الحياد.. وخذلان الحق

الحياد.. وخذلان الحق

من أخطر أنواع الكذب على الذات، أو خداعها، توهم أن الموقف السليم في الاختبارات التي يضعنا الله فيها موقف الحياد.. لأنه موقف متناقض تماما مع القيم الإلهية التي كلفنا بأن نحياها، وأن نربي أنفسنا عليها، لنلقى الله وليس فينا ذرة من غيره.

ذلك أن المحايد يريد رضى الطرفين، وينسى أن الله تعالى كلفه بأن يقف مع صاحب الحق لنصرته، وضد صاحب الباطل لمواجهته أو الرد عليه، وليس هناك مسافة رمادية لا حق فيها ولا باطل.. كما قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الحجرات:9]

وعند التحليل النفسي لهؤلاء الذين يتصورون أنهم على الحياد، نجدهم يكذبون على أنفسهم، ذلك أنهم رأوا الباطل في صفهم، وفي صف من جعلوهم أندادا من دون الله، فلذلك، بدل أن يختاروا مواجهتهم ـ كما تقتضي الأوامر القرآنية ـ راحوا يتخلون عن مبادئهم، فيسكتوا عن باطلهم، بحجة طيبتهم، وصفاء سريرتهم، وأنهم لا يحملون حقدا على أحد.

مثلما يعبرون عما حصل في صدر الإسلام من انقلاب الفئة الباغية على الإمام الحق الإمام علي، فيقولون عند ذكر ذلك التاريخ: (تلك دماء طهر الله منها أيدينا، أفلا نطهر منها ألسنتنا).. وكذبوا في ذلك لأننا مطالبون بأن نقف مع الحق في أي زمان كان.. فالله يسألنا عن مواقفنا كما يسألنا عن صلواتنا وعباداتنا.

وهؤلاء ـ بفعلهم هذا ـ ينسون أن من سكت عن الباطل شيطان أخرس.. وأن من سكت عن نصرة الحق ـ في أي زمان ومكان يحتاج إليه فيه ـ لا يختلف عمن تولى عن الزحف.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا عن أولئك الخوالف الذين لم ينضموا للمشركين في قتال المسلمين، لكنهم أيضا لم ينضموا للمسلمين لنصرتهم عندما تألبت عليهم الأحزاب، فقال: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:20]

وهذا النوع من التفكير والحياد هو الذي وقع فيه من توقفوا عن نصرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع علمهم بأنه الإمام الحق.. بل مع علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أخبرهم بأن الناكثين والقاسطين والمارقين يجتمعون على حربه، ومع ذلك راح البعض يكسرون سيوفهم، ويتوهمون أنهم محايدون، وينسون أنهم قد خذلوا الحق، لتتمكن دولة الباطل، ولتخرج الإمامة من السابقين الصادقين أصحاب الزهد والورع إلى البغاة الطلقاء أصحاب الحرص والجشع.

وقد كان الإمام علي يذكرهم كثيرا في خطبه، ويشنع عليهم، ويذكرهم بتقاعسهم عن نصرة الحق بحجة الورع البارد.

ومن كلماته في ذلك قوله: (ظهر الفساد، فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده هيهات لا يخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته)، وقوله: (وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضى)، وقوله: (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضى به)، وقوله: لا يترك الناس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه)

وقوله ـ وهو ممتلئ ألما من أولئك المتخاذلين ـ: (أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع‏ فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم. لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري، ليضعفن لكم التيه من بعدي أضعافا بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد. واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم، سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مئونة الاعتساف، ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق)

وهذا الذي قاله سيد البلغاء، وحكيم الإسلام يعبر بدقة عن أولئك الذين يسكتون عن الجرائم التي يرتكبها من يتصورون أنهم إخوانهم في الإسلام، أو علماءهم ومشايخهم، بحجة حرمة الحديث في أعراض العلماء.. ولست أدري أيهما أحق بالاحترام: الإسلام نفسه.. أم حرمة أولئك الذين راحوا يفتون بقتل المسلمين، وتدمير بلادهم، وهتك أعراضهم.

وهل حرمة المسلمين المستضعفين الفقراء الذين يبادون في اليمن وسورية والعراق أهم، أم أولئك المتربعين على عروش الفتوى والخطابة، يملأون بطونهم وجيوبهم من عرق المستضعفين ودماءهم؟

وهل استطاع هؤلاء الطيبون أن يصدروا بيانا واحدا يستهجنون فيه الكوليرا في اليمن، ويتساءلون عن سببها، ويتساءلون عن أولئك العلماء الذين نشروا البيانات الكثيرة في تأييد أولئك المعتدين؟.. لكن عندما وصل الأمر إلى أولئك العلماء، واتهموا بالإرهاب قاموا لنصرتهم، وقد نسوا أنهم هم من أوقد نيران الباطل، وهم من أصدر البيانات تلو البيانات، والفتاوى تلو الفتاوى لحرب المستضعفين ونصرة المستكبرين.

وعندما نسأل الإمام علي الذي ابتلي بهذا النوع من المحايدين نجده يخبرنا أنه نفس السبب الذي وقع فيه المشركون عندما تصوروا أن الحق لا يتجاوز آباءهم وأجدادهم، أو عظماءهم، فقال لمن استغرب أن يكون محاربوه مخطئين مع كون بعضهم كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل من المقربين إليه: (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله)

وهذا نفس ما نطق به القرآن الكريم عندما دعانا إلى تخليص أنفسنا من كل الحواجز التي تحول بيننا وبين الحق، وأخطرها حاجز الرجال، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [التوبة:24]

وعلى منوال هذه الآية الكريمة يقال: (قل إن كانت مذاهبكم وطوائفكم ومدارسكم وعلماؤكم ومشايخكم أحب إليكم من الله ورسوله.. فتربصوا)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *