التنويريون.. وعذاب القبر

التنويريون.. وعذاب القبر

من القضايا العقدية التي خاض العقل التنويري فيها من غير أن تكون له أثارة من علم، أو بصيرة من هدى، أو دليل من وحي مقدس ما يطلق عليه اصطلاحا [عذاب القبر]

ذلك العذاب الذي وردت به النصوص المقدسة المتواترة، من الكتاب والسنة المطهرة، ودل عليه معهما العقل الممتلئ بالحكمة والإيمان، وقال به كل الحكماء والعلماء الذين لم يستطع أحد منهم وعلى مدى القرون الطويلة أن يتجرأ؛ فيكذب ما دلت عليه النصوص، أو يحشر أنفه فيما لا طاقة لعقله المحدود في التعرف عليه، أو الإحاطة به.

لكن التفكير الرغبوي والمزاجي للتنويريين راح يخوض فيه كما خاض في غيره، ولا دليل له إلا الهوى المجرد.. ذلك أنه من الناحية العقلية يمكن لخالق هذا الكون أن يعذب من شاء، متى شاء، كيف شاء، وفي إطار قوانين العدالة التي يضعها، ولا يحجر عليه أحد في ملكه أو تدبيره أو تصريفه.

ومن الناحية الشرعية، والتي هي المخول الوحيد بالحديث في هذا الجانب، نرى النصوص الكثيرة التي تحذر من عذاب القبر، وتبين الرذائل التي يمكن أن تكون سببا في حصوله، بل تعلمنا من الأدعية والتضرعات ما يجعل منه قضية حاضرة في أذهاننا، لنربي أنفسنا من خلالها؛ فنقاوم نزغات الهوى بسياط الرهبة، كما ندفعها إلى العمل الصالح بجوائز الرغبة.

لكن التنويريين، وبسبب ما رأوه من بعض المشايخ والوعاظ من استعمال هذا النوع من القضايا العقدية في محله أو في غير محله، راحوا لا يكتفون بالإغارة عليهم أو نقدهم، وإنما الإغارة على النصوص المقدسة نفسها، ونقدها.

وهذا ما يدل على كون العقل التنويري عقلا مراهقا؛ فهو لا يفكك القضايا، ويميز بين المقبول والمرفوض، وبين الحقيقة والاستعمال الخاطئ لها، وإنما يغير على الجميع، وبطريقة استئصالية لا علاقة لها بالعلم، ولا بالحكمة، ولا بالتؤدة، وإنما هي تجسيم للهوى المجرد، والتفكير الرغبوي، والعقل المزاجي.

ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: في مقال تحت عنوان [عذاب القبر أم عذاب الفقر]([1]): (بالطبع لا يخفي على أحد المنتفعــين من تجار الدين بالأزهـــر الذين يدافعون عن مصالحهم الشخصية باسم الدين والتدين ودفاعهم المستميت عن موضوع عذاب القبر، ندعو الله أن يقبرهم في جهنم إن شاء الله، حقيقة شيء مخزي أن تكرس حياتك للدفاع عن عالم أنت لا تعلم عنه شيئا، هو جزء من عالم الغيب، هو عالم الأموات، فلا أنت ولا أنا ولا أي شخص ولا أي علم في الماضي والحاضر استطاع أن يخترق هذا العالم عالم الموت ويعلم ما الذي يحدث لأي إنسان بعد الموت، ولكن المنتفــعين من تجار الدين بالأزهـــر ركزوا جلّ اهتمامهم على الإنسان بعد موته فقط، أما نفس الإنسان وهو حي يرزق، وكيف سيعيش سعيدا أم حزينا مثل ملايين البؤساء الذين يعيشون في فقر وبؤس وسط هؤلاء المجرمين من تجار الدين)

وبعد كل هذه المصادرات على المطلوب، والخلط بين القضايا، وردة الفعل التي لا تدل على الحكمة والأناة، راح صاحب المقال يخطب قائلا: (أليس من العار أن تدافع عن الأموات وتترك الأحياء يزدادون بؤسا باسم تمثيلية عذاب القبر.. فيا أستاذ يا إنسان يا من تؤمن أن الله كرمّك.. اشعــر بمن حولك من البشر اشعـر بهم وهم أحياء يشتركون معك في المكان والزمان.. اشعر بهم وقف معهم وبجانبهم ضد الفاسدين لا تقف ضدهم من أجل مصلحتك الشخصية، فمزبلة التاريخ لا تجامل ولا ترتشي أعـد حساباتك، فعذاب الفـقـر أهم مليار مرة من عذاب القبـر، فلا يطلق الفقر والفقراء إلا على الأحياء والعقل يقول أن الذي لا يهتم ويشعر بمعاناة الناس وهم أمامه أحياء، فمن المؤكد أن ما يقوله مدعيا خوفه على نفس الناس وهم أموات يعتبر محض كذب وافتراء وضحك على نفس الناس حتى ينشغلوا عن حقوقهم الطبيعية وهم احياء)

ولست أدري ما علاقة عذاب القبر بكل ذلك، وهل في إمكان العالم أو رجل الدين أو الخطيب أن ينقذ الناس من الفقر، وهل هذا دوره، أم دوره أن يبين أحكام الشريعة، ويعظ الناس ويوجههم، أما تكليفه بإغنائهم من الفقر، فهذا ليس من مسؤوليته، والسبب فيما ذكره من السرقات الكبرى ليس رجال الدين الذين يؤمنون بعذاب القبر، ولكن رجال الدنيا الذين ينكرونه، لأنهم لو كانوا يؤمنون به، لما تجرأوا على سرقة دينار واحد.

ولهذا فإن هذا التنويري في حقيقته لا يعطي حلا لعلاج الفقر، وإنما يريد أن يضم للفقر الذي يعانيه الفقراء كفرا وضلالا وزندقة، ليجمع الفقراء بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، أو ليضموا إلى معاناتهم المادية معاناة أخرى نفسية وروحية، أشد وأخطر.

ومثل ذلك كتب آخر يقول في مقال بعنوان [عذاب القبر بين الحقيقة والخيال]([2]): (من المؤسف جدا أن تجد في هذه الأيام وبعد نزول القرآن الكريم على خاتم النبين منذ أكثر من 1200 سنة عددا كبيرا من أبناء هذه الأمة الإسلامية ما زال يؤمن بمقولة عذاب القبر ضاربا بمقولته هذه بكل الآيات القرآنية عرض الحائط، والتي تنفي هذا الادعاء نفيا قطعيا لا مرية فيه، ويتمسكون ببعض أحاديث الآحاد، والتي يجمع معظم علماء الأمة بأنها أحاديث ظنية الثبوت، وتاركها لا إثم عليه ولا يجوز استنباط او استخراج أسس الدين من هذه الأحاديث)

وهكذا راح هو وأمثاله ينتقون من القرآن الكريم بعض الآيات التي تنص على العذاب الأكبر في القيامة، متجاهلين آيات أخرى، تتحدث عن العذاب الذي قبلها، وبدل أن يحكموا جميع الآيات والنصوص، راحوا يستعملون بعضها لضرب بعض.

وبناء على هذا نحاول في هذا المقال، وباختصار، ذكر شبهاتهم، والرد عليها، وبيان مخالفتها للنصوص المقدسة، ومخالفتها للعقل والحكمة، ومناقضتها للمقاصد الشرعية من ذكر هذه القضية واستعمالها وسيلة للتربية والإصلاح.

الشبهة الأولى ـ أن عذاب القبر أطروحة مستمدة من الديانات الأخرى:

يصر التنويريون في كل قضية اتفق فيها الإسلام مع سائر الأديان على تكذيبها، بحجة أن المسلمين أخذوها من أهل تلك الأديان، وليس من مصادرهم المقدسة، أو ربما يتصورون من حيث لا يشعرون أن المصادر المقدسة للمسلمين استفادتها من أهل تلك الأديان، ولم يوح بها من الله تعالى.. وهم في هذا يطلبون من الله تعالى بأن يختار للمسلمين عقائد ينفردون بها، ولا يزاحمهم فيها غيرهم.

ومن الأمثلة على هذه الشبهة ما كتبه بعضهم تحت عنوان [مصدر خُرافة عذاب القبر]([3])، والذي أعاد فيه هذه العقيدة لمصادر مختلفة عبر عنها بقوله: (بما أن اليهود هم أصل هذه العقيدة عند المسلمين؛ فهذا يعني حدوث واحد من أمرين اثنين: إما أن اليهود ـ حينها ـ كانوا يؤمنون بالحياة في البرزخ،وأن البعث يكون مرتين الأولى في القبر، والثانية يوم القيامة، وبالتالي فهم يؤمنون بثلاثة أنواع من الحيوات، وهذه العقيدة هي نفسها عقيدة من يؤمن بعذاب القبر من المسلمين.. أو أن اليهود لم يكونوا يؤمنون بالبعث يوم القيامة أصلاً..ولكن يؤمنون بالبعث في القبر، وأن الحساب الأخروي لديهم موجود بداخله، وهذا يعني أن عذاب القبر لديهم هو نفسه عذاب الآخرة)

ثم راح يرجح الاحتمال الثاني، ليبني عليه أن مصدر هذه العقيدة هم المصريون القدامى، فقال: وأنا أرجح الثانية.. لأن هذا الاعتقاد هو بعينه اعتقاد المصريون القُدماء، فنشأة اليهود بالأصل كانت مصرية حتى مع الخلاف حول هذه النتيجة، ولكنها كانت رؤية دينية عامة منتشرة في الشرق القديم، فالمعبود المصري يُقابله المعبود الفينيقي أو البابلي..حتى أن عقائد اليونان القدماء لم تَخلُ من هذا الطرح..وعقيدة الحساب والجزاء لديهم كانت في القبور وهذا ما حملهم على دفن متاع الميت معه.. ولأن كُتب وأسفار اليهود الكُبرى خلت من أي إشارة للبعث يوم القيامة، وأن الإيمان بيوم القيامة لدى اليهود لم يأتِ إلا متأخراً وبالتحديد بعد كتابة التلمود بشِقيه.. ولأنه لا يوجد أحد من اليهود الآن يقول بعذاب القبر.. بمعنى أنهم يعتقدون في أن البعث يكون يوم القيامة، وهذا يُثير التساؤل كيف وأن هذه العقيدة كان منشأها لدى اليهود ثم يُنكرونها الآن..والإجابة جاءت في الوجه الثاني بأنهم كانوا يقولون بذلك قبل كتابة التلمود، وبعدما جاء التلمود بعقيدة البعث يوم القيامة متأثراً فيه بالإنجيل…حينها آمن اليهود بأن البعث واحد يوم القيامة وأن الحياة اثنين في الدنيا والآخرة)

ثم أخذ يبين كيف تطور هذا المفهوم المستورد من المصريين القدامي، فقال: (يكفينا الإشارة بأن فكرة عذاب القبر عند المسلمين كانت فكرة دينية أخذت بُعداً اجتماعيا نتيجة لتطورها على أيدي المتصوفة..أيضاً ومن أثر عُمقها الضارب في أذهان القُدماء الشرقيين، وهي تعني أن عذاب القبر لديهم كان هو العذاب الأخير لأنهم كانوا لا يعتقدون بيوم القيامة الذي يبعث الله فيه العباد ويُحاسبهم على أعمالهم فمن كان صالحاً دخل الجنة ومن كان طالحاً دخل النار، وأن الأساطير المصرية والعراقية واليهودية القديمة كانت متشابهة في البعض ومتطابقة في البعض الآخر..وفي قضية عذاب القبر نكاد نرى تطابقاً عجيباً بين عقائد اليهود والفراعنة وبلاد العراق ـ خاصة السومريين والبابليين ـ قبيل ظهور التلمود وتأثر اليهود بالأناجيل التي أفصحت عن شكل الحياة بعد الموت وبأن هناك يوماً ستُرد فيه الحياة للأجساد وهو اليوم الأخير للعالم وبعدها يأتي الحساب)

ومثل ذلك كتب آخر في كتاب له بعنوان [أكذوبة عذاب القبر وأكاذيب شيوخ الثعبان الأقرع]([4]) يقول في مقدمة الكتاب: (فى الوقت الذى يستعد فيه العالم لارتياد القرن الحادى والعشرين بمزيد من التقدم فى العلوم تقدماً يقترب من الخيال، يحصر المسلمون اهتماماتهم حول قضايا ترجع إلى خرافات تنتمى إلى القرن الحادى والعشرين قبل الميلاد. من نوع عذاب القبر والثعبان الأقرع التى اخترعها أجدادنا المصريون القدماء ثم عادت إلينا منسوبة زوراً إلى النبى، ونحن مشغوفون بهذه الخرافة ونعتبرها من المعلوم من الدين بالضرورة من أنكرها يكون كافراً، وهكذا ينفصل المسلمون عن عصرهم بأكثر من أربع آلاف سنة مع أن الإسلام حين نزل فى القرن السابع الميلادى وقف موقفاً حازماً من الأساطير والخرافات ووضع منهجاً علمياً تجريبياً فى القرآن للبحث والاكتشاف.. لكن الأسلاف ركنوا إلى الخرافة وأهملوا ما جاء فى القرآن الكريم من منهج علمى تجريبى.. وعندما بدأت الصحوة فى العصر الحديث فوجئنا بخرافات العصور الوسطى التى يرفضها القرآن الكريم وقد عادت إلى الظهور والتأثير على عقول الشباب المتدينين ليزدادوا تخلفاً باسم الإسلام وهو دين العلم ودين التعقل والتبصر)

ثم قال بكل حماسة: (مرة أخرى.. ماذا يراد بنا؟!.. هل يراد بنا أن نكون رقيق القرن الحادى والعشرين نعيش فى زوايا النسيان بينما يتقدم العالم من حولنا… هل يراد بديننا الحنيف أن يكون عنواناً للإرهاب والعجز والتخلف والخرافة؟!)

وهكذا راح يتصور أنه بمجرد تكذيبه لعذاب القبر يكون قد خلص المسلمين من الخرافة، وأنه بذلك سيؤهلهم لارتياد القرن الواحد والعشرين، وهو لا يعلم أن قوله هذا سيفتح الباب على مصراعيه لإنكار عقائد أخرى من الدين، قد توصف بالخرافة، حتى ندخل القرن الواحد والعشرين ـ كما يزعم ـ ونحن مسلحون بسلاح العلم المجرد.

ونفس الشيء نجده يردد في كتب ومقالات تنويرية كثيرة، تحاول أن تربط هذه العقيدة بعقائد الأمم السالفة، لتقوم بنسفها بعد ذلك، وكأن القاعدة الشرعية هي أن الإسلام لا يقصد سوى مخالفة عقائد الأمم.

ولو أن هؤلاء استمروا في تطبيق هذا المعيار على أحكام الحج، لألغوها جميعا، فقد كان الحج أيضا موجودا في الديانات المختلفة، بل إن القرشيين المشركين كانوا يتفقون مع المسلمين في كثير من أحكام الحج.

وهكذا نجد أكثر الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم هم أنفسهم المذكورون في الكتاب المقدس، بل نفس قصصهم موجودة، والاختلافات بين ما ورد في القرآن الكريم والكتاب المقدس محدودة؛ فهل نعتبر تلك القصص مستمدة من الكتاب المقدس، وأنها إرث من الديانات الأخرى تسلل لكتاب المسلمين ودينهم.

وهكذا الأمر في مسائل كثيرة جدا سواء من باب العقائد أم الشرائع، والتي تدل في الأصل على وحدة الدين، لا على كون المسلمين قد أخذوها من غيرهم.

ولو أن هؤلاء تواضعوا قليلا، وحاولوا أن يتخلصوا من ذلك العقل الرغبوي والمزاجي، وعادوا إلى نصوص القرآن الكريم نفسها، ومثلها إلى السنة المطهرة التي هي بيان للكتاب، وشرح له، لوجدوا الأدلة الكثيرة جدا، والتي تكفي آحادها لكف المؤمن عن التجرأ على مخالفتها.

ولذلك، فإن مجرد اتفاق المسلمين مع أهل الكتاب أو غيرهم من أهل الأديان على هذه العقيدة لا يعني إلغاءها، بل إنه يعني أن هذه العقيدة من العقائد المقررة في الأديان الأخرى، والتي لا زالت تحتفظ بها.

الشبهة الثانية ـ تعارض عذاب القبر مع القرآن الكريم:

وهي الشبهة الأكبر التي ينطلق منها المكذبون بعذاب القبر، ولذلك يأتون ببعض الآيات الكريمة التي تنص على أن العذاب الحقيقي يكون بعد المساءلة والحساب يوم القيامة، ليضربوا بها غيرها من الآيات الكريمة.

وهم يستعملون في هذا كل ما لديهم من أدوات القص والكتمان والحذف التي يستعملها عادة العقل الرغبوي لتقرير ما يريد، ومن أمثلة ذلك اقتباس بعضهم لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، مع حذفه لتتمة الآية، والتي تقول: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]، ثم تعقيبه على النص الذي اقتبسه بقوله: (إذاً يقول الحق، هو موت فى البداية، ثم الحياة الدنيا التى نحياها الآن، ثم الموت، ثم الحياة فى الآخرة.. موتتان وحياتان، أي: 2+2 = 4.. إذَا اضفنا [حياة القبر] تصبح هذه المعادلة خاطئة لأننا نضيف حياة أخرى لمشاهدة الفلم المرعب [منكر ونكير والثعبان الأقرع…]، ثم بعد ذلك موتة أخرى.. أي 3+3، وهذا لا يساوى 4 كما قال الحق)

لكنه لو قرأ فقط تتمة الآية، وهي قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] لرد على نفسه بنفسه، فالله تعالى ذكر رجوعه إليه، أي يوم القيامة بعد الحياتين والموتتين، وذلك ما يتطلب وجود حياة برزخية.

وهكذا نجدهم يقرؤون قوله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل: 61]، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [فاطر: 45]، ويتصورون أن العذاب سيؤخر إلى الآخرة، لأن الله تعالى لا يؤاخذ الظالمين قبل ذلك.

لكنهم لو قرأوا مع تلك الآيات آيات أخرى كثيرة جدا، تذكر تعجيل الله تعالى العقوبة لعباده في الدنيا قبل الآخرة، لفهموا تلك الآيات الكريمة فهما صحيحا؛ فهي لا تنفي العذاب المطلق، وإنما تنفي العذاب الأكبر الحقيقي، والذي لا يكون إلا في الآخرة، أما ما عداه؛ فهو هين جدا مقارنة بعذاب الآخرة، ولكن لا يعني أنه ليس عذابا، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47]، والتي فسرها ابن عباسٍ بقوله: (عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة)([5])

ومن الأمثلة التي ذكرها القرآن الكريم لذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [النحل: 112، 113]، فقد ذكر الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين، كيف أنه عجل العذاب لأهل هذه القرية، ولم يؤجله لهم، وهو لا يتنافى مع الآيات السابقة، وإنما يفهم منه أن العذاب نوعان: عذاب حقيقي كامل، وهو المؤجل إلى الآخرة، وبعد الحساب، وهناك عذاب ناقص وقاصر بالنسبة لعذاب الآخرة، وهو معجل في الدنيا أو في البرزخ.

ومثل ذلك قوله تعالى عن ثمود: { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 157، 158]

بل إن الله تعالى خصص سورة في القمر بأنواع العذاب التي أصابت أهل القرى، بسبب بغيهم وظلمهم، ثم يقول بعد ذكره لكل عذاب يصابون به: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]

بل إنه يصف شدة العذاب الذي أصابهم؛ فيقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 19 – 21]

وهكذا تدل هذه الآيات الكريمة على أن تأجيل العذاب لا يراد منه العذاب المطلق، وإنما يراد منه العذاب الحقيقي الذي لا يمكن أن يقارن به عذاب الدنيا، ولا عذاب البرزخ.

وهكذا نجد القرآن الكريم نفسه يخبرنا بأن العذاب المرتبط بالكافرين والمنحرفين لا يصيبهم في الآخرة فقط، بل يصيبهم في الدنيا أيضا، وفي حال الاحتضار خصوصا؛ فقد قال تعالى في أقسام المحتضرين، وكيف يعاينون العالم الذي سيفدون إليه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 – 94]

وهكذا أخبرنا عن فزع الإنسان عند اكتشافه لحقيقة المصير الذي سيصير إليه مباشرة بعد موته؛ فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 99، 100]

وذكر لنا بعض العذاب الذي يصيبهم في حال الاحتضار بمجرد توفر القابلية لهم للخروج لعالم البرزخ؛ فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 50، 51]، وقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 27، 28]

وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]

ولذلك، فإن القرآن الكريم لا يخبرنا فقط عن وجود عذاب القبر، أو عذاب البرزخ، وإنما يخبرنا أيضا، بأن العذاب يبدأ من لحظات الاحتضار نفسها.

وهو نفس ما قرره الحكماء والفلاسفة والروحانيين بناء على تصوراتهم للنفس الناطقة، وعلاقتها بالحقائق، وتأثيرها فيها، وهو ما يدل على أن عذاب القبر ليست قضية نصية فقط، بل يدل عليها العقل المجرد أيضا، ذلك أن القول بعدم البرزخ يعني العدم المطلق، وهو ما لم يرد عليه أي دليل، فالموت حالة من حالات الإنسان، وليس عدما، كما قال تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]

وقد قال الغزالي مقررا هذه الحقيقة عند بيانه لمعنى سوء الخاتمة: (اعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم من الأخرى؛ فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد.. والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها؛ فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره؛ فيتفق قبض روحه في تلك الحال؛ فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها، ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب، ومهما حصل الحجاب نزل العذاب، إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه، فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى، فتقول له النار: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي، فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا، فالأمر مخطر لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه، إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح، وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك)([6])

ثم عقب على ذلك بقوله: (فإن قلت فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة، ويمهل طول هذه المدة؛ فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان، بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم، كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة، وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر، والتعذيب بعده، ثم المناقشة في الحساب، والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة، إلى آخر ما وردت به الأخبار فلا يزال الشقي مترددا في جميع أحواله بين أصناف العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته)([7])

وهكذا نجد الآيات القرآنية الكثيرة تخبر بأن العذاب يبدأ مباشرة بعد الموت، وذلك باستعمال الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن آل فرعون: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52]

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن قوم نوح عليه السلام: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [نوح: 25]؛ فقد أخبر الله تعالى أن قوم نوح عليه السلام، عذبوا عذابين: عذابا في الدنيا بغرقهم، وعذابا في البرزخ بإدخالهم النار، وذلك باستعمال الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب.

ولم يكتف القرآن الكريم بهذه الشواهد الواضحة، والتي لا تتعارض مع كون العذاب الحقيقي هو عذاب الآخرة، لأن ما دونه لا يساوي شيئا بجانبه، وإنما ذكر هذا العذاب بصيغة صريحة لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، فقال عن قوم فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 45، 46]

فقد أخبر أنهم وفي الوقت الحالي يعرضون على الناس غدوا وعشيا، وذلك ما يعني حياتهم في البرزخ على عكس ما يصور المنكرون لعذاب القبر، وهي أيضا تؤكد ما ذكرنا من أن العذاب الشديد يكون في الآخرة، لا في البرزخ، وبذلك يجمع بين الآيات التي تخبر عن تأجيل العذاب إلى الآخرة، وبين سائر الآيات.

ولم يملك صبحي منصور بعد إيراده لهذه الآيات الكريمة إلا أن يسلم بها، لكنه راح يحتال عليها بكون عذاب البرزخ مرتبطا فقط بآل فرعون، ولسنا ندري ما وجه التخصيص، مع أن القرآن الكريم يعتمد الأمثال والنماذج ليقرر الحقائق، والعاقل هو الذي يفهم الحقائق بإطلاقها، لا ذلك الذي يقصرها على شواهدها.

وهكذا نرى القرآن الكريم يرد على تلك الشبه التي يتعلق بها التنويريون، والذين يوردون بعض الآيات التي تتحدث عن كون أهل البرزخ يذكرون بعد بعثهم بأنهم كانوا في مرقد كقوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 51، 52] بآيات كثيرة تقرر وجود حياة حقيقية عند البرزخ.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [آل عمران: 169، 170]، فهاتان الآيتان الكريمتان تقرران بدقة ووضوح حياة الشهداء في البرزخ.

وهي لا تتنافى أبدا مع الآيات السابقة، والتي تذكر مقولة الخلائق بعد البعث، ذلك أن المراد منها هو كون الأجساد في مرقد، وكونها كذلك لا يعني عدم نعيمها، أو عدم عذابها.

بل إن النصوص تدل على أن كل حياة متدنية تعتبر موتا ونوما بالنسبة لما قبلها، كما وردت الإشارة إلى ذلك في الأثر: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)([8])

وقد أقر صبحي منصور في كتابه الذي حاول أن يستدل فيه على عدم عذاب القبر بحياة الشهداء في البرزخ، لكنه جعله خاصا بهم، كما خصص العذاب بقوم فرعون ونوح، وهذا كله تصرف بالهوى المجرد مع النصوص المقدسة التي من شأنها أن تذكر الحقائق، لا أن تؤرخ لجهة من الجهات.

وقد قال في ذلك: (الذى يفقد حياته قتلاً مضحياً بها فى سبيل الله تعالى يهبه الله حياة أبدية وقت البرزخ وفى الآخرة يعيش فى نعيم دائم.. وفى المقابل فهناك من عاش حياته الدنيا بأكملها يحارب الله تعالى ويضطهد النبى المرسل إليه حتى يفقد حياته فى سبيل الشيطان، وذلك ما ينطبق على آل فرعون وقوم نوح فقط، ونقول فقط مع كثرة المكذبين الذين حاربوا الله ورسله، لأن القرآن ذكرهم فى هذا الخصوص بالتحديد، وذكر أيضاً أن المجرمين حين تقوم الساعة يقسمون ما لبثوا غير ساعة، إذن القاعدة العامة أن المجرمين يستيقظون عند البعث وقد مرت عليهم فترة البرزخ بدون إحساس أو شعور أو عذاب.. والاستثناء هو حالة آل فرعون وقوم نوح)

ولسنا ندري دليله على هذا الاستثناء، ولم لا يضع فيه أيضا تلك النصوص النبوية التي تجعل ذنوبا أخرى كالنميمة وعدم التنزه من البول وغيرها من موجبات عذاب القبر.

ولهذا فإن التنويريين أنفسهم يقرون بأن قوله تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]، لا يفهم فهما حرفيا، بل يفهم على ضوء سائر القرآن الكريم، من كون المرقد دلالة على القبر أو على الحياة المتدنية، لا على كون مرحلة البرزخ تساوي صفرا زمنيا، كما يزعم بعضهم.

وقد حاول صبحي منصور أن يستعمل كل الوسائل للفرار مما تقتضيه الآيات الكريمة الواردة في آل فرعون، فراح يجادل في مصطلح [عذاب القبر]، فقال: (إن عذاب فرعون ليس فى القبر، ولكنه عذاب فى البرزخ لأن الخصوصية التالية لفرعون أن الله أنجى جسده وقال له عند الموت ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ (يونس 92). ولو كان هناك عذاب قبر كما يقول أشياع الثعبان لظل جسد فرعون فى القبر ينهشه الثعبان)

ونحن وكل من يؤمن بعذاب القبر يقره على هذا؛ فمصطلح [عذاب القبر] ليس المراد به القبر فقط، فحتى الذي لا يقبر قد يعذب، وقد ينعم.. ولكن جرى الاصطلاح على هذا، مع أن القبر ليس فقط محلا للعذاب، وإنما هو أيضا محل للنعيم، لكن جرى الاصطلاح على تسميته بالعذب، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وهكذا لو قرأنا القرآن الكريم، وتدبرناه لوجدنا فيه الآيات الكثيرة التي تصرح بعالم البرزخ بما فيه من نعيم أو عذاب، بل تصرح ببعض تفاصيله، كالمساءلة في عالم البرزخ، والتي نص عليها قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

وقد ورد في الحديث ما يفسرها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّي محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك قوله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27])([9])

الشبهة الثالثة ـ عذاب القبر والسنة المطهرة:

يقف التنويريون موقفين من الأحاديث النبوية المطهرة، والتي تنص صراحة على حياة البرزخ، بما فيها من نعيم أو عذاب.

أما أحدهما، وهو يمثل من يسمون أنفسهم [قرآنيين]، فهو لا يهتم بتلك الأحاديث، ولا يراعيها، لأنه لا يعتبرها مصدرا مقدسا؛ فهو يرى أن القرآن الكريم وحده يمكن أن يهديه للحقائق، ولا خطاب لنا مع هذا الصنف عند هذه الشبهة، لأنا خاطبناه في الشبهة السابقة، وبينا أن القرآن الكريم ينص صراحة على عذاب القبر، حتى أن شيخ القرآنيين المحدثين لم يملك إلا أن يقر بذلك، لكنه خصه بقوم فرعون، وقوم نوح عليه السلام، وهو نوع من الهروب من الحقيقة القرآنية التي دلت عليها كل الأدلة.

أما الثاني، وهو الذي يقر بالسنة، ولكنه يتعامل تعاملا مزاجيا معها، ذلك أنه يضع حدودا للسنة المقبولة تتناقض كل حين، بحيث لا يستطيع هو نفسه أن يضع ضابطا يطبقه على الجميع.. فإن أراد بالسنة المتواترة تواترا لفظيا فقط، فسيلغي الكثير من العقائد والشرائع التي يقر بها، ذلك أن مثل هذا التواتر لا يكاد يوجد.. وإن أراد بالسنة ما تواتر معنويا، فعذاب القبر مما تواتر معنويا خاصة إن قبلنا بتلك النصوص والروايات الكثيرة التي تعتمدها المدرسة الشيعية، والتي نص جميع أئمتها ابتداء من الإمام علي نفسه على عذاب القبر، وله فيها مواعظ لا تزال تردد في المجالس الشيعية.. وإن أراد عدم مخالفة القرآن، فأحاديث البرزخ تفسر القرآن، ولا تتناقض معه.. وإن أراد عدم موافقة العقل، فلست أدري أي عقل يقصد، ذلك أن كبار العقلاء والفلاسفة يقرون بحياة البرزخ وأنواع النعيم والعذاب فيها كما سنرى.

انطلاقا من هذا، سنورد هنا بعض الأحاديث الواردة في المصادر الحديثية المختلفة، بل في أوثق المصادر، والتي لا يستطيع أي محترم للسنة النبوية المطهرة، أن يردها هكذا، خاصة مع كثرتها، ودلالتها الواضحة.

فمن تلك الأحاديث ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ قائلا: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال)([10])

ومنها حديث مروره صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبيرٍ، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ([11])

ومنها ذلك الحديث الذي توهم البعض أنه يدل على أن هذه العقيدة مأخوذة عن اليهود، وهو أن يهوديةً دخلت على عائشة؛ فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عذاب القبر، فقال: (نعم، عذاب القبر حق)([12])، فلا إشكال فيه، ذلك أن العبرة بالحديث، وليس بمورده، فكون عائشة لم تعلم ذلك إلا في ذلك الحين، لا علاقة له بالحديث، وقد يكون حصل ذلك في أول الهجرة، حين كان لليهود وجود في المدينة.

أما قول عائشة: (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدُ صلَّى صلاةً إلا تعوذ من عذاب القبر)، فلا يدل ـ كما يتوهم ـ على أنه لم يكن يقول ذلك قبل ذلك، فهي أخبرت عن رؤيتها، ولم تخبر عن كل الأحوال، وهذا متفق عليه عند الأصوليين، بل حتى في الواقع؛ فعدم الثبوت لا يعني عدم الإثبات.

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة (صباحًا) والعشي (مساءً)، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: (هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)([13])).

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)([14])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)([15])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)([16])

وتخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأمة بالابتلاء في قبورها لا يعني عدم ابتلاء سائر الأمم، وإنما قد يعني أن هناك من لا يبتلى كأهل الفترة ونحوهم، بدليل ما ذكر في القرآن الكريم عن قوم نوح وآل فرعون.

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العبد إذا وضع في قبره، وتولى وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم (صوتها عند المشي)، أتاه ملكان، فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فيراهما جميعًا، وأما الكافر ـ أو المنافق ـ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقةٍ من حديدٍ ضربةً بين أذنيه، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الثَّقَلين)([17])

ومنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج بعدما غربت الشمس، فسمع صوتًا، فقال: (يهودُ تُعذَّب في قبورها)([18])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا يستطيع المسلم المسلّم للنبوة أن ينكرها جميعا، بل قد يكتفي بمناقشة بعضها بسبب بعض رواتها، أو قد يناقش في كون بعضها روي بالمعنى، أما أن يرميها جميعا، خاصة مع عدم مخالفتها للقرآن الكريم، ولا للعقل، فهو محض هوى.

وقد رويت هذه الأحاديث عن جمع كثير من الصحابة، لا كما يذكر التنويريون بأنها لم ترو إلا عن خمسة منهم، فقد قال عبدالغني المقدسي: (الإيمان بعذاب القبر حق واجب، وفرض لازم، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: علي بن أبي طالب، وأبو أيوب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بَكْرة، وأبو رافع، وعثمان بن أبي العاص، وعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأختها أسماء، وغيرهم)([19])

وقال حافظ حكمي: (نصوص السنة في إثبات عذاب القبر قد بلغت في ذلك مبلغ التواتر؛ إذ رواها أئمة السنة وحَمَلة الحديث ونقَّاده عن الجم الغفير والجمع الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منهم: أنس بن مالكٍ، وعبدالله بن عباسٍ، والبراء بن عازبٍ، وعمر بن الخطاب، وابنه عبدالله، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت أبي بكرٍ، وأبو أيوب الأنصاري، وأم خالدٍ، وأبو هريرة، وأبو سعيدٍ الخدري، وسمرة بن جندبٍ، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابتٍ، وجابر بن عبدالله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وزيد بن أرقم، وأبو بكرة، وعبدالرحمن بن سمرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبوه عمرو، وأم مبشرٍ، وأبو قتادة، وعبدالله بن مسعودٍ، وأبو طلحة، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وعبدالرحمن بن حسنة، وتميم الداري، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، والنعمان بن بشيرٍ، وعوف بن مالكٍ)([20])

ولهذا حكى الكثير من العلماء تواتر هذه الروايات في المدرسة السنية وحدها، فقد قال الشوكاني، وهو من هو في علم الحديث: (تواترت بعذاب القبر الأحاديث الصحيحة، ودلت عليه الآيات القرآنية)([21])

ومما يقوي ذلك التواتر الأحاديث والروايات الكثيرة في المدرسة الشيعية، وهو ما يعطي المسألة قوة كبيرة تفوق التواتر، لأنه حينها يصبح إجماعا للأمة، لا مجرد إجماع للطائفة، والإجماع أكبر من التواتر، لأن التواتر قد يحصل في مدرسة واحدة، ويعبر عن وجهة نظرها فقط، بخلاف الإجماع الذي يدل على اجتماع الجميع.

ونحب أن ننبه الذي لا يعرف منهج الشيعة في التحديث إلى أن الروايات عندهم، وإن ظهرت بصيغة الوقف أو الانقطاع إلا أن لها حكم الرفع عندهم، لما روي عن الإمام الصادق، قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل)([22])

وأهل السنة يفعلون ذلك أيضا حين يحكمون على روايات الصحابة التي لا مجال فيها للاجتهاد بأن لها حكم المرفوع، كما قال محمد الأمين الشنقيطي: (فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع، كما تقرر في علم الحديث، فيقدَّمُ على القياس، ويُخَصُّ به النص، إن لم يُعْرَف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات)([23])

بناء على هذا، فمن روايات الشيعة في هذا ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يأتي على الميت ساعة أشدّ من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين، يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد مرتين، وفي الثانية بفاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرات ويسلم، ويقول: اللهم صلّ على محمد وآل محمد وأبعث ثوابهما إلى قبر ذلك الميت فلان ابن فلان، فيبعث الله من ساعته ألف ملك إلى قبره، مع كلّ ملك ثوب وحلّة، ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور)([24])

ورووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من صام اثني عشر يوماً من شعبان زاره في قبره كلّ يوم سبعون ألف ملك إلى النفخ في الصور)([25])

ورووا عن الإمام علي في رسالته لمحمّد بن أبي بكر، وقوله له: (يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته)([26])

ورووا عنه أنّه قال: (وبادروا الموت في غمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدّوا له قبل نزوله، فإنّ الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس، وشدّة الإبلاس، وهول المطّلع، وردعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وضيقة الوعد، وضمّ الضريح، وردم الصفيح)([27])

وروي في الدعاء عن الإمام زين العابدين: (اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين، وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين)([28])

وعنه قال: (.. فإذا دخلها (أي حفرة القبر) عبدٌ مؤمنٌ، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنت أحبّك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك، فيفسح له مدى البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، ويخرج من ذلك رجلٌ لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قط أحسن منك! فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله)([29])

ورووا عن الإمام الصادق، قال: (وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر؛ لأن للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة؛ ليأخذ أهبّته، ثم يقدّمه إلى شفير القبر)([30])

ورووا عنه أنه قال: (إنّ لكلّ شي‏ء قلباً، وإنّ قلب القرآن يس، من قرأها قبل أن ينام أو في نهاره قبل أن يُمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتَّى يُمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل الله به مئة ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن كلّ آفة، وإن مات في يومه أدخله الله الجنّة)([31])

وعنه قال: (أيّما مؤمن عاد مؤمناً في الله عزّ وجلّ في مرضه، وكّل الله به ملكاً من العوّاد يعوده في قبره، ويستغفر له إلى يوم القيامة)([32])

وسأله أبو بصير: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ فقال: (نعوذ بالله منها، ما أقلّ من يفلت من ضغظة القبر)([33])

هذه مجرد نماذج، وإلا فالأحاديث الواردة عنهم في ذلك كثيرة جدا، وهي تفوق التواتر بكثير، ولهذا صارت الإيمان بحياة البرزخ من العقائد المقررة الأساسية في كتب الشيعة كما هي في كتب السنة، كما عبر عن ذلك الإمام الصادق بقوله: (من أنكر ثلاثة أشياء، فليس من شيعتنا: المعراج، والمُساءلة في القبر، والشفاعة)([34])

وهكذا نجد علماء المدرسة السنية يقررون هذا في باب العقائد، من دون خلاف، ومن أقول العلماء في ذلك، قول حنبل: (قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، قلت: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور)([35])

وقال أبو جعفر الطحاوي: (نؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهلًا، وسؤال منكرٍ ونكيرٍ في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران)([36])

وقال ابن حزم تعليقا على قوله تعالى في آل فرعون: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 45، 46]: (فهذا العرض هو عذاب القبر، وإنما قيل: عذاب القبر، فأضيف إلى القبر؛ لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون، وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع، والغريق تأكله دواب البحر، والمحرق، والمصلوب، والمعلق، فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان هؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مسألة، ونعوذ بالله من هذا، بل كل ميت فلا بد من فتنة وسؤال، وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة، فيوفون حينئذٍ أجورهم، وينقلبون إلى الجنة أو النار)([37])

وقال النووي: (مذهب أهل السنة: إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة؛ وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رواية جماعةٍ من الصحابة في مواطن كثيرة، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزءٍ من الجسد ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به، وجب قبوله واعتقاده)([38])

وغيرها من النصوص الكثيرة التي نجدها في كتب العقائد في المدارس الإسلامية المختلفة، وهي كافية للعاقل حتى لا يتجرأ على مخالفة جميع الأمة، بسبب رأي رآه أو سمعه من غيره، من غير تحقيق ولا تثبت.

الشبهة الرابعة ـ تعارض عذاب القبر مع العقل:

وهي الشبهة الأساسية التي ينطلق منها التنويريون من أجل إلغاء هذه القضية العقدية، أو التهوين من شأنها، ولأجل ذلك يحاولون استخدام القرآن الكريم كسند لعقولهم، لعلمهم أن العقل وحده لا يكفي للتدخل في الأمور الغيبية.

ومن خلال استقراء مقولاتهم المرتبطة بالاستدلال العقلي على إنكار عذاب القبر يمكن أن نجد ثلاث شبهات:

أولها ـ خلطهم بين التعقل والتصور؛ وتوهمهم أن ما لا يدركونه بحواسهم ليس له وجود واقعي، وهذا غير صحيح، لأن عذاب القبر مثله مثل سائر عالم الغيب، لا علاقة للحواس به، فلذلك يكون التعامل معه بالتعقل، لا بالتصور.

ومن هذا الباب توهمهم أن المراد من عذاب القبر ونعيمه، ارتباطه بالقبر الحقيقي المعروف، وهذا غير صحيح، وإنما هذه التسمية جاءت من باب الغالب، لا من باب الحقيقة المطلقة، والتسمية الصحيحة لذلك، بحسب ما يذكر القرآن الكريم هي البرزخ، وهي المرحلة الفاصلة بين الحياتين الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 100]

ولهذا نرى العلماء ينبهون كل حين إلى أن المراد بالقبر هي حياة البرزخ، لا القبر في حد ذاته، كما قال قال النووي: (لا يمنع من سؤال الملكين وعذاب القبر كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك، فكما أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك، فكذا يعيد الحياة إلى جزءٍ منه أو أجزاءٍ وإن أكلته السباع والحيتان، فإن قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر؟! فالجواب أن ذلك غير ممتنعٍ، بل له نظير في العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذةً وآلامًا لا نحس نحن شيئًا منها، وكذا يجد اليقظان لذةً وآلمًا لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جلي، وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب)([39])

والمؤمن الذي يؤمن بالغيب، وبقدرة الله المطلقة، لا يتساءل عن الكيفية؛ فذلك لله تعالى، وعقولنا أقصر من أن تعرف حقيقة عالم الغيب، بل هي أقصر من أن تعرف عالم الشهادة، ولكن مع ذلك حاول العلماء أن يبسطوا هذا المعنى، ويقربوه خاصة لأولئك الذين يذكرون أنهم يرون الموتى بصورة عادية، ولا يرون أي آثار للعذاب عليهم.

وقد حاول الغزالي أن يقرب للعقول الكثيفة هذا المعنى، فذكر تعقيبا على تلك النصوص المقدسة التي تذكر الحيات والعقارب وأنواع العذاب درجات الإيمان بهذا؛ فقال: (فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة، وأسرار خفيّة، ولكنها عند أرباب البصائر واضحة، فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها. بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم، فإن قلت: فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه، ولا نشاهد شيئا من ذلك، فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة؟)([40])

ثم راح يجيب على هذا السؤال، بأن للمؤمن ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا:

أولها، وهو أكملها وأظهرها وأصحها وأسلمها وأكثرها أدبا مع الله، وهي التصديق موجودة فعلا، كما ورد في النصوص المقدسة، وهي تلدغ الميت، ولكننا لانشاهدها، لأن (هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت. أما ترى الصحابة رضي اللّه عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل، وما كانوا يشاهدونه، ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده؟)

 ثم خاطب الغزالي من يشكك في هذا، بقوله: (فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك. وإن كنت آمنت به، وجوّزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة، فكيف لا تجوّز هذا في الميت؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات، فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا، بل هي جنس آخر، وتدرك بحاسة أخرى)

ثانيها، وهو للتقريب، وليس للحقيقة المطلقة، وقد عبر عنه الغزالي بقوله: (أن تتذكر أمر النائم، وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه، وهو يتألم بذلك، حتى تراه يصبح في نومه، ويعرق جبينه، وقد ينزعج من مكانه. كل ذلك يدركه من نفسه، ويتأذى به كما يتأذى اليقظان، وهو يشاهده، وأنت ترى ظاهره ساكنا، ولا ترى حواليه حية، والحية موجودة في حقه، والعذاب حاصل، ولكنه في حقك غير مشاهد. وإذا كان العذاب في ألم اللدغ، فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد) ([41])

وطبعا؛ فإن المراد الغزالي من هذا هو التقريب، لا الحقيقة المطلقة، لأنها غيب، والذي خلق النوم، وأودع فيه تلك القدرات، يمكن أن يخلق غيره، ولا عجب في ذلك عند صاحب القدرة المطلقة.

ثالثها، وهو أدنى المراتب، وقد عبر عنه الغزالي بقوله: (.. أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم، بل الذي يلقاك منها وهو السم، ثم السم ليس هو الألم، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم؛ فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة.. وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب: والسبب يراد لثمرته لا لذاته)([42])

ثم ختم هذه المراتب ـ كعادته ـ بنصيحة غالية قال فيها: (والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك في تفصيل ذلك، ولا تشتغل بمعرفته، بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب كيفما كان، فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك، كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه، فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين، أو بسيف، أو بموسى، وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه، وهذا غاية الجهل، فقد علم على القطع أن العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم، أو نعيم مقيم، فينبغي أن يكون الاستعداد له. فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان‏)([43])

وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي ما أشار إليه الغزالي من التسليم لأمور الغيب من دون بحث فيها، ولا في كيفيتها، لتجاوزها حدود العقول؛ فقال: (قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عَوْدَ الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا، وسؤال الملكين في القبر يكون للروح والبدن جميعًا، وكذلك عذاب القبر يكون للروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم الروح وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به)([44])

ثانيها: توهمهم أن عذاب القبر يتنافى مع رحمة الله، وهذا غير صحيح؛ بل إن النصوص تدل على أن ما يظهر للإنسان في قبره هو عمله المتجسد له؛ فلذلك لا يلقى الإنسان في قبره إلا ما قدمه من عمل صالح، أو عمل سيء، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([45])

وتجسد الأعمال([46]) مما دلت عليه النصوص الكثيرة، كقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 6 – 8]، وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا بعض أصحابه: (لا بُدَّ لك من قرين يُدفن معك وهو حيٌ، وتدفن معه وأنت ميتٌ، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن أصلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلا منه، وهو فعلك)([47])

وبذلك، فإن العذاب في القبر وغيره لا يتعارض مع رحمة الله، لأن الله تعالى جعل أسبابا للنعيم، وأسبابا للعذاب، فمن فعل السبب، لابد أن يتحمل النتيجة، مثل الذي يضع يده على التيار الكهربائي، فإن سنة الله فيه أن يصعق، وكذلك المعاصي، فإن لها آثارها الذاتية التي لا يمكن تفاديها.

وقد أشار الغزالي إلى هذا المعني، وفسر به الروايات الواردة في ذلك، فقال تعليقا على الأحاديث التي تذكر الحيات والعقارب في القبر: (ولا ينبغي أن يتعجب من هذا العدد على الخصوص، فإن أعداد هذه الحيّات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر، والرياء، والحسد، والغل، والحقد، وسائر الصفات، فإن لها أصولا معدودة، ثم تتشعب منها فروع معدودة، ثم تنقسم فروعها إلى أقسام. وتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات، وهي بأعيانها تنقلب عقارب وحيات، فالقوي منها يلدغ لدغ التنين، والضعيف يلدغ لدغ العقرب، وما بينهما يؤذى إيذاء الحية. وأرباب القلوب والبصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها، إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنور النبوة)([48])

ثم بين وجه ارتباط عذاب الميت بعد موته بهذا؛ فقال: (وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت، فتكون آلامها كآلام لدغ الحيّات من غير وجود حيّات. وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق، فإنه كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما، حتى يرد بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال) ([49])

ثم راح يطبق هذا المثال، باعتباره الحقيقة، لا مجرد مثال؛ فقال: (بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت، فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه، فصار يعشق ماله، وعقاره، وجاهه، وولده، وأقاربه، ومعارفه، ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو، استرجاعه منه فما ذا ترى يكون حاله؟ ليس يعظم شقاؤه، ويشتد عذابه، ويتمنى ويقول ليته لم يكن لي مال قط، ولا جاه قط، فكنت لا أتأذى بفراقه؟ فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعه واحدة.. فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا، فتؤخذ منه الدنيا وتسلّم إلى أعدائه، ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسّره على ما فاته من نعيم الآخرة، والحجاب عن اللّه عز وجل، فإن حب غير اللّه يحجبه عن لقاء اللّه والتنعم به، فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته، وحسرته على ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد، وذل الرد والحجاب عن اللّه تعالى، وذلك هو العذاب الذي يعذّب به، إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم)

وبخلاف ذلك حال المؤمن، فهو ـ كما يصفه الغزالي ـ (من لم يأنس بالدنيا، ولم يحب إلا اللّه، وكان مشتاقا إلى لقاء اللّه، فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاسات الشهوات فيها، وقدم على محبوبه، وانقطعت عنه العوائق والصوارف، وتوفر عليه النعيم مع الأمن من الزوال أبد الآباد، ولمثل ذلك فليعمل العاملون)

ونحب أن نشير هنا إلى ما ذكرناه بتفصيل في كتاب [أسرار الأقدار]، من أن هذا العذاب الذي يعذب به المؤمن في قبره نتيجة بعض معاصيه هو في الحقيقة رحمة به، لأنه يربيه، ويطهره، حتى يأتي يوم القيامة سالما طاهرا من ذنوبه، لأن عذاب الآخرة {أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه: 127]

ثالثها: تصورهم أن المصلحة الشرعية تقتضي تغليب الرجاء على الخوف، وأنه لا يصح أن يذكر للناس عذاب القبر ونحوه، لأن ذلك قد يؤذيهم، ويخيفهم، ويقنطهم من رحمة الله.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عدنان إبراهيم في شريط متداول له تحدث فيه عن أمان المؤمن يوم القيامة استنادا إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، حيث فسّر الظلم بالشرك، واعتباره قاصرا عليه، مع أن القرآن الكريم اعتبر كل معصية ظلما.

ثم راح يستهزئ بالذين يخوّفون الناس من عذاب يوم القيامة، ومن عذاب القبر، ويملئون الدنيا بتلك الرسائل والأشرطة عن فزع يوم القيامة وأهوال القبر، ولست أدري ما المانع من ذلك إن كان الغرض منه الدعوة إلى التقوى والصلاح.

فالقرآن الكريم نفسه مارس هذا، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]

وهو نفسه الذي أخبر عن حال المؤمنين، بل المقربين منهم، وخشيتهم لله؛ فقال: {نَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 5 – 10] }

ثم عقب على ذلك بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } [الإنسان: 11]

وهكذا عندما ذكر عباد الرحمن، قال عنهم: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63 – 66]

وهكذا نرى القرآن الكريم يتوعد المؤمنين بالعذاب الشديد على المعاصي المختلفة، ولم يذكر أبدا أنهم ما داموا مؤمنين، فهم معفون من ذلك.

ومن أمثلة ذلك تلك التهديدات الإلهية الخطيرة المرتبطة بآكل الربا، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]، فهل يضمن عدنان إبراهيم لآكلي الربا ألا يعذبوا في الآخرة بسبب عدم كونهم من المشركين؟

وهكذا توعد الله تعالى آكلي مال اليتيم؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، فهل يضمن هؤلاء ألا يعذب آكل مال اليتيم؟

وهكذا؛ فإن من علامات المؤمنين تذكر الأهوال وأنواع العذاب، حتى تردع النفس الأمارة وتؤدب، ولهذا ورد في النصوص المقدسة بيان الأعمال التي يعذب بها صاحبها في القبر، حتى تكون تحذيرا له، وليس من الأدب مع الله تعالى، ولا مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي استعمل هذه الوسيلة التربوية في أن نقوم نحن بالتهوين منها وتحقيرها.

وقد أحصى ابن القيم الكثير من المعاصي التي ورد في شأنها الوعيد بعذاب القبر، فذكر منها (النمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصن، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا علم له به، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب الخمر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا، ومعطيه، وكاتبه، وشاهداه، والمحتال على إسقاط فرائض الله تعالى، وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والمُعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه على سنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، والمغنون الغناء الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والمستمع إليهم، والمطففون في الكيل والميزان، والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون، واللمازون، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرَّافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله تعالى وذكَّرته به لم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وكفَّ عما هو فيه، والذي يجاهر بالمعصية ويفتخر بها بين الناس، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الناس اتقاء شره، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، والذي لا يبالي بما حصل من المال، من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين، ولا الأرملة، ولا اليتيم، ولا الحيوان البهيم، بل يزجر اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي الناس بعمله؛ ليكسب مدحهم له، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه ـ فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغيرها وكبيرها)([50])

وبذلك يصبح عذاب القبر وسيلة تربوية، تقمع الناس الأمارة بالسوء، وتعيدها إلى جادة الصواب، مثلها مثل ما ذكر في عذاب الآخرة، وقد روي عن روي عن الإمام علي قال في بعض خطبه: (.. والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتّى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنّما سودّت وجوهم بالعظلم، وعاودني مؤكّداً وكرر عليّ مردداً فأصغيت إليه سمعي فظنّ أنّي أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى، وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم صدقة أم زكاة فذلك محرّم علينا أهل البيت؟ فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني أم متخبط أم ذو جنّة أم تهجر؟! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذّة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين)([51])

وهكذا كان لذكر العذاب، وتذكره دوره التربوي الكبير، وقد سئل بعض الصالحين: كيف نصنع نجالس أقواما يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير؛ فقال: (والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك أمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف)([52])

وهو نفس ما عبر عنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]، فقد اعتبر مسارعتهم للخيرات، ومسابقتهم لها بسبب ذلك الوجل الذي يحرك قلوبهم، ويمنعهم من الركون إلى أهوائهم.


([1])  عذاب القبر أم عذاب الفقر، رمضان عبد الرحمن في الخميس 16 اكتوبر 2014.

([2])  عذاب القبر بين الحقيقة والخيال، فتحى احمد ماضى،  04 سبتمبر 2016.

([3])  مصدر خُرافة عذاب القبر، سامح عسكر، الحوار المتمدن، 23 فبراير 2013، ببعض التصرف مراعاة للاختصار.

([4])  أكذوبة عذاب القبر وأكاذيب شيوخ الثعبان الأقرع، أحمد صبحي منصور.

([5])  تفسير الطبري جـ 22 صـ 487.

([6])  إحياء علوم الدين (4/ 173)

([7])  إحياء علوم الدين (4/ 174)

([8])  البيهقي في الزهد الكبير (515) من قول سهل التستري، ورواه أبو الفضل الزهري في حديثه (710) من قول بشر بن الحارث.

([9])  رواه البخاري حديث: 1369/ مسلم حديث: 2871.

([10])  البخاري حديث: 6376.

([11])  البخاري حديث 218 / مسلم حديث 292.

([12])  البخاري حديث: 1372.

([13])  البخاري حديث 1379/ مسلم حديث 2866.

([14])  مسلم حديث: 588.

([15])  مسلم حديث: 627.

([16])  مسلم حديث: 2867.

([17])  البخاري حديث: 1338/ مسلم حديث: 2870.

([18])  البخاري حديث: 1375/ مسلم حديث: 2869.

([19])  الاقتصاد في الاعتقاد ـ لعبدالغني المقدسي ص 174: 172.

([20])  معارج القبول لحافظ حكمي جـ 2 صـ 117.

([21])  فتح القدير للشوكاني ج 1 ص 184.

([22])  الكليني في الكافي ج 1 ص 66.

([23])  مذكرة أصول الفقه ( ص 256 )

([24])  بحار الأنوار، ج6، ص244.

([25])  وسائل‏الشيعة، ج10، ص498..

([26])  بحار الأنوار، ج6، ص218..

([27])  بحار الأنوار، ج60، ص244..

([28])  الصحيفة السجادية، دعاؤه رقم 206، بحار الأنوار، ج91، ص123.

([29])  الكافي، ج3، ص130.

([30])  من لا يحضره الفقيه، ج1، ص170..

([31])  وسائل الشيعة، ج6، ص247..

([32])  الكافي، ج3، ص120..

([33])  الكافي، ج3، ص236..

([34])  أمالي الصدوق : ٣٧٠ / ٤٦٤.

([35])  الروح لابن القيم ص 77.

([36])  شرح الطحاوية ج 2 ص 157.

([37])  الفصل في الملل والنحل لابن حزم ج 4 ص 56.

([38])  مسلم بشرح النووي ج 9 ص 223.

([39])  مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 224.

([40])  إحياء علوم الدين، ج‏6 ـ الجزء16، ص: 6.

([41])  إحياء علوم الدين، ج‏6 ـ الجزء16، ص: 6.

([42])  إحياء علوم الدين، ج‏6 ـ الجزء16، ص: 7.

([43])  إحياء علوم الدين، ج‏6 ـ الجزء16، ص: 8.

([44])  شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ 163.

([45])  مسلم،  2577..

([46])  تجسم الأعمال يعني: أنّ كل عمل يقوم به الإنسان سواء كان حسناً أو سيئاً، له صورتان، الأولى دنيوية، والثانية أخروية، وتكمن هاتان الصورتان في جوف وداخل العمل، وفي يوم الحشر وبعد التحولات والتطورات التي تحصل فيها، فإنّ العمل يترك صورته الدنيوية ويتجلّى ويتمثّل، ويظهر في صورته الأخروية الواقعية، وبها ينعم الإنسان ويتلذذ، أو يخسر ويتأذى.[ السبحاني، مفاهيم القرآن، ج8، ص330.].

([47])  الصدوق، الأمالي، النص 3، المجلس الأول.

([48])  إحياء علوم الدين، ج‏6 ـ الجزء16، ص: 6.

([49])  إحياء علوم الدين، ج‏6 ـ الجزء16، ص: 6.

([50])  الروح لابن القيم صـ 103: 101.

([51])  خطب نهج البلاغة ٢ / ٢١٧.

([52])  إحياء علوم الدين (4/ 162)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *