التنويريون.. ومعركة الحجاب

التنويريون.. ومعركة الحجاب

من المعارك التي اتفق التنويريون قديمهم وحديثهم، على خوضها، واعتبارها من المعارك الأساسية المفصلية الكبرى المعركة التي يمكن أن نطلق عليها [معركة الحجاب]، وهي معركة لا يصح الاستهانة بها، ولا التهوين من شأنها، لأنها لا تتعلق فقط بذلك اللباس الذي ترتديه المرأة لتحصن العيون من سهامها المسمومة، وإنما له علاقة بكل القيم الأخلاقية والاجتماعية والحضارية.

فالحجاب رمز للعفة والطهارة والتضحية، ولكل القيم النبيلة، ذلك أن المرأة التي تستر محاسنها وفتنتها، في الوقت الذي تحب بفطرتها أن يظهر ذلك منها، تقوم بتضحية كبيرة، وتؤدي واجبا إنسانيا وأخلاقيا رفيعا، ذلك أنها بهذا السلوك الرفيع ترحم ما أودع الله في شقيقها الآخر من تطلع إليها، وفتنة بها، ولا تكلفه عنتا بأن يغض طرفه عنها، أو يكف نفسه عن التحرش بها.

وهو رمز لطهارة القلب، وسمو الروح، وتجرد العقل وتحكمه في صاحبه، ذلك أن المرأة التي تستر مفاتن جسدها، إنما تقول للمجتمع، ولكل المتطلعين إليها: أنا لست جسدا فقط، وإنما أنا روح وعقل وقلب ولدي من الأشواق والسمو الروحي ما للرجل تماما؛ فلذلك لا ينظر إليها باعتبارها فتنة، وإنما باعتبارها أسوة ونموذجا ومثالا إنسانيا رفيعا.

وهكذا نرى الحجاب معنى من المعاني التي اتفقت عليها جميع الديانات، وتوحد على الدعوة إليها كل الأولياء والأنبياء والمصلحين.

لكن التنويريين القدامى والجدد لم يلاحظوا كل هذه المعاني، وإنما تصوروه مجرد خرقة ولباس لا معنى لها، بل تصوروه نوعا من التدخل الإلهي أو الذكوري في شأن المرأة، وأنه مخالف للحضارة، وأن البشرية لن تتحضر حتى تتحرر المرأة من لباسها، لتصبح مرعى خصيبا لكل ذئاب الدنيا وكلابها.

وقد استعملوا في هذه الحرب مجموعة أسلحة، نشير إلى أهمها هنا:

أولا ـ سلاح التحضر والرقي:

وهو سلاح اتفق عليه القدامى والمحدثون، حتى أن بعضهم تصور أن سبب تخلف المسلمين هو الحجاب، وأن رمز رقيهم هو نزعه، ولذلك راح ينادي بخلع الحجاب حتى تترقى الأمة، وتترفع عن تخلفها.

ولذلك لا يربط التنويريون التطور العلمي والتقني الأوروبي بتوفر الظروف المناسبة للبحث والإنتاج العلمي، وإنما يربطونه بوجود المرأة التي تتخلى عن حجابها، كما تتخلى عن حيائها وعفتها، وتعمل بنفسها كل ما يرضي نزوات الرجل.

وقد صرح بذلك بعضهم، فقال ـ يمدح الانحلال الأخلاقي في المجتمع الأوربي ـ: (يضم المجتمع الأوربي الرجال والنساء دائماً، فيسهل الاتصال بينهم، وتنشأ فيما بينهم علاقات آلفة وصداقة وحب، وهذا الاختلاط بين الجنسين في الاجتماعات يُسبغ، عليها عذوبة ورقة، فالسحر الذي تشيعه المرأة في كل مكان توجد فيه شيء ممتع ونفاذ كعطر الزهور. وفي مثل هذه الاجتماعات ينعم المرء دائماً بالمرح، وغالباً ما يتودد للغير، ويخرج في النهاية مفعم القلب بالرضا!)([1])

وبناء على هذا تصور أنه لا يمكن أن تترقى الأمة، ولا أن تتحضر، ولا أن ترفع عنها جلباب التخلف إلا إذا رفعت عن المرأة الجلباب الذي أمرها الله بلباسه، وقد قال معبرا عن ذلك: (ليس من الممكن أن تصل المرأة إلى هذه المنـزلة الأدبية ما دامت في الحجاب، ولكن من السهل جداً أن تصل إليها بالحرية، تصل إليها كما وصلت إليها غيرها من النساء الغربيات.. فإنا نرى أنه كلما زيد في حرية المرأة الغربية زاد عندها الشعور بالاحترام لنفسها ولزوجها ولعائلتها)([2])

وهو لا يستدل لهذا بما نراه في واقع المرأة الغربية من تحولها إلى مجرد سلعة للإعلانات التي توضع فيها بجانب الحلويات والمأكولات والملبوسات، وكأنها مجرد متعة من تلك المتع، وإنما يستدل لها بما تعود السلفيون أن يستدلوا به، وهو الرجال، فهو يرى أن العقل الأوروبي الذي استطاع أن يتقدم في الكثير من المجالات لا يمكن اتهامه في هذا المجال.

وقد عبر عن ذلك بقوله: (هل يظن المصريون أن رجال أوروبا، مع أنهم بلغو من كمال العقل والشعور مبلغاً مكنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر في كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعالي وتفضل الشرف على لذة الحياة، هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي نعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفتها؟! هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا خيراً فيه؟ كلا!. وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السذج وتركن إليها نفوسهم ولكنها يمجها كل عقل مهذب وكل شعور رقيق)([3])

وهو ـ هنا ـ يقع في خلط كبير بين الرقي المادي والرقي الأخلاقي، فيتصور أنهما يسيران في خط واحد، مع أن الأمر مختلف تماما، فقد يسير الإنسان إلى أعلى قمم التطور المادي، في نفس الوقت الذي ينهار فيه أخلاقيا إلى أدنى مراتب الإنسانية، بل قد ينزل إلى مراتب البهيمية نفسها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى عندما اعتبر كل التطور المادي، والعلوم المرتبطة به، إنما هو ظاهر الحياة الدنيا، لا حقيقة الحياة، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]

ولذلك، فإن المفتون بالغرب المادي محجوب عن الغرب القيمي، ذلك الذي انهار فيه الإنسان انهيارا تاما بشهادة الغربيين أنفسهم، بل بشهادة هؤلاء التنويريين أنفسهم، فقد قال قاسم أمين ناقضا كلامه السابق: (المرأة الفرنسية حين تتزوج تصبح كائناً ناقصاً، وترتد إلى الطفولة ثانياً)([4])

وقال: (إن عادات بعض الطبقات الأوربية ساهمت ـ كما لو كان ذلك عن قصد- في زيادة الفرص التي تيسر السقوط)([5])

وقال: (تكشف الإحصاءات الفرنسية عن أن نسبة واحد وأربعين في المائة من نساء الهوى المعروفات رسمياً قاصرات، وأن أكثر من ربع المواليد المعروفين أبناء غير شرعيين، وأن المجتمع يفقد كل عام مائة وخمسين ألف طفل يُقتلون ساعة ولادتهم أو خلال الحمل)([6])

وقال: (إن ما هو القاعدة في أوربا ـ بخاصة فيما يتعلق بخيانة الأزواج- ليس في مصر إلا الاستثناء)([7])

وقال: (إن في أوربا شراً كبيراً)([8])

بل هو نفسه الذي شهد لمجتمعه المحافظ بأنه أكثر تطورا في القيم الأخلاقية من المجتمعات الأوروبية نفسها، فقد قال معبرا عن ذلك: (إن مشهد الأم المتفانية يملؤني حناناً، كما يحرك شعوري مشهد الزوجة التي تعنى ببيتها، في حين أني لا أشعر بأية عاطفة حين أرى امرأة تهل على خطى الرجال، ممسكة كتاباً في يدها، وتهز ذراعي في عنف، وهي تصيح بي: كيف حالك يا عزيزي؟ بل لعلي أشعر بشيء غير بعيد عن النفور)([9])

ثانيا ـ سلاح حقوق الإنسان:

وهو السلاح الذي تستعمله أمريكا والغرب اليوم لتشويه الشعوب المستضعفة؛ فبدل أن تنقل إليها منتجاتها العلمية والحضارية التي تستأثر بها تدعوها لخلع الحجاب والعفة، وممارسة النمط الأمريكي والغربي للحياة.

وللأسف نجد بعض الدول العربية، وخاصة دول الخليج تسير في هذا المسار، فيحمل إعلامها حملته الشديدة على إيران، وفرضها للحجاب، ويعتبره امتهانا لكرامة المرأة، وتدخلا في شؤونها الخاصة.

مع أنه في أصله ليس سوى مراعاة لحقوق الإنسان؛ فالمرأة التي لا تلتزم بلباس العفة، لا تختلف عن المخدرات والمسكرات التي اتفق البشر جميعا على أنه لا علاقة لها بالحرية الشخصية، وكذلك المرأة التي تخلع حجابها، أو لا تلتزم بالحد الأدنى من اللباس المراعي للأخلاق، إنما هي سم يسري في المجتمع ليقتله، ويقتل جميع القيم النبيلة فيه.

ولا ينبغي أن نكذب على أنفسنا، فذلك واقع البشر، وهو فطرة مجبولون عليها، ويمكن للمجتمعات التي لا ترى ضررا في الفواحش أن تعتبر ذلك شيئا عاديا، لكن المجتمع المزين بزينة العفة، يتضرر بذلك ضررا شديدا، كما قال بعضهم معبرا عن ذلك:

كل الحوادث مبداها من النظر… ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها… فتك السهام بلا قوس ولا وتر

وهنا قد يقول بعض المتحذلقين: فلم لا يغض الرجل طرفه، حتى يحمي نفسه.. وهنا نقول له: ولم لا نضع المخدرات والمسكرات في الشوارع والطرق، ثم نترك للورع الموجود في النفوس أن يتجنبها..

كلا الأمرين واحد.. فالله تعالى كما يحاسب ذلك الذي أطلق بصره للمرأة حتى ترديه قتيلا مفتونا، يحاسب المرأة كذلك، لأنها جعلت نفسها سلعة للشيطان يستعملها ليغوي الإنسان.

وللأسف، فقد غاب عن التنويريين هذا المعنى أيضا، حين توهموا أن اللباس حرية شخصية، وأن للمرأة أن تلبس ما تشاء، وأنه لا يحق لأحد أن يتدخل في ذلك حتى لو كان ربها الذي تؤمن به، الذي هو أدرى بمصالحها.

وقد عبر عن هذا المعنى نصر حامد أبو زيد حين ذكر أن حجاب المرأة ليس سوى تجسيد رمزي لكل معاني التغطية العقلية والاجتماعية لها.

وقال قبله قاسم أمين ـ رائد التنويريين القدامى في هذا المجال ـ في كتابه (المرأة الجديدة): (إن إلزام النساء بالحجاب هو أقسى وأفضع أشكال الاستعباد)([10])

وقال: (أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية)([11])

وقال: (أول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب)([12])!!

بل إنه راح يتهم ـ من حيث لا يشعر ـ الدين نفسه بكونه سبب ذلك الظلم الذي تعانيه المرأة عندما تلتزم الحجاب، فقال: (الكمال البشري لا يجب أن نبحث عنه في الماضي، بل إن أراد الله أن يمن على عباده فلا يكون إلا في المستقبل البعيد جداً)([13]) !.

وقال: (عاشت المرأة حرة في العصور الأولى، حيث كانت الإنسانية لم تزل في مهدها، ثم بعد تشكيل العائلة وقعت في الاستعباد الحقيقي)([14]).

وهو يردد نفس ما يردده التنويريون المحدثون من عدم وجود علاقة بين الحجاب والعفة والقيم النبيلة المرتبطة بها، فيقول: (إن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفتها وتصون نفسها عما يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة؛ فإن عفة هذه قهرية أما عفة الأخرى فهي اختيارية، والفرق كبير بينهما)([15])

ويقول: (إن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة من المرأة المحجوبة)([16])

ويقول: (إن القول بأن الحجاب موجب العفة، وعدمه مجلبة الفساد قول لا يمكن الاستدلال عليه؛ لأنه لم يقم أحد إلى الآن بإحصاء عام يمكن أن يعرف به عدد وقائع الفحش بالضبط والدقة في البلاد التي تعيش فيها النساء تحت الحجاب وفي البلاد الأخرى التي تتمتع فيها بحريتهن، ولو فرض وقوع مثل هذا الإحصاء لما قام دليلاً على الإثبات أو النفي في المسألة؛ لأن ازدياد الفساد في البلاد ونقصه مما يرتبط بأمور كثيرة ليس الحجاب أهمها)([17])

وسبب ذلك كله هو تصور أن الحجاب مسألة شخصية، وليس مسألة اجتماعية؛ فالحجاب لا يحمي المرأة فقط، ولا يمثل عفتها فقط، وإنما يحمي المجتمع، ويحمي قيم العفاف فيه.. ولذلك حتى لو كانت المرأة ليست عفيفة في نفسها، فإن المجتمع يطالبها بأن تظهر بمظهر العفة فيه حتى تحمي أبناءه من الانهيار.

ولهذا فرق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المجاهرة بالإثم والإسرار به؛ فقال: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملا، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان! قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)([18])

بل ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال: { لاّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء:148]

فالجهر بالسوء دعاية مجانية له، بخلاف الإسرار به.. ولذلك فإن مقولة بعضهم من أن الحجاب قناعة شخصة لا يختلف عن الذي يعتبر الأفيون والمخدرات والمهلوسات قناعة شخصة.. فكلاهما واحد.. بل إن خطر المتبرجة أشد، لأنها لا تقتل القيم النبيلة في إنسان واحد، بل في آلاف الناس.. ومن شاء أن يتأكد من ذلك، فليذهب إلى تلك الجرائد والمجلات التي لا تباع أعدادها إلا بقدر ما تنشره من أفيون العري والفسوق والفجور.

ثالثا ـ سلاح الدين:

وهو أخطر الأسلحة التي استعملها التنويريون، وخصوصا المتأخرون منهم، أولئك الذين راحو يجادلون في قطعيات الدين التي اتفقت عليها الأمة بمذاهبها جميعا عليها.

وهؤلاء راحوا يكذبون الفقهاء باعتبارهم ذكوريين، وراحوا يكذبون السنة باعتبارها جميعا مكذوبة وموضوعة، فلما خلا لهم الجو مع القرآن الكريم راحوا يعبثون بألفاظه كما تعودوا ليحولوه عن معناه تحويلا تاما.

ومن أمثلة ذلك الدجل الممارس مع القرآن الكريم ما ذكره محمد شحرور في حديثه لبعض القنوات الخليجية ([19]) التي لا هم لها إلا نشر الفواحش والدعوة للانحراف، حيث راح كعادته يتلاعب بالألفاظ، ويجادل في القطعيات التي اتفقت عليها كل كتب التفسير والحديث والفقه من لدن جميع المدارس الإسلامية.

فيذكر أن (أن كلمة الحجاب وردت في التنزيل الحكيم ثماني مرات، ولم تمت في كل استعمالاتها إلى اللباس بأية صلة من قريب ولا من بعيد، فكانت الألفاظ التي تدل على اللباس هي الثياب والجلابيب والخُمر)

وهو نوع من المصادرة على المطلوب، والتي يخدع بها عادة عوام الناس، فالحجاب مصطلح، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا يهم أن يذكر في القرآن الكريم أو لا يذكر، لأن القرآن الكريم ذكر الستر ودعا إليه، واعتبر التعري بمختلف أشكاله ومستوياته دعوة شيطانية لا تنويرية، فقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]

بل إنه صرح بذلك حين قال: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 59]

ولم يكتف بذلك، بل راح يوضح ويبين بدقة كيفة يكون الستر ومحاله؛ فقال {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31]

وهذه الآية الكريمة وحدها تكفي لمن تأملها في التعرف على مقصد الشرع من الحجاب وأهميته.. حيث أن نرى أن القرآن الكريم الذي لم يذكر عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا أركان الحج وكيفيته، ولا أحكاما تفصيلية كثيرة.. لكن مع ذلك يذكر الحجاب، وكيف يكون، ومع من يكون.. وهو يدل على أهميته القصوى في حفظ المرأة والمجتمع على حد سواء.

لكن التنويريين الذين لم تعجبهم أمثال هذه النصوص، وتمنوا لو استطاعوا حذفها من القرآن الكريم راحوا يحتالون عليها، ويتلاعبون بها.

ومن صور ذلك الاحتيال والتلاعب تلك الفهوم العجيبة التي خرج بها شحرور على القنوات الفضائية ليقنع المؤمنات بأن الحجاب خدعة خدعهم بها الفقهاء، ولا علاقة لها بالدين.

فهو يرى ـ من خلاله فهومه للآيات الكريمة الواضحة التي ذكرناها ـ أن المرأة ليست مكلفة سوى بأن (تستر جيوبها السفلية (الفرج والإليتين) وهو الحد الأدنى للباس وهو ما يسمى بالعورة المغلظة أمام المذكورين في الآية 31 من سورة النور بما فيهم بعلها، والمحارم المذكورون في هذه الآية هم نصف المحارم وليس كلهم)

أي أن المرأة ـ بحسب فهمه هذا ـ يمكن أن تسير أمام أبيها وابنها وأخيها وجميع أقاربها المذكورين في الآية الكريمة فقط بلباسها الداخلي الذين يستر العورة المغلظة، وليس عليها أن تستر أي شيء آخر عدا ذلك.

أما عندما تريد أن تخرج خارج بيتها، فليس عليها سوى أن تغطي (الجيوب العلوية (الثديين وتحت الإبطين) بالإضافة إلى الجيوب السفلية (العورة المغلظة)، وبذلك تتحقق باللباس الشرعي، أو بالحجاب الشرعي، كما فهمه من القرآن الكريم.

أما ما عدا ذلك، فهو يرى أنه حرية شخصية يقررها المجتمع، لا الدين، فلذلك يراه ساريا (حسب أعراف المجتمع الذي تعيش فيه، وحسب ظروف الزمان والمكان بحيث لا تتعرض للأذى الاجتماعي)

وبذلك فهو يرى أن كل التبرج الذي نراه في الغرب ليس تبرجا، بل هو حجاب شرعي، لأن المجتمعات الغربية رضيت بذلك، وألفته، وصار شيئا عاديا بالنسبة لها.

وبناء على ذلك يرى أن الخمار أو غطاء الرأس ليس له علاقة بالإسلام ولا بالإيمان وإنما هو عرف اجتماعي، أو بدعة اجتماعية لبست لباس الدين.


([1]) المصريون، ضمن الأعمال الكاملة لقاسم أمين، تحقيق الدكتور محمد عمارة (ص 258)

([2]) المرجع السابق (ص 451).

([3])  المرجع السابق (ص 372).

([4])  المرجع السابق (ص 250).

([5])  المرجع السابق (ص 260).

([6])  المرجع السابق (ص 274). 

([7])  المرجع السابق (ص 262).

([8])  المرجع السابق (ص 275).

([9])  المرجع السابق (ص 249).

([10])  المرجع السابق (ص 441).

([11])  المرجع السابق (ص 450).

([12])  المرجع السابق (ص 442).

([13])  المرجع السابق (ص 498).

([14])  المرجع السابق (ص 432).

([15])  المرجع السابق (ص 366).

([16])  المرجع السابق (ص 165).

([17]) المرجع السابق (ص 364).

([18])  رواه البخاري ومسلم.

([19])  وهذه المعاني ذكرها بتفصيل في كتابه: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *