المادّة العضويّة)
وهكذا نرى أن للتعليم الدّاروينيّ الدور الأكبر في تكوين الكوادر الشّيوعيّية، فستالين كان متديّنًا في شبابه، لكنّه أصبح ملحدًا بسبب كتب داروين.. وماو الذي أنشأ الحكم الشّيوعيّ في الصّين، وقتل الملايين من النّاس صرّح علانية أن الاشتراكيّة الصينيّة تُنْشَأ على داروين ونظريّة التطوّر.
وقد ذكر المؤرّخ [جيمس ريف] من جامعة هارفارد الأدلة الكثيرة عن أثر الدّاروينيّة على ماو والشّيوعيّة الصّينيّة في كتابه [الصّين وتشارلز داروين]
بعد أن سمعت تلك الأحاديث، حنّ عقلي لأن يعرف حقيقة ما يحدث في الكون والحياة بالضبط، وهل أساسه الصراع كما يقول أصحابنا الداروينيون، أم أساسه السلام، وأن هناك إلها واحدا هو الذي يدير الكون بحكمته وعلمه ورحمته كما يقول أصحاب الأديان المختلفة.
وبعد أن علم الله مني ذلك الصدق سار بي من حيث لا أشعر إلى منتدى من المنتديات المشهورة، والذي كان مخصصا لمناقشة القضايا العلمية، وقد شاء الله أن تكون المناقشة في ذلك اليوم حول نظرية التطور.. وشاء الله أيضا أن يكون معظم الحاضرات من النساء.
لم يقدر الله لي أن أحضر الجلسة من أولها، ولذلك سأحكي لكم ما حضرته منها فقط..
عندما دخلت سمعت ضجة ولغطا، وكان الكل يتحدث في نفس الوقت إلى أن اضطر رئيس الجلسة لأن يرفع صوته فيهم، ويقول: دعونا من كل هذا اللغط، فهذا منتدى للمناقشات العلمية الهادئة، وليس للصراع.. ومن أراد الصراع، فليذهب إلى الغابة حتى يعيش في ظل قانون الغاب.. أما في هذا المحل، فنحن بشر، ولابد أن نتحاكم إلى قوانين الحضارة البشرية.
قال ذلك، ثم أشار إلى الواقف في المنصة، قائلا: يمكنك الآن أن تكمل حديثك.. وتحدث بحرية.. فمن قاطعك من دون استئذان سأطرده من القاعة.
قال الرجل: بورك فيك.. وبناء على طلبك سأكمل حديثي.. وأريد أن أوجهه لأولئك المحترمات اللاتي دافعن بشراسة عن نظرية التطور، وتصورن أني أناقض العلم والمنهج العلمي، وأنني أقحم الدين في مجال لا علاقة له به.
أخرج بعض الكتب من محفظته، وقال: لقد كنت أعلم أني سأتلقى انتقادات شديدة منهن.. ولذلك أحضرت لهن ما قد يعيد لهن وعيهن.
فتح الكتاب الأول على بعض صفحاته، وقال: لقد أحببت أن أذكر لهن مواقف كبار علماء نظرية التطور من المرأة، وكونها أدنى درجة من الرجل في سلم التطور.. وبعد ذلك يمكنهن أن يقررن هل يبقين على الإيمان بهذه النظرية بحجة علميتها، وفي هذه الحالة لابد أن يسلمن بالنتيجة العملية التي تتطلبها هذه الفكرة.. وإما أن يقبلن بما يقوله الدين، وهو أن المرأة شقيقة الرجل، وهي منه، وهو منها، وأنه لا تفاوت بينها إلا في بعض التخصصات الوظيفية التي تقتضيها الحياة.
فتح الكتاب، وراح يقرأ منه قائلا: هذا ما يقوله داروين نبي نظرية التطور، بل إلهها الذي تسبحون بحمده.. لقد قال: (المرأة أدنى في المرتبة من الرجل وسلالتها تأتي في درجة أدنى بكثير من الرجل)
وقال: (المرأة لا تصلح إلا لمهام المنزل وإضفاء البهجة على البيت.. فالمرأة في البيت: أفضل من الكلب للأسباب السابقة)
فتح كتابا آخر، وقال: ومثله قال المادي التطوري [فوجوت] أستاذ تاريخ الطبيعة بجامعة جنيف في كتابه هذا: (لقد أصاب داروين في استنتاجاته بخصوص المرأة.. وعلينا صراحة أن نعترف بالأمر.. فالمرأة أقرب طبيعيا للحيوان: أكثر من قربها للرجل)
وقال: (المرأة بوضوح: إعاقة تطورية حدثت للرجل.. وكلما زاد التقدم الحضاري كلما زادت الفجوة بين المرأة والرجل.. وبالنظر إلى تطور المرأة فالمرأة تطور غير ناضج)
فتح كتابا آخر، ثم قال: بل إن الداروينية [إيلين مورجان]، تقول في هذا الكتاب: (استخدم داروين تأصيلات علمية في تأكيد أن المرأة في رتبة أقل من الرجل بيولوجيا بكثير.. وأعطى إحساسا للرجل بأنه سيد على المرأة: من منظور دارويني مجرد)
فتح كتابا آخر، ثم قال: وهكذا يقول العالم التطوري الشهير [جول ديوانت] في كتابه هذا: (كان داروين يؤمن إيمانا عميقا بأن مرتبة المرأة: أقل بكثير من مرتبة الرجل ! خاصة عند الحديث عن الصراع من أجل البقاء.. وكان يضع الـبُـله والمُعاقين والمتخلفين والمرأة: في خانة واحدة ! وكان يرى أن حجم مخ المرأة وكمية العضلات بها بالقياس بتلك التي لدى الرجل: لا تسمح لها أن تدخل في صراع من أجل البقاء مع الرجل !!.. بل يرى فيها نوعا من القصور البيولوجي الذي لا يمكن تداركه)
فتح كتابا آخر، ثم قال: وهكذا يقول العالم التطوري الشهير [جوستاف ليبون]: (إن حجم المخ الخاص بالمرأة: يكاد يطابق ذلك الخاص بالغوريلا.. المرأة تأتي في المرحلة السفلى من مراحل تطور الإنسان)، وقال: (المرأة أقرب بيولوجيا للهمج: أكثر منها للإنسان الحديث المتحضر.. لكننا نستطيع أن نستوعب المرأة كاستثناء رائع لحيوان مُشوه: أتى بنتيجة على سلم التطور)
فتح كتابا آخر، ثم قال: وهكذا يقول جيري بيرجامن (إن تاريخ الداروينية: هو تاريخ ازدراء للمرأة: باعتبارها أدنى من الرجل)
التفت الرجل لرئيس الجلسة، وقال: هذه هي الكتب أمامي، وسأسلمها لك لمن يريد أن يتأكد مما أقول.. وأكتفي بهذا.. ومن شاء منكن أن ينتقدني بعد هذا فلها الحق في ذلك بشرط واحد هو أن تعتقد بأنني أفضل منها وأكثر تطورا.. حتى لا أتهمها بأنها تسوّق لعقيدة لا تؤمن بها.
***
قال ذلك، ثم جلس، فقام آخر، وقال: بعد أن أدلى صديقي بحديثه حول التوازن المحكم في الكون والحياة، والذي يدل على التكامل والتعاون والتكافل لا على الصراع من أجل البقاء كما يذكر ذلك التطوريون.. أحب أن ألفت نظر أولئك الذين لا يزالون يتشبثون بنظرية داروين على الرغم من أن كل شيء ينقضها، من أبسط الأشياء إلى أعقدها.
أريد أن ألفت نظرهم إلى تأمل الحياة من حولهم، وبدون أجهزة رصد.. بل بأعينهم المجردة فقط.. فسيرون([6]) عددا هائلا من الأنواع الحية يقترب تعداده من تسعة ملايين نوع مختلف من نباتات، وحيويانات ثديية، وزواحف، وحشرات، وبدائيات ميكروبية دقيقة.. وغيرها كثير.
وسيرون هذه الأنواع تشكل فيما بينها شبكة متوازنة بالغة الإحكام والدقة تسمى [سلسلة الغذاء]، حيث يحصل كل نوع فيها على غذائه الذي يكفيه، وفي نفس الوقت يوفّر هو نفسه غذاءا كافيا لأنواع أخرى.
سيرون النبات يستغل مواد الارض ويصنع غذاءه بوساطة طاقة الشمس.. ثم تتغذى الحشرات وآكلات العشب من غزلان وطيور عليه دون أن يفنى النبات من الكوكب الحي.
وسيرون آكلات اللحوم تتغذي على آكلات العشب ولا تفني فرائسها أبدا، لأن فناءها يعني موتها هي الأخرى بالمجاعة.
وسيرون في قمة السلسة الغذائية من آكلات اللحوم يقتله ميكروب صغير جدا وبسيط جدا، ليموت ويتغذي عليه ميكروب آخر ليحلله مرة أخرى إلى مواد أولية هي ذاتها مكونات الأرض التي يعاود النبات استهلاكها مرة أخرى.
انظروا جيدا إلى هذه السلسلة المغلقة.. فإنها ليست بالبساطة التي نتوقعها.. والواقع الرصدي لها شديد التداخل والتعقيد، فالنوع الواحد يتغذى على مصادر متنوعة من الغذاء الحي، وفى نفس الوقت يمثل هو ذاته وجبة غذاء لأنواع مختلفة من الكائنات.
والأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا النظام المحكم يمثل طبقات متراكبة من التعقيد، وتتحكم فيه عوامل كثيرة صعبة الحصر، ويعجز أى ذكاء معروف عن السيطره عليها لخلق هذا التوازن فى العالم الحي دون أن ينهار.
فلكل نوع من الأنواع الحية نظام غذائي خاص به، ونظام تكاثر مختلف وعدد محدد من النسل والذرية يختلف هو الاخر عن باقى الأنواع، ومتوسط أعمار مختلفة أيضا.
كل هذه العوامل تؤثر على مدى إنتشار النوع.. فعلى سبيل المثال، لو زاد معدل نسل نوع معين دون أن يحد مفترس آخر من إنتشاره، فإنه سيؤدي حتما الي كارثة بيئية، حيث سيجهز هذا النوع على مصدر غذائه، ويؤدي إلى فنائه، وقد يتحول إلى مصادر أخرى للغذاء إن توافرت التي تمثل بدورها غذاءا لأنواع أخرى، أو يفنى تماما بأثر المجاعة.. وفي كلا الحالتين فإن الخلل الناتج شديد التراكب، وبالغ الضرر تماما، كما نضرب قطعة الدومينو فى لعبة السقوط المتسلسل.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لكم مثالا بسيطا يصور حجم المشكلة.. فلو أننا أعطينا الفرصة لزوج واحد من الذباب المنزلي ليتكاثر دون أن يموت أحد أفراد ذريته لمدة عام، فإنه يمكنه أن ينتج فعليا كمّا من الذباب يعادل حجم كوكب الأرض كاملا.. ولو نجح بيض أنثى سمك البكلاة الذي يبلغ تسعة ملايين بيضة في البقاء وإكمال دورة حياته دون أن يحده مفترس، لتحول البحر فى سنوات قليلة إلى طبقات متراصة من سمك البكلاة تكفي لازحة ماء البحر كله إلى اليابسة وإغراق الكوكب.
حتى البشر أنفسهم رغم أن معدل زيادتهم الطبيعية أبطأ من معدلات الزيادة الطبيعية عند بقية الحيوانات باستثناء الفيلة، وبنسبة تضاعف لعدد السكان كل 25 عاما بناء على معدل النسل، ولو أن معدل الزيادة استمر على هذا النحو خلال القرنين القادمين لارتفع عدد سكان العالم الي خمسمائة الف ميلون نسمة، غير أننا فى حقيقة الأمر نجد أن تعداد الأنواع يتسم بالثبات بوجه عام.
انطلاقا من هذا كله، فإن قانون السلسلة الغذائية بالغ الأحكام بدرجة يستحيل بها أن يصور كأنه نتاج عفوي، ذلك أن أي خلل فيه قد يعنى فناء السلسلة وانهيارها كليا.
سكت قليلا، ثم قال: هل يمكن أن تتصوروا إمكانية امتلاك الكائنات الحية وعيا وإدراكا يمكنها من فهم مفردات النظام الذي يمثلون جزءا ضئيلا جدا من أجزائه..وهل يملك مبدأ سباق التسلح والصراع من أجل البقاء إدراكا لاحتواء وصنع هذا النظام؟
الحقيقة التي تبدو بديهة عقلية هي أن هذا النظام لابد أن نتاجا لتحكم خارجي قدير، خلق فيه كل نوع بقدر قدر فى عمره،قدر في دورة حياته، وقدر في عدد نسله، وقدر في مصادر غذائه من الأنواع الأخرى، أو كونه خلق أصلا ليكون غذاءا لأنواع أخرى.
إن ما نراه فى الحياة ـ سيداتي سادتي ـ ليس مبدأ الصراع من أجل البقاء، كما ينص التطوريون.. بل هو مبدأ التوازن المحكم الذي يقول به الخلقيون.. فالنظام المعقد يستحيل أن يقوم على العشوائية والصدفة ومثل تلك القوانين.
قامت بعض الحاضرات، وقالت: لا بأس.. فلنسلم بذلك.. ألا ترى أن الخالق بذلك يكون شريرا.. ذلك أنه جعل بعض الكائنات ضحايا لكائنات أخرى؟
قال الرجل: شكرا على هذا السؤال.. فهو سؤال جيد.. ويجب أن نبحث عن الجواب عنه.. وقبل الجواب أريد أن أسألك عن هذه القاعة التي نجلس فيها، هل هي مخصصة لنا وحدنا، أم أن أجيالا من الناس تتعاقب عليها؟
قالت: بل هذه الخاصة مخصصة لكل المثقفين، ومن الأجيال المختلفة.. وقد عقدت فيها كما تعلم الكثير من النشاطات العلمية والثقافية.
قال: بورك فيك.. فلو أننا بقينا فيها، ولم نخرج منها، هل يمكن لغيرنا أن يستفيد منها؟
قالت: لا.. لا يمكن ذلك.
قال: فكذلك الأمر بالنسبة لهذه الحياة الدنيا، فهي لا تختلف عن هذه القاعة كثيرا.. فالكائنات تفد إليها على دفعات كثيرة، ثم لا تلبث أن تغادرها لتأتي غيرها.
قالت: ولكن لم وجدت أصلا، ما دامت ستعذب بالمغادرة.. أم أنها وجدت لتتألم؟
قال: وهل ستتألمين أنت حينما تغادرين هذه القاعة؟
قالت: لا.. فلدي قاعات أخرى يمكنني أن أذهب إليها.. وأهمها بيتي الذي لا تساويه أي قاعة في الدنيا.
قال: عندنا معشر الخلقيين الذين نؤمن بأن الحياة لا تقتصر على هذا الكوكب، وعلى هذه الفترة القصيرة، نرى أننا نحن وكل شيء بعد خروجنا من هذه الدنيا سنذهب إلى حياة أخرى.. ويحقق لنا فيها من السعادة ما نحلم به، أو ما لم تطق حياتنا الدنيا توفيره لنا.
قالت: أنتم تقولون هذا بالنسبة للإنسان.. فكيف بالحيوان؟
قال: الذي يستطع أن يسعد الإنسان لن يتخلف عن إسعاد الحيوان، وكل شيء.. وقد قال ربي في كلماته المقدسة يذكر عوالم الحياة، وأنها أمم لا تختلف عنا، وأنها تحشر مثلنا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]
وقد ذكر ربي تنوع الكائنات الدالة على قدرته المطلقة، فقال: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [النور: 45]
بقي الرجل يحدث الحاضرين عن نظرية الخلق، ويرد على نظرية التطور وإشكالاتها المختلفة إلى أن كادت الشمس تغرب، حينها رفعت الجلسة، ورفع معها آخر نفَس كان يعيش في عقلي لتلك النظرية العنيفة.. ولم أكن وحدي في ذلك، فالقاعة كلها أخذت تتبرأ منها، وترد عليها، وتكشف ثغراتها التي لا حدود لها.
بعد أن استمتع عقلي وقلبي وروحي بتلك المعاني السامية خرجت إلى حديقة قريبة من حدائق الحيوان الموجودة في مدينتي، والتي كانت غنية بأصناف كثير من الحيوانات، تبدأ بالحشرات، وتنتهي بالسباع الضارية.
وأمام قفص خاص بالنحل وقفت أتفرج عليه، رأيت رجلا يحدق في النحلات بإعجاب شديدة، وكأن له بهن علاقة، فقلت له: ما لذي شدك في هذه الحشرات حتى صرت تنظر إليها بهذا الشكل؟
قال: لا تخف.. فأنا لا أؤمن بالتطور.. ولذلك لا علاقة نسبية لي بها، ولا بغيرها.. وإنما أنظر إليها احتراما وتقديرا لسلوكها الرفيع الذي نفتقده نحن البشر.
قلت: كيف ذلك.
قال: عالمها عجيب جدا، وهو يستحق الاحترام والتقدير من كل الجهات.. لكن الذي شدني في هذه اللحظة إليها هو إيثارها وتضحيتها بنفسها من أجل الجماعة التي تنتمي إليها.. انظر مثلا إلى عاملات النحل ([7])، فهي تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها، مع علمها يقيناً أنها ستموت.. فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة في الجسم الذي تلسعه، ونظراً لارتباط هذه الإبرة الوثيق بالأعضاء الداخلية، تسحب معها هذه الأعضاء خارجاً، متسببة في موت النحلة.
قلت: هل تقصد أن النحلة العاملة تضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية؟
قال: أجل.. وذلك وحده يكفي لإبطال أكذوبة [الصراع من أجل البقاء] التي ينادي بها أصحابنا الداروينيون.
قلت: أصحابك الداروينيون.. ما تعني؟
قال: أنا عالم أحياء.. وقد قضيت فترة طويلة من عمري أؤمن بنظرية التطور، وأنادي بها.. ولم أكن أؤمن بها كنظرية لتفسير الحياة الحيوانية فقط.. بل كنت أنظر إليها كنظرية لتفسير السلوك الإنساني والاجتماعي وكل شيء.. وكانت أخلاقي من السوء، وطباعي من القباحة ما جعل الكل ينفر مني.. لكني بعد أن تأملت سلوك هذه النحلات، ورحت أقتدي بهن، اعتدل طبعي.. وما كان له أن يعتدل لولا تخليه عن تلك النظريات الهدامة التي لم يكن لها من هدف إلا تدمير الإنسان والمجتمع.
قلت: أهكذا.. وبكل بساطة وبسبب نحلات تترك نظرية علمية سال مداد كثير لأجل إثباتها.
قال: المداد الكثير في أحيان كثيرة ليس سوى سم كثير.. فلو كانت هذه النظرية علمية حقيقة لما احتاجت إلى كل ذلك المداد، ولا كل ذلك الدعم.. فالحقيقة الجميلة الهادئة لا تحتاج إلى الضجيج لتثبت نفسها..
ذكرني قوله هذا بقول [ريتشارد دوكنز]: (نظرية داروين تحتاج كل فترة قصيرة للذود عنهـا)، فقال لي: صدق خاطرك.. فدوكيز عبر عن مدى ضعف هذه النظرية، ولولا ذلك لما احتاجت كل مرة للدفاع عنها، ولما اختلف فيها العلماء أنفسهم.
تعجبت من قوله هذا، وكيف قرأ ما ورد على بالي، فقلت: عجبا.. كيف عرفت ما ذكرته في نفسي؟
قال: عندما تخليت عن تلك الرؤية المادية للكون والحياة والإنسان، أعطاني الله من فضائل الحياة وطاقاتها ما لم يكن يخطر على بالي.. فالحياة أعظم من أن تختصر فيما نراه من أشياء.. إنها معان سامية، وقيم رفيعة، وأخلاق عالية.. وهذه هي معاني القوة الحقيقية التي غفلت عنها نظرية أصحابنا.
شعرب برغبة كبيرة في أن أستفيد المزيد من علمه وتجربته، فقلت: وماذا فعلت بعد أن تبت من نظرية التطور، أو تخلصت منها؟
قال: لقد رحت أتابع سلوك الحيوانات.. فوجدت العجب العجاب.. فكل حيوان يصيح بملء فيه بكذب نظرية التطور، وكل المقدمات التي بنيت عليها، وكل النتائج التي نتجت عنها.
قلت: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.
قال: من الأمثلة على ذلك أن ذكر البطريق وأنثاه يقومان بحراسة عشهما حتى الموت.. فالذكر يسهر على رعاية الفرخ بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة، ولا يستطيع طيلة هذه الفترة أن يتناول شيئاً من الغذاء.. أمّا الأنثى، فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء، وهي تجمعه في بلعومها، وتأتي به إلى فرخها.. وكلاهما يبدي تفانيا كبيرا من أجل فرخهما.. ولولا الرحمة التي أودعها الله في قلوبهما ما كان لهما أن يسلكا هذا السلوك الذي يتنافى تماما مع أكذوبة الصراع من أجل البقاء.
قلت: لك الحق في ذلك.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.
قال: أجل.. لك ذلك.. فلا يسرني شيء مثلما يسرني الحديث عن ذلك..
ثم سرح بذهنه قليلا، ثم قال: لاشك أنك تعرف أن التمساح من الحيوانات المتوحشة، وربما يعتبره التطوريون من أحسن الأمثلة عن نظريتهم في الصراع.. لكنا إن تأملنا الرعاية التي يوليها لأبنائه، نمتلئ حيرة وعجبا.. فعندما تخرج التماسيح الصغيرة بعد فقس البيض تقوم الأم بجمعها في فمها حتى تصل بها إلى الماء، ثم تعكف على رعايتها وحملها حتى تكبر ويشتد عودها وتصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسيح الصغيرة بأي خطر تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها، وهو الملجأ الأمين بالنسبة إليها.
التفت إلي، وقال: إن هذا السلوك يثير الاستغراب والعجب.. خاصة إذا علمنا أن التماسيح حيوانات متوحشة، والمنتظر منها أن تأكل أبناءها وتلتهمهم لا أن ترعاهم وتحميهم.
قلت: أجل.. ما ذكرته صحيح.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.
قال: أجل.. هناك بعض الأمهات من الحيوانات تترك القطيع الذي تعيش فيه لترضع أولادها، وتظل ترضعه حتى يشبع، معرّضة حياتها لخطر جسيم.. مع أنه من المعلوم أن الحيوانات تهتم بأولادها الذين ولدوا حديثا، أو الذين خرجوا من البيض لمدة طويلة تصل إلى أيام أو أشهر أو حتى بضع سنين، فتوفر هذه الحيوانات لصغارها الغذاء والمسكن والدفء، وتقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسين.
قلت: أجل.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.
قال: لقد رأيت من خلال بحوث كثيرة أن أغلب أنواع الطيور يقوم بتغذية صغاره من 4 ـ 20 مرة في الساعة خلال اليوم الواحد.. أمّا إناث اللبائن فأمرها مختلف إذ يحتم عليها أن تتغذى جيدا عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الكافي، وطيلة هذه الفترة يزداد الرضيع وزنا بينما تفقد الأم الكثير من وزنها.
قلت: لقد وعيت كل ما ذكرت.. ولكن ألا ترى أن ذلك قد لا يتنافى مع نظرية التطور.. فالأم تمارس هذا النوع مع أولادها.. وأولادها يشكلون امتدادا لنوعها.
ابتسم، وقال: هذا من الخدع التي يمارسها أصحابنا التطوريون، وهو يتنافى مع تصوراتهم المادية ذلك أن أمثال هذه القيم الرفيعة لا يمكن تفسيرها ماديا.
قلت: ماذا تعني؟
قال: من الطبيعي والمتوقع من الناحية المادية البحتة أن تهمل الحيوانات غير العاقلة صغارها، وتتركها وشأنها لأنها لا تفهم معنى الأمومة أو العطف، ولكنها على العكس من ذلك تتحمل مسؤولية رعايتها والدفاع عنها بشكل عجيب.
قلت: ربما يكون ذلك مخزنا في بعض جيناتها، فهي تتصرف على أساسها.
قال: قد أسلم لك جدلا بما ذكرت.. بل قد خطر لي في البداية ما ذكرت.. لكني بعد متابعتي لسلوك الحيوانات رأيت أن رحمتها تلك ليست قاصرة على أولادها.. بل إن عطفها ورحمتها قد تبديها إزاء الحيوانات الأخرى، أو الأفراد الآخرين الذين تعيش معهم في المجموعات نفسها.. ويمكن ملاحظة ذلك عندما تشح مصادر الغذاء، فالمتوقع في مثل هذه الحالات العصيبة أن ينطلق القوي منها ليبيد الضعيف، ويستحوذ على ما يوجد لديه من الغذاء، غير أن الذي يحدث هو عكس ما يتوقعه دعاة التطور.
قلت: كيف ذلك.. إن هذا لعجيب.. أول مرة أسمع بهذا.
قال: من الأمثلة على ذلك.. والتي ذكرها دعاة نظرية التطور أنفسهم أن النمل يبدأ بتناول ما ادخره عندما تشح مصادر الغذاء، بينما تبدأ الطيور بالهجرة بشكل جماعي إلى مكان آخر.. وعندما يكون عدد كبير من القنادس في نهر، تتوجه القنادس الشابة إلى الشمال، والكبيرة في السن إلى جنوب الأنهار.
قلت: لقد ذكرني قولك هذا بقول زميل لي هو [جون ماينيرد سميت]، وهو من التطوريين المشهورين.. فقد سمعته مرة يوجه سؤالا لأقرانه في يتعلق بهذا النوع من السلوك لدى الحيوانات، ويقول لهم: (إذا كان الانتخاب الطبيعي يعني اختيار الصفات الصالحة للكائن الحي، والتي تضمن له بقاءه وتكاثره، فكيف يمكن لنا أن نفسر صفة التضحية لدى بعض الحيوانات؟)
قال: أجل.. فالذي يتابع سلوك الحيوانات بدقة لا يجد منافسة أو مزاحمة بين الحيوانات من أجل الغذاء، بل بالعكس يمكن مشاهدة نماذج عديدة لتعاونها وتضحياتها حتى في أقسى الظروف.. فهي تعمل في أحيان كثيرة على التخفيف من وطأة الظروف وقسوتها.
سكت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى ذلك كله.. فإن هناك مسألة يجب أخذها بعين الاعتبار، وهي أنه لا يوجد بين هذه الكائنات من يملك القدرة على التفكير لكي يتخذ هذه القرارات، وينشئ هذا النظام.. فكيف يمكن تفسير تجمع هذه الحيوانات في مجموعات، وتعيين هدف واحد مشترك، وعملها مجتمعة لتحقيق هذا الهدف المشترك؟
قلت: لكن ما السبب الذي جعل العلماء القائلون بنظرية التطور يغفلون عن مثل هذه المشاهد؟
قال: لقد ذكر بعض أصدقائي، وهو [جمال يلدرم] ذلك، فقال: (إن الأسباب التي جعلت داروين وغيره من رجالات العلم في عصره يصورون الطبيعة على أنها تمثل مسرحا للحرب بين الأحياء، يمكن إجمالها في أن رجال العلم في القرن التاسع عشر كانوا يقبعون في مختبراتهم، أو أماكن عملهم لمدة طويلة، ولا يدرسون الطبيعة ميدانيا، ولهذا ذهب خيالهم ببساطة إلى الاستسلام لفكرة كون الكائنات الحية في حالة حرب صامتة فيما بينها)
أما [بتركروبوتكين]، وهو من المؤمنين بنظرية التطور، فقد ذكر الخطأ الذي وقع فيه داروين ومؤيدوه قائلا: (داروين ومؤيدوه عرّفوا الطبيعة على أنها مكان تخوض فيه الكائنات الحية حروبا مستمرة فيما بينها.. ويصور هاكسلي عالم الحيوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فيه الحيوانات بصراع مرير فيما بينها، وتكون الغلبة من بينها للذكي والسريع، وهو الذي يستطيع العيش ليبدأ في اليوم التالي صراعا جديدا.. وهكذاويتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هكسلي بشأن الطبيعة ليست علمية)
وهذه الشهادات وغيرها كثير يدل على عدم استناد نظرية التطور إلى ملاحظات علمية، ذلك أنه يغلب على دعاتها التزمت الفكري من خلال تحليل بعض الظواهر الموجودة وفقا لهواهم، مع أن الحقيقة هي أن الحرب التي يدعي داروين انتشارها في أرجاء الطبيعة ليست سوى خطأ كبير، حيث لا نجد الأحياء التي تكافح من أجل البقاء فقط، بل نجد أيضا كائنات حية تبذل تعاونا ملحوظا نحو الكائنات الحية الأخرى.. والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحيانا على نفسها.. ولهذا نرى دعاة التطور عاجزين عن تفسير ظواهر الإيثار.
قلت: صدقت في كل ذلك، وقد ذكرني حديثك هذا بما ورد في مقال صادر في إحدى المجلات العلمية، فقد جاء فيه: (المشكلة تكمن في السبب الذي من أجله تتعاون الكائنات الحية، وبالنسبة إلى نظرية داروين فهي تقول: إنه ينبغي على كل كائن حي أن يكافح من أجل البقاء والتكاثر.. ومعاونة باقي الكائنات الحية يقلل من فرص نجاح ذلك الكائن الحي في البقاء، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يُزال هذا النمط السلوكي عبر التطور، ولكن الملاحظ أن الإيثار لا يزال موجودا في سلوك الكائنات الحية)
***
بعد أن منّ الله علي بكل أولئك الرسل الذين أرسلهم لي، ليبينوا لي من أسرار الحياة ماكنت غافلا عنه، رحت أجلس مع عقلي المجرد عن كل هوى لأبحث عن الحقيقة التي تختفي وراء ما نراه من أشياء.. والتي حُجبت عنها سابقا بسبب تلك الخرافات والأوهام المادية.
وقد طلب مني عقلي حينها أن أبحث عن ربي.. فالحقيقة عنده وحده.. والكمال عنده وحده.. وكل شيء عنده وحده.
وحينها شمرت عن ساعد الجد.. ورحت أقرأ الكتب الكثيرة للأديان المختلفة.. ورحت أجوب الأرض، وأبحث فيها، لا عن هياكل عظمية، لا تسمن ولا تغني من جوع.. وإنما عن الحقيقة التي استعمل الشيطان وأدواته كل الوسائل لطمسها.
وبعد أن علم الله صدقي أرسل لي بفضله معلم الإيمان.. ليدلني على الطريق.. ويدلني على الغاية الكبرى التي تفنى في سبيلها كل الغايات.
وقد شعرت حينها، ولأول مرة في حياتي بالسلام العظيم.. لا في نفسي فقط، وإنما في الكون جميعا.. ومن تلك اللحظات بدأت رحلتي إلى الحقيقة الجميلة الممتلئة بالسلام وكل ألوان الكمال.
وفي أول خطوة من رحلتي إليها امتلأت
بالرحمة والعواطف الجياشة.. فقد أدركت أننا جميعا نحن البشر بل كل شيء ليس سوى
نفحة من نفحات الرحمة الإلهية، وقبضة من قبضات الجود الإلهي الذي عمّ كل الكائنات.
([1]) انظر: توماس روبرت مالتوس من نظرية السكان إلى لعنة الإبادة، علي سفر،نُشر في 2015/05/09، العدد: 9912، ص(15)
([2]) ربرت سبنسر (1820، 1903): فيلسوف بريطاني، مؤلف كتاب [الرجل ضد الدولة]، وهو أحد أكبر المفكرين الإنجليز تأثيرا في نهاية القرن التاسع عشر، وهو الأب الثاني لعلم الاجتماع بعد أوجست كونت الفرنسي، اشتهر بنظريته عن التطور الاجتماعي.
([3]) ذكر ذلك بتفصيل السير فرانسيس غالتون في كتابه (العبقري الوراثي) عام 1869. وهو عالم بريطاني وأحد أقرباء تشارلز دارون..
([4]) هذه النصوص مقتبسة من [موسوعة اليهودية].
([5]) الأصل الأيديولوجيّ الحقيقيّ للإرهاب: الدّاروينيّة والمادّيّة، هارون يحيى، تعريب: مبارك بقنه.
([6]) انظر: مقالا بعنوان: الكوكب الحي: توازن محكم أم صراع من أجل البقاء؟.
([7]) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: التضحية عند الكائنات الحية، هارون يحي.