الخاتمة

الخاتمة

بعد هذا العرض المفصل للانتقادات التي يمكن توجيهها لمجزرة بني قريظة نخرج بالنتائج التالية:

أولا ـ نحن لسنا مطالبين ـ كما يتصور الكثير ـ بذكر التفاصيل المرتبطة ببني قريظة، وما الذي جرى لهم، وأين ذهبوا، وكيف تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفية، وغير ذلك من معلومات يطلبها من يبحثون عن التفاصيل ولو من مصادر غير موثوقة؛ فدورنا هو تطهير السيرة والسنة النبوية من كل ما لا يمت لها بصلة سواء باستعمال النقد الخارجي المرتبط بمصدر الروايات، أو النقد الداخلي المرتبط بعرضها على القيم القرآنية والنبوية الواردة في المصادر القطعية، وبعدها قد نجد من الروايات ما نميل إلى صحته، وقد لا نجد؛ فنتوقف في ذلك.

ولذلك لا نرى ما يذكره بعض الباحثين الذين حاولوا أن يردوا المجزرة؛ فيذكروا أن عدد القتلى كان أربعين، باعتبار كونه أدنى الأعداد المذكورة في الروايات، ذلك أن هذا العدد لم يرد بطريق التواتر، ولم تذكر أسماء هؤلاء الأربعين؛ فلذلك لا نرى صحته، ولا نعتمده، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا عندما ذكر ذلك الشغف الذي يعتري البعض للتعرف على عدد فتية أهل الكهف، ولو من مصادر غير أمينة ولا موثوقة، فقال: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22]، فقد اعتبر القرآن الكريم مجرد الحديث عن عددهم من غير بينة رجما بالغيب، وهو من أعظم الكذب والزور والبهتان.

وهكذا الأمر عندما ذكر مدة لبثهم في الكهف، كما قال تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 25، 26]

وهكذا الأمر في كل الحقائق التي مصدرها الخبر، فلا يكفي فيها النقل من أي كان، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]

وهذه الآية الكريمة تشير إلى ناحية خطيرة تتعلق بالأحداث التاريخية، وهي ما عبر عنه القرآن الكريم بـ ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، فالأحداث التاريخية تنشأ عنها مواقف، وتلك المواقف يحاسب عليها الإنسان، لأن الظلم واحد سواء للحي أو للميت.

ولو طبقنا هذه الآية على روايات تلك المجزرة، والتي عرفنا مدى التدليس الذي نقلت به، لعرفنا مدى الظلم الذي نحكم به على أقوام من الناس أولهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتهامه في عدله ورحمته وعدم تحكيمه لكتاب ربه ورغبته عنه إلى تحكيم التوراة، وآخرهم بنو قريظة الذين صورناهم بصور أعظم من صورة كل المجرمين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك لم يفعل لهم شيئا ابتداء من قريش وانتهاء بالمنافقين.

ثانيا ـ نرى أن الحكم الشرعي الذي طبق على بني النضير وبني قينقاع هو نفسه الحكم الذي طبق على بني قريضة، وهو الجلاء، وهو حكم إلهي نطق به القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: 3]

ولذلك لا نرى أن هناك من قُتل إلا من قاتل منهم، لأن الآية التي يوردون أنها نزلت في بني قريظة، وهي قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 26، 27] ليس هناك أدلة قطعية تدل على نزولها فيهم، بل هناك من يذكر أنها نزلت في خيبر، بالإضافة إلى أنه ـ حتى لو قيل بنزولها فيهم ـ فإن حكم الأسرى في الشريعة نص عليه قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد: 4]، وهو ما يجعل الحاكم مخيرا بين الفداء والمن، وهو ما طبقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع غزواته.

ثالثا ـ لا نرى أن هناك سبيا في هذه المعركة ولا غيرها، ذلك أن عامة القرظيين لا ذنب لهم فيما حصل، فكيف يسبى النساء والذراري، ثم يباعون من دون ذنب ارتكبوه، وبناء على هذا، فإن ما ذكر من زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفية وغيرها بعد تلك الموقعة ليس له إلا تلك الأدلة المملوءة بالتدليس، والتي تشوه النبوة، وتسيء إلى الإسلام.

رابعا ـ أن كل المصادر التاريخية التي أرخت للمجزرة مصادر مشبوهة، تمت بصلة لليهود والفئة الباغية، ولو طبقنا عليها أحكام الأحاديث التي تستنبط منها العقائد أو الأحكام الفقهية لرمي بها عرض الجدار، لكن العلماء قبلوها فقط بسبب تصنيفهم لها في زمرة أحاديث السير والمغازي، والتي اتفقوا على التساهل في رواياتها.

خامسا ـ لا نرى أن الحكم فيها كان لسعد أو لغيره، ذلك أنه يستحيل أن يحكم أحد أو يقضي في وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يترك التحاكم إليه، أو التحاكم إلى القرآن الكريم، ويلجأ إلى التحاكم إلى غيره من الصحابة أو من كتب أهل الكتاب مع ورود النهي الشديد عن ذلك، واعتباره من التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

سادسا ـ أنه لا يمكن لعاقل يعرف عدالة الشريعة، أن يقبل تلك الروايات التي تصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعاقب قوما دون قوم، مع كونهم ارتكبوا نفس الجريمة، ولا يقبل عاقل أن يتصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهب قبيلة من اليهود للمنافقين، ويعفوا عنهم، في نفس الوقت الذي يهب فيه قبيلة أخرى لمسلم، فيحكم عليهم بالإعدام.

سابعا ـ لا يمكن لعاقل يعرف رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتسامحه مع كل المخالفين له، بل مع كل الذين قضوا أعمارهم كلها في عداوته، أن يقتل شبابا أغرارا مراهقين، بسبب ما فعله رؤساء قومهم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *