الشيخان.. وصناعة الوهم

الشيخ الأكبر.. وشيخ الإسلام.. لقبان يطلقان على أكبر شيخين تستند إليهما الكثير من المواريث الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية..
أما أولهما، فكان له تأثيره الخاص في البيئة الصوفية.. وهو الذي استطاع ـ بنسبة نجاح معتبرة ـ تحويلها من الرؤية القرآنية المعتمدة على المجاهدات والسلوك التحققي والتخلقي.. مع البعد عن الشطحات والطامات وغيرها.. إلى وجهة أخرى غارقة في الأوهام والدجل والبعد عن القيم القرآنية، مع الغوص في أوحال الخرافة والأسطورة المستمدة من كل الملل والنحل.
وأما ثانيهما، فكان له تأثيرة الخاص في البيئة السلفية والحركية، وهو الذي استطاع ـ بنسبة نجاح كبيرة جدا ـ أن يحولها إلى أداة للتفرقة والطائفية.. بالإضافة إلى تغذيتها بالخرافة والأسطورة والوثنية.
ومع الصراع الشديد بينهما في الظاهر إلا أنهما ـ في الحقيقة والجوهر ـ يحملان صبغيات كثيرة مشتركة.. فكلاهما مصدر للوهم.. وكلاهما انحرف بالفكر والمجتمع الإسلامي عن الصورة التي وضعها القرآن الكريم..
والأخطر من ذلك أن المتأثرين بكليهما كثير.. وكلهم يقولون بعصمة شيخهم.. ويقبلون منه كل شيء.. وبذلك تحولت كل الأوهام التي نشراها في تراثهما الضخم أوهاما معصومة، يحرم نقدها، لأنها تستند إلى الشيخين المعصومين: ابن عربي.. وابن تيمية.
ومن أمثلة ذلك التقديس المطلق لمن يسمونه الشيخ الأكبر.. أننا لا نكاد نرى صوفيا من الصوفية المتأخرين إلا ويثني عليه، بل يعتبره لسان العارفين، ومحققهم، وأنه النهاية التي يعودون إليها، بل الختم الذي ختمت به الولاية، وانتهت إليه.
ومن أمثلة تصريحاتهم في ذلك ما عبر عنه ابن حجر الهيتمي الشافعي بقوله: (الذي أثرناه عن أكابر مشايخنا العلماء الحكماء الذين يُستسقى بهم الغيث، وعليهم المعوّل وإليهم المرجع في تحرير الأحكام وبيان الأحوال والمعارف والمقامات والإشارات، أن الشيخ محي الدين بن عربي من أولياء الله العارفين ومن العلماء العاملين، وقد اتفقوا على أنه كان أعلم أهل زمانه، بحيث أنه كان في كل فن متبوعاً لا تابعاً، وأنه في التحقيق والكشف والكلام على الفرق والجمع بحر لا يجارى، وإمام لا يغالط ولا يمارى، وأنه أورع أهل زمانه وألزمهم للسنّة وأعظمهم مجاهدة)([1])
وصرح بذلك ابن كمال باشا، مفتي الدولة العثمانية، فقال: (أيها الناس، اعلموا أن الشيخ الأعظم المقتدى الأكرم قطب العارفين وإمام الموحدين، محمد بن علي بن العربي الطائي الأندلسي، مجتهد كامل ومرشد فاضل، له مناقب عجيبة وخوارق غريبة وتلامذة كثيرة مقبولة عند العلماء والفضلاء، فمن أنكره فقد أخطأ، وإن أصرَّ في إنكاره فقد ضلَّ، يجب على السلطان تأديبه، وعن هذا الاعتقاد تحويله، إذ السلطان مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)([2])
ومنهم عبد الوهاب الشعراني، الذي قال عن الشيخ الأكبر: (إِن الشيخ من كمّل العارفين بإِجماع أهل الطريق، وكان جليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الدوام)([3])
وهكذا نجد الثناء العريض على من يسمونه شيخ الإسلام.. وهو ثناء لا يقل عن الثناء الذي وزع لمن يسمونه الشيخ الأكبر..
ومن أمثلة ذلك قول الحافظ عماد الدين الواسطي: (والله، ثم والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية، علماً، وعملاً، وحالاً، وخلُقاً، واتِّباعاً، وكرماً، وحلْماً، وقياماً في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، أصدق النَّاس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همةً، وأسخاهم كفّاً، وأكملهم اتباعاً لسنَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا مَن تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة)([4])
ومثلما رأينا مفتى الدولة العثمانية يتشدد مع المنكرين على من يسمونه الشيخ الأكبر، نجد لجنة الفتوى الدائمة في السعودية تتشدد مع من ينكر على من يسمونه شيخ الإسلام، فقد ورد في بعض فتاواها: (إن الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، يدعو إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، قد نصر الله به السنَّة، وقمع به أهل البدعة والزيغ، ومن حكم عليه بغير ذلك: فهو المبتدع، الضال، المضل، قد عميت عليهم الأنباء، فظنوا الحق باطلاً، والباطل حقّاً، يَعرف ذلك من أنار الله بصيرته، وقرأ كتبه، وكتب خصومه، وقارن بين سيرته وسيرتهم، وهذا خير شاهد وفاصل بين الفريقين)([5])
وهكذا ألفت في كلا الشيخين الكثير من الكتب التي تزرع في أذهان العامة والخاصة تعظيمه وتقديسه وحرمة نقده.. وحرمة التعرض له.
فمن أمثلة ما ألف في الشيخ الأكبر: تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي، لجلال الدين السيوطي.. ومنها الاغتباط بمعالجة ابن الخياط للفيروزآبادي الذي يرد فيه على ابن الخياط ما اتّهم به الشيخ ابن عربي في عقيدته، وله أيضا الرد على المعترضين على الشيخ محيي الدين.. ومنها الرد المتين على منتقص العارف محيى الدين للشيخ عبد الغني النابلسي.. ومنها تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء للشيخ عبد الوهاب الشعراني، وله أيضا: الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر.. والقول المبين في الرد عن الشيخ محيي الدين.. وغيرها كثير.
أما ما ألف في شيخ الإسلام، فهو لا يعد ولا يحصى.. فكل يوم تصدر دراسة جديدة، ومقال جديد.. ولا نجد إلا من يسبح بحمده، ويقدسه ليل نهار.. ومن أمثلة ما كتب عنه، ما كتبه تلميذه ابن عبدالهادي تحت عنوان: (الصارم المنكي في الرد على السبكي)، وكتابه: (الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية).. ومنها (دعاوى المناوئين لشيخ الأسلام ابن تيمية عرض ونقد) لعبدالله الغصن.. ومنها المقالات السنية في تبرئة شيخ الأسلام ابن تيمية، لعبدالرحمن دمشقية.. ومنها دفع الشبه الغوية عن شيخ الأسلام ابن تيمية لمراد شكري.. وغيرها كثير.
بناء على هذا نحاول هنا ـ باختصار ـ أن نستعرض قاسمين مشتركين كبيرين بينهما، ودورهما في صناعة الوهم في ثقافتنا ومجتمعاتنا الإسلامية لأجيال طويلة.
أما أولهما، فيتعلق بصناعة الوهم المرتبط بالعقائد والأخبار والغيبيات.. وأما الثاني فيرتبط بصناعة الوهم المرتبط بالقيم والسلوك والأخلاق.
وأول تلك القواسم المشتركة وأخطرها هو ذلك التجاسر والجرأة على على عوالم الغيب التي حجبت عنا.. والتي نص القرآن الكريم على أنها ستظل محجوبة إلى أن يكشفها الله لمن شاء من عباده في الوقت الذي يشاء، كما قال تعالى عن مشهد من مشاهد ذلك الكشف: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} [ق:22]
أما ما عدا ذلك، فإن الله تعالى أخبر أن كل من يزعم شيئا من وصف عالم الغيب من غير الموحى إليهم من المعصومين كذاب ومفتر على الله، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون} [الأنعام:21]
بل إن الله تعالى قرن ذلك الافتراء بادعاء الوحي، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُون} [الأنعام:93]
وأخبر تعالى أن من يفعل ذلك يقوم ـ شعر أو لم يشعر ـ بعملية تضليل للناس، أو دعاية للوهم، كما قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأنعام:144]
هذه نماذج عن الآيات القرآنية الكريمة التي تنهى عن التجاسر على الكلام في عوالم الغيب من دون بينة أو وسائل معصومة تسمح بذلك.
لكن الشيخين اللذين ذكرنا راحا يقحمان أنفسهما في هذه العوالم بجرأة عجيبة.. أما أحدهما فكان يستند فيها للكشف والإلهام.. وأما الثاني فيستند لمن هب ودب من السلف الذين يعتمدهم، ومن التحاليل التي يحللها ليكتشف من خلالها العوالم التي شاء الله أن يخفيها عنا، وأن تظل في غياهب الغيب إلى أن يأذن الله بكشفها.
ومن الأمثلة على ذلك التجاسر على الغيب المرتبطة بمن يسمونه الشيخ الأكبر تلك الدعاوى المرتبطة بتلقيه تلك المعارف من الله تعالى مباشرة، كقوله في [الفتوحات المكيّة] عند حديثه عن مصدر ما ورد فيه من المعارف الكثيرة المرتبطة بعالم الغيب: (فنحن بحمد الله ممن شاء من عباده، فالعلم الإلهي هو الذي كان الله سبحانه معلمه بالإلهام والإلقاء وبإنزال الروح الأمين على قلبه، وهذا الكتاب الفتوحات من ذلك النمط عندنا، فو الله ما كتبت منه حرفا إلا عن إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفث روحاني في روع كيانى، هذا جملة الأمر، مع كوننا لسنا برسل مشرعين ولا أنبياء مكلفين، بكسر اللام اسم فاعل، فإن رسالة التشريع ونبوة التكليف قد انقطعت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا رسول بعده صلى الله عليه وآله وسلم ولا نبي يشرع ولا يكلف، وإنما هو علم وحكمة، وفهم عن الله، فيما شرعه على ألسنة رسله وأنبيائه عليهم سلام الله، وما خطه وكتبه في لوح الوجود من حروف العالم وكلمات الحق، فالتنزيل لا ينتهي، بل هو دائم دنيا وآخرة)([6])
وما ذكره الشيخ الأكبر من انقطاع النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقتضي منه التوقف في كل ما يكشف له، أو يلهم به، لأنه لا يدري هل هو كشف صادق، أو كشف مغشوش، وهل هو إلهام صاف، أو أن الشياطين قد أوغلت فيه.. أما أن ينشره، ويزعم صدقه المطلق، فإنه جرأة على مقام النبوة، لأن النبوة هي التبليغ عن الله، والتعريف بعالم الغيب، وما كان لأحد لم يرزقه الله هذا الفضل أن يدعي شيئا.
بل إن الله تعالى، وفي أمور تاريخية بسيطة أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن ليعلم ذلك لولا وحي الله له، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} [آل عمران:44]، وقال له في شأن موسى عليه السلام: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِين} [القصص:44]
لكن ابن عربي يتجاسر على ما هو أعظم من ذلك، فيصور المشاهد الكثيرة التي رآها وسمعها، وكأنها حقائق مطلقة.. ونحن لا ننكر عليه أن يكون من أهل الكشف والشهود، ولا من أهل الإلهام.. ولكنا ننكر عليه أن يسطر ذلك كعقائد تضاف للعقائد التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إن العقائد التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قليلة جدا مقارنة بتلك العقائد الكثيرة التي أدخلها ابن عربي إلى عقائد الإسلام.. تحت أي اسم من الأسماء.
وليته تعامل مع تلك الغيبيات الكثيرة التي لا يخلو منها كتاب من كتبه مثلما تعامل الغزالي الذي كان شديد الحرص على ألا يسطر في كتبه شيئا خارج النطاق الذي سمحت به الشريعة، فقد كان يقول كل حين مثل قوله: (وهذه الحقائق داخلة في علم المكاشفة ووراءه سر القدر الذي منع من إفشائه فلنقصر عن ذكره)([7])
لكن هذا الموقف الورع من الغزالي لم يرض أتباع ابن عربي، ربما لأنهم شديدو الفضول، وربما يريدون أن يكشف لهم ما كشف له من غير ممارسة رياضة ولا مجاهدة.
ولست أدري كيف يسمون أنفسهم بعد ذلك صوفية، مع أن الصوفي هو الذي جاهد وسلك ووصل إلى الفتح الحقيقي، لا الفتح الذي ينقله عن غيره تقليدا.
والمشكلة التي ورثها ابن عربي لأتباعه في هذا المجال هو أنه تركهم بدل التجرد والتحقق والسلوك يبحثون في عوالم الغيب المجهولة، ويريدون التعرف على أسرارها بعيدا عن أنوار العصمة، وبعيدا عن مناهج البحث العلمي التي أتاحها الله لنا.
وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الوجهة التي توجهها الصوفية ـ بتأثير كبير من ابن عربي ـ فقال: (وربّما قصد بعض المصنّفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض بالنّسبة إلى أهل النّظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغانيّ شارح قصيدة ابن الفارض في الدّيباجة الّتي كتبها في صدر ذلك الشّرح، فإنّه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أنّ الوجود كلّه صادر عن صفة الوحدانيّة الّتي هي مظهر الأحديّة وهما معا صادران عن الذّات الكريمة الّتي هي عين الوحدة لا غير. ويسمّون هذا الصّدور بالتّجلّي. وأوّل مراتب التّجليّات عندهم تجلّي الذّات على نفسه وهو يتضمّن الكمال بإفاضة الإيجاد والظّهور.. وهذا الكمال في الإيجاد المتنزّل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكماليّة والحقيقة المحمّديّة وفيها حقائق الصّفات واللّوح والقلم وحقائق الأنبياء والرّسل أجمعين والكمّل من أهل الملّة المحمّديّة. وهذا كلّه تفصيل الحقيقة المحمّديّة. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائيّة وهي مرتبة المثال ثمّ عنها العرش ثمّ الكرسيّ ثمّ الأفلاك، ثمّ عالم العناصر، ثمّ عالم التّركيب. هذا في عالم الرّتق فإذا تجلّت فهي في عالم الفتق. ويسمّى هذا المذهب مذهب أهل التّجلّي والمظاهر والحضرات وهو كلام لا يقتدر أهل النّظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدّليل)([8])
ولم يتوقف أمر الشيخ الأكبر عند هذا الحد، بل راح إلى الحقائق الكبرى التي جاء بها القرآن الكريم حول الله تعالى يشكك فيها، ومن أهمها، وهو أساسها وركنها الركين تنزيه الله تعالى، فالله تعالى كما تنص النصوص المقدسة، بل كما ينص أولياء هذه الأمة الكبار لا يمكن أن يشبه خلقه بأي وجه من الوجوه، فمعرفته هي معرفة التنزيه المطلق.. لكن ابن عربي ـ مثله مثل ابن تيمية ـ ينكر هذا النوع من المعرفة.
ومن أمثلة ذلك ما عبر عنه بقوله في الفص الهاروني عندما راح يدافع عن عبادة العجل، ويعتبره مظهرا من مظاهر عبادة الله تعالى: (فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا يُعبد إلا اياه: وما حكم الله بشيء إلا وقع. فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه. فإنَّ العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فكان موسى يربي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن)([9])
وهكذا راح يحرف معنى قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء:23] من القضاء التشريعي إلى القضاء التكويني المحتوم.. والذي يجعل من كل تلك الأوثان والأصنام والآلهة التي اخترعها الإنسان، أو ضلله بها الشيطان.. كلها عبادة لله تعالى.
ولو أنه تأمل في الآية تأملا بسيطا لوجد فيها خلاف ما اعتقد.. فقد أخبر الله تعالى أنه قضى على عباده ألا يعبدوا إلا إياه.. وقضى كذلك ـ حسبما تنص الآية الكريمة ـ على الإحسان للوالدين، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]،.. وعلى مقتضى قوله في حتمية القضاء يكون كل تصرف مع الوالدين إحسانا.. سواء كان برا بهما، أو عقوقا لهما.
بل إنه صرح في الفص النوحي بما هو أخطر من ذلك، فقال: (التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد. فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب. ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم يَرَ غير ذلك فقد أساء الأدب وأكذب الحقَّ والرسلَ صلوات الله عليهم وهو لا يشعر، ويتخيل أنه في الحاصل وهو من الفائت. وهو كمن آمن ببعض وكَفَرَ ببعض، ولا سيما وقد علم أنَّ أَلْسِنَةَ الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان. فإن للحق في كل خلق ظهوراً: فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته: وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبِّر للصورة. فيؤخذ في حد الإنسان مثلًا ظاهره وباطنه، وكذلك كل محدود. فالحق محدود بكل حد، وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته)([10])
وبناء على هذا وضع ابن عربي وأتباعه عقيدة خاصة بالله، ممتلئة بالغيبيات التي لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة ولا من العقل.. فإن سئلوا عن دليلها ذكروا أنه الكشف.. فإن سئلوا: هل كشف لكم أنتم هذه المعاني.. أم أنكم تلقيتموها تقليدا؟.. وطبعا جوابهم هو ذلك التقديس الذي يولونهم لمن يسمونه الشيخ الأكبر، فأصبح كلامه نصا مقدسا لا يحتاج إلى براهين تثبته.
وما ذكرناه هو جزء بسيط من جرأة ابن عربي على الغيبيات، وإلا فإن كل كتبه تتناول هذه الغيبيات بطريقة عجيبة، فهو يتقبل كل ما ورد في الروايات من النصوص من غير تمحيص ولا تحقيق في سندها، ثم يذكر ثبوتها عن طريق الكشف.
ومن أمثلة ذلك قوله في الفتوحات، وهو يتحدث عن بدء الخلق: (.. فخلق الماء- سبحانه- بردة جامدة، كالجوهرة في الاستدارة والبياض. وأودع فيها بالقوة ذوات الأجسام وذوات الأعراض، ثم خلق العرش واستوى عليه اسم الرحمن. ونصب الكرسي، وتدلت إليه القدمان. فنظر بعين الجلال إلى تلك الجوهرة، فذابت حياء، وتحللت أجزاؤها فسالت ماء. وكان عرشه على ذلك الماء قبل وجود الأرض والسماء. وليس في الوجود، إذ ذاك، إلا حقائق المستوي عليه والمستوي والاستواء. فأرسل النفس، فتموج الماء من زعزعه وأزبد، وصوت بحمد الحمد المحمود الحق، عند ما ضرب بساحل العرش، فاهتز الساق وقال له: أنا أحمد! فخجل الماء، ورجع القهقرى يريد ثبجه، وترك زبده بالساحل الذي أنتجه. فهو مخضة ذلك الماء، الحاوي على أكثر الأشياء. فأنشأ- سبحانه- من ذلك الزبد، الأرض، مستديرة النشء، مدحية الطول والعرض. ثم أنشا الدخان من نار احتكاك الأرض عند فتقها. ففتق فيه السماوات العلى، وجعله محل الأنوار ومنازل الملأ الأعلى. وقابل بنجومها المزينة لها النيرات، ما زين الأرض من أزهار النبات)([11])
وخير تعليق على هذه الجرأة على عالم الغيب، وبدأ الخلق قوله تعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]
ومن أمثلة تلك الجرأة الخطيرة على عالم الغيب قوله: (وأما أسرار أهل الإلهام المستدلين فلا تتجاوز سدرة المنتهى، فان إليها تنتهي أعمال بنى آدم. ونهاية كل أمر، إلى ما منه بدأ. فان قال لك عارف، ممن لا علم له بهذا الأمر: (إن الكرسي موضع القدمين)، فقل له: (ذلك عالم الخلق والأمر، والتكليف إنما انقسم من السدرة، فإنه قطع أربع مراتب، والسدرة هي المرتبة الخامسة (للوجود). فنزل (الحكم الشرعي) من قلم (عقل كلى)، إلى لوح (نفس كلية)، إلى عرش (طبيعة كلية) إلى كرسى (هيولى، هباء، مادة كلية)، الى سدرة (جسم كلى)([12])
ثم ذكر كيف تنزلت الأحكام الشرعية من هذه المراتب، فقال: (فظهر الواجب من القلم. وظهر المندوب من اللوح، وظهر المحظور من العرش. وظهر المكروه من الكرسي. وظهر المباح من السدرة. والمباح قسم (أي حظ) النفس)
ثم راح يذكر محال صعود الأعمال، فقال: (وإذا ظهرت قسمة الاحكام الشرعية من السدرة، فإذا صعدت الأعمال، التي لا تخلو من أحد هذه الأحكام، لا بد أن تكون نهايتها إلى الموضع الذي منه ظهرت، إذ لا تعرف من كونها منقسمة إلى السدرة. ثم يكون من العقل، الذي هو القلم، نظر إلى الأعمال المفروضة، فيمدها بحسب ما يرى فيها. ويكون من اللوح نظر إلى الأعمال المندوب إليها، فيمدها بحسب ما يرى فيها. ويكون من العرش نظر إلى المحظورات- وهو (أي العرش) مستوى الرحمن- فلا ينظرها إلا بعين الرحمة، ولهذا يكون مآل أصحابها إلى الرحمة، ويكون من الكرسي نظر إلى الأعمال المكروهة، فينظر إليها بحسب ما يرى فيها. وهو (أي الكرسي) تحت حيطة العرش، والعرش مستوى الرحمن. والكرسي، موضع القدمين. فيسرع العفو والتجاوز عن أصحاب المكروه من الأعمال. ولهذا يؤجر تاركها، ولا يؤاخذ فاعلها)([13])
بل إن كشفه امتد إلى جهنم، فراح يصفها بدقة بأوصاف لم ترد في النصوص المقدسة، فقال: (وأوجدها الله [أي جهنم] بطالع الثور، ولذلك كان خلقها، في الصورة، صورة الجاموس سواء. هذا الذي يعول عليه عندنا. وبهذه الصورة رآها أبو الحكم بين برجان في كشفه. وقد تمثل لبعض الناس، من أهل الكشف، في صورة حية. فيتخيل أن تلك الصورة هي التي خلقها الله عليها، كأبي القاسم بن قسى وأمثاله، ولما خلقها الله تعالى، كان زحل في الثور، وكانت الشمس والأحمر في القوس، وكان سائر الدراري في الجدي. وخلقها الله تعالى من تجلى قوله، في حديث مسلم: (جعت فلم تطعمني! وظمئت فلم تسقني! ومرضت فلم تعدني! وهذا أعظم نزول نزله الحق إلى عباده في اللطف بهم، فمن هذه الحقيقة خلقت جهنم. أعاذنا اللَّه، وإياكم، منها! فلذلك تجبرت على الجبابرة، وقصمت المتكبرين)([14])
ويتحدث عن المأدبة المعدة لأهل الجنة، والمندبة المعدة لأهل النار، فيقول: (في ذلك الوقت يجتمع أهل النار في مندبة. فأهل الجنة في المآدب. وأهل النار في المنادب. وطعامهم في تلك المأدبة زيادة كبد النون. وأرض الميدان درمكة بيضاء، مثل القرصة. ويخرج من الثور الطحال لأهل النار. فيأكل أهل الجنة من زيادة كبد النون. وهو حيوان بحرى مائي. فهو عنصر الحياة المناسبة للجنة. والكبد بيت الدم. وهو بيت الحياة. والحياة حارة رطبة. وبخار ذلك الدم هو النفس، المعبر عنه بالروح الحيواني، الذي به حياة البدن. فهو بشارة لأهل الجنة ببقاء الحياة عليهم. وأما الطحال في جسم الحيوان، فهو بيت الأوساخ، فان فيه تجتمع أوساخ البدن، وهو ما يعطيه الكبد من الدم الفاسد. فيعطى لأهل النار يأكلونه. وهو من الثور. والثور حيوان ترابى، طبعه البرد واليبس. وجهنم على صورة الجاموس. والطحال من الثور، لغذاء أهل النار، أشد مناسبة: فبما في الطحال من الدمية، لا يموت أهل النار، وبما فيه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم، لا يحيون ولا ينعمون. فيورثهم أكله سقما ومرضا)([15])
ويتحدث عن عدد درجات الجنة، فيقول: (فتحوى درجات الجنة من الدرج فيها على خمسة آلاف درج ومائة درج وخمسة أدراج لا غير. وقد تزيد على هذا العدد بلا شك. ولكن ذكرنا منها ما اتفق عليه أهل الكشف، مما يجرى مجرى الأنواع من الأجناس. والذي اختصت به هذه الأمة المحمدية على سائر الأمم، من هذه الأدراج، اثنا عشر درجا لا غير، لا يشاركها فيها أحد من الأمم. كما فضل صلى الله عليه وآله وسلم غيره من الرسل، في الآخرة، بالوسيلة وفتح باب الشفاعة، وفي الدنيا بست لم يعطها نبى قبله كما ورد في الحديث الصحيح، من حديث مسلم بن الحجاج. فذكر منها: عموم رسالته، وتحليل الغنائم، والنصر بالرعب، وجعلت له الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها له طهورا، وأعطى مفاتيح خزائن الأرض)([16])
هذه بعض مظاهر جرأة الشيخ الأكبر على عوالم الغيب.. أما جرأة من يسمونه شيخ الإسلام، فهي لا تقل عنها.. والفرق بينهما أن الأول يستند للكشف والإلهام، والثاني يستند لكل المجسمة والمشبهة يهودا كانوا أو مسلمين، معصومين كانوا أو غير معصومين، وقد ضربنا الأمثلة الكثيرة على ذلك في كتابنا [شيخ الإسلام في قفص الاتهام]، ولذلك سنكتفي هنا بالإشارة إلى بعض ما ذكره في رسالته العرشية.. واسم الرسالة نفسها يدل على تلك الجرأة على عالم الغيب.. فالله تعالى ذكر العرش في القرآن الكريم.. وذكر ارتباطه بعظمته.. ولم يذكر شيئا من أوصافه، لعدم طاقة العقول ذلك.. وليبقى يمد ذهن المؤمن بالشعور بالعجز عن تحديد عظمة الله أو تقييدها بالأوصاف.
لكن ابن تيمية راح يفصل فيه بحسب معارفة الفيزيائية البسيطة التي لا تعدو ما يراه ويعيشه في هذا العالم من ظواهر وقوانين، وكأن قدرة الله محكومة بهذه القوانين، ولا تقدر على مجاوزتها.. فقد قال يتحدث عنه في المقام الثالث: (لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك، ويكون محيطا بها، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا، فإن كان الأول، فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب، وأن الجهة السفلى هو المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان: العلو والسفل فقط.. وأما الجهات الست فهي الحيوان، فإن له ست جوانب، يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه، وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا. لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات، والجبال والأنهار الجارية.. فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قدر أن هناك أحدا لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي، ولا بالعكس.. وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال: إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه)([17])
إلى آخر كلامه الطويل، والذي يحاول أن يبين مكان العرش في نفس الوقت الذي يقع فيه في أخطاء جغرافية وفلكية بسيطة تتعلق بالأرض التي يعيش عليها، والتي يعرفها أبسط الصبيان في عصرنا.
فهو يزعم أن البشر لا يعيشون إلا في الجزء العلوي من الكرة الأرضية.. وأن الجزء السفلي منها بحر محيط.. وأنها ثابتة.. وأن العرش يحاذيها من جهة العلو.. إلى آخر أوهامه التي لا يزال يتلقاها أتباعه بالقبول، وكأنها وحي يوحى.
ثم راح يطرح تساؤلا عجيبا، لم يكن في حاجة لطرحه، وهو عن سر التوجه في الدعاء إلى جهة العلو.. وكان يمكنه أن يجيب عنه بأجوبة كثيرة، أسهلها أن هذا من العبادات، وأنه غير معقول المعنى.. أو أن يذكر بأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة.. أو أن يقول غير ذلك.
لكنه ـ مثله مثل الشيخ الأكبر ـ راح يجيب بالأوهام، ليحول الحقائق إلى أوهام، فيقول: (فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا، وهذا قلب للحقائق، إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا. أهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعا في المركز، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك، كالمشرق والمغرب، فإنه لو قدر أن رجلا بالمشرق في السماء أو الأرض ورجلا بالمغرب في السماء أو الأرض، لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض، وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين: أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء، أو إلى ما فوق، كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك، ولا يقول عاقل: إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا أنه يذهب يمينا أو شمالا، أو أماما أو خلفا، إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد؛ لأنه أي مكان ذهب إليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه، وكان الفلك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلا وتعبا من غير فائدة. ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب، فتنحرف عن سمت الرأس، فكيف بمن هو فوق كل شيء دائما لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟)([18])
إلى آخر كلامه الطويل الذي يتناقض مع أبسط مبادئ الفلك والجغرافيا وكل العلوم.. ولهذا نرى أتباعه إلى الآن يبغضون العلوم الحديثة وينفرون منها، لأنها كشفت الكثير من الأوهام التي تعلق بها شيخهم شيخ الإسلام.
هذا مجرد مثال، ومن شاء تفاصيل أكثر، فليطالع هذه الرسالة، أو فليسلمها لباحث محايد ليكشف له مقادير التضليل الموجودة فيها، والتي على أساسها وضح الشيخ خارطة الكون.. وهو لا يعرف خارطة الأرض..
ولعل تلك الأفكار التي كان ينشرها هو وأمثاله عن كون ما يسميه الجزء السفلي من الأرض مجرد بحر محيط، وليس فيه كائنات، هو الذي حال بين المسلمين وبين اكتشاف الكثير من اليابسة، ليكتشفها غيرهم، ويستفيد منها سواهم.. ويبقى المسلمون ضحايا الأوهام التي وضعها من نصبوهم أندادا من دون الله.
عند النظر إلى القيم التي بثها القرآن الكريم، أو السنة المطهرة، أو ورثة النبوة المكتفين بمعينها الصافي، ونقارنها بما بثه ونشره كلا الشيخين ابن عربي وابن تيمية نجد فروقا كبيرة جدا.
فالقيم القرآنية والنبوية تضع صورة مميزة جميلة للشخصية المسلمة تمتلئ بكل القيم النبيلة.. فهم {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ } [التوبة:112]، وهم المخبتون {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [الحج:35]، وهم {عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 63 – 67]، وغير ذلك من الأوصاف الكثيرة المذكورة في القرآن الكريم، ومثلها في السنة المطهرة، ومثلها في كلمات أولياء الله من ورثة النبوة.
لكنا إن رجعنا إلى ذينك الشيخين نجد صورة أخرى للشخصية المسلمة، تختلف عن تلك الصورة القرآنية والنبوية.
أما من يسمونه شيخ الإسلام، فقد صور الشخصية المسلمة بصورة العنيف المتشدد الإرهابي الذي يهجر كل من يخالفه، ويعبس في وجهه، ويتحين أي فرصة لقتله.
ومن أمثلة ذلك قوله ـ وهو يضع قواعد التعامل مع المبتدعة، والذين يشملون عنده كل المسلمين المخالفين لهم ـ: (فإن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يُناكَحون، فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، ولهذا يفرّقون بين الداعية وغير الداعية، لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخــلاف الكــاتم)([19])
وقال في [الفتاوى الكبرى]: (والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل، وتارة بما دونه، كما قتل السلف جهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وغيلان القدري، وغيرهم، ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلا بد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله)([20])
ثم بين نوع البدع التي يقتل على أساسها هذا النوع من الناس، فقال: (والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة: كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وغيرهما قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع. الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة. قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد. والجهمية نفاة الصفات الذين يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن محمدا لم يعرج به إلى الله، وأن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة، ونحو ذلك كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم) ([21])
وهذا الوصف ينطبق على جميع المدارس العقدية ما عدا المدرسة التي ينتمي إليها ابن تيمية.
وهكذا أفتى بقتل كل من يقول بخلق القرآن أو بخلق لفظه.. وهو ما تقول به جميع المدارس العقدية ما عدا المدرسة السلفية، فقد سئل في رجل قال: (إن الله لم يكلم موسى تكليما. وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة، وموسى عليه السلام سمع من الشجرة، لا من الله، وإن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن، وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟)([22])
فأجاب بقوله: (ليس هذا الصواب، بل هو ضال مفتر كاذب باتفاق الأمة وأئمتها. بل هو كافر يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال: لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] بل أقر بأن هذا اللفظ حق، لكن أنفي معناه وحقيقته، فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع، حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الاثنين وسبعين فرقة، وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له: جعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى، فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وكان ذلك في زمن التابعين، فشكروا ذلك) ([23])
وقال: (.. وقال عبد الله بن المبارك – الذي أجمعت فرق الأمة على إمامته وجلالته حتى قيل: إنه أمير المؤمنين في كل شيء. وقيل: ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك وقد أخذ عن عامة علماء وقته: مثل الثوري ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وطبقتهم – قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة – الملقب إمام الأئمة وهو ممن يعرج أصحاب الشافعي بما ينصره من مذهبه ويكاد يقال: ليس فيهم أعلم بذلك منه -: من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه باين من خلقه: وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة؛ لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملة ولا أهل الذمة وكان ماله فيئا)([24])
أما من يسمونه الشيخ الأكبر، والذي قد يظن أنه ـ بسبب صوفيته ـ أكثر تسامحا مع المخالف، فليس كذلك.. أو ليس كذلك في كل الأحيان، فمواريث السلفية التي استفادها من البيئة التي عاش فيها كانت تطعم كشفه كل حين بما يناسبها.
ومن أمثلة ذلك موقفه من الشيعة الذين كانوا يشكلون في عصره جزءا من البيئة الإسلامية، فقد كان يمكنه أن يلاحظ القواسم المشتركة بينهم وبين سائر المسلمين، وكان يمكنه أن يرجع لكتبهم ليعرف حقائهم وأسرارهم، وكان يمكنه أن يتعامل معهم بمثل تلك السماحة التي تعامل بها مع أصحاب الأديان المختلفة، بل مع فرعون نفسه، لكنه لم يفعل، واكتفى بالمعارف العامية البسيطة عنهم، وبما يغذيه به الكشف الذي لم يكن يعطيه إلا ما تعطيه البيئة التي عاش فيها.
ومن أمثلة ذلك نقله لما يقوله خصومهم من أنهم يقولون بأن الأحق بالنبوة هو علي، لا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ـ عند كلامه على أهل البدع والأهواء ـ: (إن الشياطين ألقت إليهم أصلاً صحيحاً لا يشكون فيه، ثم طرأت عليهم التلبيسات من عدم الفهم حتى ضلوا، فينسب ذلك إلى الشيطان بحكم الأصل، ولو علموا أن الشيطان في تلك المسألة تلميذ لهم يتعلم منهم، وأكثر ما ظهر ذلك في الشيعة، ولا سيما في الإمامية منهم، فدخلت عليهم شياطين الجن أولاً بحب أهل البيت، واستفراغ الحب فيهم، ورأوا أن ذلك من أسنى القربات إلى الله – وكذلك هو لو وقفوا ولا يزيدون عليه – إلا أنهم تعدوا في حب أهل البيت إلى طريقين: منهم من تعدى إلى بغض الصحابة وسبهم حيث لم يقدموهم، وتخيلوا أن أهل البيت أولى بهذه المناصب الدنيوية، فكان منهم ما قد عـُرِف واستفاض، وطائفة زادت إلى سب الصحابة القدح في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي جبريل عليه السلام، وفي الله جل جلاله، حيث لم ينصوا على رتبتهم وتقديمهم في الخلافة للناس، حتى أنشد بعضهم: ما كان مـَنْ بعث الأمين أميناً، وهذا كله واقع من أصل صحيح، وهو حب أهل البيت، أنتج في نظرهم فاسداً، فضلوا وأضلوا)([25])
وهذا كلام من لا يعرف الشيعة، ولم يطلع على كتبها، ولا كلام أعلامها، وإنما هو كلام عامي بسيط، يكتفي بسماع ما يقوله الخصوم.
وهو لم يكتف بذلك، وإنما راح للكشف يستعمله لضرب هذه الطائفة المحترمة من طوائف الأمة، فقد قال في تعداد أصناف الأولياء في هذه الأمة: (ومنهم- رضى الله عنهم- الرجبيون. وهم أربعون نفسا في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون. وهم رجال حالهم القيام بعظمة الله. وهم من الافراد. وهم أرباب القول الثقيل، من قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، وسموا رجبيون لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب، من أول استهلال هلاله إلى انفصاله، ثم يفقدون ذلك الحال من أنفسهم، فلا يجدونه إلى دخول رجب، من السنة الآتية. وقليل من يعرفهم من أهل هذا الطريق. وهم متفرقون في البلاد، ويعرف بعضهم بعضا. منهم من يكون باليمن وبالشام وبديار بكر. لقيت واحدا منهم بدنيسير. من ديار بكر، ما رأيت منهم غيره، وكنت بالأشواق إلى رؤيتهم. ومنهم من يبقى عليه، في سائر السنة، أمر ما مما كان يكاشف به في حاله في رجب، ومنهم من لا يبقى عليه شيء من ذلك)([26])
وبعد كل هذه الدعاوى العريضة التي لا دليل عليها من الكتاب أو السنة أو العقل راح يقحم طائفيته في ولايتهم، فقال: (وكان هذا الذي رأيته (في دنيسير) قد أبقى عليه كشف الروافض، من أهل الشيعة، سائر السنة. فكان يراهم خنازير. فيأتي الرجل المستور، الذي لا يعرف منه هذا المذهب قط- وهو في نفسه مؤمن به، يدين به ربه. فإذا مر عليه يراه في صورة خنزير، فيستدعيه ويقول له: (تب إلى الله! فإنك شيعى رافضى)، فيبقى الآخر متعجبا من ذلك. فان تاب وصدق في توبته، رآه إنسانا، وإن قال له بلسانه: تبت! ـ وهو يضمر مذهبه ـ لا يزال يراه خنزيرا. فيقول له: (كذبت في قولك تبت!) وإذا صدق، يقول له: (صدقت)- فيعرف ذلك الرجل صدقه في كشفه. فيرجع عن مذهبه ذلك الرافضي)([27]) ثم راح يذكر مثالا واقعيا عن هذا الولي العجيب الذي يشق على سرائر الخلق، ويمتحنهم، وكأنه إله متجبر، لا ولي متواضع، فقال: (ولقد جرى لهذا مثل هذا مع رجلين عاقلين، من أهل العدالة من الشافعية، ما عرف منهما قط التشيع، ولم يكونا من بيت التشيع. غير أنهما أداهما إليه نظرهما. وكانا متمكنين من عقولهما، فلم يظهرا ذلك وأصرا عليه بينهما وبين الله. فكانا يعتقدان السوء في أبى بكر وعمر، ويتغالون في على. فلما مرا به ودخلا عليه، أمر باخراجهما من عنده. فان الله كشف له عن بواطنهما في صورة خنازير، وهي العلامة التي جعل الله له في أهل هذا المذهب. وكانا قد علما من نفوسهما أن أحدا من أهل الأرض ما اطلع على حالهما. وكانا شاهدين عدلين، مشهورين بالسنة. فقالا له في ذلك. فقال: (أراكما خنزيرين، وهي علامة بينى وبين الله فيمن كان مذهبه هذا)، فأضمرا التوبة في نفوسهما، فقال لهما: (إنكما، الساعة، قد رجعتما عن ذلك المذهب فانى أراكما إنسانين) فتعجبا من ذلك، وتابا إلى الله)([28])
ثم ذكر من أوصاف هؤلاء الأولياء الطائفيين أنهم (أول يوم يكون في رجب، يجدون كأنما أطبقت عليهم السماء. فيجدون من الثقل بحيث لا يقدرون على أن يطرفوا، ولا تتحرك فيهم جارحة، ويضطجعون فلا يقدرون على حركة أصلا، ولا قيام ولا قعود ولا حركة يد ولا رجل ولا جفن عين. يبقى ذلك عليهم أول يوم، ثم يخف في ثانى يوم قليلا، وفي ثالث يوم يكون أقل. وتقع لهم الكشوفات والتجليات والاضطلاع على المغيبات. ولا يزال (أحدهم) مضطجعا مسجى، يتكلم بعد الثلاث أو اليومين ويتكلم معه، ويقول ويقال له، إلى أن يكمل الشهر. فإذا فرغ الشهر ودخل شعبان، قام كأنما نشط من عقال. فان كان صاحب صناعة أو تجارة اشتغل بشغله، وسلب عنه جميع حاله كله إلا من شاء الله أن يبقى عليه من ذلك شيء أبقاه الله عليه.- هذا حالهم. وهو حال غريب، مجهول السبب. والذي اجتمعت به منهم كان في شهر رجب، وكان في هذه الحال)([29])
هذا مثال عن نموذج من نماذج الأولياء الذين ذكرهم ابن عربي، ومثلهم كثير ممن ذكرهم بأعدادهم وأوصافهم وأعمالهم من غير أي بينة سوى الكشف..
فمن أولياء هذه الأمة ـ كما يذكر ابن عربي ـ (الأقطاب)، (وهم الجامعون للأحوال والمقامات بالأصالة أو بالنيابة.. ولا يكون منهم في الزمان إلا واحد. وهو الغوث أيضا. وهو من المقربين.. وهو سيد الجماعة في زمانه. ومنهم من يكون ظاهر الحكم، ويجوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام: كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، والحسن، ومعاوية بن يزيد، وعمر بن عبد العزيز، والمتوكل. ومنهم من له الخلافة الباطنة خاصة، ولا حكم له في الظاهر: كأحمد بن هارون الرشيد السبتي، وكأبي يزيد البسطامي)([30])
وهكذا استطاع ابن عربي أن يحول من المتوكل المستبد الظالم الناصبي صاحب الجرائم الكثيرة ليس مؤمنا عاديا فقط، بل وليا من أولياء الله.. بل قطبا من الأقطاب الكبار المقربين.. وكل ذلك بدليل واحد لا يستطيع أحد مهما كان أن يحاجج به، وهو الكشف.
ومن أولياء هذه الأمة ـ كما يذكر ابن عربي ـ (الأئمة)،وهم ـ كما يذكر ـ (لا يزيدون في كل زمان على اثنين لا ثالث لهما. الواحد (عبد الرب)، والآخر (عبد الملك).. وهما اللذان يخلفان القطب إذا مات.. وهما للقطب بمنزلة الوزيرين، الواحد منهم مقصور على مشاهدة عالم الملكوت، والآخر مع عالم الملك)([31])
ومنهم ـ كما يذكر ابن عربي ـ (الأوتاد)، (وهم أربعة في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون. رأينا منهم شخصا بمدينة فاس، يقال له: ابن جعدون. كان ينخل الحناء بالأجرة. الواحد منهم يحفظ الله به المشرق، وولايته فيه، والآخر (يحفظ الله به) المغرب، والآخر الجنوب، والآخر الشمال. والتقسيم من الكعبة. وهؤلاء قد يعبر عنهم بالجبال)([32])
ومنهم (رجال الماء) وهم ـ كما يذكر ابن عربي ـ (قوم يعبدون اللَّه في قعور البحار والأنهار، لا يعلم بهم كل أحد. أخبرنى أبو البدر التماشكى البغدادي- وكان صدوقا، ثقة، عارفا بما ينقل، ضابطا حافظا لما ينقل- عن الشيخ أبى السعود بن الشبل، إمام وقته في الطريق، قال: كنت بشاطئ دجلة بغداد، فخطر في نفسى: هل لله عباد يعبدونه في الماء؟ قال: فما استتممت الخاطر إلا وإذا بالنهر قد انفلق عن رجل، فسلم على وقال: نعم يا أبا السعود! لله رجال يعبدون الله في الماء، وأنا منهم! أنا رجل تكريت، وقد خرجت منها لأنه بعد كذا وكذا يوما، يقع فيها كذا وكذا- يذكر أمرا يحدث فيها. ثم غاب في الماء. فلما انقضت خمسة عشر يوما وقع ذلك الأمر على صورة ما ذكره ذلك الرجل لأبى السعود، وأعلمنى بالأمر ما كان)([33])
وهكذا يستمر ابن عربي في ذكر الأولياء وأنواعهم وأوصافهم ومهامهم.. لا المرتبطة بهداية الخلق، والدعوة إلى الصراط المستقيم وخلافة النبوة.. وإنما يضع لهم مهام غريبة جدا، لم يدل عليها لا الكتاب ولا السنة ولا العقل.
وبذلك تحولت الولاية من التحقق والتخلق بالمعاني القرآنية إلى معان جديدة مملوءة بالألغاز..
وقد كان لهذا الطرح والتشويه لقيمة
الولاية أثره الخطير في واقعنا وتراثنا، حيث أصبح وسيلة من وسائل النصب والاحتيال
بأسماء مختلفة، كلها تعود إلى ذلك الموروث الذي وضع في محل العصمة والقداسة، فلا
ينقد، ولا يطالب بتصحيحه.. والويل لمن يفعل ذلك.
([1]) الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيثمي، ص215..
([2]) طبقات المجتهدين.
([3]) اليواقيت والجواهر، لعبد الوهاب الشعراني، ج2، ص205..
([4]) العقود الدرية ( ص 311 ).
([5]) فتاوى اللجنة الدائمة ( 2 / 451 ، 254 ) بتوقيع: الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود..
([6]) الفتوحات المكية: 2/ 329.
([7]) إحياء علوم الدين (2/ 25)
([8]) مقدمة ابن خلدون (1/ 617)
([9]) فصوص الحكم 1/ 192.
([10]) جواهر النصوص فى شرح الفصوص، ج 1، ص: 178.
([11]) الفتوحات المكية ، ج 1، ص: 49.
([12]) الفتوحات المكية، ج4، ص: 326.
([13]) الفتوحات المكية، ج4، ص: 327.
([14]) الفتوحات المكية، ج4، ص: 370
([15]) الفتوحات المكية، ج4، ص: 479.
([16]) الفتوحات المكية، ج5، ص: 73.
([17]) الرسالة العرشية: 21.
([18]) الرسالة العرشية: 23.
([19]) مجموع الفتاوى (28/ 205)
([20]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 194).
([21]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 194).
([22]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 29)
([23]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 29)
([24]) مجموع الفتاوى (33/ 179)
([25]) الفتوحات المكية: 1 /282..
([26]) الفتوحات المكية، 11/ 286.
([27]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 286.
([28]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 288.
([29]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 289.
([30]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 275.
([31]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 276.
([32]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 277.
([33]) الفتوحات المكية، ج11، ص: 357.