الدين والعقل

الدين والعقل

الدين والعقل

يتوهم البعض أن دعوتنا لإعمال البحث العقلي في الدين ليست سوى إعطاء للعقل مجالا غير مجاله، وصلاحيات غير صلاحياته.. فالعقل معقول ومقيد، ويستحيل عليه أن يتعرف على المعارف العليا التي لا تخضع لمجاله.

وهذا كلام صحيح من نواح كثيرة.. ولكنه ليس صحيحا مطلقا.. لأن القرآن الكريم دعا إلى إعمال العقل في أمهات قضايا الدين.. ولا يصح أن نرمي هذه الدعوات سلة المهملات.

إذن ما هي علاقة الدين بالعقل.. وكيف نعمل العقل في مجاله.. والدين في مجاله.. وكيف نسمح لأنفسنا بمناقشة العقل للدين؟

وللإجابة على هذه الأسئلة نستحضر بعض الأمثلة التي نوقشنا فيها كما نوقش فيها الدعاة إلى إخضاع النصوص الروائية ـ خصوصا ـ للعقل..

وكمثال على ذلك الموقف من حديث الذباب أو حديث البكتريا اللذين رواهما أصحاب الصحاح عن أبي هريرة.. وانتقدناهما نقدا شديدا، واستعملنا العقل في النقد.. وتصور البعض أننا بنقدنا لذلك ننقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.. ولم يضع في حسابه أننا ننقد رواة الحديث، ولا يهمنا من كان منهم هل هو أبو هريرة أو البخاري أو غيرهما..

ونقدنا ذلك منطلق من مقدمات عقلية وقرآنية غاية في الدقة.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخبر الله تعالى عنه أنه لا ينطق عن الهوى، وأن كل معارفه معصومة ومستمدة من الوحي الإلهي يستحيل أن يقع في مثل هذا الخطأ.. ولذلك فنحن استعملنا العقل، لا لضرب الوحي، وإنما لحمايته من الخرافة والدجل الذي تسرب إليه.

وحجتنا في الرد أيضا عقلية وشرعية.. ذلك أن الوهم الذي دخل تلك الأحاديث لابد أن يكون له أحد مصدرين: إما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وذلك مستحيل لمقدمات عقلية كثيرة.. وإما أن يكون مصدره أبو هريرة أو الرواة عنه.. وذلك جائز، وباتفاق الناقدين لنا.. لأن أبا هريرة أو غيره من الرواة لا يستحيل عليهم الخطأ، لا عقلا ولا شرعا، بل قد وقع منهم ذلك، ووقع التصحيح لهم من طرف الصحابة أنفسهم..

ثم إنه لا ضرر في نسبة الخطأ إليهم إذا ما ناقشنا المستشرقون أو المستغربون الذين يتهمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب تلك الأحاديث.. لأننا لم نزعم لهم أننا نقول بعصمة النقلة والرواة والأسانيد.

وهذا الموقف يعطينا قوة كبيرة في مواجهة الحداثيين أو اللادينيين أو غيرهم ممن يثيرون الشبهات علينا بسبب أمثال تلك النصوص.. لأن مساحة دفاعنا ستبقى مختصة بالمقدس، لا ما عداه.

ولذلك فإنه من المستحيل على من يقدس التراث أو يقدس التاريخ أو يقدس أمثال تلك الروايات أن تكون له القدرة على مواجهة مثيري الشبهات على الإسلام.. إلا إذا استعمل المنهج الذي نراه في الواقع.. وهو منهج السباب والتضليل والتكفير.. وهو منهج يزيد في تشويه الإسلام أكثر مما يساهم في رد الشبهات عنه.

هذا هو موقفنا.. وهو موقف شرعي عقلاني أخلاقي.. يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أي كان صحابيا أو تابعيا.. سلفيا أو خلفيا.

بينما موقف الآخرين موقف هش ضعيف، لا شرعي ولا عقلاني، بل إن الجرأة وصلت بهم في سبيل حفظ عصمة أبي هريرة والرواة عنه إلى اتهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه..

وقد ذكرنا في كتابنا عن أبي هريرة ذلك الموقف المخزي الذي وقفه المحدثون من تلك الرواية العجيبة المتناقضة والتي يروي فيها أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فقدت أمة من بني إسرائيل، لم يدر ما فعلت، وإني لا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته)، قال أبو هريرة: حدثت بهذا الحديث كعبا، فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: نعم، فقال لي ذلك مرارا، فقلت: أتقرأ التوراة؟!)([1])

فقد ذكر السلفيون والمحدثون قبلهم أن معلومات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكرها في هذا خاطئة، وأنها كانت باجتهاد منه، لأن الحديث يتعارض مع حديث آخر يذكر أنه لا عقب للمسخ.

وقد عبر بجرأة كبيرة عن هذا المعنى الشيخ عبد العزيز الراجحي، فقال ـ تعليقا على الحديث ـ: (يعني: أن الفأر مسخ، لأمة من بني إسرائيل مسخوا فأرا، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بظنه واجتهاده، حيث قال: ولا أراها -بضم الهمزة- أي: أظنها. وهذا قاله قبل أن يوحى إليه أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وإنما مسخ بنو إسرائيل قردة وخنازير ثم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام كما قال الله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أما الفأر فهو أمة من الأمم، وكذا القردة أمة، وكذا الخنازير والكلاب أمة، أما الممسوخون فإنهم لم يكن لهم نسل ولا عقب، بل ماتوا بعد ثلاثة أيام)([2])

وللأسف فإن هذا الراجحي لم ينكر عليه أحد هذه الجرأة، لأنه لم يتجرأ على تخطئة أبي هريرة، وإنم تجرأ على تخطئة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والمهم عند السلفية وأتباعهم أن تبرأ ساحة أبي هريرة.. ولا يهم أن تدنس ساحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهؤلاء الذين يقولون هذا لم يقرأوا قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فهل يمكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقفو ما ليس له به علم.. وهل يمكن أن يخبر عن ذلك أصحابه، وكأنه حقيقة علمية ثابتة؟

هذا هو موقفنا من علاقة الدين بالعقل.. ولذلك فإن المجادلين الذين يتصورون أن إنكار مثل هذه الروايات إنكار لكل عالم الغيب الذي لم يدل عليه العقل لم يفهموا دور العقل.. فنحن لم نقل بأن للعقل القدرة على التوصل على معرفة الغيب.. فذلك مستحيل.. وإنما دور العقل قاصر على معرفة صدق الرسول عن طريق البراهين والمعجزات.. فإذا صدق الرسول صدق كل ما جاء به من باب الضرورة العقلية..

مثلما نصدق نحن رواد الفضاء الذين يخبروننا عما رأوا في القمر وغيره، لثقتنا بهم، حتى لو لم نر ما لم يروا.

ومصدر كل هذا الوهم هو عدم التفريق بين أحكام العقل.. فأحكام العقل المرتبطة بالغيب هي الجواز.. أي أنه يجوز كل شيء يخبر عنه المعصوم.. بشرط أن يكون الخبر صحيحا، وعن طريق قطعي، وألا يتعارض مع الواقع والحس.

فالسلفي الذي يؤمن بأن الأرض ثابتة أو أن الشمس تدور حولها بناء على نصوص يراها مقدسة واهم، لأن النصوص المقدسة القطعية لا تقول بذلك.. والعقل والواقع لا يقول بذلك.. ولذلك فإن العقل والشرع يقتضيان أن نطرح كل النصوص التي تدل على ذلك، أو نؤولها التأويل المتناسب مع مقتضيات العقل.

وأحب أن أنهي هذا التوضيح الذي لم نكن بحاجة إليه، لولا الجدل الذي أثير حول المسألة بكلمات جميلة لأبي حامد الغزالي يقول فيها: (اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس، والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس) ([3])

ثم شبه العلاقة بينهما تشبيها آخر، فقال: (وأيضا فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر)

ثم شبه العلاقة بينهما تشبيها ثالثا، فقال: (وأيضا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن زيت لم يحصل السراج وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت)

ثم استدل لذلك بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]

وعلق على الآية الكريمة بقوله: (فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان.. ولكون الشرع عقلا من خارج سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع القرآن نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] ولكون العقل شرعا من داخل قال تعالى في صفة العقل: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، فسمى العقل دينا ولكونهما متحدين قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]} أي نور العقل ونور الشرع، ثم قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] فجعلها نورا واحدا، فالشرع إذا فقد العقل لم يظهر به شيء وصار ضائعا ضياع الشعاع عند فقد نور البصر، والعقل إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور عجز العين عند فقد النور) ([4])

هكذا يفهم علماء الإسلام الحقيقيين لا المزيفين علاقة العقل بالشرع.. فلا ينفون أحدهما لأجل الآخر.. ولا يقدمون أحدهما على الآخر.. لأن كليهما شرع.. فمسلمات العقول هي شريعة الله التي شرعها الله لها في جبلتها وفطرتها، وإلا ما دعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى استفتاء العقول والقلوب.

ففي الحديث عن وابصة الأسدي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته، فأتيته في عصابة من الناس يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: دعوني أدنو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه، قال: (دعوا وابصة، ادن يا وابصة، استفت قلبك، واستفت نفسك، استفت قلبك، واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك، ثلاثا)([5])

والحديث صريح في الدلالة على أن على المتلقي ألا يضع نفسه بين يدي المفتي كالميت بين يدي الغسال كما يشاع، وإنما عليه أن يناقش ويبحث ويتأكد، ويستفتي قلبه ونفسه، حتى لا يقع فيمن ذكرهم الله تعالى، فقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} [البقرة:166-167]

ولذلك فإن المقولة الشائعة: (ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالم)، أو قولهم (ضع بينك وبين النار شيخ) غير صحيحة، بل متناقضة مع كل القيم العقلية والقرآنية.. لأن أقوام الأنبياء طبقوا هذه المقولات، وخضعوا للملأ من قومهم.. فأضلوهم سواء السبيل..

وكما أضل الملأ أقوامهم، فلا مانع عقلا ولا شرعا أن يمارس الملأ من هذه الأمة المهنة التي مارستها الأمم من قبلهم.. مهنة التضليل، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة.

منها ما رواه أبو ذر قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (لغير الدجال أخوفني على أمتي)، قالها ثلاثا، قال: قلت: يا رسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال: (أئمة مضلين)([6])


([1])  رواه أحمد (2/234، رقم 7196)، والبخارى (3/1203، رقم 3129)، ومسلم (4/2294، رقم 2997) وأبو يعلى (10/420، رقم 6031)، والديلمى (3/126، رقم 4340)، وغيرهم.

([2])  انظر موقعه على النت.

([3])  معارج القدس في مدارج معرفه النفس (ص: 57)

([4])  معارج القدس في مدارج معرفه النفس (ص: 57)

([5])  رواه أحمد 4/228 (18164) وفي (18169)، والدارمي: 2533.

([6])  رواه أحمد 5/145 (21621) وفي 5/145 (21622)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *