الشرق والغرب

الشرق والغرب

من الدعوات العنصرية التي نسمعها من بعض المثقفين من المشارقة أو المغاربة، أو من العوام منهم، ذلك التفريق بين جهات الأرض مشارقها ومغاربها.. فالبعض يعتبر الحكمة تشرق مع المشرق.. والبعض يذكر أنها تغرب مع المغرب.. ولذلك يدعو كل واحد منهما إلى الجهة التي يكون فيها.. وكأن الله ميز بين الجهات عند هؤلاء، كما ميز بين الأعراق عند أولئك.

وهذه دعوى عنصرية، وهي مثل الدعوات العرقية نوع من تضخم الأنا وكبريائها.. ذلك أن المشرقي الذي يتعصب لمشرقه يبني منطقه على كون الحقيقة والحكمة والحضارة بالمشرق، لكونه هو بالمشرق، ولو كان بالمغرب لارتحلت الحكمة معه إلى المغرب..

وهكذا يرى منافسه المغربي أنه مركز دائرة الحكمة والحضارة، ولذلك يميز بين الأعلام، فينتصر للمغاربة، لا لكونهم أصحاب حقيقة وحكمة، وإنما لكونهم مغاربة.

وهذا يتنافى مع الرؤية الكونية، وحقائق الجود الإلهي، وموازين عدالته.. فالله تعالى يعامل برحمته البشرية جميعا معاملة واحدة، لأنهم جميعا خلقه، ولذلك فإن رحمته سارية بينهم جميعا، ولذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]

وهذا النص يدل على أنه لا توجد أمة من الأمم، ولا شعب من الشعوب إلا وأرسل الله له من الأنبياء والرسل من يبصرونه بحقيقة الوجود، ووظائف الإنسان فيه.. ويدل أيضا على أنه لم تخل أمة من الأمم من الصالحين والأولياء والحكماء..

أما عدم تسجيل ذلك في التاريخ، فليس شيئا مهما، فالتاريخ لا يسجله في معظم الأحوال إلا الساسة، ولذلك يهملون الاهتمام بالعقائد والقيم، ويركزون على الحكم والسياسة.

أما اقتصار القرآن الكريم على ذكر بعض الأنبياء دون بعض، فذلك لحكمة إلهية ترتبط بالأديان الكبرى التي استقر عليها واقع التاريخ البشري، ولذلك نرى هذه الأديان المسماة الإبراهيمية هي السائدة والمنتشرة بكثرة..

والخطأ الذي يقع فيه المؤرخون من المسلمين أو غيرهم هو حصرهم التاريخ الديني فيما سجله الكتاب المقدس.. الذي لم يكتف بالتأريخ الديني، وإنما راح يؤرخ للبشرية جميعا، ويعتبرها وليدة زمن قريب لا يتجاوز الآلاف المعدودة، بينما هو في حقيقته يتجاوز ذلك بكثير.

ولهذا يأمرنا الله تعالى بتجاوز ذلك كله، والسير في الأرض جميعا، لأخذ الحكمة من أي فم خرجت، وعلى أي لسان برزت، قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]

وذكر عن ذي القرنين أنه طاف المشرق والمغرب، وذكر عن موسى عليه السلام أنه سار في طلب العلم والحكمة مسافات بعيدة، بل إنه ذكر لفتاه استعداده للسير أحقابا من السنين حتى يبلغ منبع الحكمة، قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]

وذكر أنه عندما وصل إلى مبتغاه تعامل معه في قمة التواضع، ذاكرا له أنه لم يأت إلا للتلمذة عليه، مع كونه رسولا من أولي العزم من الرسل، وقائد قومه ومخلصهم، وصاحب المعجزات الباهرة والكتاب العظيم.. ومع ذلك كله لم يته عليه، ولم يفخر، بل كان يعتذر له كل حين، ويقابل شدته بكل لين.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *