الرؤية التوحيدية والدعوات القومية

الرؤية التوحيدية والدعوات القومية
من المستحيلات العقلية الجمع بين الرؤية العرفانية التوحيدية للكون، والرؤية القومية، فهما على طرفي نقيض.. بل هم رؤيتان متوازيتان، يستحيل أن يجتمعا في عقل أو قلب واحد.
ذلك أن الرؤية القومية هي نوع من تضخم الأنا.. بل هي تجل من تجليات كبريائها وغرورها وعجبها.. حيث تتصور أن الكمال فيما ارتبطت به، والنقص فيما ابتعدت عنه، وبذلك تجعل نفسها المركز والمحور والقطب الذي تدور حوله الحقائق..
وهي بذلك، ووفق الرؤية التوحيدية العرفانية ليست سوى رؤية شركية، لأنها تجعل الأنا والقومية شريكا لله تعالى.
بينما الرؤية العرفانية التوحيدية تنظر للكون من زاوية مختلفة تماما.. فرحلة العارفين تنطلق من الكون إلى المكون، كما قال ابن عطاء الله:(لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون:{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم:42)
ولذلك تعتبر سكون الإنسان للأشياء، وفرحه بها، وعدم عبوره منها إلى خالقها وقوفا، بل سقوطا، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (لو أن رجلا دخل إلى بستان فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار، عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار، فخاطبه كل طائر منها بلغته، وقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يدها أسيرا)
وهي تنطلق في ذلك من قرءاة عرفانية لقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].. فالله رب العالمين، وليس ربا لقوم دون قوم.. ولذلك هي تنظر للأقوام جميعا بهذا الاعتبار، فلا تحقر أحدا من الناس.. وكيف تحقره.. والله هو الذي خلقه؟
وهي لذلك أيضا لا تتجرأ أن تفضل عرقها على أي عرق آخر.. وكيف تفعل ذلك، وبأي اعتبار، وهي ترى نفسها وقومها وكل شيء من الله وبالله ولله.. وإن جاز لأحد أن يفضل.. فهو الله تعالى، لأنه هو الخالق والمالك، ولا يجوز لأحد أن يكون شريكا له في ذلك، وإلا وقع في الفخ الذي وقع فيه إبليس حين فضل نفسه على آدم.
وهي كذلك تقرأ كل شيء باسم الله.. كما أمر الله تعالى بذلك، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1].. ويستحيل على من قرأ الأشياء باسم الله أن يقع في فخاخ الأنا.. لأنه يرى الأشياء كلها سماءها وأرضها ملك لله.. فلا يقول عن أي شيء: هذا لي.. بل يقول دائما: هذا لله.
وهي فوق ذلك كله تعتبر اللغة وسيلة.. وتعتبر اللغات جميعا طرقا للرحلة إلى الله، لأنه الهدف الوحيد في الوجود.. وما عداه وسائل.. وقد عبر الشيخ ابن عليوة عن هذا المعنى أثناء رده على من تستعبدهم اللغات، ولا يلتفتون لما خلفها، فقال: (فإذا كان هؤلاء القوم يستخرجون الجدّ من الهزل، فكيف لا يستخرجون الجــــدّ مـــن الجدّ، بل لهم ذلك لكونهم لا يقفون عند ظاهر الألفاظ، وإنّما ينظرون إلى المعاني الدالّة على المراد، ولا يلتفتون للحن ولا للإعراب، بل يأخذون المعاني من حيث وجدوها، فهم ناظرون لإشارة الأرواح، غافلون عما يتلفظ به اللسان، تراهم مع الله في كلّ حال وشأن، مع انّه كلّ يوم هو في شأن)([1])
وذكر ابن عجيبة قصة عن بعض
العارفين في ذلك، فقال: (كان شيخ شيخنا رضي الله عنه إذا ذكر من تقدم له في
العربية يقول له أنت اترك شيئاً من عربيتك، وأنا أترك شيئاً من جبليتي، يعني من
اللغة الجبلية، ونلتفت للطريق)([2])
([1]) ابن عليوة، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الطريقة الصوفية، ص24..
([2]) إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 190)