التنويريون.. ونظرية التطور

التنويريون.. ونظرية التطور

من الأدلة الكبرى على تناقض العقل التنويري، وكونه يتعامل بمزاجية ورغبوية مع الحقائق المختلفة موقفه من نظرية التطور، وربطها بالمصادر المقدسة، وخصوصا القرآن الكريم؛ فهو متناقض في ذلك غاية التناقض.

فبينما نراهم يشنعون على الذين يربطون بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم، ويعتبرونهم دجالين ومخرفين ومعقدين، نجدهم يفعلون ما ينهون عنه مع هذه المسألة خصوصا، مع كونها لم تثبت علميا، بل ثبت عكسها، ولم تثبت قرآنيا، بل ثبت عكسها أيضا.. ولكنهم، ولمزاجية تفكيرهم يقطعون بكلا الأمرين خلافا لكل علماء الطبيعة، ولكل علماء اللغة والتفسير.

ولا ينطبق هذا على نظرية التطور فقط، بل ينطبق على نظريات أخرى لم تثبت علميا، بل يستحيل إثباتها علميا، ومع ذلك نراهم يجتهدون في ربطها بمصادر الدين في نفس الوقت الذي يشنعون على من يربطون الحقائق القرآنية القطعية بالحقائق العلمية الثابتة.

ومن أمثلة ذلك محاولة عدنان إبراهيم للربط بين نظرية الأوتار الفائقة والمصادر المقدسة، مع أن هذه النظرية لم تثبت علميا([1])، بل يستحيل إثباتها علميا، لأن القصد منها ليس علميا، وإنما الفرار من الخالق، والبحث عن نماذج فيزيائية ترفض وجوده، أو تحاول أن تبرر وجود الكون بعيدا عنه، وقد قال عنها الفيزيائي الشهير [راسل ستانارد]: (إنها نظرية تحتاج لمصادم هيدروني بحجم مجرة لاختبارها وهذا غير ممكن.. حسنا لو قلنا ـ طبقا للنظرية ـ إن الكون خلق نفسه، فمن أوجد النظرية؟ ومن أوجد القوانين الفيزيائية الخاصة بها؟.. ورغم ذلك فلا توجد لها معادلة فيزيائية حتى الآن.. أطلب منهم أن يكتبوا معادلة فيزيائية.. لن يفعلوا لانهم ببساطة لايمتلكونها)

وهكذا موقفه من نظرية الأكوان المتعددة، مع كونها لم تثبت علميا، بل يستحيل إثباتها علميا، ومع ذلك راح يجتهد كغيره في ربطها بمصادر الدين المقدسة، وذلك لتمريرها رغم أنفها للعقل المسلم.

فالأكوان المتعددة التي يحاول ملاحدة الفيزيائيين الإشهار لها تختلف تماما عن تعدد السموات أو خلق الله الواسع، لأن الأكوان المتعددة ليست سوى احتمالات كثيرة للخلق ممتلئة بالعبث بينما الخلق المتعدد كله متناسق وليس فيه أدنى عبث، ولا يخضع لمبادئ الاحتمالات.

وقد ذكر بعضهم الدوافع النفسية لتلك النماذج، فقال: (اعتقد علماء الكون أنّ عليهم الالتفاف وراء المشكلة.. لقد حاولوا على مرّ السنوات الماضية إثبات عدة نماذج مختلفة للكون تتفادى الحاجة إلى بداية، مع الاستمرار في اشتراط انفجار عظيم.. يبدو الآن من المؤكّد أنّ الكون كانت له بداية)

وهكذا راحوا يفعلون مع نظرية التطور التي لم تثبت علميا، ولن تثبت علميا، بل إن العلم الآن يسير في مواجهتها والرد عليها، واعتبار القائلين بها مجرد خرافيين.

بل إن بدائل علمية كثيرة ظهرت كـ [التصميم الذكي] ([2])، كان الأحرى بهؤلاء التنويريون الإشهار لها والتعريف بها، لكونها تتناسب تماما مع القرآن الكريم، ومع العقل، والفطرة السليمة.

لكنا للأسف لا نزال نرى هؤلاء التنويريون يشيدون إلى الآن بدارون، مع كون معارفه التي جاء بها لا تساوي في موازين العلم الآن شيئا..

ولهم في ذلك مغالطات كثيرة نحاول مناقشتها هنا، ويمكن تقسيمها إلى قسمين: مغالطات مرتبطة بعلمية نظرية التطور، ومغالطات مرتبطة بتفسيرهم لبداية الخلق في القرآن الكريم.

المغالطات المرتبطة بعلمية نظرية التطور:

من الأدلة التي تدل على افتقار التنويريين لكل أدوات البحث العلمي، وخاصة متابعة الجديد فيه، والاطلاع على كل ما كتب حوله، احتفاظهم بتلك المعلومات القديمة التي كتبها من انتصر من الغربيين لنظرية التطور دون البحث فيمن كتب في ردها من علماء الغرب أنفسهم، بل من المتخصصين الذين وضعوا بدائل لهذه النظرية بعد اكتشافهم لهشاشتها وبطلانها.

وبما أنا قد ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب [الحياة تصميم لا صدفة]، وكتاب [كيف تناظر ملحدا؟]، فسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض المغالطات الكبرى، التي تمرر مثل هذه النظرية على المتنورين وأتباعهم المفتقرين لأدوات البحث العلمي، والذين يكتفون فقط بمخالفة المشايخ الذين يعتبرونهم تقليديين ومحافظين ومتزمتين، ولذلك يجعلون هدفهم من تبني الحقائق هو المخالفة، لا البحث عن الحقيقة نفسها.

أولا ـ المفاهيم المتعددة لنظرية التطور:

أول المغالطات التي يمرر بها التنويريون موقفهم من هذه النظرية على أتباعهم خلطهم بين مفهومين متداولين لهذه النظرية، أحدهما هو المفهوم الحقيقي، وهو الذي تطلق عليه النظرية عند الإطلاق، والثاني مفهوم مزيف، وأتي به بقصد تمريرها، ومحاولة إثبات أنها يمكن أن تخضع للتجربة.

أما الأول، وهو [التطور الكبير]، وهو المعروف عند الإطلاق، فيعني التغيّر في الصفات المورفولوجية والجينية مما يتسبب في الانتقال من نوع إلى نوع آخر، وهو المقصود الأصلي من نظرية التطور عند داورن وغيره من القدماء الذين تبنوا هذه النظرية، وهو الذي وقع فيه الجدل بين المتدينين من المسلمين وغيرهم، وبين الداروينيين.

وأما الثاني، وهو [التطور الصغير]؛ فيشير إلى مقدار التغير في تكرار المورث في العشيرة، ويتم التغير فيه على مستوى النوع الواحد نفسه، كتطوير كائن حي لمقاومته نحو جسم غريب، أو تغيير لون لجلد، أو تغيير في حجم عضو معين من الجسم، أو نحو ذلك.

وهذا النوع لا إشكال فيه، لأنه في أصله لا علاقة له بنظرية التطور، فالأنواع لا تنتقل فيه إلى أنواع جديد، وإنما تكتسب صفات جديدة بسبب التزاوج، ومن أمثلة ذلك أن هجرة الأوروبيين إلى أستراليا واختلاطهم بالشعب الأسترالي الأصلي، أدت إلى اختلاط العرقين، وقد أثر ذلك على أولادهم، بحيث أصبحت أشكالهم تمزج بين الأصلين.. وهم يعبرون عن هذا بالتطور البيولوجي للأستراليين.. ومن أمثلته أيضا ظهور فيروس الأنفلونزا كل مرة بصورة جديدة، بحيث لا تؤثر فيه اللقاحات السابقة.

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على أن هذا النوع عادي، ففي الحديث أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود ـ وهو يريد نفيه عنه ـ فقال له: (هل لك من إبل؟)، قال: نعم، قال: (ما ألوانها؟)، قال: حُمْر، فقال له: (هل فيها من أورق؟)، قال: نعم، قال: (فأنى كان ذلك؟)، قال: أراه عرقٌ نزعه، قال: (فلعل ابنك هذا نزعه عرق)([3])

والمغالطة التي يمارسها الداروينيون في هذا الجانب هي أنهم إذا طولبوا بدليل على التطور الكبير يذكرون أدلة التطور الصغير، وفي ذلك تغرير وخداع كبير.

وقد عبر عن هذا الخلط [مايكل بيهي] بقوله: (الدارونية الحديثة فسرت التطور الدقيق بشكل رائع، لكن عند الحديث عن التطور الكبير فعلى التطوريون أن يصمتوا)

وذكر [نيكولاس كومنينلس]، الأستاذ بجامعة ميزوري ـ كنساس، في كتابه [Darwin’s Demise]، أنه من الأخطاء الشائعة في الاستدلال العلمي استخدام التكيُّفات الملحوظة في التطور الصغير لافتراض صحة التطور الكبير، والانتقال من نوع إلى نوع آخر.

ثانيا ـ كذب التنبؤات العلمية لنظرية التطور:

من أهم أدلة مصداقية النظرية العلمية صدق تنبؤاتها في حال عدم إمكانية إثباتها عمليا، والأمثلة على ذلك في تاريخ العلوم كثيرة، ومن أشهرها وأقربها ما ذكرته وسائل الإعلام من أن العلماء رصدوا للمرة الأولى موجات جاذبية، وهي تموجات في المكان والزمان، تنبأ بها ألبرت أينشتاين، بالتزامن مع رصد ضوء ناجم عن الحدث الكوني نفسه، ولأجل ذلك فاز ثلاثة علماء أميركيين اكتشفوا تلك الموجات بجائزة نوبل في الفيزياء، وأثبت هؤلاء الباحثين أن النتائج التي اكتشفوها تساهم في تأكيد نظرية أينشتاين ([4]).

لكن الأمر مختلف تماما مع كل الدعاوى والنبوءات العلمية التي طرحتها نظرية التطور، حيث نرى أنها كلها تخلفت، بل كلها أثبت الزمن عكسها تماما، فقد كان داروين ـ بعد طرحه لنظريته ـ يطمع في أن تثبت الاكتشافات اللاحقة في السجل الاحفوري نظريتة، وبناء على ذلك فإن التنبؤ الدقيق لنظرية التطور هو اكتشاف كميات كبيرة من الأشكال الانتقالية.

لكن صار المستقبل الذي كان يحلم به داروين بحد ذاته عبئا على الداروينية وكما يقول هنري جي المحرر العلمي في مجلة الطبيعة:ـ (إنّ عملية أخذ مجموعة من الحفريات والقول بأنها تعكس وجود سلسلة قرابة هي في الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها للاختبار، وكل ما في الامر انها مجرد حكاية أو حدوته من احاجي منتصف الليل المسلية التي قد تكون مُوَجِّهَةً أو مُرْشِدَةً للإنسان في كثير من الأحيان إلا أنها ومع ذلك لا تستند لأيّ أساس علمي)([5])

كما اعترفت مجلة [National Geographic] مؤخرا بقولها: (مضيء ولكن متقطع، يبدو السجل الأحفوري كفيلم للتطور فقد منه 999 من اصل 1000 صورة)

وهكذا يعترف التطوريون أن 99.9 بالمائة من الدليل مفقود، ومع ذلك يحاولون دائما خداعنا بنماذج مزيفة لحلقات انتقالية ليبرروا بها نظريتهم.

ولم يكن الأمر قاصرا على عدم اكتشاف الحلقات المفقود، بل إن الاكتشافات الأحفورية كل حين تثبت عكس كل التوقعات التي تبنتها الداروينية، ومن الأمثلة على ذلك تلك الحفرية البشرية التي عثر عليها في أسبانيا في سنة 1995، على يد ثلاثة علماء أسبان من جامعة مدريد متخصصين في الأنثروبولوجيا القديمة، وقد كشفت الحفرية عن وجه صبي في الحادية عشرة من عمره كان يبدو مثل الإنسان العصري تماما، على الرغم من مرور800.000 سنة على وفاته.

وقد هزت هذه الحفرية قناعات المكتشفين لها، فقد قال [أرساجا فريراس]، وهو أحد المكتشفين: (لقد توقعنا أن نجد شيئا كبيرا، شيئا ضخما، شيئا منتفخا… كما تعلم، شيئا بدائيا. لقد توقعنا أن يكون غلام عمره 800.000 سنة مشابها لطفل توركانا. ولكن ما عثرنا عليه كان وجها عصريا تماما… بالنسبة لي كان الأمر مثيرا للغاية… إن العثور على شيءٍ كهذا غيرِ متوقع على الإطلاق لهُوَ من الأشياء التي تهز كيانك. فعدم العثور على حفريات أمر غير متوقع، تماما مثل العثور عليها، ولكن لا بأس. إلا أن أروع ما في الأمر هو أن تجد شيئا في الماضي كنت تعتقد أنه ينتمي إلى الحاضر. إن الأمر أشبه بالعثور على شيء مثل جهاز تسجيل في كهف جران دولينا. سيكون ذلك مدهشا للغاية، لأننا لا نتوقع العثور على أشرطة كاسيت وأجهزة تسجيل في العصر البلستوسيني الأدنى. وينطبق ذات الشيء على اكتشاف وجه عصري عمره 800.000 سنة. لقد اندهشنا جدا عندما رأينا هذا الوجه)([6])

ثالثا ـ ممارسة الداروينيين للخداع العلمي:

بعد يأس العلماء المؤمنين بنظرية التطور من إيجاد الحلقات المفقودة التي تنبأ بها داورن، راحوا يموهون على أتباع هذه النظرية بالكثير من النماذج التي أثبت التاريخ بطلانها بعد ذلك، وللأسف لا زال التنويريون يؤمنون بها على الرغم من أن أصحاب النظرية أنفسهم تخلوا عنها.

ومن الأمثلة على ذلك، والتي استعملها الداروينيون لفترة طويلة، بل لا زال بعضهم يستعملها، ما يسمونه [إنسان بلتداون].. أو ما يطلق عليها الآن بـ [خدعة بلتداون]([7])، ففي عام 1912، ادعى فريق بحثي بقيادة عالم حفريات بريطاني هاوٍ يُدعى [تشارلز داوسون] اكتشاف حفرية.. وقد كان الأمر حينها عجيبا ومثيرا.. ذلك أن عظام فك تلك الحفرية التي تم عرضها تشبه عظام فك القرد، بينما الجمجمة كانت تمتلك صفات جمجمة الإنسان.

وقد اهتمت الهيئات الكثيرة بذلك الاكتشاف الخادع، وتم إطلاق اسم [إنسان بلتداون] على تلك الحفرية، والتي عُرضت في أهم متاحف العالم لأكثر من 40 عامًا متتالية على أنها دليل قاطع على صحة نظرية التطور.

وكان صداها هائلًا على المستوى الأكاديمي، حتى أن ما يقرب من 500 أطروحة للدكتوراه تمت كتابتها عن هذا الأمر لمدة 40 عامًا، بل كانت توصف بكونها رمزًا لانتصار نظرية التطور المزعومة، وُضعت للعرض والمشاهدة في المتحف البريطاني، والذي يعتبر واحدًا من أشهر المؤسسات في العالم.

وقد تم فحصها ودراستها في تلك الفترة الطويلة من قبل أشهر العلماء من جميع أنحاء العالم، بل حتى من قبل أعداد لا تُحصى من الزائرين.

وفي الأخير، وبعد كل ذلك الانتصار الكاذب الذي لبس لباس العلم اكتشف أن الأمر كله لا يعدو أن يكون مجرد خدعة.

ففي عام 1949، استطاع [كينيث أوكلي] من قسم الحفريات في المتحف البريطاني أن يطور طريقة جديدة لتحديد أعمار الحفريات.. وبدأ باستخدام هذه التقنية التي أُطلق عليها اختبار الفلوريد على الحفريات الموجودة داخل المتحف.

وما إن راح يطبقها على جمجمة [إنسان بلتداون] حتى ذهل للمفاجأة، فقد اكتشف أن عظام الفك خالية من مادة الفلوريد، بينما احتوت الجمجمة على نسبة صغيرة منه.. وهذا يعني أن عظام الفك لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، والجمجمة لا يتجاوز عمرها بضع المئات من السنين على أقصى تقدير.

ومع تكثيف التحقيقات، اكتشف أن تلك الحفرية التي تم تصويرها على أنها أفضل دليل تم التوصل إليه لإثبات نظرية التطور كانت في الحقيقة محض كذب.. فعظام الفك تنتمي إلى إنسان الغاب المتوفى حديثًا.. والجمجمة تنتمي إلى إنسان متوفٍّ منذ فترة قاربت 500 عام..

ومن خلال الفحص عن قرب عرف أن الأسنان تم إرفاقها بعظام الفك في وقتٍ لاحق، وتم استخدام أداة صلبة لكشطها.. ثم تم غمرها في سائل ثنائي كرومات البوتاسيوم، وذلك لإعطائها مظهرًا قديمًا.

وقد أثبتت التحاليل المفصلة التي أجراها [جوزيف وينر] بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الحفرية كانت مجرد خدعة.

وكان البروفيسور [لو جروس كلارك] أستاذ التشريح بجامعة أوكسفورد واحدًا من هؤلاء العلماء الذين كشفوا هذا الغش والاحتيال.. وفي نهاية التحقيقات التي قام بها، قال: (بالفعل فإنه يبدو جليًا افتعال هذه الخدوش، ويبدو أنه من الجيد طرح السؤال الأهم، وهو: كيف أن هذه الخدوش لم يتم ملاحظتها من قبل؟.. إنهم لم يبحثوا عن هذا الأمر من قبل.. لم يقم أي شخص في السابق ممن فحصوا عظام فك بلتداون بوضع فكرة وجود تزييف محتمل نُصب عينيه، إنه تلفيق متعمد)

أما [كلارك هاول] أستاذ الأنثروبولوجيا، فقد قال معلقا على هذه الخدعة الخطيرة: (اكتُشفت بلتداون عام 1953 ولم تكن سوى عظام فك لقرد تم إدخالها على جمجمة إنسان، فهي خدعة قد تم وضعها عن عمد، فهم لم يقروا بشكل واضح عما إذا كان هذا الفك ينتمي لقرد أو إذا كانت الجمجمة تنتمي لإنسان، وبدلًا من ذلك فقد أعلنوا أن كل جزء من الجزئين السابقين هو شيء في المنتصف ما بين القرد والإنسان.. وقد أرجعوا تاريخه لحوالي 500 ألف عام مضت، وأطلقوا عليه اسم [الإنسان الفجرى الدوسوني أو إنسان داون]، وكُتب ما يقرب من 500 كتاب عن هذا الأمر خدع هذا الاكتشاف علماء الحفريات لمدة 45 عامًا)

هذا مجرد مثال.. والأمثلة كثيرة جدا.. بل إننا في كل يوم نسمع كذبة جديدة وخدعة جديدة، ويصدقها الكثير، لا لكونها علمية، ولكن لكونها تصب في ذلك التفكير الرغبوي المزاجي الذي جعل الداروينيين ينتصرون لهذه النظرية بالصدق أو بالكذب.

ومن الأمثلة على ذلك أيضا خدعة أخرى اسمها [إنسان نبراسكا].. وتبدأ قصة هذه الخدعة عام 1922، وهو الوقت الذي كانت الجهود المكثفة تبذل فيه بهدف الوصول لبرهان على نظرية التطور.

حينها كان الجميع مهووسون بالوصل إلى ذلك الإثبات.. أو بالوصول إلى الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالقرد أو بغيره من الحيوانات..

حينها أعلن [هنري فيرفيلد أوزبورن] رئيس قسم الحفريات بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي عن اكتشافه حفرية لضرس يعود تاريخه إلى الحقبة البليوسينية بالقرب من وادي الأفاعي غرب نبراسكا.

وقد حدث توافق بشكل تام بناءً على ضرس واحد فقط بأنه ينتمي إلى ما يسمى بالرجل القرد.. ثم دارت العديد من النقاشات العلمية العميقة حول هذا الدليل المزعوم، والذي لم يكن في الحقيقة أكثر من مجرد خيال.

وقد أُطلق على هذه الحفرية ـ والتي سببت جدلًا واسعًا ـ اسم [إنسان نبراسكا].. بل سرعان ما تم إعطاء اسم علمي عليها، وهو [هسبيروبايثيكوس هارولدكوكي].. وسرعان ما لقي مكتشفها الكثير من الدعم والاهتمام.

ومما يدل على فداحة التفكير الرغبوي لدى الداروينيين، وتسلطه عليهم، أنهم راحوا يجرون العديد من الرسومات لإعادة بناء جمجمة وجسد إنسان نبراسكا اعتمادًا على ضرس واحد فقط.. بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث نُشرت العديد من الرسومات الإيضاحية لإنسان نبراسكا مع أولاده وزوجته في بيئتهم الطبيعية التخيلية.

بل بدأ التطوريون مرة أخرى بحشد جميع الوسائل المتاحة لهم من أجل هذا السيناريو الوهمي..

ومع أن بعض العقلاء في ذلك الحين أقر بأن الأدلة المتعلقة بخصوص [إنسان نبراسكا] غير ملائمة تمامًا، وأن الدليل المتاح لا يبرهن على أي شيء، وأن على هؤلاء الانتظار مزيدًا من الوقت.. إلا أن التطوريين، ولحرصهم على نظريتهم، وخوفهم من فقدان هذا الدليل الكاذب راحوا يشنون حملة مضادة تضمنت الدعاية التطورية المعتادة ضد من يخالفهم، باعتبارهم غير علماء ولا متخصصين ولا متطورين عقليا.

لكن بعد كل ذلك بفترة من الخداع والوهم اكتشف أن هذا الضرس لا ينتمي لا للبشر ولا للقردة، وإنما لفصيلة منقرضة من الخنازير البرية.

رابعا ـ التكتم على الانتقادات الكثيرة الموجهة لنظرية التطور:

وهو أمر مخالف تماما للمنهج العلمي، ذلك أن الحقيقة العلمية منفتحة على النقد، وتتقبل الآخر، وتناقشه مناقشة علمية هادئة، ولا تفرض عليه أي سلطة أو وصاية.

ومن الأمثلة التي تدل على ذلك الانغلاق الفكري الذي يعانيه الداروينيون، موقفهم من كتاب [التطور: نظرية في أزمة] الذي أصدره [مايكل دنتون] عام 1985، والذي أثار الكثير من الجدل، بل من العنف والمواجهة من طرف التطوريين، لسبب بسيط، وهو أنه أقر فيه بالحقيقة، وصرح فيه بما جبن غيره أن يصرح به؛ فقد ذكر فيه أن نظرية التطور بالاصطفاء الطبيعي نظرية في أزمة علمية حقيقية.

ولهذا وُصف من قبل العديد من البيولوجيين بأنه نقض لأركان نظرية التطور وهدمها بأسس علمية.. وبسبب هذا تعرض الكتاب ومؤلفه إلى حملة كبيرة من التشويهات، لا لكونه غير علمي، ولا غير منسجم مع المنطق.. ولكن لكونه ناقض الخط العام المرسوم مسبقا، والقائل بقبول نظرية التطور حتى وإن كانت تناقض في كثير من نقاطها الحقائق العلمية الواضحة.

وهكذا نرى في الوقت الحاضر أنه لا يوجد سبب يدعو إلى ربط العلم بنظرية التطور، فالعلم يقوم على الملاحظة والتجريب، بينما تعبر نظرية التطور عن فرضية متصلة بماض لا يمكن إخضاعه للملاحظة.

ولهذا نراهم يتركون الاحتجاج العلمي المبني على الأسس المنطقية التجريبية، ويلجؤون إلى أساليب لا علاقة لها بالعلم من أمثال ادعائهم أن النظرية مقبولة بشكل واسع في المجتمع العلمي.

وكأن صحة أي نظرية تعتمد على الأغلبية المفترضة لأتباعها، لا على ما يدل عليها من أدلة.. ولهذا يمارسون نوعا من الضغط النفسي والدعاية الخالية من اللغة العلمية.

لقد أقر الدكتور [أدرا دينكل]، وهو برفيسور في الفلسفة، ومساند لنظرية التطور، بالطبيعة الخاطئة لهذا الأسلوب، فقال: (هل الحقيقة التي يؤمن بها العديد من الأناس البارزين أو المنظمات أو الهيئات يثبت صحة نظرية التطور؟.. هل يمكن اثبات النظرية بقرار المحكمة؟.. هل الحقيقة التي يؤمن بها الشخصيات أصحاب السلطة يجعلها صحيحة؟)([8])

ثم راح يجيب على هذه التساؤلات بقوله: (أريد أن أسترجع حقيقة تاريخية.. ألم يقف جاليلو ضد الشخصيات الهامة والمحامين، وخصوصًا العلماء في ذاك الوقت، وتكلم عن الحقيقة لوحده، وبدون أي دعم من أي شخص؟.. ألم تكشف محاكم الإستقصاء حالات أخرى مشابهة؟)

ثم ختم كلمته بقوله: (إن كسب دعم الدوائر البارزة والمؤثرة في صنع القرار لا يصنع الحقيقة، وليس له علاقة بالحقيقة العلمية)

إضافة إلى ما ذكره الدكتور [أدرا دينكل]، فإننا إذا تأملنا الواقع العلمي جيدا، وبنظرة حيادية، نجد نظرية التطور غير مقبولة من المجمتع العلمي كله، كما يشيع أنصار نظرية التطور.. بل إنه خلال العشرين سنة ماضية، نرى أعدادا محترمة من العلماء ترفض الداروينية بشكل متصاعد؛ فقد ترك معظمهم عقيدتهم الدوغماتية في الداروينية بعد رؤية تصميم لا عيب فيه في الكون وفي الكائنات الحية.

والأهم من ذلك كله أن الذين تخلوا عن النظرية هم أعضاء من جامعات مشهورة، ومن جميع أنحاء العالم، خاصة في الولايات المتحدة، فهم خبراء وأكاديميون في مناصب علمية مثل البيولوجيا والبيوكيماء والميكروبيولوجي وعلم التشريح وعلم الدراسات القديمة وغيرها من الحقول العلمية.. فلذلك، فإنه الخطأ الكبير القول بأن الأغلبية من المجتمع العلمي تؤمن بالداروينية.

وحتى لو فرضنا أن هناك إجماعا على قبول هذه النظرية، فهل الاحتكام إلى الإجماع من الناحية العلمية احتكام صحيح؟.. وهل الإجماع العلمي معصوم من الخطأ؟

لقد عبر عن هذا المعنى [مايكل كريتشتون] حين ذكر أن الإجماع يمكن استخدامه في مجالات الدين أو السياسة، ولكن لا مكان له في العلم، ذلك أنه يعتمد فقط على الأدلة المكتشفة من التجارب العلمية، ولا يعتمد على أعداد العلماء..

لقد عبر عن ذلك بقوله: (دعنا نكن واضحين: الأسلوب العلمي ليس له أي علاقة بالإجماع، الإجماع هو عمل السياسة.. العلم في الوجه المقابل، يحتاج إلى محققين يصادف أنهم على صواب، وهذا يعني أن لديه معلومات قابلة للإثبات بالمراجع في العالم الواقعي.. أما الإجماع العلمي فليس له علاقة، فالذي له علاقة هي النتائج القابلة للإنتاج.. أعظم العلماء في التاريخ كانوا عظماء بالفعل لأنهم كسروا الإجماع.. لا يوجد شيء اسمه إجماع علمي.. إذا كان هناك إجماع فهو ليس علما.. وإذا كان هناك علم فهو ليس إجماعا.. نقطة على السطر)

وعبر عن ذلك في موقف آخر بقوله: (الإجماع يستخدم عندما لا يكون العلم صلبًا بما فيه الكفاية.. لا أحد يقول إن إجماع العلماء يتفق على أنّ بعد الشمس عنا هو 93 مليون ميل.. لم يحدث أبدًا أن تكلم أحد بهذه الطريقة)

وقال: (أريد أن أتوقف هنا لمهلة وأتكلم عن فكرة الإجماع، والفكرة التي انتشرت بكثرة وهي الإجماع العلمي.. أنا اعتبر الإجماع العلمي تطورا خبيثا يجب إيقافه بدون رحمة.. فتاريخيًا، ادعاء الإجماع كان مأوى الأوغاد.. إنها طريقة لتجنب المناظرة بإدعاء أن القضية صارت محلولة.. كلما سمعت عن إجماع العلماء في الموافقة على شيء ما أو آخر، فابحث عن محفظتك، لأنه يتم شراؤك..أو تفقد مخك، لأنه يتم غسيله)

وقبله بقرون عبر جاليلو عن موقفه من قضية الإجماع العلمي، فقال: (في الأسئلة العلمية، سلطة الآلاف لا تستحق التفكير المتواضع لشخص واحد)، هذا هو القانون الصحيح الذي يحتكم إليه في العلم، لا تفكير القطيع الذي يتصور أنه كلما كبر العدد كانت الحقيقة.

وفي هذا المقام نذكر نظرية التصميم الذكي التي هي البديل الحقيقي لنظرية التطور، والتي تمنينا لو أن التنويريين اهتموا بها بدل اهتمامهم بنطرية التطور، وهي نظرية نشأت في مواجهة نظرية التطور([9])، وتحاول تفسير نشأة الأنواع الحية تفسيرا علميا بعيدا عن كل أنواع الأيديولوجيا والتفكير الغرضي، وهي تتبنى توجهاً مناهضاً للدور العشوائي اللاغائي الذي تعطيه نظرية التطور للطبيعة، باعتبارها أداة فاعلة في الخلق..

وهي لأجل ذلك تواجه دعاوى التطوريين عن وجود عيوب في تصميم الأنواع الحية؛ لكونها تطورت بعضها من بعض، فنشأت العيوب نتيجة السمكرة وإعادة التخليق، وهي لذلك لا تعترف بوجود أعضاء بلا وظيفة، أو أعضاء غيّرت وظيفتها عبر المشوار التطوري.

وهي ترى في الأنظمة الحيوية تعقيدات وظيفية متخصصة، وتعقيدات غير قابلة للاختزال، ومن ثم تعجز الرؤية التطورية التدرجية التراكمية عن تفسيرها.

وهي تحصر دورها في وصف حقيقة الحياة كما هي، وتزيل عنها الرؤية التطورية الخرافية.. وترى كل نوع من الأنواع عالما قائما بذاته، لم يتطور من غيره، ولم ينشأ عنه.. وهي لذلك تفسر خلق الأنواع الحية بكونها تمت من قِبل مصمم ذكي، ولا تسمي اسم ذلك المصمم ليجتمع فيها جميع الأديان المؤمنة بوجود مصمم ذكي بغض النظر عن اسمه وصفاته وحقيقته، وهذا ما يفرقها عن النظريات الدينية.

وقد تعرض أصحاب هذه النظرية لمضايقات كثيرة من طرف التطوريين؛ فمنذ بدأت حركة التصميم الذكي، والتطوريون يشيعون عن أصحابها أنهم [خَلْقَوِيُّون]، مع أن المنضمين إلى هذه الحركة والمؤسسات التابعة لها ليسوا كذلك جميعا.. فبعضهم دينيون مع اختلاف دياناتهم.. وبعضهم لا أدريون.. بل إن بعضهم ملاحدة.

ومن أقطاب هذه النظرية البروفيسور [دين كينيون]، وهو من أوائل المؤسسين لهذه الحركة، وأحد المشاركين في وضع نموذج شهير لتفسير نشأة البروتين في بدء الخلق من خلال الأُلفة الكيميائية للأحماض الأمينية، بعد أن تراجع عن نموذجه واعترف بعدم وجود قيمة تفسيرية له.

ومنهم البروفيسور [أنتوني فلو]، الذي قضى عمره في الإلحاد، ثم عاد عنه وصنّف كتاب [هناك إله] الذي أعلن فيه تراجعه عن إلحاده، وانضم إلى حركة التصميم الذكي..

ومنهم الدكتور البيولوجي [هنري جي] المُحرر بمجلة نيتشر التطورية الشهيرة، وذلك في كتابه [البحث في أعماق الزمن]، والذي علق على الاستشهاد ببضعة عظام لا تملأ صندوقا صغير على تطور الإنسان أو غيره ـ مع كونه من التطوريين ـ: (إن أخذ سلالة من الأحافير وادعاء أنها تمثل خطاً تكاثرياً لا يعتبر فرضية علمية قابلة للاختبار، وإنما هو تأكيد على قصة تحمل نفس قيمة القصص التي تروى قبل النوم ـ ربما مفيدة.. ولكن ليست علمية)

ومنهم [جيري فودور]، وهو بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي، والذي كتبت كتابه في التشكيك في حقيقة وجود خرافة الانتخاب الطبيعي مع كونه كان حينها ملحدا، وذلك في كتابه [لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟]

المغالطات المرتبطة بربط نظرية التطور بالقرآن الكريم:

لم نكن لنهتم لأطروحات التنويريين المرتبطة بنظرية التطور لو أنهم اكتفوا بتبنيها، والدعوة إليها، دون أن يربطوها بالمصادر المقدسة، ويلووا أعناقها في سبيل ذلك، فنحن نعلم عشقهم لكل غربي ثبت أو لم يثبت، كما نعلم حبهم لمخالفة ما عليه سائر العلماء، واعتبارهم ذلك تحررا ووعيا وتعقلا.

والتناقض الأكبر الذي يقع فيه هؤلاء هو اهتمامهم بمثل هذه القضايا، التي لو طرحها علماء المسلمين لاعتبروهم متخلفين، ذلك أن هذه النظرية ـ في حال التسليم جدلا بثبوتها ـ لا علاقة لها بأي مجال من المجالات العلمية الواقعية، فسواء قلنا: إن الزرافة تطورت عن حيوان سابق، أو خلقت خلقا جديدا.. فإن ذلك لن يغير من الزرافة، ولا من فوائدها أو مضارها شيئا.. وبذلك فإن البحث في هذا نوع من الترف العقلي مثله مثل البحث في أيهما السابق البيضة أم الدجاجة.

بالإضافة إلى أن في هذا الكثير من التكلف.. فالله تعالى ما أشهدنا خلق كونه، ولا شيء منه، والاستشهاد بالحاضر على الغائب قياس فاسد.. مع أنه لم يثبت في المخابر أي دليل على التطور.. كل ما فيه بضاعة كلامية مزجاة خالية من كل دليل.. لا يهدف أصحابها إلا إلى تفسير كيفية نشوء الحياة، ومحاولة عزل الله عن ذلك النشوء، ابتداء أو استمرارا.

وبناء على سريان الشبهات التي طرحوها على الكثير من الناس، حتى أصبحوا تطوريين أكثر من دارون نفسه؛ فإننا سنناقش هنا أدلتهم، لا بتفاصيلها، وإنما بهدم الأسس التي تقوم عليها، وبيان مخالفتها للمصادر المقدسة.

ومن خلال استقراء النصوص المقدسة في هذا الجانب نجد ناحيتين اثنتين ركز عليهما القرآن الكريم، وفيهما أحسن الردود على من يتبنى هذه النظرية، أو يحاول ربطها بالمقدس، أولهما يرتبط بسنة الله تعالى في خلقه، وثانيهما يرتبط بخلق آدم عليه السلام، وكيف تم ذلك.

أولا ـ المصادر المقدسة والخلق المباشر:

تحاول نظرية التطور في أساسها الفلسفي تفسير التنوع الحاصل في الحياة، كما تحاول تفسير نشأتها الأولى، بعيدا عن الحاجة للإله إما كليا بعدم الحاجة مطلقا، وهو مذهب الملاحدة، أو جزئيا على مذهب الربوبيين، باعتباره أعطى الشرارة الأولى للخلق، ثم تركه يتنوع بحسب ما تمليه العشوائية أو التوجيه الإلهي.

ولهذا نجد الكثير من المؤمنين بالله من جملة أتباع هذه النظرية، باعتبارها لا تلغي الله مطلقا، وإنما تعتبره ـ وخاصة على مذهب الربوبيين ـ مشعل الشرارة الأولى، لتبقى نار الحياة بعدها تسري من غير إدارة تتحكم فيها.

لكن المشكلة التي تواجه هذه النظرية هي مصادمتها للمصادر المقدسة للأديان الثلاثة خصوصا الإسلام والمسيحية واليهودية.. ولهذا انبرى رجالها جميعا للرد عليها.

فهي تتفق جميعا في قدرة الله المطلقة على الخلق المباشر لأي نوع، متى شاء وكيف شاء من غير حاجة لذلك السلم الطويل من التطور، ولا تلك الأحقاب الطويلة من الزمان.

وهذا ما أثبته القرآن الكريم بصيغ كثيرة إما على العموم المرتبط بجميع أنواع الخلق، أو على الخصوص بخلق الحياة نفسها.

وقد كان في إمكان التنويريين أن يفسروا تنوع الحياة على هذا الأساس من غير أن يصدموا بالحقائق العلمية، ولا بالمصادر المقدسة.. ذلك أن الله تعالى في إمكانه وهو القادر على كل شيء أن يخلق ما شاء متى شاء كيف شاء.

ولذلك فإن التفسير الأسهل بالنسبة لهم ـ خلافا للملاحدة ـ هو ألا يفسروا التنوع بالطفرة، وإنما بالخلق الجديد، فالطفرة عشوائية، والعلم الآن لا يثبتها بالصورة التي تبناها الداروينيون الأوائل، أو الداروينيون الأواخر.

ونظرية الخلق الجديد التي يذكرها القرآن الكريم لا تلغي وجود تقارب بين المخلوقات.. وإنما تعني أن الله تعالى باعتباره خلاقا، لا يطور الخلق السابق ليتحول إلى خلق جديد، وإنما يخلقه ابتداء، كما صور ذلك بدقة عند ذكره لخلق آدم عليه السلام، والذي ورد في النصوص القرآنية والنبوية أنه خلق من طين، ومن حمأ مسنون..

بل أشار إليها القرآن الكريم عند ذكره للبعث، بقوله: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق: 15]، فالله تعالى يرد على المشركين الذين تعجبوا من البعث، والذي هو خلق جديد، لا علاقة له بالتطور، بأن ذلك يسير جدا بالنسبة لقدرة الله المطلقة.

كما صور ذلك بدقة عند ذكره لناقة صالح عليه السلام، والتي أخرجها من الصخر آية من آيات الله.. كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 73]

فقد كان لهذه الناقة المخلوقة خلقا جديدا من الصفات والمميزات ما لم يكن لسائر النوق، فقد كانت تعطيهم لبنا كثيرا، كما أنها تستقي كثيرا، قال تعالى:﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: 155]

وهكذا فإن من مقتضيات الإيمان بالبعث الإيمان بالخلق الجديد، فالإنسان عند بعثه لن يتطور من كائن آخر، وإنما سيخلق من جديد من تراب الأرض، وبخصائص جديدة تخالف الخصائص التي ولد بها في هذه النشأة.

ولهذا رد الله تعالى على الذين يفرضون عليه ماذا يفعل، وكيف يفعل، بقوله: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق: 15]، ومعناها ـ كما يذكر المفسرون ـ: (أعجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته)

والمراد بالخلق الجديد (تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من غير موت)

وقد أشار إلى هذا أيضا ما ورد في القرآن الكريم من القدرات العظيمة التي آتاها الله للمسيح عيسى عليه السلام، ومنها إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص.. والتي وصلت إلى حد القدرة على الخلق بإذن الله.. والتي وردت في مواضع من القرآن الكريم، وبصيغ متعددة، منها قوله تعالى على لسان المسيح معبرا عن فضل الله عليه:﴿وَرَسُولًا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 49]

ومنها منة الله عليه بالقدرة على ذلك، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: 110]

وهذه الآيات فيها رد شديد على أولئك الذين يحيلون على الله أن يخلق أي أمة من الأمم ابتداء، ويتصورون أنه يفتقر إلى أن يطور خلقا سابقا، ليحصل منه خلق جديد، وكأنه عامل في مصنع، أو مخترع في مخبر، وليس قادرا على كل شيء.. يخلق ما يشاء.. متى يشاء.. كيف يشاء.

ولو أن هؤلاء نظروا فيما يخترعونه من مخترعات يزهون بها، لكان ذلك وحده كفيلا بتسليمهم لخالقهم، واعترافهم بقدرته المطلقة على الخلق ابتداء من غير حاجة لأي وسائط.

فهل كان الجيل الثاني من جهاز الكمبيوتر صناعة جديدة، أم أن المخترعين راحوا إلى نفس الجهاز القديم ينقصون منه ويضيفون، حتى تحول إلى جيل جديد.. لاشك أن الواقع لم يدل على هذا.. بل إن كل جيل من الأجيال يقتضي أن يصنع صناعة خاصة تتناسب معه، مهما كان القرب بينه وبين الأجيال السابقة.

ثانيا ـ المصادر المقدسة وخلق آدم عليه السلام:

لم يكتف التنويريون بالصراع مع تلك النصوص الدالة على قدرة الله المطلقة، وكونه {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة: 117]، وإنما راحوا ـ بكل وقاحة وجرأة ـ يصادمون النصوص الصريحة التي تنص على أن آدم عليه السلام خلق من تراب، ومن طين، ليحولوه إلى كائن متطور عن كائن سابق، وأن تلك التسوية التي ذكرها القرآن الكريم ليست سوى ألفاظا عبثية اعتباطية لا دلالة حقيقية لها.

والمشكلة أن هؤلاء في تكلفاتهم يربطون ذلك بالقرآن الكريم، فيستدلون بقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، ويلبسون على أنفسهم وعلى الناس، بأن الله شبه المسيح بآدم غافلين عن أن المشبه به لا يساوي المشبه في كل الوجوه.. وغافلين عن أن الله تعالى ما ذكر ذلك إلا ليبين أن له الإرادة المطلقة، ولذلك ـ كما خلق آدم عليه السلام ـ من غير أبوين، فهو قادر على خلق المسيح من غير والد.

ولو أن هؤلاء تخلوا عن كبريائهم، وراحوا يحترمون لغة القرآن الكريم، ويتدبروا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 28، 29] والذي ورد في مواضع متعددة من القرآن الكريم.. لما وقعوا فيما وقعوا فيه.. ولما فضلوا أي فرضية مهما كانت على هذه الحقائق المقدسة.

وبناء على تلك الجرأة نشأت نظريات تأويلية مختلفة للقرآن الكريم يمجها الذوق السليم، وتمجها قبل ذلك اللغة القرآنية الراقية.

وسنشير هنا إلى بعضها لنرى مدى التهافت الذي وقعت فيه.. فمن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } [نوح: 14]، وكونها ـ حسب تفسيرهم ـ تشير إلى نظرية التطور، وهذا لا يصطدم فقط مع موقفهم السلبي من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وإنما يصطدم أيضا بالحقائق القرآنية المرتبطة بهذا الجانب.

فالآية الكريمة، والتي وردت في خطاب نوح عليه السلام لقومه، لا تشير إلى تطور الأنواع، كما تنص نظرية التطور، والتي تعني تحول الكائنات من نوع إلى نوع عبر العديد من الطفرات والانتخاب الطبيعي خلال زمن طويل.

وإنما تعني مراحل الخلق التي يمر بها كل كائن حي.. حيث تمر آحاد الكائنات الحية خلقا من بعد خلق حتى تتحول من نطفة إلى كائن كامل، كما أشارت إلى ذلك آيات كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 12 – 14]

ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]، فقد فسروا [القوم الآخرين] في الآية الكريمة بكونهم خلقا آخر غير البشر.

مع أنهم لو رجعوا للقرآن الكريم نفسه لوجدوا تأويلها واضحا جليا، فالله تعالى ذكر سنته في استبدال كل من ينقض العهود بغيرهم من الأقوام، مثلما فعل مع بني إسرائيل حين نقضوا العهد، فأبدلهم بالعرب، ثم هدد العرب أنفسهم أنهم في حال استبدالهم سيعوضهم بغيرهم، كما قال تعالى: { إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]، وقال: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد: 38]

فهل تعني هذه الآية الكريمة ـ على حسب تصور التنويريين ـ هو تطور الإنسان إلى خلق آخر، لأن الآية الكريمة ذكرت عدم شبههم بالقوم السابقين: { ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}؟

وقد صرحت آيات أخرى بهذا المعنى، فالله تعالى قال: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]، وقال: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر: 16، 17]

ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، فقد تصوروا أن الله تعالى اصطفى آدم عليه السلام عبر طفرة جعلته مخالفا للجنس السابق الذي كان عليه أجداده.

وغفلوا عن أن الله تعالى ذكر اصطفاء نوح وآل عمران، فهل كان اصطفاؤهما أيضا عبر طفرة ميزت بينهم وبين آبائهم وأجدادهم؟

 بل إن القرآن الكريم ذكر سنته في الاصطفاء؛ فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وقال: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر: 32]

وذكر نماذج عن ذلك الاصطفاء، ومنهم مريم عليها السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 42]

ومنهم طالوت، كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]

فهل هؤلاء جميعا تحولت جيناتهم عبر طفرة وراثية من نوع إلى نوع، أم أن المراد منه الاصطفاء المرتبط بالقيم والأخلاق والإيمان، لا بالنواحي البيولوجية التي يشترك فيها البشر جميعا.

ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، فقد فسروها بتلك التفسيرات المادية لمبدأ الخلق [الحساء البدائى]، والذي لم يثبت علميا، ويستحيل أن يثبت علميا، وقد ذكرنا الردود على ذلك بتفصيل في كتاب [الحياة: تصميم لا صدفة]

والمراد من الآية الكريمة هي نفس المراد من قوله تعالى عن مريم عليها السلام: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37]، وقد نقل الفخر الرازي عن ابن الأنباري في تفسيرها قوله: (التقدير أنبتها فنبتت هي نباتا حسنا، ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين، أما الأول فقالوا: المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة)([10])

ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 – 9]، وقد حملوا هذه الآية محامل عجيبة، لا علاقة لها باللغة، ولا بسائر الآيات القرآنية.

فقد فسروها على أن المراد منها أن الله تعالى بدأ خَلْق الإنسان من طين أي من [الحساء البدائي] كما يقول الداروينيون، والذي اختلفوا في الطاقة التي وهبته الحياة؛ ثم جعله يتناسل بالماء المهين، عبر المراحل المختلفة.. ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة ممثلة في بعض أنواع البكتيريا، وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.. ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.. وعبر ملايين السنة تطورت هذه الحيوانات لينشأ منها آدم([11]).

وهذا تفسير عجيب جدا لا يصلح في أبسط التعابير البدائية التي نستعملها، فكيف باللغة القرآنية الدقيقة والمتماسكة، فهل يصح لشخص تسأله عن المادة التي بنى بها بيته أن يذكر لك أنه بناها من إلكترونات وبروتونات ونترونات، أو من المواد الأولية البسيطة التي تتشكل منها الذرة، أم أنه يذكر لك آخر شيء تتشكل منه الجزيئات التي بنى بها بيته.

وهكذا نرى هذه اللغة مستعملة في حياتنا جميعا، فلا نذكر في تعابيرنا إلا آخر شيء متشكل، لا أوله، ولا مقدماته.

ولو كان الأمر كما ذكروا لأخبر الله تعالى الملائكة عليهم السلام أنه خالق بشرا من سلالة الشمبانزي، أو من أي حيوان آخر، وأنه سيقوم بإجراء طفرة في سبيل ذلك، ولم يقل لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ص: 71، 72]، وهي كلها مرتبطة ببعضها بفاء الترتيب والتعقيب.

ولو كان الأمر كما ذكروا لما قال الله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وهو يشير إلى أن كل إنسان في أحسن تقويم، وأن البشر لم يمروا بأي مراحل تطورية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن القرآن الكريم ذكر لنا مثالا مقربا لذلك، والقرآن يفهم بعضه من بعض، فقد قال تعالى عن المسيح عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي } [المائدة: 110]، فهل كان المسيح عليه السلام أكثر قدرة من الله تعالى بحيث خلق الطير في لحظة واحدة، بينما على مذهب الداروينيين احتاج الله تعالى إلى مئات الملايين من السنين لتتشكل الطيور؟

أما معنى السلالة التي توهموا أن المراد منها هو سلالة الحيوانات السابقة لآدم عليه السلام، فذلك غير صحيح، وبحسب اللغة القرآنية نفسها، ذلك أن السلالة في اللغة مشتقة من قولهم: [سلَّ الشيء] إذا انتزعه واستخرجه من غيره، والشيء المسلول هو المنتزع من شيء آخر، والآية الكريمة نصت على أن الإنسان مستل ومستخرج من الطين.

وقد قال الزمخشري ـ اللغوي الكبير ـ معبرا عن ذلك: (السلالة: الخلاصة، لأنها تسلّ من بين الكدر، و«فعالة» بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت: ما الفرق بين من ومن؟ قلت: الأوّل للابتداء، والثاني للبيان، كقوله مِنَ الْأَوْثانِ. فإن قلت: ما معنى: جَعَلْناهُ الإنسان نطفة؟ قلت: معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة)([12])

فالآية الكريمة تدل على أن أصل خلقة بني آدم وابتداءها كانت من الطين مباشرة، وليس من حيوانات سابقة، كما قال تعالى مقررا ذلك في آية أخرى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } [السجدة: 7 – 9]

بالإضافة إلى ذلك، فإن الآية الكريمة التي لووا أعناقها تخالفهم تمام المخالفة، فالله تعالى ذكر أن آدم عليه السلام خلق من طين، بينما هم يذكرون أنه خلق لأبوين، أي من أب وأم.. وبذلك يمكن أن ننسب خلقة كل شخص إلى الطين مع أن الله تعالى أخبر أن سلالة آدم عليه السلام من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]، بينما يرى التنويريون أن آدم نفسه من سلالة من ماء مهين.. وهو خلاف ما ذكره القرآن الكريم.

أما الإشكال الأكبر الذي وقعوا فيه، والذي نشأ من عدم معرفتهم باللغة القرآنية، فهو تصورهم أن قوله تعالى: { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } [السجدة: 9] خاص بآدم عليه السلام، بينما الأمر ليس كذلك، فهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } [السجدة: 8]، وهي تشير إلى أن تلك التسوية والنفخ تعبير عن المراحل التي يمر بها الجنين، كما ذكر ذلك في آيات أخرى، وبالتالي فإن أداة «ثم» التي استدلوا بها ليس المراد منها تأخر خلق آدم عن الطين، وإنما المراد منها المراحل التي يمر بها الجنين، والتي ذكرت في القرآن الكريم بنفس الصيغة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 5]

ومن ذلك استدلالهم بالتفريق بين البشر والإنسان، وهو تكلف عجيب، وعدم فهم للغة القرآنية، وهو نفس ما وقعوا فيه من التفريق بين أمور كثيرة لإلغاء حقائق الأشياء، بدعوى عدم الترادف، مع أن عدم الترادف لا يعني تغير حقائق الأشياء، وإنما يعني أوصافها فقط.. كما يقول الغزالي: (هذه الأسامي مختلفة المفهومات، وليست مترادفة لأن الصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع، والمهند يدل على السيف من حيث نسبته إلى الهند، والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشارة إلى غير ذلك)([13])

وهكذا، فإن لفظتي البشر والإنسان مترافتان من حيث الحقيقة المرادة منهما، ومختلفتان من حيث دلالة كل منهما على الأوصاف المرتبطة بالإنسان.. فالبشر له دلالته اللغوية الخاصة، والإنسان له دلالته اللغوية الخاصة، ولو أن كليهما يشتركان في الدلالة على الإنسان.

ومثل ذلك مثل أسماء الله الحسنى، فهي لا تعني أن لكل اسم إله الخاص به، وإنما تعني أن الله تعالى واحد لكن له أسماء كثيرة بحسب الاعتبارات المختلفة.

ومن هذا الباب نجد في اللغة أسماء كثيرة للسيوف وللجمال بل حتى للخمر، وذلك لأن لكل اسم دلالته على وصف من الأوصاف، لا على حقيقة جديدة.

هذه أبرز النصوص التي استدلوا بها على قضية لم تثبت علميا، بل ثبت عكسها، وهو دليل على مزاجية العقل التنويري، وحبه لمخالفة ما عليه جماهير العلماء، لا لشيء، وإنما لمجرد المخالفة.


([1])  ذكرنا الأدلة العلمية الكثيرة على بطلان هذه النظرية من كلام الفيزيائيين أنفسهم في كتاب [الكون بين التوحيد والإلحاد] من سلسلة [الإلحاد والدجل]

([2])  شرحنا هذا البديل وأطروحاته بتفصيل في كتاب [الحياة تصميم لا صدفة] من سلسلة [الإلحاد والدجل]

([3])  رواه البخاري 9 / 389 و 390 في الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، وفي المحاربين، باب ما جاء في التعريض، ومسلم رقم (1500)

([4])  انظر مقالا بعنوان: نبوءة أينشتاين تتأكد.. رصد متزامن لموجات الجاذبية بين أميركا وأوروبا تنبأ بها قبل أكثر من 100 عام، هاف بوست عربي، رويترز، تم النشر: 10:44 17/10/2017. على الرابط:

http://www.huffpostarabi.com/2017/10/17/story_n_18291660.html

([5])   نقلا عن الدّاروينية في الزّمن القديم، هارون يحي، دط، دت، من موقعه الالكتروني، ص34.

([6])  المرجع السابق، ص65.

([7]) انظر: مقالا بعنوان: خدعة إنسان بلتداون، هارون يحي.

([8])  انظر: أردا دِنكِل، ملحق العلوم والتكنولوجيا الصادر عن الكومهوريِت اليومية التركية، 27 شباط/ فبراير 1999..

([9])  انظر مقالا مهما بعنوان: اتجاهات في تفسير التنوع الحيوي، منى زيتون.

([10])  تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (8/ 206).

([11])  يقول عمرو شريف في بيان دلالتها على ذلك: (تشير الآية إلى أن الإنسان لم يخلق من الطين مباشرة، بل من سلالة خلقت من طين، وهذه السلالة هي الكائنات الحية التي خلقت من مادة الأرض، وتسلسل ظهورها حتى وصلنا إلى الإنسان)، ثم يقول: (تأمل هذه الآيات – آيات سورة المؤمنون – مع الأخذ في الاعتبار أن حرف العطف (ثم) يفيد التابع مع التراخي، بالتالي نفهمه على أنه عطف يشير إلى الانتقال من نوع من الكائنات إلى نوع آخر، إذ يستغرق ذلك وقتاً طويلاً قد يمتد إلى ملايين السنين) [كيف بدأ الخلق (257-258)]

([12])  الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 178)

([13])  المقصد الأسنى (ص: 28).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *