الشفاعة بين الوهم والحقيقة

من المفاهيم التي اختلط فيها الحق بالباطل، والصواب بالخطأ.. وكان لها الأثر السلبي الكبير في انهيار القيم الإسلامية التي جاءت الشريعة لبناء حياة المسلم فردا وجماعة عليها: مفهوم الشفاعة ومجالها..
فمع كون هذا المفهوم مفهوما قرآنيا ورد تفصيله بدقة في آيات كثيرة محكمة واضحة.. إلا أن طوائف الأمة ـ للأسف ـ أعرضت عن ذلك التفسير القرآني، وراحت تفسره بفهمها الخاص، والأخطر من ذلك أنها راحت تستعمله في هدم القيم الإسلامية نفسها.
حيث أصبحت العقيدة في الشفاعة أكبر معول لهدم القيم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مثلما كانت عقيدة الفداء التي جاء بها بولس أكبر معول لهدم القيم التي جاء بها المسيح عليه السلام.
ولعل أكبر من شرع هذا النوع من الفهم هو ذلك التراث الحديثي الذي استقبلناه بكل أريحية، ورحنا ننشره تحت مسميات كثيرة.. منها بيان رحمة الله وسعة لطفه بعباده.. ومنها بيان رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي لا تحد.. ونحن في ذلك لا نختلف عن المسيحيين الذين يذكرون بأن الله ـ لرحمته بعباده ـ أرسل ابنه الوحيد ليصلب، ويكفر بصلبه كل خطايا بني آدم.
نعم نختلف معهم في صورة المشهد.. ولكنا لا نختلف معهم في النتيجة.. فالشيطان في كلا الدينين راح يشرع الخطيئة، وييسر أمرها، بل يدعو إليها.. إما بعقيدة الفداء، أو بعقيدة الشفاعة.
ومن الأمثلة الحديثية التي نراها في تفسير القرآن الكريم الذي يقرؤه العوام والخواص، ويرجع إليه الخطباء ليحضروا خطبهم ودروسهم هذا الحديث، بل هذا المعول الخطير الذي يقضي على كل القيم الإسلامية، وهو ما رواه عبد الرحمن بن ميمون، أن كعبا دخل يوما على عمر بن الخطاب، فقال له عمر: حدثني إلى ما تنتهي شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة؟ فقال كعب: قد أخبرك الله في القرآن، إن الله يقول: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر} [المدثر:42]، فيشفع يومئذ، حتى يبلغ من لم يصل صلاة قط، ولم يطعم مسكينا قط، ومن لم يؤمن ببعث قط، فإذا بلغت هؤلاء لم يبق أحد فيه خير)([1])
فهذا الحديث الذي حدث به كعب الأحبار اليهودي، يفسر به القرآن، ولسنا ندري من أين تلقاه، ولا من أين سمعه، يقضي على كل ما قصدته الآيات الكريمة من التحذير من ترك الصلاة، وترك إطعام المساكين، والخوض مع الخائضين.. وكل القيم المرتبطة بها.
ومثله ما رواه عبد الله بن عمر عن كعب من ذكره: (أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد)([2])
وهذا يتفق تماما مع ما ورد في القرآن الكريم من الإخبار عن غرور اليهود وأمانيهم وأكاذيبهم التي حرفوا بها القيم التي جاء بها موسى عليه السلام والأنبياء من بعده، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:80]، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون} [آل عمران:24].
والآية الكريمة تشير إلى ما نسميه [دين البشر]، والذي عبرت عنه بـ { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون}، فدين البشر يعتمد على تلك الأكاذيب التي يكذبون بها على أنفسهم، ثم يفرضونها على ربهم، ويتصورون أن الجنة والنار صارت بيدهم، لا بيد ربهم.
وما ذكره القرآن الكريم عن اليهود، هو نفسه ما وقع فيه النصارى، فقد قال كعب أحبارهم: (يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لاتخطئوا وإن أخطأ أحدٌ فلنا شفيع عند الأب، يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً) [رسالة يوحنا الرسول الأولى 2: 1)]
وللأسف فإننا عندما نبحث في التراث النصراني لا نجد إلا نصوصا محدودة جدا من أمثال النص السابق، لكنا عندما نبحث في تراثنا الحديثي نجد نصوصا كثيرة جدا، ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتناقض كل القيم القرآنية، بل كل القيم التي جاءت النبوة لغرسها، والدعوة إليها.
فكيف يستقيم أن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان المقصد الأكبر من مقاصد دعوته: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([3])، ثم تأتي تلك النصوص لتهدم هذا المقصد من أساسه.
ذلك أنه من المعلوم أن الأخلاق تحتاج في فرضها والدعوة إليها إلى حوافز، تدفع إلى العمل بها، وعقوبات تنفر من الوقوع في أضدادها.. فإذا ما رفعت العقوبات.. ولم تبق إلا الحوافز التي يستوي فيها العاملون والمقصرون.. حينها لن تبقى أي قيمة.. بل لن يبقى أي دين.
فهل يمكن ـ على سبيل المثال ـ أن يستقيم أمر دولة تضع القوانين المشددة للجرائم.. ثم تضع بعدها قانونا واحدا يقول: كل العقوبات السابقة ليس لها من مقصد إلا التهديد والوعيد.. لكنها في الواقع لا أثر لها.. فيمكن لمن استحق العقوبات أن يأتي بمن شاء ليشفع له.. فإن لم يجد فالحاكم رحيم وصاحب قلب طيب.. وسيتولى هو نفسه الشفاعة له.
إن واقع هذه المدينة، وانهيار قيمها يشبه تماما ما فعلته أمثال تلك النصوص..
وتأملوا معي حال إنسان غلبته بهيميته أو سبعيته أو شيطانه، ثم يدخل المسجد، ويسمع الإمام يردد هذا الحديث الذي لا يعرف عواقبه.. فيذكر ـ وهو يشيد برحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه أمر أن يؤذن في الناس أنه: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً دخل الجنة)([4])
ويسمع معها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (.. فيأتونني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله، فيقال: يا محمد، ارفع، قل يسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع يا محمد، قل يسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – قال: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة – فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود)([5])
ويسمع معها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الحاج يشفع فى أربعمائة من أهل بيته ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)([6])
ويسمع معها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم فى صلاته فيعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيوم ولدته أمه من الخطايا ليس عليه ذنب)([7])
ويسمع معها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا مرض العبد ثلاثة أيام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)([8])
ويسمع معها ما رواه عقبة بن عامر قال: جئت في اثني عشر راكباً حتى حللنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أصحابي: من يرعى إبلنا وننطلق فنقتبس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا راح اقتبسناه ما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: أنا، ثم قلت في نفسي: لعلي مغبون، يسمع أصحابي ما لا أسمع من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحضرت يوماً فسمعت رجلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من توضأ وضوء كاملاً ثم قام إلى صلاة كان من خطيئته كيوم ولدته أمه)، فتعجبت من ذلك، فقال عمر بن الخطاب: فكيف لو سمعت الكلام الآخر كنت أشد عجباً! فقلت: أردد عليَّ جعلني الله فداءك، فقال عمر بن الخطاب: إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من مات لايشرك بالله شيئاً فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء، ولها ثمانية أبواب) ([9])
ويسمع معها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمر بقوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، قال: فيقولون: يا محمد ننشدك الشفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق واستأذن على الرب عز وجل فيأذن لي فأسجد وأقول: يا رب قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، قال: فيقول لي: انطلق فأخرج منهم قال: فانطلق وأخرج منهم من شاء الله أن أخرج..)([10])
ويسمع معها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط)([11])
ويسمع معها ما ورد في حديث الشفاعة الطويل:(يقول اللّه عزَّ وجلَّ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار)([12]) ؛ وفي لفظ آخر:(أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقاً كثيرا)،
ويسمع معها هذا الحديث الذي رواه الشيخان اللذان يحرم نقد حديثهما: (أتانى جبريل فبشرنى أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق)([13])
ويسمع معها هذا الحديث: (أتانى جبريل فخيرنى بين أن يدخل نصف أمتى الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهى لمن شهد أن لا إله الله وأنى رسول الله)([14])
ويسمع معها (أتانى جبريل، فخيرنى بين الشفاعة وبين أن يغفر لنصف أمتى، فاخترت الشفاعة، فقيل: اشفع لنا فقال: شفاعتى لكم، فلما أكثروا عليه قال: (من لقى الله يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)([15])
وكأن جبريل عليه السلام الذي جاء بهذا الحديث يختلف عن جبريل الذي جاء بالقرآن الكريم، والمملوء بالترهيب من مخالفة القيم.. والذي نسمع فيه هذا الوعيد الشديد: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء:123]
بربكم.. من يسمع كل هذا.. كيف يمكن أن يتغلب على نفسه الأمارة بالسوء، وكيف يمكنه أن يحولها إلى الصراط المستقيم.. بل كيف يمكنه أن يذرف دمعة واحدة من خشية الله.. وهو يعلم أنه لن يلقى أي عقوبة، وأن كل جرائمه التي ارتكبها ستمسح عنه، مثلما مسحت كل جرائم من قتل مائة نفس.. وبعد كل ذلك لم تستقبله إلا ملائكة الرحمة، لتزفه للرحمة الإلهية.. وتضيع حقوق مائة نفس كاملة جنى عليها، وعلى أهلها.. وتضيع معها كل القيم المرتبطة بالعدالة الإلهية.
هكذا تلاعب الشطان بمفهوم الشفاعة، واستثمرة خير استثمار ليحول منه قنبلة نووية تقضي على كل القيم النبوية.
ولو أن هؤلاء الذين قبلوا تلك الأحاديث، وسلموا لمعانيها، قرأوا معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الشعيرة من الشعائر المقدسة: (أتدرون أى يوم هذا، وأى شهر هذا، وأى بلد هذا؟ قالوا هذا بلد حرام وشهر حرام ويوم حرام قال ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا ألا وإنى فرطكم على الحوض أنتظركم وأكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهى ألا وقد رأيتمونى وسمعتم منى وستسألون عنى فمن كذب على فليتبوأ مقعده من النار ألا وإنى مستنقذ أناسا ومستنقذ منى أناس فأقول يا رب أصحابى فيقول إنك لا تدرى ما أحدثوا)([16])
وقرأوا معه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يرد علي الحوض ناس من أصحابي، حتى إذا رأيتهم وعرفتهم، اختلجوا دوني، فأقول: يا رب، أصحابي، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)([17])
فهذا الحديث وهو مروي في جميع الصحاح والمسانيد والسنن يخبر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حرم من الشفاعة في أصحابه الذي عرفهم، وقد كانوا يصلون ويصومون ويتوضأون ويحجون ويمرضون..ومع ذلك لم يخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدته أمهاتهم.
هذا ما يتناسب مع ما ورد في القرآن الكريم من أنه لا مجال للتلاعب بالقيم.. وأن الشفاعة فيها لا تجدي.. حتى لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.. كما قال تعالى في تلك الآيات التي فسرها كعب، وهدم بتفسيره كل القرآن الكريم: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 38 – 48]
فالآيات الكريمة أخبرت أن الذين لا يصلون.. أي ليس لهم تواصل روحي بالله.. والذين لا يطعمون المسكين.. أي ليس لهم أي تواصل ورحمة بالمجتمع.. هؤلاء وغيرهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين حتى لو تقدموا للشفاعة لهم.
وهكذا نرى القرآن الكريم يحذرنا من ذلك اليوم الخطير الذي لا تنفع فيه أمثال تلك الشفاعات التي تذكرها تلك الروايات، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} (البقرة: 48)، وقال: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18)
وهكذا نجد القرآن الكريم يصرح بغضب الله ولعنته وعقابه الشديد على ذنوب كثيرة نراها هينة سهلة عند أولئك الذين ضربوا القرآن بالحديث.. وضربوا الدين وقيمه بما شرعوه لأنفسهم من شرائع الهوى.
فالله تعالى أخبر عن الهمز واللمز وعقوبته، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ الله الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 1 – 9]
وأخبر عن عقوبة القتل العمد، وأنها الخلود في جهنم، فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]
قارنوا ـ يامن تدافعون على أحاديث الإرجاء ـ هذه الآية الكريمة بحديث الذي قتل مائة نفس.. فهل هانت النفوس لهذه الدرجة؟ أم أن الأمر خاص بنفوس غير المسلمين؟ أم أن حرمة البخاري ومسلم أعظم عندكم من حرمة ما ورد في القرآن الكريم من معان..
وهكذا لو تأملنا القرآن جميعا.. بل معه الكثير من السنة، لوجدنا فيهما نصوصا كثيرة تملؤنا بالمهابة ومن خشية الله ومن الخوف من تعدي حدود الله، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]
وكما ورد في الحديث عن عائشة قالت: قلت للنبى صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا. ـ قال بعض الرواة: تعنى قصيرة ـ فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)([18])
وكما أورد المفسرون في تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] عن أم العلاء قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الانصار على سكنى المهاجرين. فاشتكى فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال: وما يدريك؟ قلت: لا أدري والله، قال: أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري وأنا رسول الله مايفعل بي ولا بكم. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي احدا بعده([19]).
وقد ورد في الحديث تصوير لبعض مشاهد العدل في أداء الحقوق لمستحقيها يوم القيامة، وذلك حين سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة، فقال:(أتدرون من المفلس؟)، فقالوا:(المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)([20])
فعدالة الله المطلقة تقتضي أن لا يضيع أي حق من الحقوق مهما كان، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)([21])
بل إن النصوص أخبرت بعدالة الله الشاملة للحيوانات حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ([22])، وفي الحديث القدسي عن الجنة، يقول اللّه تعالى:(وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم)([23])، وهو ما ينص عليه قوله تعالى:{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (طـه: 111)
هذه هي الأحاديث التي تتوافق مع القرآن، ومع العقول، ومع الفطرة ومع قيم العدالة الإلهية التي تزن مثاقيل الذر.. وهي التي لا يصح أن يروى غيرها معها، لأن مثل ذلك مثل تلك المرأة التي ذكرها القرآن الكريم، فقال: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [النحل:92]
بعد هذا قد يتوهم البعض أننا ننكر الشفاعة، ومعاذ الله أن ننكر شيئا ورد به القرآن الكريم.. فقد قال تعالى:{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:109)، وقال:{ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23)، وقال:{ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف:86)
بل إن الفطرة السليمة تدل عليها، فالمحاكمة العادلة تقتضي توفر المحامين الذين يدافعون عن المتهم، وهكذا فإن الله تعالى بعدله نصب المحامين الذين سماهم الشفعاء.. ولكن هؤلاء الشفعاء لا يشفعون إلا فيمن رضي الله أن يشفع فيه، فهناك من الجرائم ما لا يملك معه هؤلاء الشفعاء شيئا.
بالإضافة إلى هذا، فإنا نرى أن الشفاعة هي جزاء خاص بأعمال خاصة.. وهي القرب من الشفيع، وتعظيمه ومحبته.. وبذلك يستقيم الأمر مع العدالة الإلهية.
فالذي عاش حياته كلها محبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذابا عن دينه، حريصا على قيمه.. لكنه ـ كبشر يخطئ ويصيب ـ يقع في بعض الخطايا والهفوات.. التي يحتاج أن يطهر منها.. والتي يستحق العقوبة بسببها.. وهنا تكون الشفاعة.. لا الشفاعة المطلقة.
وهي تشبه في ذلك ذلك التلميذ الذي لا يحول بينه وبين النجاح إلا بعض النقاط القليلة، وحينها قد يتدخل بعض الأساتذة لإنقاذه، فيشفع له، ويزكيه.. لأخلاقه أولا.. ولكون تقصيره محدودا ثانيا.
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله، فآتيه بوضوئه وبحاجته، فقال لي: اسألني، فقلت: إني أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود)([24])
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب أن يعينه على نفسه لتتحقق شفاعته له بمرافقته في الجنة.. فالشفاعة تقتضي الجانبين جميعا الشافع والمشفوع.. بالإضافة إلى أن هذا الرجل لم يطلب شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرافقته في الجنة إلا لحبه الشديد له.. فهو لم يطلب الجنة بذاتها، وإنما طلب مرافقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها.
وهكذا ورد في الحديث (يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا)([25])
ولست أدري كيف يجتمع في العقول هذه
الأحاديث المتوافقة مع القرآن، مع تلك الأحاديث المتوافقة مع التراث اليهودي
والمسيحي..
([1]) رواه ابن مردويه، انظر: الدرالمنثور في التفسير للسيوطي ص6، ص286.
([2]) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (20/465).
([3]) رواه أحمد (2/381، رقم 8939) ، وابن سعد (1/192) البيهقى (10/191، رقم 20571)
([4]) مجمع الزوائد:1/16.
([5]) رواه البخاري 13 / 395 – 397 ، ومسلم رقم (193)
([6]) رواه البزار (8/169، رقم 3196) . قال الهيثمى (3/211).
([7]) رواه الحاكم (2/433، رقم 3508)
([8]) رواه الطبرانى فى الصغير (1/314، رقم 19)
([9])رواه الطبراني في الأوسط، وابن عساكر (40/495)
([10]) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال.
([11]) قطعة من حديث مطول أخرجه مسلم ورقمه (183) .
([12]) رواه البخاري ومسلم.
([13]) رواه البخارى (6/2721، رقم 7049) ، ومسلم (1/94، رقم 94)
([14]) رواه البغوى (3/271رقم 1210) ، وأورده الحافظ فى الإصابة (3/165)
([15]) رواه أحمد (4/404 رقم 19634) والطبرانى فى الصغير (2/62 رقم 784) قال الهيثمى (10/369) : رواه أحمد والطبرانى، وأحد أسانيد الطبرانى رجاله ثقات.
([16]) رواه أحمد (5/412، رقم 23544) (5/393، رقم 23385) ، والبخارى (5/2404، رقم 6205)، والنسائى فى الكبرى (2/444، رقم 4099).
([17]) رواه أحمد 3/140 (12445) والبخاري 8/149 (6582) ومسلم 7/70 (6062)
([18]) أبو داود (4/269، رقم 4875) ، والترمذى (4/660، رقم 2502)
([19]) رواه أحمد 6/436 وفي 6/436 والبخاري: 2/91 وفي 3/238 و9/44 .
([20]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
([21]) رواه البخاري.
([22]) نص الحديث:( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
([23]) رواه الطبراني.
([24]) رواه مسلم (2/52) (489)، وأبو داود رقم (1320) ، و النسائي 2 / 227.
([25]) رواه البخاري 8 / 386 ، ومسلم رقم (206)