الشهادة لله.. والورع البارد

الشهادة لله.. والورع البارد

يتوهم الكثير أنه عندما يفتش في بطون التاريخ، ليكشف المجرمين والدجالين والمشوهين لدين الله.. أو عندما يبحث في الواقع، ويحطم بعض الأصنام التي تعلق بها البعض واحتجبوا بها عن الحقيقة.. يتوهم أن فعله ذلك مضاد للتقوى، ومخالف للورع.

ويتوهم أو يوسوس له الشيطان أن الورع هو أن يقف مع الظلمة حكاما كانوا أو علماء، أو يكون حياديا، لا مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء.. وهذا هو الورع الشيطاني البارد.

فنحن مطالبون بالأمرين جميعا:

مطالبون بالتفتيش والتنقيب عن كل مشوه لدين الله أو محرف للقيم الإنسانية الرفيعة التي جاء بها، سواء كان في واقعنا الذي نعيشه، أو كان في غابر التاريخ.

ونحن مطالبون كذلك بأن ندلي بشهادتنا بحسب ما أوصلنا إليه اجتهادنا.. لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.. والسكوت عن الجريمة تثبيت لها، بل ربط لها بدين الله.

والغرض من هذه الشهادة ليس تنفيسا عن أحقاد تختزنها الصدور، وإنما هو تطهير لدين الله من كل الرواسب والأشواك التي علقت به، فحولته من حديقة غناء ممتلئة بزهور القيم الجميلة إلى مفازة ممتلئة بالأشواك والعقارب والحيات التي تنهش كل من دخلها لتخلصه من إنسانيته.

لقد نص القرآن الكريم على هذه الوظيفة من وظائف الأمة، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة:143]

والعجب أننا نقرأ هذه الآية، ونفخر بما فيها من معان، ونتصور أننا نحن المقصودون.. بل إننا نضيف إلى تفسير هذه الآية قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ)([1])

ونؤكد هذا التفسير بما قال المفسرون.. كقول القرطبي: (قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتوليه خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولاً مكاناً، وإن كنا آخراً زماناً..)([2])

ومثله قال ابن القيم: (أخبر أنه كما جعلهم أمة وسطاً خياراً اختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها، كما اختار لهم خير الأنبياء، وشرع لهم خير الأديان، وأنزل عليهم خير الكتب، وجعلهم شهداء على الناس كلهم لكمال فضلهم وعلمهم وعدالتهم، وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة، وأشرفها لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة، والرسول، والكتاب، والشريعة)([3])

ونحن لا ننكر كل هذا.. لا الحديث.. ولا أقوال المفسرين.. ولكنا ننكر ذلك التقزيم والتحقير لهذه الوظيفة العظيمة التي كلفت بها هذه الأمة، واختصارها في الشهادة على الأمم الأخرى، وكأننا شعب الله المختار المعصوم الذي يشهد على الآخرين، ولا يشهد على نفسه.. ولا يشهد عليه أحد.

فهل يعقل أن نشهد يوم القيامة على جرائم فرعون وقارون والنمروذ ونيرون ولينين وهتلر وشارون.. ثم نسكت عن جرائم لا تقل عنها ارتكبها معاوية ويزيد ومروان والمتوكل وغيرهم من طواغيت التاريخ؟

أم أن الدماء التي سفكها الطواغيت من المسلمين دماء حلال، يصح أن نسكت عليها، بينما الدماء التي سفكها هتلر دماء حرام، لا يصح السكوت عليها؟

وهكذا يقال في العلماء الذين اتخذناهم أندادا من دون الله.. فهل يصح عقلا وشرعا أن نشهد على ما ارتكبه الأحبار والرهبان من تبديل دين الله وأكل أموال الناس بالباطل، كما أخبرنا القرآن الكريم بذلك.. ثم نسكت عن جرائم لا تقل عنها ارتكبها بعض علماء هذه الأمة في حق الأمة، وفي حق الإنسانية جميعا؟

الكثير يتناول الأمور بعاطفية وهوى مجرد.. ويعزل العقل تماما.. وقد رأيت بعضهم ينافح عن شيخ الفتنة في هذا العصر يوسف القرضاوي الذي أفتى بخراب ليبيا وسوريا والعراق.. ولو أتيحت له الفرصة لأفتى بخراب كل شبر على هذه الأرض..

قلت له ـ وهو سكران في غمرة عواطفه الباردة ـ: ألم تعلم كم قتل هذا الرجل الذي تدافع عنه بفتاواه؟.. ألا تخشى أن تتحمل ما تحمل من جرائم؟.. ألا تخشى أن يخاصمك يوم القيامة كل من أساء إليهم وشردهم وخرب أوطانهم؟

قال: هو عالم مجتهد.. وحتى لو وقع في بعض الأخطاء فسيظل عالما.. بل سيؤجر على خطئه.. هو مأجور على كل حال.. ولو ذكرت شيئا يسوؤه لصرت أنا المدان، لأني تعرضت للحوم العلماء المسمومة.

قلت له: إن من مقتضيات الأخلاق الإسلامية، والوحدة التي تجمع بين المؤمنين، بل من مقتضيات العقل والفطرة السليمة أن نضع أنفسنا محل المظلومين والمستضعفين.. فتصور أن القرضاوي الذي تدافع عنه أفتى بمصادرة مالك.. وقتل ولدك.. أكان موقفك منه نفس الموقف؟

قال لي ـ وهو يكذب على نفسه ـ: أنا لا أتعامل معه بمثل ما يتعامل معي.. ولا أحمل الحقد عليه.

قلت له: ليست القضية قضية حقد ولا عاطفة.. نحن مطالبون بالشهادة لله.. مطالبون بأن نقول للمجرم: قد أجرمت.. لا فرق بين من وضع التاج على رأسه، أو وضع العمامة.. بل إن من وضع العمامة وراح يتاجر بها أخطر.. فما كان لصاحب التاج أن يظل في استبداده لولا صاحب العمامة.. وقد قال فولتير عبارته المشهور: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)

قال لي ـ وهو يكذب على نفسه ـ: اسكت يا رجل.. فلحوم العموم مسمومة.

قلت له ـ وأنا لم أملك نفسي من الغضب على هذه الموازين العجيبة ـ: ولحوم الذين قتلهم وشردهم ونكل بهم وخرب بلادهم.. أهي لحوم حلال؟

سكت، ولم يجب.. فأردفت أقول: أنت بين ورعين: بين أن تتورع عن شخص مجرم واحد، أو مجموعة أفراد، ولديك الأدلة الكافية التي تحضرها معك يوم القيامة إذا خوصمت في شهادتك.. وبين أن تتورع عن السكوت عن الجرائم التي لحقت بمئات الآلاف، بل بالملايين.. بل بدين الله نفسه.. فدين الله صار بضاعة لكل مجرم يتاجر به، اقتداء بهذا الطاغوت الذي تدافع عنه.

كاد صاحبي ينفجر من حديثي هذا، فقلت له: رويدك، وأخبرني عن الشيخ علي جمعة.

فغضب غضبا شديدا، وراح يلعنه ويسبه.. فقلت له: لم لم تتورع عن هذا الشيخ الجليل، وهو عالم فقيه أصولي.. بل هو أكثر علما من قرضاويك بدرجات..وهو فوقه صلاحا وورعا وزهدا؟

قال لي: لو كان ورعا لما أفتى الشرطة بأن تضرب بالمليان.

قلت له: نعم هو أفتى بذلك لسلطة شرعية حتى تحفظ أمن بلدها في وجه الذين يريدون إثارة الفتن فيها.. ولم ير سبيلا لوقف الشغب إلا هذه الوسيلة، فأفتى بها.. أما قرضاويك ومن معه من طواغيت العلماء، فقد أعطوا فتاواهم للإرهابيين ولعامة الناس ليقضوا على كل من يخالفهم في الموقف من الحاكم.. وفتواه لم تكن في محل خاص، ولقوم خاصين وفي وضع خاص.. ولم تسرب كما سربت فتوى الشيخ علي جمعة، وإنما نطق بها على الملأ، وفي قناة يشاهدها عشرات الملايين.. وكان في إمكانه ـ وهو الذي يزعم لنفسه الشجاعة والإخلاص ـ أن يذهب لسورية، ويلتقي برئيسها، ويحاول أن يجري صلحا بينه وبين المعارضين له.. لكنه لم يفعل، في الوقت الذي ذهب فيه إلى كابول ليتوسط لدى طالبان ليحموا تماثيل بوذا.. فهل تماثيل بوذا أكثر حرمة من الشعب السوري، والدولة السورية، والمؤسسات السورية؟

وأيهما أكثر جرما.. ذاك الذي وضع لفتواه محلها الخاص بها، وفي حدود الضرورة.. أم ذاك الذي راح يعطي المبرر الشرعي لكل الجماعات الإرهابية.. وعلى الملأ.. ومن دون تمييز؟

ثم قلت له: لم لا ترجع لأقوال القرضاوي نفسها، والتي يذكر فيها أن علماء كل بلدة أدرى بها، وأدرى بكيفية التعامل مع أوضاعها.. وقد كان البوطي في سورية، وهو أكثر علما وورعا من القرضاوي بكثير.. فلم لم يجلس إليه، ويستشيره في هذا؟

أو لم لم يترك لعلماء سورية الكبار كالشيخ البوطي والشيخ حسون وغيرهم كثير الحق في أن يتعاملوا مع النازلة التي نزلت ببلادهم، ليخلصوها منها وفق ما تقتضيه الحكمة والعقل والإسلام؟ ما لكم كيف تحكمون؟.. وأين هي العدالة التي تقتضيها الشهادة؟.. وأين هو الورع الذي يجعل مصلحة الدين ونقائه وطهره أهم من كل مصلحة؟

أم أنكم تتلاعبون بالورع، وتتاجرون به.. وتصرفونه لمن يملكون الثروات والقنوات وتحرمون منه أولئك العلماء البسطاء الذين رغبوا عن كل ثروة في سبيل الحفاظ على قيمهم ومبادئهم، حتى استشهدوا في سبيلها؟


([1])  رواه البخاري (4217)

([2])  الجامع لأحكام القرآن (2/148)

([3])  مفتاح دار السعادة (2/31)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *