الرحمة.. والعدالة

الرحمة.. والعدالة

يطرح الكثير من التنويريين الجدد مسألة الرحمة الإلهية الخاصة بغير المسلمين بطريقة وكأنها من القضايا المجمع عليها، وأن كل من مات في أوروبا وأمريكا وغيرهما، حتى لو كان ملحدا عنيدا، وفاسقا عربيدا، سيدخل الجنة مباشرة، وستشمله رحمة الله الواسعة، وأنه كما تنعم في الدنيا، سيتنعم في الآخرة، ولن يحاسب على شيء، ذلك أنه لم تبلغه الرسالة، أو بلغته مشوهة، ولذلك ليس هناك حجة لمن سيسأله عن ربه ونبيه ودينه.

وهذا ما يجعل من المسلمين في بلاد الإسلام، والذين يعيش أكثرهم في ظلال الفقر والبؤس، أو ظلال الاستبداد والظلم، في حيرة من أمرهم.. فهم يحاسبون على الصغير والكبير في الدنيا والآخرة؛ فقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة التي تخبر بالعذاب الشديد المرتبط بما يفعلونه من ذنوب، والتي تصف ذلك بدقة.. فالمسلم إن شرب الخمر سيسقى من طينة الخبال، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا وما طينة الخبال قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)([1])، وفوق ذلك، فلن يشربها في الآخرة، كما ورد في الحديث: (من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة)([2])

أما الذي عاش في أوروبا وأمريكا يشرب الخمر، ويدمن عليها، ويظل مترددا بين الملاهي، لا يعرف إلها ولا دينا.. فهو عند هؤلاء المرجئة الجدد ممن تشملهم رحمة الله الواسعة، ولذلك لن يحاسب على معاقرته الخمر، لكونه غير مكلف؛ وبذلك فلن يصاب بأي عقوبة، ولن يحرم من أي مزية.

وهذا ما يجعل اللبيب حيرانا في الجمع بين العدالة والرحمة الإلهية.. فإن كانت الرحمة الإلهية واسعة إلى ذلك الحد، فلماذا كان أشقى الناس بها المؤمنون الذين بلغتهم الدعوة.. والذين يتمنون لو أنهم عاشوا في أوروبا وأمريكا صعاليك ملاحدة؛ فذلك خير لهم من أن يعيشوا في بلاد الإسلام ليشقوا في الدنيا، ثم يشقوا في الآخرة.

وقد ذكرت الجواب المفصل عن هذه الشبهة في كتابي [أسرار الأقدار]، عند حديثي عن العدالة الإلهية، وطرحت فيه الآراء المختلفة في المسألة، وبينت مدى صلتها بالرحمة والعدالة الإلهية، ولذلك سأكتفي هنا بالقول الذي يتناسب مع العدالة والرحمة الإلهية، وهو قول ينسجم مع العقل والحكمة، كما ينسجم مع الرحمة والعدالة، كما ينسجم مع النصوص الكثيرة المتعارضة، ويلغي التعارض بينها.

وهذا القول هو أن كل هؤلاء الذين لم تتح لهم فرصة التكليف في الدنيا بأي سبب من الأسباب كالمجانين والصبيان ومن لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم مشوهة، يجرى عليهم امتحان جديد في الآخرة، وذلك بأن يوضعوا في محال معينة، ويرسل إليهم الله تعالى رسولا ـ كما ورد تفصيل ذلك في الحديث ـ فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وبناء على ذلك يكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار.. وبذلك تجتمع النصوص المتعارضة في المسألة.

وهذا القول ينسجم مع العقل بادئ الرأي ذلك أننا إن قلنا بأنهم يدخلون النار، فبأي جناية جنوها؟.. وإن قلنا: إن أمرهم للمشيئة، أو لعلم الله فيهم، فلماذا لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة، فلم تقم محكمة القيامة، ولم يكن هناك حساب ولا كتب ولا موازين؟

وإن قلنا ـ بما يقول به المرجئة الجدد ـ: إن أمرهم للرحمة، فقد يقول البالغ: لماذا يارب لم تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الصبي؟.. ويقول العاقل: لم يارب لم تذهب عقلي لأبصر من الرحمة ما يبصره المجنون؟.. ويقول الفيلسوف: لم يا رب لم تجعلني في غياهب الجهل التي حميت بها ذلك الفلاح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟.

وهو ينسجم أيضا مع ما نمارسه في الدنيا، والدنيا صنو الآخرة، كما يقال؛ فإنه إذا تقدم قوم للامتحان، وغاب آخرون عنه لسبب من الأسباب، فإن قوانين العالم كلها تحكم بأن لا يوزع النجاح للغائبين هكذا مجانا، بل يمتحنون مثلما امتحن غيرهم، لتتحقق العدالة بذلك، لأننا إذا رحمنا هؤلاء الغائبين نكون قد ظلمنا أولئك الممتحنين، والذين قد يكون سبب رسوبهم هو اجتهادهم في الحضور للامتحان.

وبناء على هذا، فقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك، سواء في المدرسة السنية أو في المدرسة الشيعية:

أما في المدرسة السنية، ففي الحديث الذي روي من طرق متعددة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، أما الأصم فيقول:(يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا) وأما الأحمق فيقول:(يا رب قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر) وأما الهرم فيقول:(يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا) وأما الذي مات في الفترة فيقول:(ما أتاني لك رسول)، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار)، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب إليها)([3])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان ما آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة: لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول الرب سبحانه: إني آمركم بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، ولو دخلوها ما ضرهم، فتخرج عليهم قوابس ([4]) يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون: خرجنا يا رب وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك فيقولون مثل قولهم فيقول الله عز وجل سبحانه: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم، فتأخذهم النار)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون: لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول ربهم: أرايتم إن أمرتكم بأمر تطيعونه؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعبروا جهنم فيدخلونها فينطلقون حتى إذا دنوا منها سمعوا لها تغيظا وزفيرا فيرجعون إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها، فيقول: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني، فيأخذ على ذلك من مواثيقهم فيقول: اعمدوا لها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا! فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فلو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما)([5])

وفي المدرسة الشيعية، ورد في صحيحة هشام عن أبي عبد الله، قال: (ثلاثة يحتجَّ عليهم: الأبكم، والطفل، ومن مات في الفترة، فترفع لهم نار فيقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى قال تبارك وتعالى: هذا قد أمرتكم فعصيتموني)([6])، ومثله روي في صحيحة زرارة عن أبي جعفر، وغيرها من الروايات([7]).

وهذه الأحاديث لا تعني أن الكل سيسقط في الامتحان، وإنما تعني أن هناك ناسا سيسقطون فيه مثلما حصل في الدنيا.

وقد قبلنا هذه الأحاديث بطرقها المختلفة، بناء على اتفاق الأمة عليها من جهة، وعلى انسجامها مع العدالة والرحمة الإلهية من جهة أخرى.

وقد ذهب كبار المحدثين من المدرستين إلى صحتها، وقد رد ابن كثير على من شككوا فيها بقوله:(إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها)([8])

أما ابن القيم فقد أيدها بجملة وجوه، لا بأس من إيراد بعضها هنا([9]):

  1. منها أن هذه الأحاديث كثرت بحيث يشد بعضها بعضا، وقد صحح الحفاظ بعضها.
  2. ومنها أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي.
  3. ومنها أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زيادة على أنه قد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها.
  4. ومنها أنه وإن أنكرها بعض المحدثين، فقد قبلها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها وأعلم بالسنة والحديث.

ويضاف إلى هذا التأييد الروائي، ما يدل على توافقها مع العدالة والرحمة الإلهية، وما يجمع على أساسه كل النصوص السابقة، وكل الأقوال المبنية عليها.

أما اتفاقها مع العدالة، فحتى لا يتأسف العاقل على أنه لم يكن مجنونا، أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا، وهذا ما نطق به القرآن الكريم ودلت عليه قواعد الشرع، قال ابن القيم:(فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بد أن يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد وتسمع الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين يدي الرب وينطق كل أحد بحجته ومعذرته فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم)([10])

أما اتفاقها مع الرحمة، فإن الله تعالى يكلف هؤلاء بعد معاينتهم لأمر الآخرة، ويكون التكليف حينها مع شدته هينا.

أما اجتماع النصوص على أساسها، فلأن من هؤلاء من يطيع الله، فيدخل الجنة، ومنهم من يعصيه، فيدخل النار، وبذلك كله وردت النصوص، قال ابن كثير:(وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض)([11])

والاعتراض الثاني الذي قد يوجه لهذا القول هو ما ساد اعتقاده من أن الدار الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، فكيف يكلف هؤلاء بالعمل؟

ومع أن لهؤلاء أحوالهم الخاصة التي قد لا يشاركهم فيها غيرهم إلا أن الأدلة متظافرة على أن هذا الاعتقاد السائد ليس على عمومه، وقد قال تعالى:{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم:42)، وقد ثبت في الحديث أن المؤمنين يسجدون للّه يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه([12]).

وفي الحديث الآخر في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن اللّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول اللّه تعالى:(يا ابن آدم ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة([13]).

زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من الامتحانات والأسئلة التي يتعرض لها أهل القبور.

وقال نقل المجلسي عن الصدوق قوله: (إن قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك، ويقولون: إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء، تكليف. ودار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة. ودار الجزاء للكافرين إنما هي النار. وإنما يكون هذا التكليف من الله عز وجل في غير الجنة والنار، فلا يكون كلفهم في دار الجزاء، ثم يصيِّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم، فلا وجه لإنكار ذلك)([14])

أما الاعتراض الثالث، فهو تصور استحالة أن يكلفهم اللّه دخول النار، لأن ذلك ليس في وسعهم؛ فغير صحيح لأن ذلك في وسعهم من جهة، وهو مع مشقته لا يختلف كثيرا عن الكثير من التكاليف التي يطلب بها الفوز بسعادة الأبد:

ومنها أن الله تعالى يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.

ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً([15])، وهذا يشبه إلى حد كبير هذا الامتحان الذي تعرض له هؤلاء.

ومنها أن الله تعالى أمر بني إسرئيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها اللّه عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ([16])، وهو لا يقل مشقة على النفوس مما تعرض له هؤلاء.

ومنها أن الكثير من الأوامر التي أمر الله تعالى بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار (فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم وتعريضهم لأسرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من الأمر بدخول النار)([17])

زيادة على ذلك كله، فإن أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ (وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسلاما، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يوطن نفسه عليه أم لا؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه)([18])

ومن هذا الباب أمر الله تعالى الخليل u بذبح ولده، ولم يكن مراده تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتسليمه وتقديمه محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.

بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولا يقولون: ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية الألم، (فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم)([19])

بل إن اقتحامهم النار المفضية بهم إلى النجاة لا تختلف عن الكي الذي يحسم الداء، أو هي بمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية.

فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء، لأن (الله تعالى اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا لا عقوبة)([20])

وبهذه الوجوه جميعا يمكننا أن نفهم جيدا قوله تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (الانبياء:47)

وقوله عند ذكر دقة الموازين الإلهية:{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة)

ولا نملك بعد كل هذا إلا أن نكل الأمر لله من قبل ومن بعد، فهو العدل الرحيم، وقد قال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:128)

القسم الرابع

التنويريون.. وتمجيد الملاحدة


([1])  رواه مسلم.

([2])  رواه البخاري ومسلم.

([3]) رواه النسائي والحاكم وابن مردويه.

([4]) قوابس: القبس: الشعلة من النار. النهاية 4/4.

([5]) رواه البزار بإسنادين ضعيفين.

([6])  الكافي3/249.

([7])  انظر: بحار الأنوار:5/290.

([8]) تفسير ابن كثير: 5/58.

([9]) أحكام أهل الذمة: 2/1147.

([10]) أحكام أهل الذمة: 2/1149.

([11]) تفسير ابن كثير: 5/58.

([12]) رواه البخاري.

([13]) الحديث طويل رواه البخاري ومسلم.

([14])  بحار الأنوار،  ج5 ص290..

([15]) الحديث طويل، وهو مروي في أكثر أصول السنة، وبهذا اللفظ راه أبو داود وابن ماجه.

([16]) كما قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (البقرة:54)

([17]) أحكام أهل الذمة:2/1154.

([18]) أحكام أهل الذمة:2/1152.

([19]) أحكام أهل الذمة:2/1155.

([20]) أحكام أهل الذمة:2/1156.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *