الصدفة.. والخلق

الصدفة.. والخلق

بدأ أولهم الحديث، وقال: تبدأ قصتي من ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه مع مدير مركز الأبحاث الذي كنت أعمل به، فقد طلب حضوري إليه، بعد أن رأى بعض أبحاثي، وأعجبته كثيرا.

وعندما دخلت إليه راح يقول لي: نحن فرحون بأن يكون في مركزنا باحث مثلك.. لكنا نريد منك أن تتوجه بأبحاثك وجهة أخرى، لعلها أنفع للبشرية من الوجهة التي تعمل فيها الآن.

قلت: لكن الوجهة التي أعمل فيها نافعة جدا، فأنا أبحث في الكائنات الحية الدقيقة، وتأثيرها على البيئة، وهذا يفيدنا كثيرا في واقع الحياة العملية.

قال: أجل.. أعلم ذلك.. لكن ذلك يمكن أن يقوم به آخرون بدلا عنك.. ولهذا، فأنا أريد منك شيئا آخر.. أو بالأحرى المركز يريد منك شيئا آخر أكثر نفعا للبشرية.. بل البشرية نفسها هي التي تريد ذلك منك.

قلت: أنا في خدمتك، وخدمة المركز، وخدمة البشرية.. فمرني بما شئت.

سكت قليلا، كالمتردد، ثم قال: قد تقول بأن ما أريد أن أكلفك به نوع من الفلسفة أو الميتافيزيقا.. أو تذكر أن فيه نوعا من البعد عن العلمية.. لكني أبادرك، فأقول بأن قولك هذا غير صحيح.. فالعلم الآن راح يخترق حجب الغيب، ليكشف حقائق الوجود، حتى لا يترك لغيره أن ينشر الخرافات بين البشرية.

قلت: أنا إلى الآن لم أفهم ما تقصد.. ولست أدري هل لما تريد أن تطلبه مني علاقة بالفلسفة أم لا.. لكن إن كان ذلك، فاعذرني، فأنا رجل علم ومخابر، ولا علاقة لي إطلاقا بالفلسفة.

قال: ما تقول يا رجل.. هل يمكن لأحد من الناس ألا تكون له علاقة بالفلسفة؟.. ألا تعرف أولئك الفلكيين والفيزيائيين الكبار الذين وضعوا النماذج الكثيرة التي تواجه المؤمنين الذين راحوا يستثمرون الحقائق العلمية الدالة على نشوء الكون ليثبتوا بها وجود الله؟

قلت: بلى.. أعرف ذلك.. وقد ذكر بعض أساتذتنا الدوافع النفسية لكل تلك النماذج، فقال: (اعتقد علماء الكون أنّ عليهم الالتفاف وراء المشكلة.. لقد حاولوا على مرّ السنوات الماضية إثبات عدة نماذج مختلفة للكون تتفادى الحاجة إلى بداية، مع الاستمرار في اشتراط انفجار عظيم.. يبدو الآن من المؤكّد أنّ الكون كانت له بداية)

قال: ولكنهم نجحوا في ذلك..

قلت: أجل.. هم نجحوا في تحقيق أغراضهم الفلسفية، ولكنهم لم ينجحوا في تحقيق أغراضهم العلمية، فكل ما ذكروه من نظريات ونماذج لم تكن سوى دعاوى لا دليل عليها.

قال: لا يهم ذلك.. فقد يأتي ما يدل عليها في المستقبل.

قلت: وقد يأتي ما ينقضها.. بل إنه لا يمكن لأحد من الناس أن يبرهن عليها في يوم من الأيام.. لقد قال بعد علماء الفيزياء الكبار عن [نظرية الأوتار]: (إنها نظرية تحتاج لمصادم هيدروني بحجم مجرة لاختبارها وهذا غير ممكن.. حسنا لو قلنا ـ طبقا للنظرية ـ إن الكون خلق نفسه، فمن أوجد النظرية؟ ومن أوجد القوانين الفيزيائية الخاصة بها؟.. ورغم ذلك فلا توجد لها معادلة فيزيائية حتى الآن.. أطلب منهم أن يكتبوا معادلة فيزيائية.. لن يفعلوا لانهم ببساطة لايمتلكونها)

وقال آخر عن صاحب نظرية الأكوان المتعددة، والتي قال عنها البروفسور [جون بولكنجهورن] الفيزيائي الشهير معبرا عن نقده الشديد لها: (إنها ليست فيزياء.. إنها في أحسن الأحوال فكرة ميتافيزيقيه، ولا يوجد سبب علمي واحد للإيمان بمجوعة من الأكوان المتعددة)

وقال آخر: (إن فلسفة هوكينج تحديدا ما أعارضه، فهي كما وصلتني مثال واضح على التعالم، فطرح أن العلم هو مصدر المعلومات الوحيد، وأننا لدينا فهم كامل لكل شيء هراء، بل هراء خطير أيضا، فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور بشكل مبالغ فيه)

قال: لا بأس.. ربما يكون لهؤلاء الحق فيما يذكرون.. لأن الكون الواسع لا يمكن الإحاطة به، ولا التجربة عليه.. ولكن ما أريد أن أطلبه منك سهل، وفي المتناول.. فنحن كما تعلم لا نبحث في الكائنات الضخمة، بل نبحث في الكائنات الدقيقة.. نحن لا نستعمل المراصد الكبرى العاجزة، بل نستعمل المجاهر الإلكترونية الدقيقة.

قلت: إن كان لما تريد أن تطلبه مني علاقة بالعلم، فذلك اختصاصي.. يمكنني أن أبحث فيما تشاء.. وأنت فسره بعد ذلك كما تريد.. أو يمكنك أن تحضر من الفلاسفة من يستفيد من نتائج أبحاثي ليوجهها كما يشاء.

قال: لا بأس.. اتفقنا على ذلك..

قلت: فما تريد مني؟

قال([1]): لاشك أنك تعلم أن نظرية التطور طرحت في أواسط القرن التاسع عشر، وفي ذلك ذلك الحين لم تكن العلوم والتكنولوجيا متطورة بمثل ما هي عليه اليوم.. فقد كان علماء ذلك القرن يُجرون أبحاثهم في معامل بسيطة، وبأجهزة بدائية جداً.. وذلك ما جعلهم يقعون في بعض الاعتقادات الباطلة التي ترسبت في أذهانهم في غضون العصور الوسطى، ولا تزال مؤثرة في ثقافتهم حتى الآن.

قلت: أعلم ذلك.. ومن ذلك قولهم: إن للحياة طبيعة بسيطة في أساسها، أو كما عبر على ذلك الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو الذي قال: (إنّ الحياة تبدأ صدفة بمجرد وجود بعض المواد التي لا حياة فيها، وتكون هذه المواد متلازمة جنبا إلى جنب في بيئة مبتلة رطبة ومن هنا تبدأ الحياة).. وهكذا اعتمد داروين في بناء نظريته على فكرة أن: (الحياة لها طبيعة بسيطة في أساسها)

قال: أجل.. وقد اعتنق علماء الحياة ما ذكره داروين وناصروه، وبنوا أفكارهم على أساسه، وكان من أهم مناصري داروين [أرنيست هايكل] الذي كان يعتقد أن الخلية الحية ـ والتي لم تتمكن المجاهر البسيطة حينذاك من رؤيتها بشكل صحيح ـ بسيطة التكوين بطبيعتها، وقال عنها كما تصورها: (إن الخلية ما هي إلا بالونة بسيطة مملوءة بسائل هلامي)

قلت: ولهذا، فإن الكثير من النتائج العلمية التي ذكرها هايكل وداروين وهكسلي وغيرهم لم تعد نتائج علمية لاعتمادةا على أفكار بدائية، ولعدم تطور الوسائل حينها.

قال: ولهذا طلبت منك ومن بعض الباحثين الكبار أن تقوم بدورك في هذا المجال.

قلت: لم أفهم ما تعني.

قال: لاشك أنك تعلم أن تلك النظريات التي طرحها هايكل وداروين وهكسلي وغيرهم كان لها أثرها الكبير في مواجهة الخرافة والجهل والتطرف والإرهاب الذي يلبس عادة لباس الإيمان.. وتعلم أيضا أنها وإن لم تكن علمية بالشكل الكافي، لكنها مع ذلك استطاعت أن تؤدي ذلك الدور الاجتماعي الخطير في مواجهة التطرف والعنف.. ولذلك نحتاج إلى إحيائها من جديد، وبأساليب أكثر علمية.

قلت: لا أرى علاقة بين تلك النظريات والتطرف والعنف.

قال: كيف لا ترى ذلك.. وأنت ترى في نشرات الأخبار أن كل ما يحصل من جرائم بيد أولئك الإرهابيين من المسلمين.. ولولا إيمانهم بما يسمونه إلها، لما وقعوا في ذلك.

قال ذلك، ثم أخرج من مكتبه شيكا، وأمضاه، وهو يقول: دعنا من كل هذه التفاصيل.. هذا شيك وفره لك المركز، يمكنك أن تضع فيه المبلغ الذي تشاء، لتسد به ديونك، ولتتجنب دخول السجن.. فلا يصح أن يدخل عالم مثلك السجن.. فمكانك هو المخبر، وليس وراء القضبان الحديدية.

ثم ابتسم، وقال: نحن نعرف جيدا الظروف الصعبة التي تمر بها.. ولذلك لا نريد أن ندعك تحت رحمة أعدائك.. لا نريد منك في مقابل هذا سوى أن تثبت عدم حاجة نشأة الحياة إلى مصدر خارجي..

أو بعبارة أخرى لا نريد منك سوى أن تضع نظرية جديدة لـ [نشأة الحياة صدفة] في لباس علمي يتيح لها المزيد من القبول في العصر الحالي، وبالوسائل الحديثة.. ولا يهم أن تعارَض في المستقبل أو لا تعارض.. المهم أن تبقى لها فعالية، ولو لمدة قليلة من السنين.

وإن استطعت أن تقنع باحثين آخرين ليؤدوا هذا الدور معك، فلك ذلك، فالبحث الجماعي أهم وأقوى تأثيرا من البحث الفردي.. لكن لا نريدهم إلا من كبار علماء الحياة في العالم.. ولذلك لك أن تتنقل حيث تشاء.. وتتصل بنا لنهبهم من الأموال ما يرغبون.. فكل شيء موفر لك.

***

لا أكتمكم أني حينها، وبمجرد أن رأيت الشيك سال لعابي، وتشتت ذهني تشتتا تاما، فقد كنت في حاجة مالية شديدة.. فقد استدنت من بعض البنوك مبلغا ضخما لشراء بيت في ضاحية المدينة، ووفرت فيه كل مستلزمات الأبحاث التي أريد إجراءها.. وكنت أحلم أن أكسب وراء تلك البحوث أموالا كثيرة أسدد بها ديوني، لكن ذلك لم يحصل، فقد كانت النتائج التي وصلت إليها عكس المتوقع، وقد جعلني ذلك أنهار انهيارا تاما.

ولهذا تركت معملي، والتحقت بذلك المركز الذي حدثتكم عنه، وقد علمت بعد ذلك أنهم علموا بما حصل لي، وبالمبالغ الضخمة التي أحتاج إلى سدادها، فراحوا يستعملون هذه الوسيلة لإقناعي بما يريدون طرحه.. ونجحوا في ذلك.

بعد أن عدت إلى بيتي، رحت أقلب دفاتري بحثا عن الفريق الذي يمكنه أن يساعدني في المهمة الخطيرة التي وكلت لي، وبعد جهد كبير استطعت أن أجمع أسماء عدد منهم، كلهم من كبار الباحثين.. ولم تكن لدي مشكلة سوى المسافات الطويلة التي تفصل بينهم.

لكن المبالغ المالية الضخمة التي هيئت لي جعلتني أقوم بمهمة التواصل معهم، من غير أي عناء..

الصدفة.. والرجم بالغيب:

كان أول عالم قمت بزيارته، والحديث معه في هذا الشأن، عالما بيولوجيا كبيرا، كانت له صلة نسبية بذلك العالم التطوري المخادع [أرنست هيجل]، صاحب النظرية التي يطلق عليها [نظرية التلخيص]، والتي ثبت زيفها وخداعها بعد ذلك، واعترف أرنست نفسه بما فعله.

عندما دخلت مكتبه الذي كان يشبه مكاتب رجال الأعمال، لا مكاتب العلماء والخبراء، قال لي، وهو يصافحني بحرارة: لدي لك الكثير من الصفقات التجارية المهمة التي تخلصك من كل ديونك.

قلت: أرجو ألا تكون مثل شبيهاتها التي أوقعتني فيها.

قال: لا تخف.. هي مضمونة مائة في المائة.. فأنا أفكر في اختراع مركب يحوي جميع المسكرات مثل الكحول والكلوروفورم والبنزين.. ومسببات النشوة مثل الأفيون ومشتقاته.. والمهلوسات: مثل الميسكالين وفطر الأمانيت والبلاذون والقنب الهندي..وغيرها جميعا، مع تفادي السلبيات المرتبطة بها.. وأنا أحتاج إلى فريق بحثي لتحقيق ذلك.. ولا شك أن لك من القدرات ما يسمح باختراع هذا المنتوج الذي سيغزو الأسواق، ويحولنا إلى ملياديرات بين عشية وضحاها.

قلت: دعني من هذه العوالم، فأنت تعرف أني قد تبت من أمثال هذه الصناعات التي لم تجر علي سوى الوبال.

قال: فهل تراك جئتني بصفقة أخرى أكثر جدوى؟

قلت: ألا تعرف الحديث سوى عن الصفقات؟.. لقد جئتك لغرض علمي.

قال: لقد انتهينا من العلم بعد خروجنا من الجامعة مباشرة، ونحن الآن في طور التجارة بالعلم.. فإن كان لك صفقة مهمة، فهاتها، وإلا فاذهب إلى طلبة الجامعة، واعرض عليهم مشاريعك.

قلت: يمكنك أن تعتبر أني جئتك بصفقة..

نهض من مكتبه، وراح يصفق، ويقول: هذا ما كنت أنتظره منك، فهلم بها.

ذكرت له ما حدثني به مدير المركز، فراح يقول لي: الأمر بسيط جدا، يمكنني عبر الفريق البحثي الذي تريده أن نحيي أي نظرية من النظريات، وندعمها بخدع جديدة، لتؤدي دورها الوقتي، ولا بأس بعد ذلك أن تنتقد، لتخلفها نظريات أخرى.. فما دام الهدف هو إبعاد الله عن خلق الحياة، فهذا سهل جدا.

ثم ابتسم، وقال: إننا نقدم بذلك خدمة للإنسانية.. فأنت ترى ما يجره الإيمان بالله من مآس للبشرية، فقد صار اسم الله مبررا لكل الجرائم.. وفوق ذلك لا يمكن للحياة أن تحلو، وأن نمارس فيها كل حريتنا، ونحن نعتقد بإله يحاسبنا على الصغيرة والكبيرة، بل يتوعدنا بعد ذلك بالعذاب الشديد إن خالفنا القوانين التي يسنها.

قلت: لا بأس.. فما هي البدائل التي تقترحها، والتي يمكننا من خلالها أن نواجه الطروحات الإيمانية.

قال([2]): هي كثيرة جدا.. من أمثلتها أننا يمكن أن نلبس نظرية [الحساء البدائي] ثوبا جديدا من العلمية، متناسبا مع التطورات الجديدة.. فأنت تعلم أن أثواب تلك النظرية والتي لبستها منذ سنة 1924 قد بليت كثيرا.. وتحتاج إلى تبديل..

سكت قليلا، ثم قال: لقد لاقت حينها استحسان العلماء من مختلف الأوساط العلمية.. فهي تذكر أن الحياة نشأت ببساطة من زمن سحيق في القدم، حيث كان للأرض غلاف جوي صغير يحتوي على العناصر الأساسية لنشأة الحياة من الكاربون، والهيدروجين، والآزوت، وغيرها.. حينها تعرضت الأرض لأشكال مختلفة من الطاقة، مما أدى إلى ارتباط هذه العناصر وتصلبها فيما بينها، مشكلة مركبات كيميائية، أعطت انطلاقة للحياة على الأرض.

قلت: ولكن هذا يطرح تساؤلات حول كيفية نشوء الحياة فقط عبر هذه العناصر والمركبات البسيطة؟

قال: هذا ما تجيب عليه نظرية [التولد التلقائي] أو [التخليق الذاتي]، وهي التي تذكر أن الحياة نشأت في ظروف طبيعية انطلاقا من مركبات غير حية..

قلت: لكن كيف تم ذلك؟

قال: يمكن طرح الكثير من التوقعات لكيفية ذلك.. وفي ذاكرتي الآن الكثير منها.. وجميعها يمكنها أن تصمد فترة طويلة، حتى تأتي بدائل لها.

قلت: فهات أولها؟

قال: أولها هو القول بأن الحياة نشأت أول مرة تحت الجليد.. حيث تشير مجموعة من الأدلة إلى تغطية الجليد للمحيطات قبل حوالي 3 ملايير سنة من الآن، حيث تشكلت طبقة جليد سميكة بعمق مئات الأمتار نتيجة البعد السحيق بين الأرض والشمس آنذاك، وعكس ما هو عليه الآن، وهذه الطبقة حمت المركبات العضوية بقاع المحيطات ومكنتها من التفاعل فيما بينها لتعطي بذلك انطلاقة للحياة.

قلت: دعنا من هذا، فما أصعب تصديقه؟

قال: لا بأس.. فلنذكر بأن الحياة نشأت بسبب الكهرباء.

قلت: كيف ذلك؟.. إن إثبات هذا صعب، بل مستحيل.

قال: رغم أنها فكرة غريبة نوعا ما، إلا أنه يمكننا أن نذكر بأن الحياة تشكلت بفعل الكهرباء، فقد تم اثبات قدرة الكهرباء على تشكيل أحماض أمينية وسكريات بسيطة انطلاقا من عناصر بسيطة في الغلاف الجوي.. وبذلك فإنه يمكن أن نذكر أن البرق هو السبب في ظهور الحياة على الأرض، وذلك بصعق الأدخنة الصاعدة من البراكين، والغنية بالعناصر الأساسية للحياة مشكلا بذلك جزيئات أعقد، شكلت أسس الحياة.

قلت: دعنا من هذا، وحدثنا عن توقع آخر أكثر عقلانية؟

قال: فلنذكر لهم أن الحياة نشأت بسبب [التبذر الشامل]

قلت: فما [التبذر الشامل]؟

قال: هي نظرية تنص على أن الحياة على الأرض تطورت من كائنات مجهرية فضائية، دخلت للأرض عن طريق نيازك قادمة من المريخ.. مما يجعل منا امتدادا لكائنات فضائية متطورة.

قلت: إن هذا سيدعو إلى التساؤل أيضا عن سبب نشأة الحياة في المريخ.. فلذلك حدثنا عن توقع آخر أكثر عقلانية؟

قال: فلنذكر لهم أن الحياة نشأت من [الحمض النووي الريبوزي]، فهذا الحمض له دور أساسي في ترجمة الجينات إلى بروتينات.. وبذلك يمكن أن تنشأ الحياة بتشكل هذا الحمض النووي الريبوزي انطلاقا من الحساء البدائي.

قلت: إن هذا يطرح تساؤلات أخرى كثيرة.. فهل هناك توقع آخر؟

قال: أجل.. يمكننا أن نذكر أن مكونات الحساء البدائي استمرت في التفاعل فيما بينها، وبمرور الزمن أنتجت هده التفاعلات جزيئات أكثر تعقيدا من سابقتها، فشكلت أساس الحياة على الأرض.

قلت: إن هذا يطرح تساؤلات كثيرة.. فهل هناك توقع آخر؟

قال: أجل.. يمكننا أن نذكر أن الشرارة الأولى للحياة ظهرت عبر المتنفسات المائية الحرارية، وهي فتحة تشبه المدخنة في قاع المحيط، تنفث مياه معدنية حارة غنية بالعناصر الأساسية، وهي بذلك توفر ظروف ملائمة وعناصر أولية لتشكل الحياة على الأرض.

قلت: فهل هناك توقع آخر؟

قال: أجل.. يمكننا أن نذكر [تربة الأرض الطينية]، فقد قدم باحثون من جامعة غلاسكو الشهيرة باسكتلندا نظرية حول نشأة الحياة من تربة الأرض الطينية، لكونها غنية بالعناصر الأساسية للحياة، وقد حاجج الباحثون من خلال هذا الطرح على أن كل تلك العناصر قد تفاعلت فيما بينها لتعطي جزيئات معقدة كالحمض النووي [دى إن إيه] وجزيئات أخرى مشكلة بذلك قاعدة انطلاق الحياة على الأرض.

قلت: فهل هناك توقع آخر؟

قال: أجل.. يمكننا أن نذكر تلك النظرية الجديدة التي ظهرت بمعهد [ماساتشوستس للتكنولوجيا]، والتي تفترض أن تعريض المادة لطاقة خارجية داخل حمام حراري يجعلها تنتظم وفق نظام أكثر كفاءة في تبديد الطاقة، وقد أكدت الدراسات المنجزة أن تعريض مجموعة من الذرات للطاقة يجعلها تنتظم وفق نظام أكثر كفاءة في تبديد الطاقة.

قلت: فهل هناك توقع آخر أكثر علمية وعقلانية؟

قال: أجل.. يمكننا أن نذكر لهم نظرية [سفانت أرينياس]

قلت: فمن هو [سفانت أرينياس]؟

قال: إنه صاحب النظرية التي تنص على أن الحياة التي نراها على سطح البسيطة اليوم كانت قد نشأت من كائنات حية أخرى أتت من عالم أو كوكب آخر غير كوكبنا الأرضي.. وقد وضع نظريته في نهاية القرن التاسع عشر بناء على معرفته بأن كثيراً من البكتيريا والفطريات تنتج جراثيم تنقلها الرياح من مكان لآخر حيث يمكنها بتوفر الظروف الملائمة أن تنبت لتكون مستعمرات جديدة للكائنات المنتجة لها، وبناء على ذلك قدم نظريته والتي تعني أن الكائنات الحية التي نراها اليوم نشأت من أجسام تشبه الجراثيم أتت من عالم أو كوكب آخر غير كوكبنا الأرضي.. وبتوفر الظروف الملائمة لإنبات هذه الأجسام في أرضنا نمت فأعطت الكائنات الحية التي نراها اليوم.

قلت: ولكن هذه النظرية لم تأخذ في عين الاعتبار كيفية وجود الحياة على كوكبنا الأرضي، ولم تأخذ في اعتبارها كيفية نشأتها سواء كان ذلك هنا أو في عالم آخر؟

قال: ذلك لا يهم.. فنحن لا نريد أن نثبت حقيقة علمية، وإنما نريد أن نضع افتراضات مختلفة ينشغل بها البشر عن التساؤلات المحيرة التي لا تؤدي إلا إلى الإيمان.

قلت: دعنا منها.. فهي غريبة جدا.. فهل هناك توقع آخر أكثر علمية وعقلانية؟

قال: حاليا.. ليس لدي أي توقع آخر.. لكن لا تقلق، يمكنك أن تمر علي بعد أسبوع واحد فقط، لأضع بين يديك مجموعة أخرى جديدة من التوقعات.. لكن لا تنس أن تقدم مبلغا من المال يقوي خيالي على التفكير.. فخيالي لا يمكن أن يتحرك من دون مال.

الصدفة.. والتوالد الذاتي:

وهكذا ضممت إلى فريقي العضو الأول، والذي لم يصعب علي التعامل معه، فقد كان لا يختلف كثيرا عن مدير المركز الذي كنت أعمل به..

لكن الصعوبات الشديدة لاقتني مع سائر الأعضاء الذين سجلتهم في دفتري.. فكلهم رفض العرض رغم الحاجة الشديدة.. وكلهم راح يؤنبني على التفكير بهذه الطريقة.

وكان أولهم عالما بيولوجيا كبيرا، كانت له صلة نسبية بالطبيب الكبير [لويس باستور]، وبمجرد أن التقيت به، وعرضت عليه الفكرة، وأخبرته أني اتفقت مع [أرنست هيجل] بشأن ما يمكننا عمله، حتى راح يضحك بصوت عال، وهو يقول: ألا تزال عائلة [أرنست هيجل] تمارس دورها القذر في تاريخ العلم، ألم يتخلصوا بعد من الحيلة والمخادعة؟.. ألم يكفهم ما فعل جدهم من جرائم؟

قلت: وما الذي فعل؟

قال: لقد قدم مجموعة من أشهر رسوماته عام 1874م لمراحل الجنين البشري، حيث قام بتزييف الحقائق ووضع بصمة تطورية في كل مرحلة جنينية لدرجة أنه رسم خياشيم مزعومة للجنين الإنساني، بل وأضاف صورتين من عنده أصلا دسهما بين صور مراحل الجنين، إلى الدرجة التي قال فيها عالم الأجنة البريطاني الدكتور [مايكل ريتشاردسون] وزملاؤه في سنة 1997م: (يبدو أن هذا [أي رسومات هيغل] من أكبر عمليات التزييف في علم الأحياء!)

قلت: لمَ تلقي عليه هذه التهمة الخطيرة، فلعل ذلك ما وصل إليه جهده وعلمه وتفكيره.. ولا يمكن اعتبار التفكير بحال من الأحوال خداعا أو احتيالا؟

قال: صدقت في ذلك.. لكن الواقع التاريخي كشف بالأدلة القطعية أن [أرنست هيجل] لم يكن مجرد مخطئ، وإنما كان مخادعا أيضا، ففي نهايات عام 1908م اكتشف الدكتور [بر إس] التزوير الذي قام به، وكتب مقالة في إحدى الجرائد متحديا أرنست هيجل وداعيا له للاعتراف بما قام به من تزوير.

وانتظرت الأوساط العلمية جواب العالم التطوري المتهم بالتزوير، وبعد تردد قارب الشهر، كتب هيغل بتاريخ 14/12/ 1908م مقالة تحت عنوان (تزوير صور الأجنة)، حيث اعترف فيها بعملية التزوير التي قام بها قائلا: (إنني أعترف رسميا ـ حسما للجدال في هذه المسألة ـ أن عددا قليلا من صور الأجنة نحو ستة في المائة أو ثمانية موضوع أو مزور)

ثم عقب على هذا الاعتراف بقوله: (بعد هذا الاعتراف يجب أن أحسب نفسي مقضيا عليّ وهالكا، ولكن ما يعزيني هو أن أرى بجانبي في كرسي الاتهام مئات من شركائي في الجريمة، وبينهم عدد كبير من الفلاسفة المعول عليهم في التجارب العلمية وغيرهم من علماء الأحياء ـ البيولوجيا، فإن كثيرا من الصور التي توضح علم بنية الأحياء وعلم التشريح وعلم الأنسجة وعلم الأجنة المنتشرة المُعول عليها مزور مثل تزويري تماما لا يختلف عنه في شيء)([3])

بل إن علماء الداروينية الحديثة لم يجدوا بُدا من التملص من هذه الفضيحة للحفاظ على استمرار المخدر التطوري ساري المفعول في عقول الغافلين والملحدين واللادينيين، فهذا أحد مؤسسي الدارونية الحديثة وهو [جورج جايلورد سيمبسون]، يقول: (لقد شوَّه هيجل المبدأ النشوئي الذي تناوله، فقد ثبت اليوم علميا بما لا يدع مجالا للشك، أن الأجنة لا تمر بمراحل ارتقاء الأجداد)

قلت: لا بأس.. قد أعترف معك بكون [أرنست هيجل] الجد كان مخادعا، لكن ما ذنب [أرنست هيجل] الحفيد.. أم أنك تريد أن تلقي ذنب الأجداد على الأحفاد؟

قال: لا.. لا أقول هذا.. ومعاذ الله أن أقوله.. ولكن ما ذكرته لي من مشاهد لنشأة الحياة ذكرني بما فعله [أرنست هيجل] الجد، فهو الذي استعمل الحيلة والخداع لتمرير فكرته.. ونفس الشيء راح يفعله [أرنست هيجل]ن أن

 الحفيد.. فتلك المشاهد لا يقبلها العقل ولا المنطق، ولا تعدو أن تكون مجرد رجم بالغيب لا يمكن التحقق العلمي منه بحال من الأحوال.

قلت: لا بأس.. ربما يكون ما تقول مقنعا، ولكن ما رأيك في إحياء نظرية التوالد الذاتي، ومحاولة بعث الحياة فيها؟

ضحك بصوت عال، وقال: لا شك أنك تريد أن تعود بنا مئات السنين إلى الوراء..

قلت: كيف ذلك؟

قال([4]): أنت تريد أن نقول للعالم بعد كل هذا التطور العلمي: إن البراغيث متولدة من مواد غير حية كالغبار.. وأن الديدان نشأت من اللحم.. وأن الضفادع وبعض الكائنات المائية نشأت مباشرة من طين الجداول والبرك.. وأن الأسماك والزواحف والفئران يمكنها أن تنشأ تلقائياً من تربة رملية أو حتى من مواد متعفنة.. وأن الإنسان نفسه يمكن أن ينشأ من بركة من الوحل بطريقة التوالد الذاتي.

أو تريد أن نذكر لهم بأن [فان هلمونت] الذي اشتهر بتجاربه في التمثيل الضوئي للنبات ذكر بأنه لو أخذنا كمية من القمح، وبعضا من التبن والقش، وقطعة من قماش قديم، وقطعة أو قطعتين من ملابس داخلية وسخة.. ثم أضفنا إلى الكل قليلاً من الماء، ثم تركنا هذه المجموعة في مكان هادئ لعدة أيام، فإنه سرعان ما تولد هذه المجموعة مجموعة من الفئران.

قلت: لا أريد أن أقول هذا بالضبط.. ولكن ألا يمكن إحياء هذه الأفكار بطريقة أخرى علمية؟

ابتسم، وقال: كيف تقول ذلك يا رجل.. فقد انتقد تلك النظرية كل الباحثين المحققين ابتداء من [فرانسيسكو ريدي] الذي أثبت بتجربة بسيطة أن يرقات الذباب توجد في اللحم المتعفن نتيجة لفقس البيض الذي تضعه أنثى الذباب على اللحم، لا من توالدها ذاتياً ومباشرة من اللحم المتعفن، فلو جنبنا اللحم من الذباب، وذلك بتغطية الوعاء المحتوي على اللحم وبقطعة من القماش النظيف لاستحال ظهور اليرقات مهما تعفن اللحم وطال تعفنه، إلا أن ترك اللحم بدون تغطية ولّد عليه يرقات الذباب.. وقد أدت هذه التجربة وتجارب أخرى من هذا القبيل إلى أضعاف شوكة نظرية التوالد الذاتي.

قلت: ولكن.. وبعد اختراع المجهر في نهاية القرن السابع عشر على يد العالم [أنطون فان ليفنهوك]، واكتشافه لكائنات دقيقة لم تكن ترى بالعين المجردة، بل ظهرت خلال المجهر الضوئي، عاد فأنعش نظرية التوالد الذاتي بعض الشيء، ذلك أن وجود هذه الكائنات الدقيقة في السوائل المتخمرة لا يمكن شرحه إلا على أساس فكرة التوالد الذاتي.

وكان من بين الذين وجدوا في اكتشاف ليفنهوك انتعاشاً لفكرة التوالد الذاتي القسيس [الويلزي نيد هام]، لذا أجرى عدة تجارب، وجد من خلالها أن حساء لحم الضأن سوف يؤدي إلى إنتاج كائنات دقيقة حتى بعد تسخينه لدرجة الغليان.

قال: لكن تلك التجارب لم تكن علمية، فقد وجد القسيس الإيطالي [لازورا سبالانزاني] أن الحساء الذي اعتمد عليه [الويلزي نيد هام] كان عرضة للتلوث بالهواء بعد التسخين مما يشرح ظهور الميكروبات في تجاربه.. ولإثبات ذلك قام بعدة تجارب سخن فيها الحساء لمدة طويلة تستمر بالساعات، وعاملة بطريقة تحول دون تلوثه بالهواء.. وفي نهاية هذه التجارب لم يظهر أي نوع من الميكروبات.

وهكذا أجرى قريبي [لويس باستور] تجارب عديدة قدمت دلائل قاطعة على عدم صحة التوالد الذاتي.. وقد أثبت أن الهواء ملئ بالكائنات الدقيقة التي يمكنها أن تنمو على الحساء بتعرض الحساء للهواء.. ذلك أنه لو عرضنا الحساء المعقم لهواء معقم فإنه لا تنمو أية ميكروبات على الحساء، إلا أن الحساء بتعرضه لهواء غير معقم تنمو عليه كائنات دقيقة مختلفة.. وبناء على هذه التحارب فقد صرح باستور قائلا: (سوف لا تحيا أبداً نظرية التوالد الذاتي بعد أن صرعتها هذه التجارب البسيطة)

الصدفة.. والحساء البدائى:

([5])

ل يمكن للحياة أن تنشأ مصادفة كما تدعي نظرية التطور؟

تقول نظرية التطور أن الحياة قد نشأت من خلية تشكلت في ظل ظروف بدائية على وجه البسيطة. لنتفحص مكونات هذه الخلية مع مقارنات بسيطة لنعرف كم هو خيالي أن ينسب وجود هذه الخلية الموجودة – والتي لا زالت تحتفظ بخفاياها من جهات عدة، حتى في الوقت الذي أصبحنا فيه على أعتاب القرن الحادي والعشرين – إلى مصادفات أو ظواهر طبيعية.

لا تقل الخلية في تعقيدها بما تحمله من أنظمة، أنظمة الاتصال، النقل والإدارة عن أي مدينة. فهي تحتوي على محطات طاقة لتوليد الطاقة التي تستهلكها الخلية، مصانع تصنع الأنزيمات والهرمونات الأساسية للحياة، بنك للمعلومات تُسجل فيه المعلومات اللازمة حول كافة المنتجات التي يتوجب إنتاجها، أنظمة نقل معقدة وأنابيب لحمل المواد الخام والمنتجات من مكان إلى آخر. مخابر متطورة ومصافٍ لتفتيت المواد الخام إلى أجزائها المفيدة، وغشاء بروتيني خاص بالخلية للتحكم بالمواد الداخلة والخارجة عنها. وهذا كله يشكل جزءًا صغير فقط من نظامها المعقد الذي لايُصدق.

بعيدا عن كون هذه الخلية قد تشكلت عن طريق الصدفة، فإنه لا يمكن تركيب هذه الخلية ببنيتها المعقدة في أكثر المخابر تعقيدا، حتى مع استخدام الحموض الأمينية، أحجار الأساس للخلية، من المستحيل انتاج ولا حتى عضية واحدة من هذه الخلية مثل المتقدرات أو الريباسة، ما هو أقل بكثير من الخلية. إن ادعاء نشوء الخلية الأولى في الحياة عن طريق الصدفة أمر مغرق في الخيالية تماما كوجود حيوان أحادي القرن الأسطوري.

البروتين يتحدى المصادفة

ليست الخلية فقط هي التي لا يمكن انتاجها، بل إن إنشاء جزيء بروتين واحد من بين آلاف البروتينات التي تشكل الخلية تحت ظروف طبيعية أمر متعذر.

البروتينات جزيئات ضخمة تتكون من حموض أمينية مرتبة في سلسلة معينة وبأعداد وبنيات محددة. هذه الجزيئات هي اللبنات الأساسية للخلية، وأبسط واحدة منها تتكون من 50 حمضاً أمينياً ومنها ما يحتوي على آلاف الحموض الأمينية. إن أي نقص أو زيادة أو تغيير في أماكن هذه الحموض التي يختص كل منها بوظيفة معينة داخل الخلية الحية، يجعل جزيء البروتين كومة لا نفع منها. لقد أخفقت نظرية التطور عند نقطة تشكل البروتين لكونها عاجزة عن عرض “التشكيل التصادفي”.

يمكننا بكل سهولة أن نعرض بطريقة يفهمها الجميع بعض الحسابات الاحتمالية البسيطة، تبين أن البنية الوظيفية للبروتين لا يمكن أن تنشأ مصادفة.

هناك عشرون حمضا أمينيا مختلفا. وإذا اعتبرنا أن معدل احتواء جزيء بروتين من الحموض الأمينية 288 حمضا، يكون هناك 10300 من التراكيب الحمضية المختلفة. واحد فقط من كل هذه السلاسل المحتملة تشكل جزيء البروتين المطلوب.أما باقي سلاسل الحموض الأمينية الأخرى، فهي إما عديمة الفائدة، أو محتمل أن تصبح ضارة للكائن الحي. بعبارة أخرى، نسبة احتمال التشكل التصادفي لجزيء بروتين واحد فقط كالذي تحدثنا عنه سالفا هي 1 في (10300). وإمكانية حدوث “1” من رقم “فلكي”:1 وأمامه 300 صفر هي بكل الأحوال الفعلية صفر: أي مستحيلة. على أن هذا الجزيء الذي يتألف من 288 حمضاً أمينياً يعتبر متواضعا بالمقارنة مع الجزيئات العملاقة التي تحتوي على آلاف الحموض الأمينية. وإذا طبقنا حسابات الاحتمال على هذه الجزيئات العملاقة، نجد أن كلمة”مستحيل” غير كافية.

وإذا كان احتمال التشكل التصادفي لواحد من هذه الجزيئات البروتينية مستحيلا، فإن إمكانية تجمع مليون من هذه الجزيئات عن طريق الصدفة بطريقة منظمة لتشكيل خلية بشرية متكاملة أمر أكثر استحالة بملايين المرات. علاوة على ذلك، ليست الخلية مجموعة من البروتينات، بل تحتوي بالإضافة لها على حموض نووية ودهون وفيتامينات ومواد كيميائية أخرى مثل الالكتروليت وجميعها منظمة بانسجام وانتظام وبنسب محددة، من الناحية البنيوية والوظيفية، وكل منها يعمل كلبنة أساس أو أحد مكونات العضيات المتنوعة.

وكما رأينا عجزت نظرية التطور عن تفسير تشكل بروتين واحد من الملايين التي تدخل في تركيب الخلية، ولنتناول الآن الخلية.

ناقش الأستاذ الدكتور علي دميروزي Pro. Dr. Ali Demirosy أحد أشهر المناصرين لفكرة التطور في كتابه (الوراثة والتطور) إمكانية حدوث انزيم سيتوكروم- س ” ytochrome – C” أحد الأنزيمات الأساسية للحياة عن طريق الصدفة:

“إن إمكانية تشكل سلسلة “ochrome – C” هي صفر. بمعنى أنه إذا احتاجت الحياة إلى سلسلة معينة فإن إمكانية تحققها مرة واحدة في كل الكون. وإلا فإن قوى ميتافيزيقية لا يمكن أن يصل إليها إدراكنا يمكن أن تقوم بهذا التشكيل. وقبول هذه الحقيقة الأخيرة لا يناسب العلم. لذلك علينا أن نبقى على الفرضية الأولى.”11

وبعد هذه الأسطر يعترف ديمروزي بأن الإمكانية التي قبلها لأنها “أكثر ملائمة للأهداف العلمية” بأنها غير حقيقية:

“إن احتمال توفير سلسلة الحمض الأميني الخاص بالأنزيم ” ytochrome- C” غير ممكن تماما كاستحالة قيام قرد بكتابة التاريخ الإنساني على الآلة الطابعة، مع اعتبار امتياز ا ستخدام القرد للوحة المفاتيح بشكل عشوائي.”12

إلا أن وجود سلسلة من الحموض الأمينية بشكل منظم ليس كافيا بالنسبة لجزيئات البروتين الموجودة في الكائنات الحية. أضف إلى ذلك أن كل حمض من الحموض العشرين المختلفة الموجودة في تركيب البروتينات، يجب أن تكون يسارية. كيميائيا هناك نوعان مختلفان من الحموض الأمينية “يسارية” و”يمينية”. الفرق بينهما هو التماثل العكوس بين بنيتيهما الثلاثية الأبعاد، التي تشبه يدي الإنسان اليمنى واليسرى. أعداد الحموض الأمينية المتواجدة في الطبيعة من كلا النوعين متساوية ويمكنها أن ترتبط ببعضها بشكل محكم. ومع ذلك فقد كشفت الأبحاث حقيقة مذهلة: وهي أن جميع البروتينات التي تظهر في بنية الكائنات الحية مصنوعة من الحموض الأمينية اليسارية. لا يوجد أي بنية تحمل ولا حتى حمضا يمينيا واحدا، وإلا كانت عديمة الفائدة.

لنسلم جدلا أن الحياة جاءت إلى الوجود عن طريق الصدفة كما يدعي التطور. في هذه الحالة تحدث الحموض الأمينية اليمينية واليسارية بأعداد متساوية. السؤال الآن كيف يمكن للبروتين أن يلتقط الحموض اليسارية، وكيف لا يدخل أي حمض أميني يميني في عملية الحياة، أسئلة بقيت مربكة للتطور ومناصريه. ورد في الموسوعة البريطانية، المتحمس الشديد للتطور، أن الحموض الأمينية الموجودة في كل الأحياء الأرضية وفي لبنات الأساس في البوليمر المعقد مثل البروتين جميعها بتناظر يساري. ويضيف إلى أنَّ هذا يشبه رمي قطعة النقود في الهواء مليون مرة وفي كل مرة تأتي على وجهها (طرّة). وفي نفس الموسوعة يقولون إنه حتى الآن لم يتمكنوا من فهم السبب وراء كون الجزيء يمينيا أو يساريا وأن هذا الخيار يعود إلى أصل الحياة على الأرض.13

لا يكفي أن تكون سلاسل الحمض الأميني بأعداد صحيحة، وبالبنية الثلاثية المطلوبة. بل يتطلب تشكيل البروتين أن ترتبط الحموض الأمينية التي تملك أكثر من ذراع مع بعضها من خلال أذرع معينة. مثل “الرابطة الببتيدية”. يمكن للحموض الأمينية أن تتصل مع بعضها بأنواع أخرى من الروابط، إلا أن البروتين يتطلب فقط الحموض الأمينية التي تحمل الروابط الببتيدية.

أظهر البحث أن 50% فقط من الحموض الأمينية، المتصلة بروابط عشوائية، ترتبط بروابط ببتيدية، وأن الحموض الأخرى تتصل مع بعضها بروابط مختلفة غير موجودة في البروتين. ومن أجل عمل متقن يجب أن تكون كل الحموض الأمينية التي تدخل في تركيب البروتين متصلة بروابط ببتيدية، وأن تكون من النوع اليساري فقط. بالطبع ليس هناك آلية تتحكم باختيار الحموض اليسارية وترك اليمينية ولا تحقق شخصي من أن كل حمض أميني يحقق رابطة ببتيدية.

وفي ظل هذه الظروف تكون نسبة احتمالات قيام جزيئة بروتين تحمل 500 حمض أميني بترتيب نفسها بالكميات والسلاسل المضبوطة، بالإضافة إلى احتمالات كون كل الحموض الأمينية التي تحتويها يسارية وترتبط فقط بروابط ببتيدية كالتالي:

– احتمال كونها بسلسلة صحيحة = 1/20500 = 1/10650

– احتمال كونها يسارية = 1/2500 = 1/10150

– احتمال ارتباطها برابطة ببتيدية = 1/2499 = 1/10150

مجموع الاحتمالات 1/10950 أي احتمال “1” في 10950.

إن احتمال تشكل جزيء بروتين، كما هو موضح، يحتوي على خمسمائة حمض أميني هي”1″ مقسوم على 950 صفر أمامها 1، رقم يستعصي إدراكه على العقل البشري. هذه الإمكانية موجودة على الورق فقط. أما عمليا فهذا الاحتمال يأخذ درجة الصفر على أرض الواقع. إن احتمال 1 على 10 50 في الرياضيات يعتبر برتبة احتمال صفر على أرض الواقع.

وإذا كان احتمال تشكل بروتين يحتوي على 500 حمض أميني يصل إلى هذه النسبة، فيمكننا أن ندفع بحدود العقل إلى مستويات أعلى. يوجد داخل جزيئات “الهيموغلوبين”،خضاب الدم، البروتين الحيوي، خمسمائة واربع وسبعون حمضا أمينيا أي أكبر من المثال السابق. والآن لنتأمل هذا: تتضمن واحدة من بلايين الخلايا الدموية الحمراء في جسمك 280 مليون جزيء من الهيموغلوبين. إن العمر الافتراضي للأرض لن يكون كافيا لتشكيل بروتينٍ واحدٍ، إذا وضعنا جانبا خلية دم حمراء، عن طريق “التجربة والخطأ”. النتيجة هي وقوع التطور بفشل ذريع عند وقوفه أمام استحالة نشوء بروتين واحد.

البحث عن إجابات على نشوء الحياة

لم يكن باستطاعة التطوريين، بعد معرفتهم بالخلاف الكبير مع مبدأ نشوء الحياة عن طريق الصدفة، أن يقدموا تفسيرا عقلانيا عن معتقداتهم، لذلك أخذوا يبحثون عن طرق يبرهنون فيها أن الخلافات ليست كبيرة.

قاموا بتصميم مخابر للتجارب لطرح سؤال كيف يمكن أن تنشأ الحياة من مادة غير حية. عرفت أشهر هذه التجارب “بتجربة ميللر” أو ” Miller Experiment”، التي قام بها الباحث الأمريكي ستانلي ميللر عام 1953.

قام ميللر، في سبيل إثبات إمكانية نشوء الحمض الأميني عن طريق الصدفة،بصنع جو في مخبره زعم أنه كان موجودا على الأرض البدائية (والذي ظهر في ما بعد أنه غير حقيقي)، وبدأ يعمل. المزيج الذي استخدمه في جوه البدائي مكون من الأمونيا والميتان والهيدروجين وبخار الماء.

عرف ميللر أنه لا يمكن أن يتفاعل الأمونيا والميتان وبخار الماء تحت ظروف طبيعية. وكان يعلم أن عليه أن يحقن المزيج بالطاقة ليبدأ التفاعل. افترض أن هذه الطاقة كانت تأتي من الومضات الضوئية في جو الأرض البدائية، وبناء على هذا الاعتقاد استخدم تيارا كهربائيا مصطنعا في تجربته.

قام ميللر بغلي مزيجه حتى درجة 100 درجة مئوية وادخل في الغرفة تيارا كهربائيا. وبعد نهاية الأسبوع حلل ميللر الكيميائيات التي تشكلت في الغرفة ولا حظ أنه قد تم تركيب ثلاثة من الحموض الأمينية العشرين، التي تشكل أساس البروتين. أثارت هذه التجربة مشاعر التطوريين وبدؤوا يروجون لها على أنها نجاح بارز. وبما أنها أثبتت نظريتهم فقد وجدوا فيها ما يشجعهم على المضي بوضع مخططات جديدة… لقد أثبت ميللر أنه من الممكن أن تنشأ الحموض الأمينية بنفسها. وبناء على ذلك أسرعوا في افتراض الخطوات التالية، حسب مخططاتهم، اتحدت الحموض العضوية فيما بعد في سلاسلها المنظمة عن طريق الصدفة لتشكل البروتينات التي وضعت نفسها داخل غشاء الخلية مثل البنية التي جاءت “بطريقة ما” إلى الحياة وشكلت الخلية البدائية. ومع مرور الزمن تجمعت الخلايا وشكلت العضويات الحية. العماد الأساسي لكل هذا كان تجربة ميللر.

بطلان تجربة ميللر

مضى على تجربة ميللر قرابة نصف قرن تقريبا. وبالرغم من أنها تبدو باطلة من عدة وجوه، إلا أن التطوريين ظلوا يقدمون ميللر ونتائجه عل أنها برهان على إمكانية تشكل الحياة من مادة غير حية. وعندما نقوم بتقييم تجربة ميللر من وجهة نظر نقدية، بعيدا عن النزعة الشخصية للتفكير التطوري، يتضح أمامنا أن الوضع ليس ورديا كما يراه أنصار التطور. وضع ميللر لنفسه هدفا بأن يبرهن أن الحموض الأمينية يمكن أن تكون نفسها في ظل ظروف الحياة البدائية. وتم تشكل بعض الحموض الأمينية. إلا أن الطريقة التي أديرت بها التجربة، تتناقض مع الهدف كما سنرى.

عزل ميللر الحموض الأمينية من البيئة حال تشكلها باستخدامه طريقة تسمى “الفخ البارد”.

وفي حال انه لم يقم بذلك فستدمر البيئة التي تشكلت فيها الحموض الأمينية الجزيئات المتشكلة فورا. إن الاعتقاد بأن بعض الآليات المقصودة، التي تتضمن الأشعة فوق البنفسجية، العواصف الرعدية، والعديد من الكيميائيات، ونسب عالية من الأكسجين الحر، كانت متكاملة في الظروف البدائية الأرضية اعتقاد فارغ. ودون هذه الظروف المتكاملة،سيكون مصير أي حمض أميني تم تشكيله الدمار.

لم تكن الظروف البدائية الأرضية التي افترضها ميللر في تجربته حقيقية. فقد كان النتروجين وثاني أكسيد الكربون من مكونات الجو البدائي، إلا أن ميللر أهمل هذا واستخدم الميتان والأمونيا كبديل.

ولكن لماذا؟ لماذا يصر التطوريون على القول بأن الجو البدائي كان يحتوي على كميات كبيرة من الميتان CH4 والأمونيا NH3 وبخار الماء H2O؟ الجواب بسيط، وهو أنه لا يمكن بدون أمونيا تركيب الحمض الأميني. تكلم كيفين مكين Kevin McKean عن هذا في مقالة كتبها في مجلة “اكتشف”:

“قلد ميللر وأوري البيئة البدائية باستخدامهما خليطا من الميتان والأمونيا. حسب اعتقادهم أن الأرض كانت مخزنا حقيقيا لمزيج حقيقي متجانس من المعدن، والصخور والجليد. إلا أنه، ومن خلال الدراسات الأخيرة، ثبت أن الأرض كانت في تلك الأزمان حارة جدا وأنها كانت تتكون من النيكل والحديد المصهورين. لذلك فإن البيئة الكيميائية لذلك الزمن كانت تحتوي بالدرجة الأولى على النتروجين N2 وثاني أكسيد الكربون Co2 وبخار الماء H2O. ومع ذلك لم تكن ملائمة، كما هما الأمونيا والميتان، لإنتاج جزيئات عضوية.”14

بعد فترة طويلة من الصمت، اعترف ميللر بأن البيئة الجوية التي استخدمها في بيئته كانت غير حقيقية.

· هناك نقطة اخرى هامة جدا تبطل تجربة ميللر وهي أنه كان هناك كمية من الاكسجين في جو الزمن الذي افترض فيه التطوريون نشوء الحموض الأمينية تكفي لتحطيمها كلها لا بد وأن تركيزات الأكسجين هذه أعاقت تشكل الحموض الأمينية. يتعارض الوضع تماما مع تجربة ميللر التي أهمل فيها الأكسجين نهائيا. ولو أنه استخدم الأكسجين لتفكك الميتان إلى ثاني أكسيد الكربون وماء، وتحللت الأمونيا إلى نيتروجين وماء. بتعبير آخر، بما أن طبقة الأوزون لم تكن قد تشكلت بعد، فإنه من غير الممكن لأي جزيء عضوي أن يعيش على وجه الأرض لأنها كانت غير محمية من كميات أشعة فوق البنفسجية الكثيفة.

· بالإضافة إلى الحموض الأمينية، أنتجت تجربة ميللر العديد من الحموض العضوية التي تحمل خصائص مؤذية لبنيات ووظائف الكائنات الحية.. ولو أنه لم يعزل الحموض الأمينية وتركها في البيئة نفسها مع هذه الكيميائيات فإن تحللها أو تحولها إلى مركبات أخرى من خلال التفاعلات الكيميائية أمر محتوم. علاوة على ذلك تم إنتاج كمية كبيرة من الحموض الأمينية اليمينية. وجود هذا النوع وحده يدحض التجربة، لأن الحموض الأمينية اليمينية وحدها لا يمكنها أن تعمل في تركيب الكائنات الحية، بل إنها تعطل البروتين وتجعله دون فائدة إذا ما تواجدت ضمن تركيبه.

النتيجة، هي أن الظروف التي تشكلت فيها الحموض الأمينية في تجربة ميللر لم تكن مناسبة لتواجد أشكال الحياة في الوجود. الوسط الذي تشكلت فيه هذه الحموض كان مزيجا حمضيا يمكن أن يحطم ويؤكسد أي جزيء مفيد يمكن الحصول عليه.

لقد قام التطوريون أنفسهم بدحض نظريتهم، كما لم يرغبوا، بتقديمهم هذه التجربة على أنها “برهان”. وإذا كانت قد أثبتت شيئاً، فقد أثبتت أنه بالإمكان انتاج حموض أمينية فقط تحت بيئة مخبرية مضبوطة حيث تم تنظيم كافة الشروط الضرورية بشكل خاص ومتعمد. أظهرت هذه التجربة أن سبب الحياة (أو حتى “الحياة القريبة” من الحمض الأميني) لا يمكن أن يكون فرصة غير مقصودة، ولكن إرادة واعية -بكلمة واحدة، أن تكون “خلقا”.

لهذا السبب نرى أن كل مرحلة من مراحل الخلق تثبت لنا وجود الخالق وعظمته.

الجزيء المعجز: DNA

لم يتمكن التطوريون من تقديم تفسير مترابط لوجود الجزيئات الأساسية في الخلية. علاوة على ذلك، فقد قدم وضع علم المورثات واكتشاف الحموض النووية (DNA وRNA) المزيد من العقبات في طريق التطوريين. في عام 1955 طرح العالمان المختصان في DNA جيمس واطسون وفرنسيس كرايك James Watson, Francis Crick، مذهبا جديدا في علم الأحياء. وجه العديد من العلماء انتباههم إلى علم المورثات. واليوم وبعد سنوات من البحث رسم العلماء الخريطة البنيوية لجزيء DNA.

علينا هنا أن نعطي بعض المعلومات الأساسية عن بنية ووظيفة DNA:

يحتوي جزيء يطلق عليه اسم DNA والذي يتواجد في نواة كل خلايا الجسم والتي تبلغ 100 تريليون خلية، المخطط البنيوي الكامل للجسم الإنساني. المعلومات التي تتعلق بخصائص الإنسان من المظهر الخارجي وحتى الأعضاء الداخلية، مسجلة في DNA عن طريق نظام تشفير خاص. المعلومات في DNA مشفرة ضمن سلسلة مكونة من أربع عناصر أساسية خاصة هي التي يتألف منها الجزيء. هذه الأسس هي A,T,G,C وهي الأحرف الأولية لأسمائها. تعتمد كل الاختلافات البنيوية بين الناس على التغيرات في سلسلة هذه الأسس الأربعة. يحتوي كل جزيء DNA على 3,5 بليون حمض نووي، أي على 3,5 بليون حرف.

تتواجد معلومات DNA التي تخص عضواً أو بروتيناً معيناً ضمن مركبات خاصة تدعى “المورثات”. على سبيل المثال، تتواجد المعلومات الخاصة بالعين في سلاسل خاصة من المورثات، بينما تتواجد المعلومات الخاصة بالقلب في سلاسل أخرى مختلفة من المورثات. تنتج الخلية البروتينات باستخدامها المعلومات الموجودة في كل هذه المورثات. وتتحدد الحموض الأمينية التي تدخل في تركيب البروتين عن طريق ترتيب تسلسلي لثلاث حموض نووية داخل DNA.

هنا وفي هذه النقطة، يجب الانتباه إلى تفصيلة تستحق الاهتمام. إن أي خطأ يمكن أن يحدث في سلسلة الحموض النووية التي تدخل في بناء الخلية يجعل الخلية عديمة الفائدة، أو معطلة تماما. وإذا علمنا أن هناك 200 ألف من المورثات في الجسم الإنساني، ظهر لنا تماما استحالة نشوء ملايين من الحموض النووية التي تدخل في تركيب هذه المورثات عن طريق الصدفة بالتسلسل الصحيح. يعلق التطوري العالم فرانك سالزبوريFrank Salisbury على هذه الاستحالة قائلا:

يحتوي جزيء البروتين المتوسط على حوالي 300 حمض أميني. ويحتوي مورث DNA الذي يحكم هذا الجزيئ على 1000 حمض نووي في سلسلته. وبما أنه هناك أربعة أنواع من الحموض النووية في DNA فإن واحدا مؤلفا من 1000 رابطة يمكن أن يتواجد بعدد من الأشكال يبلغ 41000 شكلا.وباستخدام اللوغاريتم يمكننا أن نجد أن 41000 =10600. عشرة مضروبة بنفسها 600 مرة، أي 1 وأمامه 600 صفر! هذا الرقم فوق تصورنا تماما.15

الرقم 41000 يعادل 10600، نحصل على هذا الرقم بإضافة 600 صفر إلى “1”. وإذا كان الرقم 10 وإلى جانبه 11 صفرا يساوي ترليون، فإن رقما يحمل إلى يمينه 600 صفر لا يمكن إدراكه.

وجد التطوري التركي الدكتور علي ديميروزي نفسه مجبرا على الإدلاء بهذا الاعتراف:

“في الحقيقة، احتمال وجود معلومات عشوائية لبروتين وحمض نووي (DNA- RNA) احتمال غاية في الضآلة. أما احتمالات نشوء سلسلة لبروتين معين فقط احتمال فلكي.”16

بالإضافة إلى كل هذه الاستحالات، فإنه من الصعب أن يدخل DNAفي أي تفاعل بسبب سلسلته الحلزونية المزدوجة. وهذا أيضا يجعل التفكير بأنه أساس الحياة مستحيلا. علاوة على ذلك، فإن DNA لا يمكن أن يتكرر إلا بمساعدة بعض الأنزيمات والتي هي في واقع الأمر بروتينات. تركيب هذه الأنزيمات يتم عن طريق المعلومات المشفرة في DNA. وحيث أنهما يعتمدان كل على الآخر، فإما أنهما يجب أن يتواجدا بوقت متزامن ليحصل التكرار، أو أن أحدهما “خلق” قبل الآخر. يعلق عالم الأحياء المجهري الأمريكي جاكوبسون Jacobson على الموضوع بقوله:

“يجب أن تكون الاتجاهات الكاملة لإنتاج خطط الطاقة واستخراج الأجزاء من البيئة المتواجدة، وخطط سلسلة النمو، وخطط الآليات المستجيبة التي تترجم التعليمات إلى نمو – كلها يجب أن تتواجد بشكل متزامن في تلك اللحظة (عند بدء الحياة). هذه المجموعة المركبة من الأحداث لا يمكن أن تتواجد مصادفة، وهي دائما تعزى إلى تدخل إلهي”.17

كتب هذا المقطع بعد سنتين من الكشف الذي قام به كل من واتسون وكرايك فيما يخص بنيةDNA. بالرغم من كل التقدم العلمي بقيت هذه المشكلة قائمة أمام التطوريين.بإيجاز، إن الحاجة إلى DNA في التكاثر، وضرورة وجود بعض البروتينات للتكاثر، والحاجة إلى انتاج هذه البروتينات عن حسب المعلومات الموجودة في DNA مسألة دحضت فكرة التطور من أساسها.

وقد شرح العالمان الألمانيان Junker وScherer جونكر وشيرر أن تركيب كل جزيء من الجزيئات المطلوبة للتطور الكيميائي، تحتاج إلى ظروف واضحة، وأن إمكانية تركيب هذه المواد التي لها، نظريا، طرائق اكتساب مختلفة تماما هو صفر:

“حتى الآن لم تُعرف أي تجربة يمكن أن نحصل من خلالها على كل الجزيئات الضرورية للتطور الكيميائي. لذلك من الأساسي إنتاج جزيئات مختلفة في أماكن مختلفة تحت ظروف ثابتة تماما، ثم نقلها إلى مكان آخر لخلقها عن طريق حمايتها من عناصر مؤذية مثل التحلل المائي أو التحلل الضوئي”18.

باختصار، فإن نظرية التطور غير قادرة على برهنة أي مراحل تطورية حدثت تدريجيا على المستوى الجزيئي.

ولتلخيص ما أتينا على عرضه حتى الآن، نقول انه لا يمكن إنتاج أي حمض أميني أو أي منتج من منتجاته، البروتينات التي تبني الخلية، في مايدعى “البيئة البدائية”. ولا تزال عوامل أخرى مثل البنية المعقدة للبروتين وخصائص اليسارية واليمينية والصعوبات التي تواجه حدوث الروابط الببتيدية هي من الأسباب التي لا تسمح بانتاجها في أي زمن مستقبل عن طريق أي تجربة.

وحتى لو سلمنا جدلا أن البروتين قد تشكل عن طريق المصادفة، يبقى هذا الكلام دون معنى لأن البروتين وحده ليست لديه القدرة على التكاثر. يتوقف تصنيع البروتين عل المعلومات الموجودة في كل من DNA وRNA وبدونها لا يمكن أن يتكاثر. تحدد السلسلة الخاصة المتشكلة من العشرين حمضاً أمينياً المشفرة داخل DNA بنية كل بروتين موجود داخل الجسم. إلا أنه، وكما أوضح كل من درس هذه الجزيئات، من المستحيل لأن يتشكل DNA وRNA عن طريق الصدفة.

حقيقة الخلق

مع انهيار نظرية التطور في كل المجالات بدأت تظهر أسماء اليوم في علم الأحياء المجهرية تعترف بحقيقة الخلق، وبدأت تدافع عن فكرة أن كل شيء مخلوق من قبل خالق عليم كجزء من هذا الخلق المجيد. هذه حقيقة لا يمكن للناس أن يتغافلوا عنها.طور العلماء الذين يقوموا بأبحاثهم بأعين مفتوحة نظرية أسموها “النظام الذكي”. العالم ميكائيل بيهي Michael Behe، أحد هؤلاء العلماء، أقر بوجود خالق مطلق ووصف المأزق الذي وقع فيه الذين ينكرون وجوده:

“إن نتيجة هذه المحاولات المتراكبة للبحث في الخلية- للبحث في الحياة على المستوى الجزيئي- صرخة عالية وثاقبة تعلن عن “النظام!” النتيجة لا إبهام فيها وهامة لدرجة أنه يجب وضعها كأعظم الإنجازات في تاريخ العلوم. هذا الانتصار العلمي يجب أن ترتفع له صرخات النصر “يوريكا” من آلاف الحناجر.

ولكن لماذا لم تُفتح أي زجاجة، ولم تصفق الأيادي، وبدلا عن ذلك صمت قلق يحيط بالتعقيد الصارخ للخلية. عندما خرج الموضوع إلى العامة بدأت الأقدام تتعثر والأنفاس تتسارع. كان الناس يشعرون بشيء من الارتياح سراً: بعضهم كان صريحا وواضحا ولكن بعد ذلك أخذوا يحدقون في الأرض ويهزون الرؤوس، ومضى الأمر على ذلك. لماذا لم يقبل المجتمع العلمي اكتشافه المدهش بشوق؟ لماذا تم التعامل مع النظام بقفازات عقلية. البرهان المربك هو أن الوجه الأول للفيل مكتوب عليه نظام ذكي، والوجه الآخر مكتوب عليه الله.19

العديد من الناس لايعرفون أنهم يقبلون فكرة مزيفة ترتدي ثوب العلم بدلا من الاعتراف بالله. إن أولئك الذين لا يجدون في “الله الذي خلقك من العدم” حقيقة علمية كافية، يمكن أن يؤمنوا بأن أول حي جاء إلى الوجود جاء عن طريق عاصفة رعدية ضربت “البيئة البدائية” منذ بلايين السنين.

كما ذكرنا في هذا الكتاب،في مكان آخر، أن التوازن في الطبيعة ضخم ودقيق لدرجة لا يتوافق معها ادعاء عقلي بأنها قد تطورت مصادفة. لا يهم كم سيعاني أولئك الذين لا يمكنهم الانعتاق من اللاعقلانية، فآيات الله في السماوات والأرض واضحة تماما ولا يمكن إنكارها.

الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما.

آيات وجوده تشمل كل ما في الكون.

فلاسفة أخطؤوا في إنكارهم لله

رأينا في الفصول السابقة الآيات الواضحة على وجود الله، ولا شك أن ما أتينا على ذكره هنا هو جزء بسيط من وجوده الأبدي.وأينما نظر الإنسان يرى آيات تدل على وجود الخالق.

حسنا،فإذا لماذا لا يزال يوجد الكثير من الملحدين في العالم؟ بل لماذا لا يزال بعض العلماء ملحدون؟ لماذا يصرون على إنكار الله بالرغم من كل الدلائل؟

عند البحث عن إجابات تمثل أمامنا مجموعة من التحيزات الفلسفية في شكل أناس ملحدين – بما فيهم العلماء الملاحدة. بتعريف عام، تدعي الفلسفة، كما تدعي المادية، أن الكون أبدي ويعمل دون الحاجة إلى خالق. وحسب رأي الملاحدة، المادة هي القوة الوحيدة الموجودة، وأن المادة لم تُخلق وانها تعمل بطريقة غير مراقبة وليست بحاجة إلى تدخل خالق. هناك العديد من الفلاسفة الذين تبنوا هذه النظرية عبر التاريخ، بدءًا من معتنقي الوثنية السومرية القديمة، وحتى الفلاسفة الذريون (متبعي المذهب الذري) من الإغريقية القديمة والمذهبيين الماديين في العصر الحديث. كل هؤلاء ينكرون وجود الله.

إلا أن إنكارهم لا يقوم على أرض صلبة. لقد أقنعوا أنفسهم ببساطة أن المادة أبدية واعتنقوا هذا الاعتقاد. قبلوا نظرية التطور بنفس هذه المحاكمة ووضعوها في ملف إيمانهم. وكما قال العالم الأمريكي بيهي عالم الأحياء المجهرية، إنه عندما تمت مجابهتهم بإثبات مدى تعقد الحياة التي تستعصي على النشوء بطريق الصدفة، لم يقدموا سوى الصمت والتحول عن الموضوع.

يبدو من هذا الوضع أن هناك تحيز يدفع بالناس إلى وضع أنفسهم مع المادية ونتاجها الطبيعي، الإلحاد. ولا يأتي إنكارهم لله من تقييمهم للحقائق الملموسةمن وجهة نظر موضوعية، بل بالرغم من هذه الحقائق.

علاوة على ذلك هم يحاولون فرض إنكارهم هذا على العامة.

واضعو “مؤامرات الشيطان”

تشير الحملة الإعلامية المنظمة ضد الإيمان بالله إلى أن هناك حركات منظمة من قبل مراكز معينة. بتعبير آخر، هناك عدد من مراكز القوى تقوم بمحاولات جدية لخرق المعتقدات الدينيةفي المجتمع. ولن يكون غريبا أن الله قد لفت انتباهنا إلى هذه المجموعةفي القرآن. في إحدى الآيات، تنال مجموعة من البشر عقابها بنار جهنم في الآخرة فيخاطبون قوادهم الذين أضلوهم في الدنيا:

{وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا..} [سبأ: 33].

هؤلاء الذين يحيكون المؤامرات الشيطانية ويأمرون الآخرين أن يجحدوا بالله، موجودون في كل زمن عبر التاريخ تحت أسماء مختلفة. صفاتهم الأساسية دائما واحدة. وصفهم الله عز وجل في القرآن، فنجدهم في سورة المؤمنون “مترفيهم” (المؤمنون -64)، وفي سورة الأعراف: {الذين استكبروا من قومه} [الأعراف: 75]، مما يعني أن هؤلاء يتمتعون بامتيازات مادية واسعة، ويرفلون بالمظاهر الاجتماعية ويتكبرون ويتجبرون بما لهم من ممتلكات. وبما أن الدين يجردهم من ما اخذوه من غير وجه حق، فلا بد من أن يعملوا على إلغاءه. هذا السبب وراء تلفيقهم “للمؤامرات الشيطانية التي يقودون فيها مجتمعهم إلى الردة.

بالطبع ليس هناك تعريف وحيد لهذه القوى المنظمة، فهم يتخذون هويات وأشكالاً مختلفة في مجتمعات مختلفة.

على كل حال، إذا نظرنا إلى تاريخ القرون الثلاث أو الأربع الماضية نأتي على منظمة دولية تتوافق مع الوصف الذي جاء في القرآن الكريم.

المنظمة هي الماسونية

عند هذه النقطة لا بد من التركيز على المعركة العالمية التي أخذتها الماسونية على عاتقها والتي تم دعمها من قبل مركز قوى أشار إليه القرآن: اليهود. وبالرغم من أن اليهودية دين سماوي وأن اليهود هم معتنقو هذا الدين، إلا أنهم لعبوا، كما أسلفنا، دورا في الدعاية المعادية للأديان عبر العالم. يعود هذا بالدرجة الأولى إلى البديل الاستبدادي للعهد القديم الذي وضعه الأحبار وللمعتقدات المدسوسة في الدين النقي الذي أنزل على النبي موسى عليه السلام. وبتعطل اليهودية عن كونها ديناً سماوياً بسبب البدائل التي أدخلها الأحبار عليه، اصبحت اليهودية مذهبا عالميا شوفينياً “متعصبا إلى الوطن”. أما اليهود المحافظون، الذين يعتبرون الدين مقتصرا عليهم، أخذوا منحى آخر فاعتبروا أن الدينين المسيحي والإسلامي أديان خاطئة لذلك عليهم إبادتها. هذا التداخل الممتع جعل هؤلاء يعملون كقوى تسعى لإزالة كل المعتقدات الدينية من على وجه البسيطة. هذا هو منطق التحالف بين اليهودية والماسونية.

دور الماسونية

أرست هذه المنظمة السرية جذورها في العالم الغربي وانتشرت منه إلى أصقاع العالم الأخرى، وكانت دائما مصدر الأفكار والفعاليات المعادية للدين في كل بلد.

يكشف استقصاء مغلق عن تاريخ الحرب ضد الدين التي تخاض في كل البلدان خلال القرنين الماضيين أن الماسونية كانت دائما مركز هذه المحاولات وتاريخ أوربا جزء واضح من هذا. ولهذا السبب اتخذ قائد العالم الكاثوليكي البابا ليو الثامن موقفا خاصا من الماسونية في منشوره الباباوي الشهير عام 1884 “جنس بشري”، الذي وصف فيه أهداف المنظمة كما يلي:

“في وقتنا الحاضر، ومع دعم ومساعدة تجمع يدعى الماسونية، الذي أصبح له منظمة كبيرة وقوية، اتحدت محاولات أولئك الذين يعبدون قوى الظلام. ولم يعد هناك ضرورة لاخفاء نواياهم المريضة وحربهم ضد الذات الإلهية. إن كل محاولات الماسونية تقود إلى هدف واحد: القضاء على كل الروابط المسيحية الدينية والاجتماعية وإنشاء نظام جديد من القواعد يقوم على مبادئ المادية وأفكارها الخاصة”.20

كان هذا التحليل الباباوي صحيحاً تماما، فعندما نراجع المنشورات الماسونية المعاصرة، نرى أن الهدف الأساسي لها هو القضاء على كل العقائد الدينية في المجتمع. يعلن الماسوني التركي في أحد منشوراته كيف يمكن القضاء على الأديان بترويج العلوم الوضعية في المجتمع:

“في النهاية أريد القول بأن مهمة الإنسانية والماسونية التي تقع على عاتقنا ليست الابتعاد عن العلوم الوضعية والعقل، بل نشرها والترويج إلى أنها السبيل الوحيد للتطور، وتثقيف العامة بهذه العلوم الوضعية. ولإرنست رينان ملاحظة جديرة بالذكر: “إذا كان من الممكن تثقيف العامة وتنويرها بالعلوم الوضعية والعقل، أمكن في النهاية القضاء على الأفكار الدينية الفارغة”.21

المقصود هنا بالعلوم الوضعية الفلسفة المادية التي تنكر وجود كل شيء لم يأت عن طريق التجربة والملاحظة. مهمة الماسونية، من جهة أخرى هو فرض هذه الفلسفة على الناس باسم العلم وهكذا يُقضى على المعتقدات الدينية. ولنظرية التطور دور كبير في إنجاح مخطط هذا التجمع، كما هو موضح في المقطع السابق. والماسونية تحمل على عاتقها نشر هذا المذهب في المجتمع.

إن الصلة التنظيمية عامل هام وهو وراء انتشار الفلسفة المادية ونظرية التطور في كل زاوية من العالم.لقد لعبت الماسونية وإفرازاتها دورا هاما في الدعاية التنظيمية التي تم تنفيذها ضد المعتقدات الدينية في القرنين الماضيين. وهذا هو السبب وراء كون مؤسسي الأنظمة الفلسفية المختلفة الذين ينكرون الله ماسونيين.

الفلاسفة الماسونيين

ذكرنا آنفا أن مؤسسي الأنظمة الفلسفية المعادية للدين هم في الواقع جزء من حرب دينية تُخاض ضد الدين، لذلك نجد غالبية الفلاسفة الذين أوجدوا هذه الأنظمة هم جزء من المنظمة الماسونية، التي تقف في مركز هذه الحرب.

وفي هذا السياق نذكر أن أكثر الفلاسفة الذين اجتذبوا اهتماما سريعا هم من العقول الفرنسية، التي حضرت للثورة الفرنسية. إذ لم يكتف هؤلاء بانتقاد السلطات الدينية، بل تعداه إلى عداء للدين يتسم بالعنف.من بين هؤلاء Diderot ديديروت مؤلف “نظام الطبيعة” الذي يشار إليه على انه إنجيل المادية، وفولتير Voltair، الذي كان ماديا متحمسا ومعاديا للدين، والمادي المتطرف مونتيسك Montesquieu وجان جاك روسو Jean Jacques Rousseau الذي قال بدين جديد خاص به؛ وواضعي “الموسوعات” كلهم ملتزمون بالمذهب المعادي للدين. تقول المجلة الماسونية التركية “ميمار سنان” عن هؤلاء الأشخاص:

“تم الترتيب للثورة الفرنسية من قبل الجماعات الماسونية. لقد كتب إعلان حقوق الإنسان الذي يتبنى مبادئ الحرية والمساواة والأخوة بإلهام وتوجيه من الأسياد مثل مونتسكو، فولتير، روسو وديديروت.22

وتقول “المجلة الماسونية” الصادرة عن الماسونيين الأتراك أيضا:

“إن الدعائم التي قام عليها نظام الضغائن في فرنسا والذي أشعل فتيل الثورة الفرنسية تم وضعها من قبل مونتسكو، فولتير، روسو والمادي القائد ديديروت الذي التف حوله الموسوعيون. كلهم كانوا ماسونيين.”23

تطورت المادية والأفكار المعادية للدين بشكل متزايد في السنوات التي تلت الثورة الفرنسية ووصلت ذروتها في القرن التاسع عشر. وعندما ننظر إلى قواد هذه الحركة نجدهم من الماسون.

من الجدير بالذكر أيضا أن هناك العديد من اليهود بين هذه الأسماء، وهذا يوضح أن اليهود الذين كانوا دائما حلفاء للماسونية، يجاهدون في سبيل إضعاف الأديان السماوية مثل المسيحية والإسلام ويعتنقون فكرة المادية العالمية، التي تخدم نفس الغرض على المستوى الفلسفي

وراء صور الاشتراكية

في بافاريا جنوب ألمانيا وجدت عام 1776 جماعة منحرفة، مؤسس هذه الجماعة التي تطلق على نفسها لقب “المستنيرين” هو الأستاذ في القانون المدعو آدم فايسهاوبت Adam Weishaupt. تتميز هذه الجماعة بأمرين: الأول أنها مجتمع سري جدا والثاني أنها وضعت لنفسها برنامجا سياسيا طموحا جدا. وتم تحديد هدفين أساسيين ضمن هذا البرنامج الذي وضعه فايسهاوبت:

1 – إلغاء الملكية والأنظمة الحكومية.

2 – إلغاء كافة الأديان السماوية الموحدة.

وكان موقف هذه الجمعية تجاه الدين شديد العدائية. وحسب رأي المؤرخ الإنجليزي ميشيل

هاوارد، فإن فايسهاوبت كان يعاني من “كره مرضي” للأديان السماوية من أي نوع.24

كان هذا المجتمع في الحقيقة نوعاً من المحافل الماسونية، وكان فايسهاوبت من المترفعين في الماسونية، وقد قام بتنظيم خطوط طويلة في الأسلوب التنظيمي التقليدي للمحافل الماسونية. ونما المتنورون بسرعة مذهلة. وفي عام 1780 وبالاشتراك مع بارون فون كنيغه Baron Von Knigge، واحد من أكبر السادة في المحافل الماسونية الألمانية بدأت قوة هذه الجمعية تتزايد بشكل كبير.

كان فايسهاوت وكنيغه يخططان لأرضية ثورية اشتراكية بكل معانيها ما عدا اسمها في ألمانيا، وعندما اكتشفت الحكومة ما يخططان له، وجدا أنه من الحكمة أن يقوما بحل المنظمة. وضُمت فعالياتها إلى محافلهم الماسونية المنتظمة. كان هذا الاتحاد عام 1782.

وفي وقت مبكر من القرن التاسع عشر قام مجتمع آخر في ألمانيا يحمل نفس أفكار “المستنيرين” وأطلق على نفسه اسم “مجتمع الشرفاء”. ومع الزمن تغير اسمه إلى “جمعية الشيوعيين”. أراد رئيس هذه الجمعية وضع برنامجٍ سياسيٍ لهذه المجموعة، وأول اثنان تم استدعاؤهما لكتابة هذا البرنامج كانا شيوعيين متشددين هما: كارل ماركس Karl Marx وفريدريك إنجلز Fredrik Engels! كتب هذان الشيوعيان البيان الرسمي الشيوعي في تعليمات جمعية الشيوعيين هذا. إحدى العبارات المشهورة المضللة في هذا البيان عبارة “الدين أفيون الشعوب”، ويدّعي البيان أن إلغاء المعتقدات الدينية من متطلبات “المجتمع اللاطبقي” المثالي، الذي وضع على أنه أمل الإنسانية الوحيد في الخلاص. يجب الانتباه إلى أن كلاً من ماركس وإنجلز من أصل يهودي.

واستمرت هيمنة اليهود والماسون في الحركة الشيوعية في السنوات التالية. يمكن ذكر بعض أسماء القادة منهم:

· فريديناند لاسل: كان لاسل الصديق الأقرب إلى ماركس دافع عن التسلط الشيوعي الثوري.

· فيكتور آدلر: باعتباره اليد اليمنى لإنجلز، قام آدلر بالتبشير بالشيوعية. أصبح ابنه فريدريك آدلر قائد الحزب الشيوعي النمساوي.

· موسى هيس: ولد في عائلة يهودية محافظة، كان شيوعيا وصديقا حميما لماركس، كما كان صهيونياً نشيطاً. تزعم الحركة الصهيونية في أوربا من خلال كتابه “روما والقدس” وعمل على تأسيس دولة يهودية في فلسطين. كما كان مدافعا مخلصا عن الداروينية طوال حياته.

· جيورجي لوكاكس: من عائلة يهودية ثرية كتب العديد من الكتب يدافع بها عن الشيوعية. ساعد في انتشار المذهب الشيوعي بين الشبان.كان أحد الشخصيات القيادية التي أوصلت الشيوعية في هنغاريا إلى السلطة.

· فلاديمير لينين: يهودي، أصبح كغيره من القادة البلشفيين في روسيا، مؤسس أكثر الأنظمة دموية واستبدادية في العالم.

· هيربرت ماركوس: من أبناء إحدى العائلات اليهودية، أعاد ماركوس تفسير الماركسية وأعد للاضطراب الطلابي الذي حصل في عام 1968. استحث الحركات اليسارية الجامعية التي انتشرت عبر العالم وطور المذهب الفوضوي، الذي سبب ولا زال يسبب موت الكثير من الشبان.

الفلسفة ومفكرتها الخفية

عندما ننظر إلى تاريخ الفلسفة، نجد فلاسفة آخرين ملحدين ومعادين للدين يمكن تمييزهم بهويتهم الماسونية. من بينهم مفكرون مثل دافيدهوم، هولباخ، شيلينغ، جون ستيوارت ميل، أوغست كومن، ماركيز دو ساد، واشتراكيون مثل إميل دوركايم، فريديناند تونيس، هربرت سبنسر، سيغموند فرويد، هنري بيرغسون وإريك فروم. كل هؤلاء من أصل يهودي، وكلهم ناضلوا من أجل إبعاد الناس عن الدين وإنشاء نظام اجتماعي وعقلاني لا يمت إلى الدين بصلة. لا ضرورة للقول بأن تشارلز داروين ونظرياته كانت موضع اهتمام كبير بين هؤلاء الأشخاص. من أهم النقاط التي تجب ملاحظتها هنا، هي أن الفلسفات المادية والتي تم انتاجها من قبل مفكريها، والآلاف من أشباههم، تخدم مصالح سياسية واجتماعية معينة. وكما أسلفنا، فإن أهم الأسباب التي تكمن وراء إنكار الناس لله هي عدم ارتياحهم للدين، الدين الذي يعتبر النتيجة الطبيعية للإيمان بالله.حاول هؤلاء الأشخاص الالتجاء إلى الإلحاد لدعم أنفسهم بعد ما انفلتوا من الدين لأنه يتعارض مع مصالحهم أو مصالح الهيئات التي يمثلونها.

لهذا السبب لا يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يروا آيات الله، أو بالأحرى ليست لديهم الرغبة في أن يروا. ناضل هؤلاء لمنع الإيمان بوجود الله ونشروا هذا الإلحاد عبر المجتمعات بشكل عام. وفي النهاية، فإن الذين ينسون الله هو أيضا ينساهم (التوبة 67).

لذلك يمضي بعض الأشخاص حياتهم دون أن يذكروا الله تسبيحا ظنا منهم أنه مفصول عنهم. إلا أن الإنسان يجب أن لا يُخدع بهذا “الحشد الفارغ”، لأن الله أخبرنا في القرآن أن أكثر الناس لا يؤمنون (سورة الرعد -1).وتشير هذه الآية أيضا إلى نفس الموضوع:

{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [الأنعام: 116].

(لمزيد من المعلومات انظر: الماسونية الجديدة لهارون يحيى)

أضرار نموذج المجتمع

الذي لا يؤمن بالله

قال الله انه خلق الإنسان حسب نظام معين في الكون: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها..} [الروم: 30]. ويقوم تنظيم الإنسان على عبوديته لله وإيمانه به. وحيث أنه لا يمكن للإنسان أن يحقق رغباته وحاجاته اللامحدودة، وجب عليه أن يتواضع أمام الله وأن يُقبل عليه.

وإذا ما عاش الإنسان على هذا الأساس، لقي السعادة والثقة والأمان، وإذا أدار ظهره بعيدا عن الله عاش حياة البؤس والشقاء والأحزان والخوف.

وما ينطبق على الإنسان ينطبق على المجتمع، فإذا كان المجتمع مكونا ممن يخافون الله أصبح عادلا آمنا وسعيدا. ولا شك أن العكس صحيح. فإذا كان المجتمع لا يعرف الله فإن نظام هذا المجتمع محطم من أساسه وفاسد وبدائي.

وعند التأمل بأوضاع المجتمعات البعيدة عن الله، تظهر هذه الحقيقة بجلاء. إن إلغاء المفهوم الأخلاقي ونمو مجتمعات فاسدة تماما هو أحد أهم النتائج التي يفرزها الفكر اللاديني. إن الحضارة التي تعتمد على مخالفة الروابط الأخلاقية والدينية والتوجه الكلي إلى إشباع رغبات الإنسان، هي حضارة ظالمة في كل المفاهيم العالمية. في ظل نظام كهذا، يتم التشجيع على الانحرافات الجنسية وإدمان المخدرات. وفي النهاية ينمو مجتمع مجرد من الحب الإنساني، أناني، جاهل، ضحل وخال من المشاعر.

من المؤكد أنه لا يمكن الاحتفاظ بالأمان والحب والأمل في المجتمعات التي يعيش فيها الناس فقط من أجل إشباع رغباتهم. ففي مجتمعات كهذه يعيش البشر على أساس المصالح المتبادلة التي تحكم العلاقات، ويسود انعدام الثقة. وعندما لا يكون هناك من سبب يدفع الإنسان لأن يكون صادقا وشريفا وأمينا، فلا شيء يقف في وجه النفاق والأخوة الزائفة والخيانة. أعضاء هذه المجتمعات اتخذوا الله وراءهم ظهريا (هود 92) وهم لا يعرفون الخوف من الله. وبما أنهم غير قادرين على “تقدير الله حق قدره”، فليس لديهم فكرة عن اليوم الآخر ويوم الحساب. بالنسبة إليهم، اليوم الآخر ليس إلا ذكرا في الكتب المقدسة. لا يفكرون أنهم سيقفون بين يدي الله بعد الموت ليُحاسبوا عن كل الذنوب التي ارتكبوها خلال حياتهم في الدنيا. أو أنهم سيخلدون في عذاب جهنم. وفي حال فكروا بهذا فلا بد أنهم سيدخلون الجنة بعد أن “يسددوا حساب أخطائهم”، كما جاء في الآية الكريمة: {ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيام معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [آل عمران: 24].

وهكذا يقضون حياتهم يفعلون ما يحلو لهم لإشباع حاجاتهم ورغباتهم.

تسفر هذه الحالة، بالطبع عن انحلال أخلاقي مثل ذلك الذي نراه في العديد من مجتمعات اليوم. حسب محاكمتهم يعتقدون: “أنهم لن يأتوا إلى العالم سوى مرة واحدة، وأنهم لن يعيشوا أكثر من 50-60 عاما فليأخذوا من الدنيا قدر ما يستطيعون”. النظام الفكري الذي تقوم عليه هذه المحاكمة الخاطئة، سيحمل معه كل أنواع الظلم والبغاء والسرقة والانحلال الأخلاقي والجريمة والاحتيال. وعندما يفكر الإنسان أنه يعيش لإشباع رغباته فقط، فكل شيء بعده – بما فيه عائلته وأصدقائه- له أهمية ثانوية. أما أفراد المجتمع الآخرون فليس لهم أية أهمية.

يمنع انعدام الثقة بين الأشخاص في بنية المجتمع القائم على علاقات المصلحة إلى حد بعيد الشعور بالأمن على كلا المستويين الاجتماعي والفردي ويعيش الناس فيه بقلق دائم وشك ومشاكل. ويعيش الناس بخوف وخطر دائم لا يعرفون من أين وممن يمكن أن يأتيهم الشر. ويجعل الشك والقلق حياتهم مجردة من معاني السعادة. وفي مجتمع تُهمل فيه كل أنواع القيم الأخلاقية، تصبح نظرة الناس للمفاهيم مثل الأسرة والطهارة والأمانة في خطر، لأن الناس لا يخافون الله.

في هذه المجتمعات لا تعتمد علاقات الناس فيها على الحب والاحترام المتبادلين.، ولا يظهرون أي نوع من المواقف المحترمة تجاه بعضهم الآخر طالما أنه ليس هناك سبب ملح.. في الحقيقة هم على صواب في محاكماتهم الجاهلة لتصرفهم بهذه الطريقة. لقد تعلموا خلال حياتهم أنهم تطوروا عن الحيوانات وأن أرواحهم ستذهب إلى الأبد بعد موتهم، فلماذا يحترمون جسدا منشؤه قرد سيدفن تحت الأرض ولن يروه مرة أخرى. فحسب منطقهم الفاسد ” كل الآخرين، كما هم أنفسهم سيموتون وتدفن أجسادهم وتتلاشى أرواحهم، فلماذا يهتمون بصنع الخير للآخرين، ويضحون بأنفسهم؟”. تخترق هذه المفاهيم لا شعور كل إنسان لا يؤمن بالله وبالتالي باليوم الآخر. لا يوجد مكان في المجتمعات التي لا تؤمن بالله للأمن والسعادة والثقة.

ليس الهدف من كل ما ذكرناه أن نقول: “أن التحلل مصير المجتمعات التي لا تؤمن بالله، ولذلك عليهم أن يؤمنوا بالله”. يجب الإيمان بالله لأنه موجود وكل من ينكر الله يرتكب إثما كبيرا أمام الله. هدفنا من القول بأن المجتمعات التي لا تؤمن بالله مجتمعات فاسدة هي التأكيد على أن مفاهيم هذه المجتمعات الأساسية خاطئة. والمفاهيم الخاطئة تقود إلى عواقب وخيمة. فلا بد للمجتمعات التي تنكر وجود الله من أن تعاني أسوأ النتائج. هذه النتائج تستحق الاهتمام لأنها تظهر الخطأ الذي تقوم عليه هذه المجتمعات.

الخاصية المشتركة بين هذه المجتمعات أنها خُدعت جُملةً. وكما ورد في الآية الكريمة: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [الأنعام: 116]، فإن معظم المجتمعات التي تشترك بخصائص عامة تشكل جمهورا يزيد من الكفر الموجود. ويصف الله هذه المجتمعات التي تنكر وجوده واليوم الآخر في القرآن بالجاهلين، بالرغم من أن أفراد هذه المجتمعات قد تقوم بدراسات علمية وفلسفية وتاريخية وما إلى ذلك من علوم، إلا أنهم يفتقدون حس التعرف على قوة وعظمة الله وفي هذا هم جاهلون.

وبما أن أفراد هذه المجتمعات غير مخلصين لله، فهم يبتعدون عن سبيله بطرق مختلفة. يتبعون العباد الجاحدين بالله، كما هم أنفسهم، يتخذونهم مثلا ويعتنقون أفكارهم. وكما هو مألوف تنتهي المجتمعات الجاهلية إلى مجتمعات مغلقة تتسبب في ازدياد نسبة العمى لديها. وتصبح أكثر ابتعادا عن العقل والوعي. وكما قلنا، فإن الملاحظ في أفراد هذه المجتمعات أنها تعمل بانسجام مع المذاهب المعادية للدين. في صورة قرآنية يخبرنا الله عز وجل في إحدى الآيات أن الدمار مصير هذه الحياة التي تقوم على أسس فارغة وفاسدة:

{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 109].

هناك أيضا نقطة أخرى يجب أن نتذكرها: أن كل إنسان وكل مجتمع لديه الفرصة للتخلص من هذه الطريقة في الحياة وفلسفة الجهل. لقد أرسل الله لهم الرسل ليعلموهم وينذروهم عن وجود الله واليوم الآخر ويخبروهم عن معنى الحياة. ومع رسله أرسل الله الكتب الصحيحة التي تجيب عن كل الأسئلة التي يطرحها الناس. هذا قانون الله الموجود منذ الأزل. في يومنا هذا، القرآن هو كتاب كل الناس يبين لهم الطريق الصحيح ويبعدهم عن طريق الظلمة. يحاسب الناس على اختياراتهم. قالت لهم رسلهم التي جاءتهم بالكتب:

{قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} [يونس: 108].

مهم

بعد أن ذكر لي كل ذلك، وذكر استحالة أن يبيع علمه بالمال، رحت أبحث عن عضو آخر من الذين سجلتهم في دفتري، وكان عالما بيولوجيا كبيرا، وكانت له صداقة طويلة بالكيميائي والإحيائي الأمريكي [ستانلى ميلر] الذي اشتهر بسبب دراساته في مجال التولد التلقائي، وبالتحديد في تجربته التي حاول أن يثبت فيها إمكانية إنشاء مركبات عضوية من خلال عمليات كيميائية بسيطة من مواد غير عضوية.

كان اسمه [جيفري بادا]([6])، وقد ذكر لي عند لقائي به، أنه الطالب الثاني الذي تخرج على يدي [ستانلي ميلر]، وأنه كان قريبا جدا منه، بل كان معينا له في كل التجارب التي قام بها.

بل أخبرني فوق ذلك كله أنه بعدما مات ميلر بالسكتة الدماغية عام 1999، ورث صناديق من العينات التجريبية من معمله.. وذكر لي بحماسة أنه بينما كان يقلّب فيها وجد مكتوبا على إحداها بخط ميلر [عينة التفريغ الكهربائي]

لقد قال لي، وهو لا يكاد يملك نفسه من الفرح: لقد كانت هذه هي التجارب الأصلية التي قام بها أستاذي وصديقي [ستانلي ميلر] عام 1953 وهو في جامعة كولومبيا.. لقد كانت صناديق العينات محفوظة جيدًا ومُعَلَّمة بحرص مثلما وصفها ميلر في مذكراته..

قلت: هلا شرحت لي بتفصيل ماذا فعل أستاذك وصديقك.. وهل يمكن الاستفادة من تجربته في إثبات عدم حاجة صدور الحياة إلى الخالق؟

قال: مع كوني تلميذا وفيا لأستاذي وصديقي [ستانلي ميلر]، ومع إعجابي الشديد بشخصيته واجتهاداته إلا أنه من الصعب علي أن أحكم هذا الحكم.. ذلك أن الهدف الذي انطلق منه في إجراء تجربته لم يكن هدفا علميا، بقدر ما كان هدفا ميتافزيقيا، والأهداف الميتافزيقية أقرب إلى الفلسفة منها للعلم.

سكت قليلا، ثم قال: لعلك تعلم أن الروسي الملحد [الكسندر ايفانوفيتش أوبارين] كان أول من أخرج فرضية [الحساء البدائى] إلى الوجود، وقد ذكر فيها أن الحياة بدأت فى وقت مبكر من حياة الأرض في محيطات مائية، نتيجة لمزيج من مواد الكيميائية، وبعض المركبات العضوية الأولية من الغلاف الجوي، ونوعا من الطاقة.

قلت: لا يهم الهدف.. بل تهم النتيجة، فهل استطاع أن يثبت إمكانية نشوء الحياة من تلك التجربة التي قام بها؟

قال([7]): من الصعب قول ذلك.. فالحياة شأن آخر تماما.. كل ما قام به أستاذي ميلر أنه حين كان طالب دراسات عليا بجامعة شيكاغو عام 1953 حاول أن يحضر واقعا يحاكي فيه ظروف الأرض فى وقت مبكر.. وباستخدام خليط من المكونات التي ادعى أنها كانت تمثل القشرة الأرضية قديما وهى: (الماء، الميثان، الأمونيا، الهيدروجين) وتعريضها لطاقه كهربية ممثلة فى صعقات تمثل طاقة البرق.

قلت: فما كانت نتيجة تجربته؟

قال: لقد كانت النتيجه هي أنه حصل على مادة عضوية ممثلة فى أحماض أمينيه بسيطة، وافترض أنه كانت الخطوة الأولى للحياة.. فضلا عن كمية من القطران كناتج بلمرة.

قلت: هذه تجربة مهمة.. ويمكن أن تكون منطلقا لأبحاث أخرى تستطيع أن تواجه الرؤية الإيمانية التي تفترض وجود الخالق.

ابتسم، وقال: لقد كان هذا هو الموقف الذي وقفه كل الماديين عندما سمعوا بالتجربة، أو أعادوا تكرارها.. ذلك أنها كانت بمثابة قشة الغريق للفكر الالحادي، حيث تم الاحتفاء بها، واعتمادةا كنموذج عملى لمحاكاة ظروف خلق الحياة الأولى.

قلت: هي بالفعل كذلك.. فلم هذا التشاؤم؟

قال: أنا لا أتفاءل، ولا أتشاءم، ولكني أحترم عقلي.. فالتجربة كانت مليئة بالثغرات التي تجعل منها مجرد محاولة يائسة، لا قيمة لها من الناحية العلمية.

أول الإشكاليات التي تطرحها التجربة، والفرضية المرتبطة بها هي أن معطيات الافتراض والتجربة كانت انتقائيه بامتياز، وغير ممثلة للظروف الحقيقيه لجو الأرض البدائى.. ذلك أن [أوبارين]، وهو أول من اقترح جو الأرض البدائية المختزل المكون من الماء، والميثان، والأمونيا، والهيدروجين، أتي من كونه مختصا بعلوم الكيمياء، ولذلك راح يختار هذه العناصر بالضبط، وليس من معطيات حقيقيه متوفره عن جو الأرض البدائى.

وبناء على ذلك راح يقوم بتوليف المركبات الأولية القادره على إنتاج حساء عضوي، مع ضرورة استبعاد الأكسجين أوالمركبات المؤكسدة من الخليط.

قلت: هل تقصد أنه لم يكن هناك أي حساء بدائي للحياة على الأرض؟

قال: أجل.. فبعد بعد مضي سنوات من تجربة ميلر التى حاكى فيها ظروف أوبارين المقترحه، بيّن التحليل الجيوكيميائى الدقيق أن الجو الذي ساد على الأرض لم يكن مختزلا كما افترض لتكوين الحساء البدائى للحياة، وأن مثل هذه الأجواء المختزلة، إذا كانت موجودة فى أي وقت مضى، فإنها لم تدم طويلا.

بالإضافة إلى ذلك فإن الغلاف الجوى الذى تمت محاكاته فى التجارب كتمثيل لنشأة الحياة كان يتألف في المقام الأول من غاز الميثان، والأمونيا، ومستويات عالية من الهيدروجين.. والعلماء الآن يجمعون على رفض ذلك السيناريو.

فالجيوكيمائيين اليوم يعرفون أن الغلاف الجوي للأرض في وقت مبكر لم يحتوي على كميات ملموسة من هذه المكونات.. بل إن الغلاف الجوي للأرض في وقت مبكر كان مختلفا جدا عما افترضه ميلر..

بل إنه لا أحد يعرف الأساس الذي استند إليه ميلر فى تقدير تلك المكونات على أنها محاكاة فعلية لجو الأرض وقتها.. فالعلماء يتفقون على أن المصدر الرئيسي للغازات هو البراكين، والبراكين ينبعث منها أول اكسيد الكربون، وثانى اكسيد الكربون، والنيتروجين، وبخار الماء، ومن المرجح لدى العلماء أن هذه الغازات كانت وفيرة جدا في الغلاف الجوي في وقت مبكرمن حياة الأرض.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك التجارب كانت تفترض الغياب الكلى للأكسجين، باعتباره عدوا للتجربة، مع أنه كان متواجدا بوفرة فى جو الأرض البدائى.. فوجود الأكسجين الحر من شأنه أن يدمر أى مادة عضوية ناشئه، ولذلك تجنب ميلر تلك الإشكاليه باستبعاد الأكسجين من جو التجربة.. وهذا خلاف ما كان واقعا فى جو الأرض البدائي.

قلت: هل ما تقوله صحيح.. وكيف غاب عنه هذا؟

قال: ما أسهل أن يغيب عنه.. لأن هدفه لم يكن الوصول إلى الحقيقة العلمية، وإنما كان الوصول إلى الحقيقة الميتافزيقية..

فالباحثون الآن يعتقدون أن غاز الأكسجين كان موجودا على الأرض في وقت مبكر، لأن غلافها احتوى على الكثير من بخار الماء، والإنحلال الضوئي للمياه الناجم عن الأشعة فوق البنفسجية في الغلاف الجوي العلوي سيكون مصدرا رئيسيا للأكسجين الحر في الغلاف الجوي، حيث أنتج الأكسجين بمعدلات مرتفعه للغاية على الأرض البدائية، لعدم وجود درع الأوزون، والمصنوع من الأكسجين، لمنع ضوء الأشعة فوق البنفسجية.

وقد كشف تحليل أقرب عصور ما قبل الكمبري للصخور الرسوبية على وجود الأكسجين الحر، وبمستويات مماثلة لما هو عليه اليوم.. كما نشرت مجلة العلوم [عدد ديسيمر 1995] مقالا لجون كوهين يظهر ذلك بوضوح، ويؤكد مخالفة جو الأرض البدائى لما افترضه ميلر في تجربته.. وذلك ما يؤكد عدم صلاحيتها.

بل إن الأمر ازداد تأكيدا مع الاكتشافات الجيولوجية الحديثة، فقد تم العثور فى طبقات الأرض القديمة على المعادن المؤكسدة (الهيماتيت) في وقت مبكر قبل 3.8 مليار سنة، وهو دليل لا يقبل التشكيك على وجود الأكسجين بمعدلات مرتفعه جدا كما هى الآن.

وهكذا كان الأمر مع الدرسات والتأكيدات من قبل الجيوكيميائين، والتي ذكرت أن الظروف المؤكسدة، والتمثيل الضوئى تواجدا على كوكب الأرض منذ أكثر من 3،7 مليار سنة، وأن الحياة كانت موجودة تقريبا في أقرب وقت كانت الأرض قادرة على دعم ذلك.

وهكذا راحت تتوالى التأكيدات العلميه الدالة على وجود الأكسجين الحر فى غلاف الأرض بعد وقت قريب جدا من تشكلها، حيث تم اكتشاف وجود نطاقات واسعه من الكائنات الحية المعتمده على التمثيل الضوئى لحياتها.

قلت: وهل ترى أن هذه الاكتشافات كافية وحدها لتهديم النظرية؟

قال: أجل.. فالمفروض في أي تجربة علمية وفق المنهج العلمي مراعاة جميع الشروط المرتبطة بالتجربة، حتى تصح نتائجها، وإلا فإن إجراء أي تعديل عليها سيؤثر لا محالة في مصداقية النتائج.

قلت: فقد كان اكتشاف وجود الأكسجين في تلك المرحلة وحده ما تسبب في تهدم الأسس التي تقوم عليها النظرية؟

قال: أجل، فيكفي إثبات وجود الأكسجين لتنهد النظرية، ذلك أن تجربة ميلر ويوري وشبيهاتها لايمكن أن تتم فى مجال يحتوى على الأكسجين كما أكد ميلر ذلك بنفسه، وهذا يناقض ما كانت عليه طبيعة الغلاف الجوى فى تلك العهود المبكرة.

قلت: ولكن ألا يوجد خلاف بين الباحثين في هذا حتى يمكن الاستفادة منه؟

قال: بلى.. يوجد من يدافع عن نموذج ميلر، ولكن من دون الاعتماد على أي دليل حقيقى.. وأغلب علماء الجيولوجيا اليوم يؤكدون تواجد الأكسجين بنفس نسبة وجوده اليوم فى الغلاف الجوي، بل وفى أعماق البحار قبل 3.46 مليار سنه من هذا الوقت.

بالإضافة إلى هذا، فقد غاب عن بال المدافعين عن نموذج ميلر، والقائلين بغياب الأكسجين من جو الأرض المبكر حقيقة مهمة وخطيرة جدا، وهي أنه إذا لم يكن هناك أكسجين فى ذلك الوقت من عمر نشوء الحياة فلن يكون هناك أوزون، لذلك لن تكون هناك حماية من الأشعة فوق البنفسجية التى تنفذ لتدمر المواد الكيميائية الحيوية المتكونه فى الحساء البدائى المزعوم.

***

على الرغم من كون حديث [جيفري بادا] يتناقض تماما مع مبتغاي، لكن صدقه وإخلاصه وموضوعيته في طرح فكرته، والتي يختلف بها مع نفسه، ومع أستاذه.. كل ذلك جعلني أحاول التعرف على كل التفاصيل، وبكل دقة وموضوعية.

قلت: أظنني اقتنعت بهذا، فدعنا منه، وحدثنا عن الحساء البدائي.. وهل هناك أدلة جيوكيميائية على وجوده في أي وقت مضى على الأرض؟

قال: إذا كان هناك فى أي وقت مضى حساء بمركبات عضوية أولية، فلابد أن تحتوي الصخور الرسوبيه القديمه على علامات واضحه وطبقة كبيرة بسمك يتراواح بين (1 ـ 10 متر) من القطران تطوق الأرض لأنها من نواتج التفاعل الاولى كما بينت تجارب انتاج الأحماض الأمينية.. ولكن ليس هناك أى أدله جيولوجيه كشفت عن هذه الطبقة.

بل لم يُكتشف أي دليل جيوكيميائى على أنه كان هناك حساء فى عمر الأرض المبكر، مع أنه كان لابد للصخور الرسوبيه فى تلك الفترة الزمنية أن تحتوي على نسبة كبيرة بشكل غير اعتيادي من الكربون أو المواد الكيميائية العضوية لكن هذا لم يحدث.

وكذلك لا توجد أى أحافير يمكن أن يدل تحليلها الكيميائى على خطوات ما قبل الحياة، وخطوت ظهور الحياة على الأرض، وهذا يؤدي بنا إلى نتيجه واضحه وهي أن كل ما يطرح من سيناريوهات وتوقعات ليست سوى مجرد فروض بدائيه غير مدعمة بأي دليل، بل إنها متناقضه مع الشواهد العلمية.

قلت: ولكن ما هي الأسباب التي جعلت العلماء يتمسكون بهذه التجارب، وبالفرضيات المرتبطة بها مع كل هذه المشاكل المنهجيه القاتله فى أصل الاستدلال بها؟

قال: لعل أهم تلك الأسباب التي جعلت الكثير يتمسك بتجارب ميلر ومثيلتها على إمكانية نشأة الحياة على الأرض بطرق طبيعية عشوائيه هو عدم وجود بديل مقترح أفضل منها، وهو ما أقره عالم الأحياء التنموية [جوناثان ويلز] فى كتابه [أيقونات التطور]، حيث قال: (نحن لا زلنا جاهلين جهلا عميقا بكيفية نشأة الحياة، ومع ذلك لازالت تجربة ميلر أوري تستخدم كأيقونه للتطور، لأنه لم يظهر شيء أفضل منها.. وبدلا من قول الحقيقة، أعطينا انطباعا مضللا أن العلماء أثبتوا تجريبيا الخطوة الأولى في أصل الحياة)

سكت قليلا، ثم قال: لكن مع ذلك، ونتيجة للتشكيك العلمى الواضح في تلك الفرضية وما ارتبط بها من تجارب، وبعد ما يقارب القرن من اعتماد نموذج الحساء البدائى، تخلى جمهور العلماء عن التمسك بها، لتهافتها وعدم صلاحيتها.. بل اضطر أنصار التطور والنشأة العشوائيه إلى البحث عن سيناريو بديل.. حتى صرح [نيك لين] وفريقه بجامعة لندن عام 2010، بأن نظرية الحساء البدائي لا تصمد، وأنها صارت من الماضى.

لكنه بدل أن يقر بنظرية الخلق الإلهي للحياة، راح يقترح بأن الحياة نشأت في الفتحات الحرارية المائية تحت سطح البحر.. ولم يكن قصده من ذلك إلا الخروج من الأزمه التي يوقع فيها التخلي عن الحساء البدائي، مع أنه لا يقوم على دعم ما ذكره أى دليل.

                                   ***

بينما كنت مع [جيفري بادا] منشغلين بتلك الأحاديث العلمية الراقية إذ جاء تلميذ من تلاميذه يحمل كتابا بيده، وهو يقول: هل سمعت أستاذنا ما ذكره [كارل بوبر] في هذا الكتاب، فقد قال: (التقدم العلمى غير المسبوق فى البيولوجيا جعل مشكلة أصل الحياة لغزا أكبر مما كان عليه قبل ذلك، فقد اكتسبنا مشاكل جديدة وأكثر عمقا)

قال جيفري: صدق [كارل بوبر] في قوله هذا.. فقد كان القدماء يؤمنون بالتوالد الذاتي، وهو ما جعلهم لا يقعون في الكثير من الإشكالات التي نقع فيها اليوم.. أما في زماننا هذا، وبعد إدراكنا لأسرار الحياة، فإن الأمر صار أشد تعقيدا، وأكثر غموضا.

قال التلميذ: ولكن العلماء استطاعوا أن ينتجوا أحماضا أمينية ضمن بيئة معينة.. أفلا يكون ذلك اكتشافا لأصل الحياة؟

قال جيفري: لنسلم جدا بأن التجارب التي أجريت في سبيل تحقيق ذلك نجحت فى توليف الجو الفعلى للأرض، فهل أمكنها فعلا خلق الحياة؟

سكت التلميذ، فقال جيفري: من المغالطات التي يوهم بها أنصار النشأة العشوائية عامة الناس وغير المتخصصين هوالقول بأن إنتاج بعض الأحماض الأمينية يجعل من خلق الحياة أمرا فى حدود الإمكان.

بل يتعمد بعضهم اللجوء إلى تسطيح مستفز حتى ظن غير المتخصصين أن إنتاج الخلية الحية لا يختلف عن تصنيع قطعة جيلى فى مصنع حلوى.

قال التلميذ: لكنه لا يمكن أن تقوم الحياة من دون أحماض أمينية؟

قال جيفري: أجل.. ولكنها مع ذلك ليست سوى مادة عضوية بسيطة جدا خالية تماما من الحياة.. بل هي مجرد لبنة بناء بسيطة وأولية.. ويمكن تشبيهها باستخراج معدن الألمينوم باعتباره أحد المعادن المستخدمه فى بناء طائرة وجعلها تطير.. فبالطبع لن يطير معدن الألمنيوم الخام إلا فى الطائرة، وداخل نظام مصمم وذكى بالغ التعقيد.

وهكذا الأحماض الأمينية، فإنها مع أهميتها لا تمثل أى قيمه بيولوجية إلا فى الخلية، ومع اعتبار الفارق الشديد فى نسبة التعقيد بين الطائرة والخلية.

سكت قليلا، ثم قال مخاطبا تلميذه: لتقريب الصورة لك يمكننا تمثيل الأحماض الأمينية بأنها جزء من مجموعة الحروف.. والخلية الحية هى كتاب مؤلف من ملايين الحروف لتشكيل ملحمة روائية بالغة الحنكة.. والإشكال الحقيقى يكمن فى الاستخدام الذكى لترتيب تلك الحروف، وليس مجرد تراكمات وتراكبات عشوائيه ناتجه من عمليات فزيوكيميائه.

قال التلميذ: صدقت أستاذي.. فالخلية ـ كما شرحتها لنا ـ نظام كونى مستقل له إرادة تخالف تلك القوانين.. ونظرة قريبة فى الخلية تثير الذهول من ذلك التصميم الدقيق المحكم، فهى مدينة كاملة من الآلات الجزيئيه المتعاضده المتكامله التى لا تضاهيها عوالم التقانات النانوية.. فمع اهتزازها أو التفافها أو زحفها المتواصل في أرجاء الخلية، تقطع هذه الآلات، وتلصق وتنسخ جزيئات جينية، وتقوم بنقل المغذّيات من مكان إلى آخر، أو تحولها إلى طاقة، وتبني أو تصلح الأغشية الخلوية، وتنقل الرسائل الميكانيكية والكيميائية والكهربائية.

***

انصرف التلميذ، فقال لي جيفري، وهو يحاورني: لا بأس.. فلنتخط ذلك التعقيد المذهل فى تركيب الخلية، والكافي وحده لإقناع أى عاقل بحتمية تصميمه.. ولنتناول أهم الإشكالات التى تلي مرحلة تكوين الحساء البدائى والمكونات الأولية.

قلت: هل هناك مشاكل أخرى لا تزال تعترض الحساء البدائي؟

قال: إن شئت الصدق.. فالمشاكل التي يثيرها الحساء البدائي أكثر بكثير من الحلول التي يضعها..

قلت: فما هي المشكلة الجديدة التي تريد أن تذكرها لي؟

قال: من أبرز ألغاز الحياة، والتى تقف بقوه ضد كل النظريات العشوائيه التي تحاول تفسيرها، تلك الغائية والتوجيه المستقل للحياة بعيدا عن العمليات الكيميائية الطبيعية.

فبتخطى تلك العقبات التي مرت بها أمثال تلك التجارب، وبافتراض نجاحها فى محاكاة جو الأرض وإنتاج مادة عضوية أولية للحياة، وتخليق الأحماض الأمينية، فإن تخليقها من مواد أولية ليست الجزء الصعب.. فالإشكال الحقيقى هو الحصول على نوع الأحماض الأمينية المطلوبة للحياة، وطريقة تنظيمها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أنت تعلم أنه يوجد أكثر من 2000 نوع من الأحماض الأمينية في الطبيعة، بينما لا يدخل فى التركيب الحيوى للخلية إلا 20 نوعا فقط.. وعلاوة على ذلك، يتم تجميع الذرات التي تشكل كل الأحماض الأمينية الأساسية في شكلين متناظرين عرفا باسم (اليد اليسرى، واليد اليمنى) مقارنة بتناظر كلتا يدي الإنسان.. فلكل يد نفس المكونات، ومع ذلك فهي مختلفة.

ومثل أيدينا، تأتى الأحماض الأمينية في شكلين حيث تتألف من نفس المكونات، ولكن هي صور طبق الأصل من بعضها البعض، ولهذا تسمى الأحماض الأمينية العسراء، والأحماض الأمينية اليمينيه.

لكن المذهل هو أن جزيئات الأحماض الأمينية اللازمه للحياة كلها عسراء التوجه، وكل السكريات الموجودة في الأحماض النووية اللازمه للحياة يمينية التوجه، أما تلك الأحماض الأمينية المنتجة في المختبر فهي نصف عسراء، ونصف يمينية، وتسمى راسيمات، وهنا تكمن مشكله قاتلة، وهي أن السكريات العسراء والأحماض الأمينية اليمينيه تكون سامة وقاتلة، وتحول دون أى محاوله للتخلق الحيوى المزعوم من تلك المخاليط الراسميه الملوثه.

وعلاوة على ذلك، فقد تم تصميم جميع الإنزيمات لتعمل فقط مع سكريات اليد اليمنى والأحماض الأمينية العسراء.. لذلك إذا تم ارتباط حمض أمينى واحد يمينى الاتجاه أثناء تجميع بروتين، فإن ذلك البروتين الناتج لن يكون له أي قيمة للحياة.

قلت: لكن لماذا استخدمت البروتينات البيولوجية الأحماض الأمينية العسراء فقط.

قال: لا يزال الأمر لغزا.. لأن الكيمياء غير الموجهة تعطى نسبا متساوية من كلا النوعين، ولهذا راحوا يحاولون الخروج ذلك المأزق الأولى بتفسيرات أفضل ما يقال عنها: إنها فرضيات غير مدعومة بأي دليل، بل هي مجرد تخيلات فقط لتخطى تلك العقبة التى تعاند قوانين الكيمياء الأولى، وتظهر إرادة مستقله للحياة.

الصدفة.. ومشكلة البلمرة:

بعد أن ذكر لي كل ذلك، وذكر لي مثل صاحبه استحالة أن يبيع علمه بالمال، رحت أبحث عن عضو آخر ممن سجلتهم في دفتري.. وكان يعمل في المركز الطبى بجامعة [بايلور] بولاية تكساس الأمريكية، وهو [جوزيف كوهن]، الذي كان بالإضافة لكونه عالما بيولوجيا كبيرا، جراحا بذلك المركز.

وكنت قد علمت بعد ذلك أنه من العلماء الذين انتقدوا نظرية التطور، فقد عرض فى بحث نشره بعنوان [دحض الدارونية] بعض الأخطاء البارزة التى تكتنف النظرية، وعلى رأسها استحالة نشوء الحياة من مواد كيماوية فقط، مبرهناً على ذلك بأن المعلومات التى يحتويها الحامض النووى [دى إن إيه] تتطلب معلومات من الطبيعة الخارجية.

وقد ذكر في بحثه ذلك أن جسم الإنسان عبارة عن منظومة شاملة لكى تؤدى وظائفها فى الحفاظ على حياته يجب توافر مكوناتها الأساسية والمواد الكيماوية اللازمة لعملها دفعة واحدة وبصورة متزامنة.

وقد أيد كوهن آراء علماء الكيمياء الحيوية من أن جسد الإنسان يعمل كوحدة واحدة، وفى حالة نزع أى عضو من أعضائه يتوقف الباقى عن أداء وظائفه، مما يدل بجلاء على أن الإنسان خلقه الله منذ البداية ـ كما هو ـ بجميع أعضائه دفعة واحدة، وليس بالتدرج الطبيعى عضواً عضواً كما تدعى نظرية دارون.

بالإضافة إلى ذلك، فقد ذكر أن الجسد البشرى مكون من عدة أجهزة لا يمكن اختزالها أو الانتقاص منها على أى مستوى، بدءا من التشريح الفسيولوجى العام إلى منظومة الكيمياء الحيوية.

وخلص في الأخير إلى أن خلق الإنسان بهيئته البديعة لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم، مشيراً إلى أن نظرية التطور تفتقر إلى أية براهين عن أصل عضو واحد من أعضاء الإنسان، ناهيك عن شبكة متكاملة بالغة التعقيد يتألف منها الجسد البشرى.

عندما التقيت به، وحدثته عن الأبحاث التي نريد إجراءها، وذكرت له ما قاله لي [جيفري بادا] نظر إلي مبتسما، وقال: كل الإشكالات التي طرحها لك صديقي جيفري لا تساوي شيئا أمام الإشكالات التي لم يذكرها.

قلت: فهل هناك إشكالات أخرى لم يذكرها؟

قال: أجل.. فبالإضافة لما ذكره لك [جيفري بادا]، فإن هناك إشكاليات كثيرة لا يمكن حلها وفق الظروف المفترضه، ومن أمثلتها كيفية ربط الأحماض الأمينية أو الجزيئات العضوية الأساسية الأخرى لتشكل سلاسل طويلة (البوليمرات) مثل البروتينات أو [رى إن إيه] كنموذج ذاتى التكرار..

قلت: ما تعني بقولك هذا؟

قال: أعني [البلمرة].. ولاشك أنك تعرفها.. فهي العملية التي من خلالها تشكل [المونومرات]، أو الجزيئات العضوية البسيطة روابط تساهمية مع بعضها البعض لإنتاج [البوليمرات]، أو الجزيئات العضوية المعقدة.

ولذلك يجب أن تحتوي [المونومرات] المكونة للحساء البدائى على الأحماض الأمينية، والسكريات، والدهون، والكربوهيدرات البسيطة، والقواعد النيتروجينيه، والبوليمرات، وهي سلاسل من تلك المونومرات.

سكت قليلا، ثم قال: سأقرب لك هذا بمثال قياسى.. فإذا افترضنا أن [المونومرات] كالأحماض الأمينية حروفا.. وافترضنا [البوليمرات] كالببتيدات والدهون الفوسفاتية و[رى إن إيه]و [دى إن إيه] كلمات وجملا.. فإنه يمكن بكل بساطه يدركها أى بيولوجى اعتبار الخلية بمثابة مجلد ضخم مصمم ومؤلف بفعل قريحه عبقريه ليحكى ملحمة بالغة التعقيد، وليس مجرد تراكمات عشوائيه لركام من تلك الحروف أو تلك الكلمات.

لكن مع استحالة أن تصنع الحروف بمفردها كلمات وجملا مفيدة، فضلا عن أن تصنع روايه ملحميه ضخمه، فإنه لا توجد أى فرص لالتقائها وترابطها بالأساس فى حيز معين يوفر لها إمكانية الترابط.

قلت: ألا يمكن أن تنشأ البلمرة فى ظروف النشأة الطبيعية المقترحه؟

قال: ذلك مستحيل.. لأن هناك الكثير من المشاكل التي تعترض تحقيق ذلك.. منها مثلا أن فرضيات الحساء البدائى والفوهات الحارة تفترض حدوث التخلق قبل الحيوى فى حيز مائى كالمحيطات.. ووفقا لمبدأ [انزياح التوازن] أو مبدأ [لو شاتيليه] فإن وجود منتج كهذا لايمكن بحال من الأحوال أن يسير عكس التوازن لإنتاج بوليمرات وجزيئات معقدة، لأن الماء هو بالأساس مذيب ومخفف للمونومرات ليجعل فرص التقائها معدومه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن المركبات العضوية تتحلل بسرعة إذا تعرضت لحرارة عالية من الفتحات الحرارية في أعماق البحار، لذلك فإن خطوة البلمرة في الأصل الكيميائي للحياة لا يمكن أبدا أن تجري في حيز هائل من المياه، كالمحيطات، وفرص التقاء المونمرات مستحيلة.

 ولذلك فإن تركيب البروتينات والأحماض النووية من السلائف العضوية ولبنات الحساء البدائى يمثل واحدا من أصعب التحديات لنموذج التخلق قبل الحيوى.. فهناك العديد من المشاكل المختلفة التي يواجهها أي اقتراح.. وهواستحالة البلمرة، وتكوين المعقدات في المياه.

فمع افتراض بدء الحياة في المحيطات،فان الجزيئات العضوية المفترض تكونها فى الماء سوف يتم تدميرها على الفور خلال عملية التحلل المائي، وهو إضافة جزيء الماء بين جزيئين المستعبدين (اثنين من الأحماض الأمينية في هذه الحالة)

وعلاوة على ذلك، تميل المياه لكسر سلاسل الأحماض الأمينية وتفكيكها عن بعضها البعض إن وجدت تلك البروتينات المزعومه التى شكلت في المحيطات بترابط الأحماض الأمينية منذ 3.5 مليار سنة مضت.

قلت: أعلم ذلك.. فإن تشكيل البوليمرات يحتاج بالضروره إلى ظروف جافه.

قال: وهذا لا يتفق مع فرضيات التخلق اللاحيوي المطروحة..

قلت: وعيت هذا.. فهل هناك مشكلة أخرى غير هذا؟

قال: أجل.. المشكلة الأخرى هي أن الأحماض الأمينية مع كونها بطبيعتها قادرة على الارتباط في العديد من المواقع من قبل العديد من أنواع الروابط الكيميائية..إلا أن تشكيل سلاسل ببتيد يتطلب تقييد وصلاتها إلى روابط الببتيد فقط، وفي المواقع الصحيحة فقط.

و يجب منع تشكل كل أنواع الروابط الأخرى، وهى ليست مهمة سهلة في الخلايا الحية، ذلك أنه يتحكم فيها نظام معقد من الإنزيمات البالغة التخصص، والموجودة لضمان عدم حدوث أى روابط غير ملائمه، وبدون هذا النظام الإنزيمى، فإن هذه الروابط الكيميائه العشوائيه تدمر فورا البروتينات المنتجة..

قلت: وعيت هذا.. وهي حقا مشكلة عويصة.

قال: لس ذلك فقط.. فثمة مشكلة أخرى، وهي التأثيرالحرارى الهادم لروابط الببتيد وكسرها في الماء، والتى لا تتشكل فى الطبيعه بدون المركبات ذات الطاقة العالية مثل ATP والإنزيمات.. حتى أن تكون رابطه ببتيديه واحده فقط من ارتباط حمضيين أمينين فقط يصعب تشكيلها تحت الظروف الطبيعية، فماذا عند بروتين ​متوسط يتكون من أربعمائة من الأحماض الأمينية؟

وقد وضع الكيميائيون معادلات لاختبار فرص ذلك الاحتمال وفق الظروف الكيميائية والفيزيائيه الطبيعية، وخرجوا بأرقام مذهلة، ذكر بعضها على أننا بحاجة إلى محيط من الحساء البدائى بحجم يساوي 10 أس 229 من الأكوان المنظورة، وذلك لإنتاج جزيء واحد من أي بروتين مع 100 من الروابط الببتيديه..

قلت: وعيت كل هذا.. ولكن ألا يمكن إيجاد أي حل لهذه المشكلة؟

قال: هل تقصد حلا علميا.. أم حلا مخادعا؟

قلت: هل يمكن أن يكون في عالم العلم حلول مخادعة؟

قال: أجل.. عندما يصبح العلم خادما للهوى وللرغبة حينها يتحول إلى ثعلب مخادع.. وقد حصل هذا.. ذلك أنه عندما عرف أنصار النشأه الطبيعية والتطوريون استحالة تكون المعقدات الحيويه اللازمه كلبنة بناء للحياة الأولى فى المحيطات المائية، ورأوا أنها عقبة لا يمكن تخطيها بسهولة، لجأوا إلى اقتراح سيناريوهات خيالية وغير واقعية لتخطى الازمة.

ومن بين تلك الاقتراحات اقتراح [سيدنى فوكس] الذي نال اهتماما كبيرا باعتباره حلا لتلك الأزمة..

قلت: فهل حلها بالفعل؟

قال: لقد استخدم فوكس الحرارة الشديدة كآلية القيادة في نموذجه..حيث تم تسخين خليط خاص من الأحماض الأمينية النقيه والجافه في حوالي 175 درجة مئوية لفترة زمنية محدودة.. ثم تم توقيف التسخين، وحرك المنتج مع الماء الساخن، وتم إزالة المواد غير القابلة للذوبان عن طريق الترشيح، وعندما برد المحلول المائي ترسب على شكل كريات.. وبتحليلها تبين أنها تتكون من البوليمرات، أو سلاسل من الأحماض الأمينية.

وقد ادعى فوكس أنها ـ أي ما سماه [بروتينات حرارية، أو الخلايا شبية البروتينات] شكلت الخلية الأولى.. وادعى أيضا أن هذه المركبات تمتلك خصائص الحفاز أو إنزيم.. بل إنه ادعى فوق ذلك أن هذه المعقدات يمكنها التكاثر بالانقسام إلى حد ما بنفس طريقة الخلايا الحقيقية..

قلت: فهل استطاع بهذا السيناريو تجاوز الأزمه؟

قال: أنت ترى أن فوكس اقتراح ظروفا خيالية لا يمكن توافرها لتمام نجاح ذلك السيناريو، حيث لا يمكن أن تتوافر درجة التسخين المقترحة إلا على حواف البراكين بشرط أن يسقط المطر بعدها بساعات قليلة.. وهذه الظروف غير واقعيه لا يمكن أن يتم توافرها على سطح الأرض فضلا عن أن تنجح فى إنتاج كميات كافيه من المعقدات.. بالإضافة إلى هذا، فقد واجهت هذا الاقتراح إشكالات كثيرة قاتلة..

قلت: فهلا ذكرتها لي.. لعلنا نجد حلولا لها.

قال: يستحيل ذلك.. فمن تلك المشاكل مثلا الانقطاع الواضح فى السلسله المزعومه، فبدلا من أن يستخدم فوكس المكونات الأولية التى حصلت من تجارب الحساء الاولى من أحماض أمينيه راسميه بنسب متساويه، وهى غير صالحه للحياة، استخدم أحماضا أمينيه بيولوجية بلوريه نقيه عسراء التوجه الكفى.. وهذا إشكال لا يمكن تخطيه.

قلت: ألا يمكن أن يوجد مكان على الأرض يتم العثور فيه على خليط من الأحماض الأمينية النقية؟

قال: أجل.. يوجد.. وهو مكان وحيد فقط.

قلت: إذن حلت المشكلة..

قال: أجل.. لكن مع العلم أن ذلك المكان الوحيد ليس سوى مختبر عالم في القرن العشرين.. أما في الواقع، فإن مجموعة كبيرة ومتنوعة من المركبات الكيميائية العضوية التى يبلغ عددها بالآلاف يمكن أن تتكون على الأرض البدائية، واحتمال وجود خليط من الأحماض الأمينية النقية تتراكم في أي مكان يفرض أنه يمكن انتاجها هو الصفر المطلق.

ذلك أنها ستكون ممزوجة مع السكريات، والألدهيدات، والكيتونات، والأحماض الكربوكسيلية والأمينات، البيورينات، البريميدينات، والمواد الكيميائية العضوية الأخرى.

وتسخين الأحماض الأمينية في أي درجة حرارة تقريبا مع خليط من هذه المواد الكيميائية سيؤدى يقينا إلى التدمير الكامل للأحماض الأمينية.

قلت: أجل.. هذه مشكلة كبيرة.. وهذا العامل وحده يلغى مخطط فوكس تماما من أي نقاش عقلاني.

قال: ليس ذلك فقط.. بل إن نموذج التكاثر الخلوى الذى اقترحه فوكس، والتجارب التى تلته لتفسير الانقسام عباره عن ظاهره فيزيائيه بسيطة ليس لها اى علاقة بانقسام الخلايا فى الكائنات الحية.

ذلك أن انقسام الخلايا حتى في أبسط الكائنات يتطلب آليات معقدة بشكل لا يصدق لنسخ كل وحدة فى الخلية بدقه بالغه ونظام مذهل.. بخلاف ما يذكره أنصار النشأه الطبيعية من أنه مجرد ظاهرة فيزيائية بسيطة، مثل فصل فقاعة الصابون إلى قسمين، وهى ظاهره لا تمت للنسخ المتماثل الدقيق فى الحياة بصله، لأنها عمليه عشوائيه بحته كانقسام كريات الدهون أو فقاعات الدهون بسبب التحريك أو الاهتزاز إلى كريات صغيره.

لذلك فإن الاستدلال بهذه الطريقه السطحية على التكاثر هو استهزاء تام بالعقول وتستطيح لا يمكن تجاوزه.

ولهذا نرى أنصار النشأه الطبيعية، ولتمرير مثل هذه الأفكار السطحية يلجأون إلى التحايل على الحقائق بتصوير جدار الخلية على أنه مجرد حاجز لمنع محتويات الخلية من الهرب والاختلاط مع الوسط المحيط أو القدره على الاستقطاب الفيزيائى العشوائى.. ولكن غشاء البلازما يفعل أكثر من ذلك بكثير.. فالمغذيات يجب أن تمر عبرها إلى الداخل لتستطيع الخلية البقاء على قيد الحياة، والنفايات والمنتجات يجب أن تمر إلى الخارج.. وهكذا يتم اختراق الغشاء عبر قنوات انتقائية للغاية ومضخات تشكلت من جزيئات البروتين.

قلت: هذه مشكلة لا تقل عن سابقاتها.

قال: ليس ذلك فقط.. فهناك مشكلة أخرى أخطر من الجميع.. وهي مشكلة الوقت وفرص الاحتمالات..

قلت: أجل.. فالوقت ـ كما يذكر الاحيائى الشهير [جورج والد] ـ (هو بطل هذه المؤامرة.. تعطى الكثير من الوقت، والمستحيل يصبح ممكنا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدا.. وما على المرء إلا الانتظار والوقت نفسه ينفذ المعجزات)

قال: لكن فى حالتنا هذه يصبح الوقت عامل هدم، لا عامل بناء.. ذلك أنه يدخل المعادلة في نطاق الاستحالات العقلية.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأشرح لك إلى أى مدى من الزمن يتوجب علينا الانتظار؟.. وكم من الوقت كان متاحا على الأرض لنشوء الحياة؟

لقد عاشت البكتيريا في وقت مبكر قبل 3.5 مليار سنة.. والحياة كانت موجودة في وقت سابق قبل 3.8 مليار سنة..وبالنظر إلى عمر الأرض المفترض الأرض حوالي 4،5 مليار سنة، وبالنظر إلى أن القشرة الأرضية لم تتصلب حتى قبل 4 مليار سنة، فإنه لن يكون هناك إلا 200 مليون سنة لتظهر الحياة على الأرض.. وهذا الرقم يعتبر ضئيلا جدا للسماح لفرص الحياة الأولية بأن تحدث وفق ظروف طبيعية.. وبالطبع لا يمكن اعتباره رقما ذا أهميه مقارنة بما سيتم ذكره وفق الاحتمالات التى تم اجراؤها.

فوفقا للقانون الإحصائى المعروف الذى صاغه عالم الرياضيات [اميل بوريل] فى كتابه الذى يناقش فيه حدود الاحتمالية الرياضيه لحدوث حدث ما، ذكر أن أى حدث تتجاوز نسبة الاحتمالية له 1 من:10 أس 50.. أي (واحد بجواره خمسين صفرا) حدث يمكن القول على وجه اليقين أنه لن يحدث أبدا بغض النظر عن إمكانية توافر الوقت أو المكان المخصص له.

وبناء على هذا عندما ننظر في الاحتمالات الرياضية لإمكانية تكوين بروتين بسيط مكون من (100حمض امينى) وفق الظروف الكيميائية ووفق ظروف مثاليه لأقصى نسبه احتمالية ممكنه، نجد أن احتمال الحصول على ذلك البروتين الصغير المكون من مائة من الأحماض الأمينية العسراء (مع العلم بأن البروتين المتوسط ​​لديه ما لا يقل عن 300 من الأحماض الأمينية العسراء).. هي نفسها احتمالية الحصول على نفس الوجه للعملة عند رميها 100 مرة.

 ومن أجل الحصول على نفس الوجه من العمله عند رميها 100 مرة يجب علينا أن نرمى عمله واحدة 10 أس 30 مره (اى تكرارحاصل ضرب 10 × 10 30 مرة) كحد أدنى متاح على أقصى تقدير ليسمح بحدوث ذلك.. والمدى الزمنى لإمكانية حدوث ذلك يتعدى عمر الكون المنظور بمراحل..

وقد أجرى بعض علماء الكيمياء وعلوم المادة حسابا لاحتمال تكوين بروتين متوسط الحجم، فوجدوا أنه 4.9 / 10 أس 191 وهو رقم يتعدى حد الاحتمال الممكن بقانون بوريل بأشواط.. ومع ذلك، فإن ذلك البروتين المتوسط يقف على مسافه شاسعه من تركيب الخلية البالغ التعقيد..

ومثل ذلك أجرى الفيزيائى [فريد هويل]، و[شاندرا يكواماسينغ] أستاذ الرياضيات التطبيقية وعلم الفلك، حسابا لاحتمال الحصول على الخلية عن طريق العمليات الطبيعية، وكانت النتيجة هي 1 / 10 أس 40000.. وهذا الاحتمال فقط لاحتمالية تكوين الإنزيمات الخلويه كمواد خام، ولم يتعرض لاحتمال تصميم النظام، فهذا أمر آخر تماما تعجز أى آليه عن الخوض فيه.

وقد صور العالمان احتمال تكوين تلك الإنزيمات بأنه لا يمكن أن يحدث حتى لو تألف الكون كله من الحساء العضوى.. وكان لهذه النتائج دورا كبيرا في تغييراعتقاد السير فريد هويل إلى الاعتقاد في حتمية الخلق.

الصدفة.. وطيّ البروتين:

بعد أن ذكر لي كل ذلك، وذكر لي مثل صاحبه استحالة أن يبيع علمه بالمال، رحت أبحث عن عضو آخر.. وكان اسمه [ديفيد برلنسكي]، وهو عالم في الرياضيات والبيولوجيا الجزيئية والفلسفة.

وقد علمت بعد ذلك أنه من الذين انتقدوا نظرية التطور، والإلحاد الذي يروج باسمها نقدا شديدا بعدما تبين له حجم الزيف والغش الذي يسوقه الملحدون والتطوريون للناس باسم العلم، وخصوصا في العقدين الماضيين بقيادة [ريتشارد دوكينز] وقد كتب في الرد عليه كتابه الشهير [وهم الشيطان] عام 2008م.

وقد شاهدت له بالإضافة إلى ذلك حوارا مصورا باسم [العنيد]، وهو مليء باعترافاته من سخرية العلماء الحقيقيين من خرافة التطور، ومليء بالسخرية العلمية من افتراضات التطور الخيالية ونقاط ضعفها القاتلة.

بعد أن التقيت به، وقدمت له العرض السخي الذي ذكره لي مدير المركز، قال لي بكل برودة: لو كنت أريد المال، لتركت العلم، وذهبت إلى التجارة.. أو لمارست السياسة.. أو صرت مهربا أو تاجر مخدرات.. لكني لم أرد إلا العلم.. والعالم المحترم ليس تاجرا ولا لصا ولا مخادعا.

أعجبتني قوة شخصيته هذه، فرحت أطرح عليه ما ذكره [جوزيف كوهن]، فقال لي: المشكلة ليست فيما ذكره فقط.. فهناك مشاكل كثيرة أعقد بكثير تجعل من تلك الفرضيات مجرد لغو وخرافة.

قلت: هل هناك مشاكل أخرى غير التي ذكروا؟

قال([8]): أجل.. ألم تشاهد الرقصه البيولوجية التى اعجزت العقول؟

قلت: ما تعني؟

قال: إنها تعبير عن عملية واحدة من العمليات بالغة التعقيد التى تحدث داخل الخلية الحية.. بل هي مجرد عملية بسيطة تحدث لمادة حياة تلك الخلية، وهى البروتين.

قلت: فما هي هذه العملية؟

قال: ألم تفكر يوما في سر التنوع الهائل في أشكال وألوان وروائح وتراكيب الكائنات الحية التي يزيد عدد أنواعها عن عدة ملايين؟

قلت: أعلم أن السر يكمن في البروتين.

قال: لا تسمه باسمه هكذا حافيا.. بل هو الجزئ المعجز والتحفه البيولوجية التي صنعها الخالق القدير.

قلت: أراك شديد الإعجاب به.

قال: وما لي لا أكون كذلك.. والبروتين هو أعظم مكونات الأجسام الحية شأنا، ولا يزال يحير العلماء بتشكيلاته المذهلة عددا وتنوعا.. فهناك البروتينات التي تدخل في بناء خلايا أعضاء الحيوانات كالجلد واللحم والعظم والشعر والريش والأظفار والغضاريف والقلب والكبد والرئة والمعدة والعين والأذن وغير ذلك من الأعضاء.. وهنالك البروتينات الموجودة في أوراق وأزهار وثمار وبذور النباتات التي تتفاوت تفاوتا كبيرا في ألوان وروائح أزهارها وطعم ثمارها وبذورها.. وهناك البروتينات التي تقوم بالعمليات الكيميائية والحيوية داخل الخلايا الحية المختلفة كالأنزيمات والهرمونات التي لا حصر لعدد أنواعها.. باختصار البروتين هو سر الحياة.

قلت: أجل.. فالبروتينات تحوي منظومه هائله من التنوع والتباين.

قال: والمذهل الأكثر في ذلك هو أنها تتكون من لبنات تسمى الأحماض الأمينية لا يتعدى عددها 20 فقط.. وهذه الأحماض الأمينية تتجمع مع بعضها البعض، لتكوين عشرات الملايين من البروتينات المتخصصة في وظائف معينة، في كل الكائنات الحيّة التي تعيش فوق الأرض؟

أخذ بيدي إلى مكتبه، ثم أخرج صورا كثيرة أرانيها بحماسة، وهو يقول: انظر معي داخل أغوار الخلية المجهريه لترى أى عالم مذهل تكون فيه.. ولترى كيف يحدث هذا التباين والتنوع الوظيفى البالغ الاتقان فى الكائنات الحية..

أراني صورة منها، وهو يقول: انظر.. إن الأمر ببساطه لا يعدو كونه معجزه بيولوجية تسمى بطى البروتين.. إن البروتين في هذه الصورة يشبه قلاده بها حبات خرز مختلفة الألوان، هى الأحماض الأمينية.. كل لون يمثل حمض أمينىا معينا.

انظر إلى هذه الالتواءات والبروزات والانخفاضات والتجاويف التى يتخذها جزيء البروتين فى عملية الطى.. إنها ليست عشوائية أبدا.. إنها نفسها ما يحدد وظيفة البروتين المتكون من تلك العمليه البالغة التعقيد.. فالبروتينات تنثني وتلتوي وتلتف في شكل حلقات أو حلزونات، بينما تنضغط بعض البروتينات الأخرى في رقائق مطويّة تشبه الآلة الموسيقية (الأكورديون)، وكذلك في أشكال أخرى.

أراني صورة أخرى، وهو يقول: انظر إلى الزوايا والشقوق في طيات أي إنزيم هضم، وهو ليس سوى نوع من أنواع البروتينات.. انظر إليه.. فباستطاعته احتجاز جزيئات النشاء ثم الاقتراب بعد ذلك من الكيماويات التي تحللها إلى سكر.. وهكذا تكمن البكتريا والفيروسات بقوة في ثنايا وطيّات الأجسام المضادة، التي تمسكها بإحكام.، بينما تطلب (النجدة) من آليات الدفاع الأخرى بجهاز المناعة في الجسم.

أراني صورا أخرى، وهو يقول: انظر إلى هذه الأشكال المختلفه والرائعة لبروتينات مختلفه.. فالشكل المحدد ما هو إلا مفتاح أو قالب لأداء وظيفه محدده أو لبنه معينه فى كيان الحياة المهيب حيث تدخل فى تركيب التنوع الهائل لتراكيب الجسد.

سار بي إلى مكتب آخر، وهو يقول: لن تنتهي جرعة الدهشة إلى هذا الحد.. بل هناك الكثير مما يعجز العقل ويقعده عن الاستيعاب..

أراني لوحة كبيرة معلقة في الجدار تشبه اللوحات الزيتية، وهو يقول: انظر إلى ذلك الخيط من الحبات الملونة، صفراء وخضراء وحمراء وزرقاء وبنية.. إنها ليست مجرد ألوان عشوائية.. بل إن الحبات الصفراء تنجذب إلى بعضها البعض مثل المغناطيسات.. وتتنافر الحبات الخضراء مع مثيلاتها.. وتنجذب الحبات الحمراء بقوة ضعيفة إلى الحبات الزرقاء، ما لم توجد بجوارها حبة بنية اللون.. وتذكر أيضا أن الحبات الحمراء تفضل أن تستقر بين الحبات الصفراء، ما لم توجد حبات خضراء بينها!

كل هذا كوّن تسلسلاً عشوائياً من بضع مئات من الحبات الملونة المختلفة ـ التي تمثل الأحماض الأمينية ـ وتنبأ بالتركيب ثلاثي الأبعاد، الذي سوف ينطوي الخيط ذاتيا إليه!

تخيل أن لكل بروتين تسلسلا للأحماض الأمينية خاص به وحده فقط، وينتهي بطريقة ما، بالطيّة المميزة له وحده فقط.

التفت إلي، وهو يقول: إن مثل هذه السلسلة المعقدة يمكن أن تنطوي بعدد كبير جداً من الطرق المختلفة.. ومن ثم كيف يتأتى للبروتين أن ينتهي بالشكل الصحيح له بالضبط؟

لم أجد ما أقول له، فقال: لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالتخمين، أو باتباع طريقة التجربة والخطأ.. فعمر الكون نفسه يعد قصيراً مقارنة بالوقت الذي يستغرقه بروتين صغير لتجربة بلايين من الطيّات الممكنة واحدة وراء أخرى، وصولاً إلى الطيّة الصحيحة!

فتح حاسوبا كان أمامه، ثم فتح بعض ملفاته، وهو يقول: هل ترى سرعة هذا الجهاز في حل العمليات التي تعرض عليه؟

قلت: أجل.. هو إبداع من إبداع الحضارة.

قال: لكن عملية الطي وتجميع البروتينات لنفسها تحدث بسرعة أكثر بكثير.. إنها سرعة مذهلة جدا، تقريبا في أجزاء من مليون في الثانية.. رغم أن هذا الوقت يعتبر سريعا للغاية بالنسبة للإنسان، إلا أنه طويل بشكل ملحوظ لأجهزة الكمبيوتر لكي تقوم بمحاكاته.

فجهاز الكمبيوتر يحتاج يوما كاملا لكي يستطيع محاكاة 1 نانوثانية (1/1000000 من الثانية) من الطي، وبالتالي يحتاج الكمبيوتر إلي 10 آلاف يوم لكي يقوم بعملية طي واحدة.. وبحساب سريع: سيحتاج لثلاثين عاما لكي ينتهي منها، وهذه فترة طويلة جدا للحصول على نتيجة طي واحدة.

أراني بعدها فيديو لمحاكاة حاسوبية توضح مدى احتمالية توجيه وطى سلسله بسيطة جدا مكونه فقط من 6 احماض أمينيه حيث تمثل الخرزات الملونه الأحماض الأمينية فى سلسلة البروتين.

ثم قال: ليس هذا فحسب.. بل الأمر يتعدى ذلك إلى عمليه أخرى بالغة التعقيد لا يمكن اختزالها أو تبسيطها.

قلت: ما تقصد؟

قال: هل تعلم ماذا يحدث لولم يتم الطى بشكل صحيح، وكيف تتلافى الخلية ذلك؟

قلت: ماذا يمكن أن يحدث؟

قال: لو تأخرت في مرحلة بينيّة واحدة، لتعرضت للتكتل مع بروتينات أخرى، أثناء عملية الطي، وهذا ربما يكون مدمراً للخلية، حيث تتحول هذه البروتينات إلى (بريونات) أي بروتينات مُعْدِية، قد تصل إلى الخلايا العصبية في المخ، وتقوم بتدميرها، تاركة فيها فجوات عديدة فيبدو النسيج العصبي كالإسفنج.

وقد اكتسب هذا المجال النشط من البحث العلمي، المزيد من الاهتمام في الوقت الحاضر إثر تزايد معرفتنا بأن أخطاء عملية طي البروتين، ربما تفضي إلى اضطرابات صحية خطيرة مثل مرض (الزهايمر) وأمراض الاعتلال الدماغي الإسفنجي مثل مرض كرويتزفيلد جاكوب وهو الشكل البشري لمرض (جنون البقر)

لكن المذهل هو ما اكتشفه العلماء في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، حيث اكتشفوا أن الخلايا تحتوي على جزيئات خاصة مرافقة، هي نفسها عبارة عن بروتينات يطلق عليها (البروتينات المقترنة)، وهي تساعد في توجيه جزيئات البروتينات غيركاملة النضج بعيداً عن المؤثرات السيئة، وحمايتها لكي تنطوي بالطريقة الصحيحة.

وقد أصيب الباحثون بالدهشة من هذا (التعاون الجزيئي)، ومن ثم خضعت البروتينات المقترنة لأبحاث علمية دقيقة للتعرف على طبيعتها والدور الذي تقوم به في إتمام عملية طي البروتين.

الصدفة.. والتقنيات المعقدة:

بعد أن ذكر لي كل ذلك، وذكر لي مثل صاحبه استحالة أن يبيع علمه بالمال، رحت أبحث عن عضو آخر، كان اسمه [جوناثان ويلز]، وهو عالم البيولوجيا الجزيئية الأمريكي الذي اعترف بأنه كان ملحدا، ولكن بعد دراسته للبيولوجيا الجزيئية، ومع الاكتشافات الحديثة الدالة على الغائية والخلق تراجع، وأصبح من المؤمنين، بل صار من أعدى أعداء نظرية التطور وفضحها وكشف زيفها للناس، وقد ألف في ذلك كتابه الشهير [أيقونات التطور]

وقد سمعت أنه كان بالإضافة لتخصصه في علوم الحياة، صاحب مهارات كثيرة في تقنيات الإعلام الآلي، وقد علمت أنه قام بذلك المزج بينهما ليفهم سر الحياة من خلال تلك التقينات المعقدة التي توفرت في الحواسيب.

وقد أردت من زيارته، ومن وضعه ضمن فريق البحث، أن أستفيد من التقنيات الحديثة المتوفرة في ذلك العالم الجامد لأثبت من خلالها الصدفة في عالم الحياة.. لكن صاحبي، وبعد أن ذكرت له هذا، راح يقول لي، وهو يمسك بيده بعض القطع من حاسوب مفتوح كان أمامه: كما أن الخلية ممتلئة بالتعقيد، ولكل جزء منها دوره الخاص، فكذلك عالم الحواسيب ممتلئ بالدقة العالية، ولكل جزء دور المحدد المضبوط.

وضع القطعة من يده، ووضع الغطاء على الحاسوب، وراح يقول لي: دعنا منه.. وهيا بنا نتحدث.. فلعل حديثنا أنفع لنا من هذه الآلات المتجمعة، والتي لا معنى لها، ولا جدوى منها.

قلت: كيف تقول ذلك.. وهذه الآلات إبداع عظيم.. وبه وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من تطور؟

قال: لك الحق في ذلك.. ولكنه تطور متناقض.. أو بالأحرى هو تطور أعرج.. أو بالأحرى تطور أعور.

قلت: ماذا تعني؟

قال: ماذا يقول أصحابنا في الخلية الحية، وكيف نشأت أول خلية؟

قلت: هم يذكرون أنها نشأت بالصدفة، وأنه كان للزمن والمادة تأثيرهما في نشوئها، ونشوء كافة أصناف الحياة بعدها.

قال: ولكنهم إن ذكروا هذه الأجهزة.. والتي لا تعدو أن تكون سوى خردة بسيطة أمام تعقيد الحياة.. راحوا ينظرون إليها بانبهار.. وينفون عنها الصدفة.. بل ينسبون كل جزء فيها لصانعه ومصممه ومخترعه.

قلت: هم يذكرون ذلك لأنهم رأوا الصانع والمصمم والمخترع.. وقد صممه أمامهم.

قال: فهل رأوا أول خلية، وكيف نشأت؟

قلت: لا.. لا يمكن ذلك، فتلك الخلية نشأت قبل الإنسان، بل قبل كل الكائنات الحية.. ولم تكن هناك أي أداة لتصوير ذلك المشهد.

قال: فلم تجرؤوا وراحوا يصفونها بدقة، وكأنهم رأوها رأي العين.

قلت: الحدس العلمي هو الذي دلهم على ذلك..

قال: بل هو الرجم بالغيب، والهرب من الحقيقة.. فإن كان هذا الجهاز الميت محتاجا لعقل يصممه ويبدع في تفاصيله، فكيف بالحياة التي هي أكثر تعقيدا؟

راح يمسك بقطعة من قطع الأجهزة كانت أمامه، ثم يقول([9]): انظر إلى هذه الدائرة المتكاملة البسيطة.. إنها تتكوّن من ثلاثة ترانزيستورات فقط، علما بأنّ الترانزيستور ما هو إلا وصلتين من أشباه الموصلات، كل وصلة منها مجرد سيلكون مشوب بفلز آخر.. وهذه الدائرة تصنع متكاملة، حيث تطبع مباشرة من السيلكون والشوائب والمواد العازلة، لتخرج في صورة دائرة.

حدق في وجهي، ثم قال: أليس احتمال تكوّن هذه الدائرة في الطبيعة صدفةً، أسهل وأبسط بمراحل من تكوّن الخلية الحيّة بالصدفة؟

قلت: كيف تقول ذلك؟.. هذا مستحيل من الناحية العلمية.

قال: إننا في النهاية لا نتحدث سوى عن بعض الرمل.. فالسيلكون هو المادة الأساسية في الرمل.. وهو يملأ أرجاء الكرة الأرضية.. وملايين السنين كافية وأكثر من كافية لتفعل به المعجزات، تبعا لنظرية الصدفة الخلاقة.. فهل يا ترى تمّ العثور في طبقات الأرض المختلفة على شرائح تحتوي على هذه الدائرة؟

قلت: ذلك غير ممكن.. ما بك يا رجل؟

راح يستأنف حديثه من غير أن يلتفت لكلامي: إن كان تكون الأشياء المعقدة بالصدفة أمرا واردا، فمن المنطقي أن نتوقّع العثور على دوائر أخرى.. وربّما تكون بعض هذه الدوائر قد اتصلت بالصدفة، فكّونت دائرة تجمع خانتين جمعا حسابيا بنظام العد الثنائي.. وباتحاد اثنين منها تكوّنت دائرة تقوم بجمع خانتين ثنائيتين مع الأخذ في الاعتبار باقي جمع خانتين سابقتين.. وبصدف بسيطة أخرى نشأت دوائر الطرح والضرب والقسمة!

صحت فيه ليسمعني: إن ما تقوله هرقطة في ميزان العلم.

راح يكمل حديثه من غير أن يلتفت لي: وعلى مسار آخر، كانت مجموعات من القطع قد اتحدت مع بعضها بالصدفة لتكوين أوّل قلاّب.. وبتواليف منه ظهرت بالصدفة مسجلات القيم.. وبتجمع هذه الأشياء معا ظهرت وحدة الحساب والمنطق إلى الوجود بالصدفة.. وهكذا أخذت الطبيعة عبر ملايين السنين تكوّن أول مشغل دقيق في الوجود.. وهكذا استمرت سلاسل الصدف السعيدة بلا كلل ولا ملل عبر عشرات الملايين من السنين لصنع باقي أجزاء الحاسب الآلي!

لست أدري كيف شعرت بنشوة عند حديثه، فرحت أدع له الفرصة ليتحدث براحته، راح يقول، وهو سارح في خياله: ليس هذا فقط، فقد حدث بالصدفة أن وصل سلك هذا الحاسب إلى بركة حمضية تولّدت فيها الكهرباء، فبدأ عمله.. ومع بعض الصدف الصغيرة، راحت المعلومات تُخزن عشوائيا في ذاكرته، فتكوّن فيه أوّل نظام، لم يلبث أن تطوّر بالصدفة إلى أوّل ويندوز، ثمّ توالت إصدارات هذا الويندوز، وظهرت تطبيقات المكتب وبرامج عرض الصور والأصوات والأفلام، ثم ظهرت تطبيقات الرسوم المجسمة، وبدأت تصنع بالصدفة نماذج أفلام ثلاثية البعد فيها نباتات وحيوانات وبشر.

ثمّ تطوّرت لغات البرمجة على ذلك الكمبيوتر، وبدأت تتحوّل بالصدفة إلى لغات ذكاء صناعيّ!

وعلى مسار آخر، كانت تتطوّر آلات ومحركات، فاستخدمها برنامج الذكاء الصناعي ليصنع الإنسان الآلي، الذي استغل ذكاءه وبراعته الكيميائية لتخليق أوّل خلية حيّة معملية، وصنع نماذج النبات والحيوان والإنسان التي أنتجتها برامج الرسوم المجسمة، ليجعل من الكرة الأرضية مكانا أجمل!

وفي مسار آخر، كان واحد من الأناس الآليين يفكّر أنّه لا يمكن أن يكون قد جاء إلى الوجود بالصدفة، فاخترع فكرة الصانع الأوّل، وعلّمها لبعض الكهان، قبل أن تحلّ كارثة جيولوجية على الأرض تقضي على الحواسب والآلات فلم تبقَ إلا بعض البشر والكائنات الحية!

التفت إلي، وقال: هل سمعت ما ذكرت.. هيا أسرع بكتابته.. ولا تنس أن تكتب على هذه النظرية العلمية اسمي..

قلت: ولكن النظرية العلمية تحتاج إلى إثبات؟

قال: لا تقلق.. فكلّ ما على العلماء من الآن فصاعدا هو البحث عن بقايا الجهاز الأول التي انقرضت في طبقات الصخور الأولى.. وربما يأتي في المستقبل عالم عبقريّ، ويكتشف أنّ كتلة من الرمال مشوبة بالفسفور قد تصلح كبداية لأشباه الموصلات، وتوضع في متاحف التاريخ الطبيعي، وتمنح الاسم العلمي سليكينو ناندينو!

ثمّ يفكّر آخر في تلفيق دليل من أجل الشهرة، فيلفق أوّل بدائية، وتعرف في المراجع باسم [ناندينو كمبورس].. وهكذا تتوالى الاكتشافات العلمية العبقرية التي تؤكد نظريتي، مهما علا صراخ أعداء العلم والحقيقة!

التفت إلي، وقال: طبعا إن واجهنا بعض السذج، فسنجيبهم بكل بساطة: مهلا.. تروّوا في أحكامكم.. من يزدري النتيجة التي وصلت إليها هذه النظرية، فعليه أن يعود إلى البداية: هل من المستحيل تكوّن أي شيء بالصدفة؟.. تذكروا أنه مهما كان الاحتمال ضئيلا، فلدينا ملايين السنين لحدوث الصدفة.. إنه نفس الكلام الساذج الذي تقولون إنه علم، وإنه أصل المخلوقات الحية؟!.. فلماذا ترفضون هذا وتصدقون ذاك؟!

لم أدر ما أجيبه به، فقال: هذا الذي ذكرته لك ليس كلامي، إنه كلام العلماء الكبار الذين تقرون لهم بالعلمية.. لقد قال السير [فْرِد هويل] في إحدى مقابلاته التي نُشرت في مجلة الطبيعة في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1981: (إنّ ظهور خليّة حيّة للوجود عن طريق الصدفة، يشبه ظهور طائرة بوينج 747 عن طريق الصدفة، نتيجة هبوب عاصفة على محلات لأدوات الخردة!)

***

بعد أن مررت على هؤلاء الأعضاء جميعا، وغيرهم ممن لم أذكر لكم، جلست مع نفسي، واسترجعت كل ما سمعته، ورحت أتأمله بعيدا عن كل ألوان الهوى، وما هي إلا لحظات حتى رحت أمزق الشيك الذي قدم لي.. ثم أقول مخاطبا ربي من غير أن أعرفه: يا رب كل شيء.. يا من أنشأ الحياة وأوجدها.. أعتذر إليك، لأني كنت أريد أن أصبح معولا يهدم الحقائق.. فأبت حقائقك إلا أن تنتصر.. يا رب كل شيء ومليكه.. يا من أبدع كل ما في الكون والحياة.. ودبر كل ما فيهما.. ها أنذا بين يديك قد مزقت من أجلك كل الأموال التي وهبت لي.. فهب لي من فضلك العظيم ما يخلصني من الورطة التي وقعت فيها.

قلت ذلك، ثم ذهبت إلى مدير المركز، وأنا أحمل الشيك الممزق، ثم أعرضه عليه، وأنا أقول: ها هو الشيك الذي سلمته لي.. لم أصرف منه شيئا.. وأنا أعتذر إليك.. وأقدم في نفس الوقت استقالتي من العمل في مركزكم.

قال لي، وهو مندهش لما يرى: لكنك ستعرض نفسك للسجن.

قلت: السجن أهون علي من أن أشوه حقائق الوجود.. وأصبح شيطانا يحارب ربه.

قلت ذلك، ثم أردت أن أنصرف.. لكنه استوقفني، ثم راح يكتب شيئا.. وهو يقول: بورك فيك.. لقد نجحت في الاختبار.. وهذا الشيك من عندي.. وليس من المركز.. وفيه سداد ديونك جميعا.. بالإضافة إلى أموال أخرى يمكنك أن تستفيد منها في بناء مركز أبحاث أكثر تطورا.. خذه واعتبره جواب الله لك.. فلا يضيع أحد سأل الله، ومد يده إليه.


([1]) انظر: السّلوك الواعي لدى الخلية: هارون يحيى، ترجمة: مصطفى الستيتي..

([2]) من مقال بعنوان: ثمانية نظريات حول نشأة الحياة على اﻷرض، موقع الباحثون المغاربة.

([3]) نقل المقالة الكاتب الإنجليزي فرانسيز هيتشينج في كتابه الشهير (عنق الزرافة – حيث أخطأ داروين).

([4]) انظر: مقالا بعنوان [نظريات نشأة الحياة]، والمعلومات الواردة فيه موجودة في مواقع ودوائر معارف علمية كثيرة.

([5])  انظر: لا يعرف الله إلا بالعقل، هارون يحي.

([6]) انظر مقالا بعنوان: اعادة تحليل تجارب ستانلي ميلر المنسية عن نشأة الحياة!، من موقع: أنا أصدق العلم.

([7]) انظر: نظرية التطور وحقيقة الخلق،  أحمد يحيى ، وكتب هارون يحي في الرد على نظرية التطور.

([8]) استفدنا المادة العلمية الواردة هنا من مقال بعنوان (طيّ البروتين: الرقصه البيولوجيه التى اعجزت العقول)، إعداد فريق صفحة نظرية التطور وحقيقة الخلق، بمنتدى التوحيد.

([9]) استفدنا المادة العلمية الواردة هنا من: كتاب [خرافة دارون: حينما تتحول الصدفة إلى علم]، م. محمد حمدي غانم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *