الدين.. والعاطفة الكاذبة

الدين.. والعاطفة الكاذبة

يتوهم الكثيرون أن الدين هو مجموعة عواطف وانفعالات وجدانية تجعلهم يتحركون ويهتزون، أو يمارسون أي سلوك لتلبية ما تتطلبه تلك العواطف من أفعال.

لكنهم يخطئون كثيرا في ذلك.. فالعواطف المجردة عن العلم والعقل والتحقيق أوهام كاذبة، وشباك يصطادهم بهم الشيطان، ليوقعهم في دجله وانحرافاته، ويجعلهم سدنة لخدمة مشروعه.

ولذلك بدأ الله تعالى رسالة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالقراءة.. والقراءة تقتضي التدبر.. والتدبر يقتضي تفعيل العقل، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]

ولذلك فإن القلب في القرآن الكريم لا يعني المحل الذي تتنزل فيه العواطف، وتتحرك فيه المواجيد فقط.. بل يعني قبل ذلك المحل الذي تصنع فيه الأفكار.. فالمواجيد المجردة عن العقل هوى كاذب، وتلبيس شيطاني ماكر، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]

بناء على هذا المعنى انطلق الشيطان ليخرب المشروع الإلهي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبر إشعال تلك الغرائز الكاذبة المسماة عواطف.. وكان أول ذلك أن أخرج معاوية للناس قميص عثمان، وهو ملطخ بالدماء ليحرك عواطفهم لحرب الإمام علي، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار..

والتفتت تلك العواطف الباردة لتلك الدماء التي امتلأ بها القميص.. وبكوا كثيرا.. واستغل الشيطان بكاءهم ليملأهم بالأحقاد.. وليرسلهم لحرب بقية الصدق التي بقيت في الأمة..واستطاع أن يحقق مشروعه بعد ذلك بنجاح.

وهكذا ظل الشيطان يجلب عبيد العواطف الكاذبة بأمثال هذه الأمور، حتى أنه استطاع أن يصدع وحدة هذه الأمة عبر مسائل بسيطة، وقضايا وهمية، ولكنه عجنها بمعجون العاطفة الكاذبة التي لا عقل معها.. فصار يخرج لكل نفر من الناس قميصا من القمصان، ويدعوهم إلى إثارة الفتن لأجله.. مثلما يفعل المتلاعبون بالثيران الهائجة.

وكثمال على ذلك.. الموقف من أبي هريرة.. والذي دعا الكثير من المتنورين من أصحاب التدين العقلاني إلى ترك تقديسه، والتعامل مع أحاديثه وفق المعايير القرآنية، لا بطرحها جميعا، ولكن بتنقيتها حتى لا تصبح تلك الأحاديث معاول يهدم بها الإسلام.

لكن الشيطان أسرع إلى عواطف هؤلاء يحركها، ويظهر لهم قميص أبي هريرة المضرج بالدماء.. فراحوا بدل التحقيق فيما ذكره المتنورون يدافعون عن كل دجل، وينتصرون لكل خرافة حتى لو كان في ذلك تشويها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

ومن الأمثلة على ذلك الموقف من أحاديث أبي هريرة الواردة في فتح القسطنطينية، والمروية في كتب الصحاح، وهي أحاديث مرتبطة بالنبوءات، وهي مصدر من مصادر الدلالة على النبوة، والنبوءة الكاذبة دليل على النبوة الكاذبة.

ومع أن النبوءات التي ذكرها أبو هريرة تتنافى مع الواقع تماما، فقد ذكر في حديثه خلاف ما وقع في فتح القسطنطينية تماما، ومع ذلك راح أصحاب العواطف الكاذبة بدل تكذيب حديثه أو تكذيب رواته، يؤولون بأصناف التأويلات الباردة، ليوقعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في الحرج، وكأن أبا هريرة أهم عندهم من مصداقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.

وحتى لا أتهم بالدجل والكذب، فهذا حديث أبي هريرة أمامكم، وأمامكم القسطنطينية، والتي لم تفتح بعد بحسب حديث أبي هريرة.. فهل نصدق أعيننا أم نصدق حديثه؟

لقد ورد في حديثه الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سمعتم بمدينة، جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها – قال ثور بن يزيد: لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر – ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم، إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون)([1])

والحديث في صحيح مسلم وغيره من كتب السنة، وقد تلقته الأمة بالقبول.. ومع ذلك هو يزعم أن بمجرد فتح القسطنطينية يظهر الدجال وينزل المسيح.. فهل حصل ذلك؟.. وهو يزعم أن القسطنطينية فتحها أولاد إسحاق، فهل كان ذلك كذلك؟.. وهو يزعم أنها فتحت من غير سلاح، فهل حصل ذلك؟

ومثله حديث آخر.. وهو أكثر خطرا من هذا الحديث، وقد وقف أصحاب العواطف الكاذبة فيه في صف أبي هريرة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث هو ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (فقدت أمة من بني إسرائيل، لم يدر ما فعلت، وإني لا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته)، قال أبو هريرة: حدثت بهذا الحديث كعبا، فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: نعم، فقال لي ذلك مرارا، فقلت: أتقرأ التوراة؟!)([2])

وموقف أصحاب العواطف الباردة من من هذا الحديث عجيب جدا، وهو دليل على تعظيمهم لأبي هريرة وغيره من الصحابة أكثر من تعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ذلك أنه يتناقض ويتعارض معارضة تامة مع حديث آخر يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (إن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً. وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك)([3])

وذلك ما يستدعي تكذيب حديث أبي هريرة بالضرورة، وهو ما فعلوه، لكنم لم ينسبوا الكذب والوهم لأبي هريرة، وإنما نسبوه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتذروا لذلك بأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد في ذلك، ولم يقل عن علم أو وحي..

وقد عبر عن هذا المعنى الشيخ عبد العزيز الراجحي، فقال ـ تعليقا على الحديث ـ: (يعني: أن الفأر مسخ، لأمة من بني إسرائيل مسخوا فأرا، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بظنه واجتهاده، حيث قال: ولا أراها -بضم الهمزة- أي: أظنها. وهذا قاله قبل أن يوحى إليه أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وإنما مسخ بنو إسرائيل قردة وخنازير ثم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام كما قال الله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أما الفأر فهو أمة من الأمم، وكذا القردة أمة، وكذا الخنازير والكلاب أمة، أما الممسوخون فإنهم لم يكن لهم نسل ولا عقب، بل ماتوا بعد ثلاثة أيام)([4])

وقبله قال قال بن حجر: (وذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم القردة والخنازير فقال أن الله لم يجعل للمسخ نسلاً ولا عقباً وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا أراها إلا الفأر وكأنه كان يظن ذلك ثم أعلم بأنها ليست هي) ([5])

وهذا التعليل المشوه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتناقض مع كل تلك القيم التي دعا إليها القرآن الكريم، وقد كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وأولها تناقضه مع قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

ويتناقض مع قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]

ويتناقض مع كل تلك الأحاديث الصحيحة المتواترة، التي تبين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول إلا حقا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو، قال: قلت: يا رسول الله، إنى أسمع منك أشياء أفأكتبها؟ قال: نعم. قلت: فى الغضب والرضا؟ قال: (نعم، فإنى لا أقول فيهما إلا حقا)([6])

وهكذا نراهم يدافعون عن أبي هريرة وكل التشويهات والتحريفات التي وردت في أحاديثه، والتي يحكم العقل والعلم ببطلانها.. ومع ذلك فإن العقول المقيدة بتلك العواطف الكاذبة يستحيل عليها أن تسمع صوت العقل والحكمة، وكيف تسمعها، وهي تظل تصرخ وتصيح من غير علم ولا هدى.


([1])  رواه مسلم في الفتن (18: 33)

([2])  رواه أحمد (2/234، رقم 7196)، والبخارى (3/1203، رقم 3129)، ومسلم (4/2294، رقم 2997) وأبو يعلى (10/420، رقم 6031)، والديلمى (3/126، رقم 4340)، وغيرهم.

([3])  فتح الباري 353/6.

([4])  انظر موقعه على النت.

([5])  فتح الباري 353/6.

([6])  هذا الحديث ورواياته التالية في: أحمد (2/162) (6510) و(2/192) (6802). والدارمي (490) وأبو داود (3646)، وابن خزيمة (2280)، وغيرهم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *