التنويريون.. وتحريف الكلم عن مواضعه

التنويريون.. وتحريف الكلم عن مواضعه
من السلوكات التي ذكرها القرآن الكريم عن أهل الكتاب كنتيجة لنقض الميثاق، وقسوة القلب [تحريف الكلم عن مواضعه]، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]
فتحريف الكلم عن مواضعه ـ بحسب الآية الكريمة ـ تبرير لنقض الميثاق، ذلك أن أي إنسان يمارس الخطيئة، ويستحليها، ويدمن عليها، لا يكتفي بها، بل يحاول أن يبررها، ويعطيها من الشرعية ما يحول منها طاعة وقربة، وما يكتسب منها جاها وسمعة، ويكون تبريره لها أخطر من المعصية نفسها، ذلك أن التبرير استحلال للمعصية، ومحادة لله، وتأل عليه.
وهو أيضا يعبر عن قسوة القلب، ذلك أنه لا يحاد الله إلا من قسى قلبه، وطبع بالران والختم والأقفال التي تحول بينه وبين الاستبصار والهداية.. والقلب القاسي هو ذلك الذي يقدم هواه على ربه، ويقدم فكره على كلماته المقدسة، ويجعل من شريعة الله مطية لتلبية نداء أهوائه وشهواته.
ولذلك أخبر الله تعالى عن الظلم العظيم الذي يقع فيه من يضع الشرائع من هواه المجرد؛ فيجعل من نفسه إلها من دون الله، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18، 19]
وهاتان الآيتان الكريمتان لا تصدقان على أحد في هذا العصر كما تصدق على أولئك التنويريين الجدد الذين جعل كل واحد منهم لنفسه مشروعا كاملا على أساسه يحلل ويحرم، بل يضع العقائد والقوانين التي تحكم الكون.. بل يتألى على الله فوق ذلك؛ فيفرض عليه أن يدخل من يهواه الجنة، ومن يبغضه النار.
وهم يستعملون نفس ما استعمله أهل الكتاب من قبلنا من تبديل الكلم عن مواضعه؛ فيحولون الكلمات عن معانيها الواضحة البسيطة اليسيرة إلى معان أخرى لا علاقة لها بها، وعندما يخرب بنيان الكلمات يخرب معها بنيان المعاني.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها، ولكنا نذكر اختصارا بأن أكثر المناهج التي استفادها التنويريون من الغرب، واستعملوها مع القرآن الكريم، باعتباره عندهم مجرد منتوج ثقافي بشري يسري عليه ما يسري على جميع النصوص البشرية، تحريف للكلم عن مواضعه.. ذلك أن النتيجة التي يخلصون إليها هي تفريغه من محتواه، وتحويله إلى مجرد كلمات يتعبد بها من غير أن يكون لها أي حقيقة خارجية واقعية.
وقد ذكرنا في مقالات كثيرة في هذا الكتاب وغيره أمثلة كثيرة عن ذلك التحريف الواضح للألفاظ القرآنية، وإخراجها عن مقاصدها الواضحة، وسنذكر هنا أمثلة أخرى، باختصار، لنتبين كيفية التحريف وآثاره ودوافعه.
فمن ذلك ما نرى التنويريين يكادون يتفقون عليه من تحريف لكلمة [الحور العين]، والتي ذكرها القرآن الكريم كنموذج من نماذج النعيم المقيم الذي وفره الله لعباده في الجنة، ليكون دافعا لهم للعفة والعمل الصالح في الدنيا..
وكان في إمكان التنويريين أن يسلموا لله فيما ذكر، فهو أدرى بعباده، وبرغباتهم، ولذلك خاطبهم بما يتناسب معهم.. لكنهم لقسوة قلوبهم، ولتمردهم على الله، وتقديمهم لأهوائهم عليه لم يفعلوا.. بل راحوا يصورون ذلك باعتباره هوسا جنسيا، والعياذ بالله، مع أن القرآن الكريم لم يذكر أي شيء يرتبط بذلك، بل اكتفى باعتباره من نعيم الجنة مثله مثل الولدان المخلدون والقصور التي تجري تحتها الأنهار.
وكان في إمكانهم أن يتركوا كيفية التعامل مع ذلك النعيم لله تعالى، لأن الحقائق القرآنية لم تذكر التفاصيل المرتبطة بذلك، وإنما اكتفت بالنماذج التي تملأ النفس بالرغبة، كما اكتفت من ذكر بعض مشاهد النار التي تملأ النفس بالرهبة، ومن خلال هذين الجناحين يهذب المؤمن نفسه، ويرقي روحه، ويصلح سلوكه.
لكن التنويريين ساءهم أن يذكر الله تعالى ذلك، بل تمنوا لو حذفت أمثال هذه النصوص من القرآن الكريم، لكونها في تصورهم تشويه له، ولست أدري ما محل التشويه، وهم أنفسهم يركعون أمام كل غانية، بل يبيعون دينهم ودنياهم من أجل متاع بسيط من الدنيا، في نفس الوقت الذي يحتقرون فيه ذلك النعيم المقيم الذي وعد الله به عباده المؤمنين.
وكل ذلك دليل على قساوة قلوبهم، وإلا فإن القلوب المؤمنة قلوب ورعة تعظم ما عظم الله، وتحقر ما حقر.. فلذلك لا ترى الدنيا بمتاعها جميعا مساويا للحظة الواحدة من لحظات النعيم المقيم الذي أعده الله لعباده الصالحين.
وقد كان أحسن التنويريين تعبيرا من تحدث عن الحور العين بهذا الطرح الذي عبر عنه بقوله: (و[الحور العين] كفكرة مثالية جميلة، ترتبط فى أحد جوانبها بـ«العفة» خصوصا فى المجتمعات الفقيرة وشقيقتها المغلقة، حين يكون الزواج أمرا شاقا مع ارتفاع تكاليف الحياة فليس هناك حصن للراغب فيه إلا التعفف والانتظار، وإن لم يفز بها فإنه سيجد تعويضا مناسبا كلما تذكره حفزه على عدم التورط فى أمور أخرى يرفضها الدين والمجتمع، أو تفرض الثقافة المجتمعية على الراغبين فى الزواج الالتزام بمسار معين للارتباط يقلل من خيارات الشاب فما عليه إلا أن يرضى بما يفرضه عليه العرف حتى وإن كان ظالما، فالصبر أفضل طالما أن جائزته تنتظره فى الجنة)
ومنهم من راح يتهكم بهم، ويصور الصور الكاريكاتورية عنهم، لا لشيء، إلا لأن الإرهابيين والمتطرفين جعلوا من الحور العين وسيلة لاصطياد المغفلين، وكان في إمكانهم مواجهة التطرف والعنف، لا الرد على الحقائق الثابتة، لأن ردها رد على الله نفسه.
ومنهم من راح يتساءل عن سر وجود حور عين للرجال، وعدم وجود حور عين للنساء، ورأى أن ذلك تفريقا بين الذكر والأنثى، وأن النعيم في الجنة خاص بالذكور لا بالإناث.
وهذا كله تحريف للكلم عن مواضعه؛ فالقرآن الكريم ذكر نماذج عن النعيم، ولم يذكر كل النعيم، واكتفى بالمتعارف منه، وأعطى فوق ذلك قاعدة تشمل الجميع، عبر عنها قوله تعالى في خطاب لعباده المؤمنين الذين نجحوا في امتحانات الدنيا: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 70، 71]
فقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } كاف لترك الخيال يسرح حيث يشاء، ليخترع من النعيم ما يشاء؛ فقدرة الله لا تحدها الحدود.
وفوق ذلك؛ فكل النعيم المذكور في الجنة مما يتعلق بالجنسين، الذكر والأنثى، وقصر الحور العين على الرجال، لاعتبارات خاصة، لا يعني تفضيل الرجال على النساء، ولا يعني أنه لا يوجد نعيم خاص بالنساء في الجنة، لأن الآيات الكريمة لم تفصل لنا كل النعيم، وإنما اكتفت بنماذج عنه.
ولعل من علل ذكر القرآن الكريم للحور العين خصوصا، هو توفير القابلية للرجال لمواجهة الفتن الكثيرة التي تفرزها علاقتهم بالنساء، وهي فتن واقعية لا شك فيها، وليست مرتبطة كما يذكر البعض بالبيئة البدوية، بل هي مرتبطة بكل الجغرافيا وكل التاريخ، ونحن لا نزال نسمع كل حين، بأن فلانا من الناس من ذوي المناصب الراقية اتهم بالتحرش، أو بفضيحة جنسية..
ولذلك لا داعي لأن نكذب على أنفسنا، وتعتبر الفتنة بالنساء خاصة بالعرب أو بالبدو أو بذلك الجيل الذي نزل القرآن الكريم في عهده، ففي كل الأجيال نجد فتنة التأثر بالنساء، وفي كل الأجيال نجد قيسا وليلى.. ونجد روميو وجوليت..
فلذلك كان الخطاب القرآني المرتبط بالحور العين خطابا واقعيا يخاطب النفس بما أعد الله لها من نعيم مرتبط بهذا الجانب لتستعلي على فتنة النساء في الدنيا، لأن الله سيعوضها بدلها بالنعيم المقيم في الآخرة، والذي يكون من جملته [الحور العين]، والتي وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)([1])
ومع وضوح الأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة على كون الحور العين من نساء الجنة، إلا أن التنويريين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه راحوا يفسرونها تفاسير مختلفة.
لعل أطرفها بحث مطول زعم فيه صاحبه أن الحور العين ليسوا نساء، وإنما هن فاكهة، ثم راح يستعرض كل الآيات القرآنية المرتبطة بهن، وبنعيم الجنة، ليحول منهن فاكهة رغم كل شيء([2]).
وقد ذكر في مقدمة مقاله المواضع التي وردت فيها لفظة الحور بمشتقاتها، ثم راح يتصرف فيها، ويتلاعب بها بطرق مختلفة من ذلك قوله: (يجب أن نتأمل آية مهمة من القرآن تعطينا معنى جيد وحقيقي وهي قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14]، فالمعنى هنا يقول إن المجرم الذي استلم كتابه خلف ظهره ظن أن العذاب لن يعود عليه ويرجع، اذاً فتطبيق هذا المعنى على حور عين يدلنا على أن هذه النعم من فاكهة ستعود دوما، من حور يعود بشكل عين لاتنضب، ويتفق هذا المعنى بالتالي بالآية التالية، وهى أن أهل الجنة كلما قطفوا من فاكهة الجنة أعيدت لهم على الفور إنشاءها بشكل متماثل رزقا لاينقطع، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } [البقرة: 25]، فهذه الثمرات كما في معنى ستحور، وتعود وترجع كلما أخذها أهل الجنة، واذا تابعنا بهذا المعنى نرى اتصال باقي الآيات بهذا السياق من كونها أي النعم من فاكهة ونعم وخيرات مختلفة، الخيرات الحسان وهذه لهم لاتنقطع عندما يدخل المتقون الجنة من الجنسين (الذكر والانثى) يزوجون بــها بمعنى الاقتران والتلازم، لذلك فهي للذكور والاناث معا بلا تفرقة)
وبمثل هذه الطريقة راح يستعرض ما ورد في شأنهن في سورة الرحمن، ثم يعقب على ذلك بقوله: (فاذا نظرنا الى كلمة فِيهِنَّ في آية {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} نجد أن هذا جمع مؤنث في حرف النون يدل ضمن شيء من أشياء التأنيث، جنتان، عينان، مدهامتان، فيهما.. وهذا بالتالي لايعود على التأنيث، بل يعود على فاكهة الجنة من رمان وخلافه، أي أن في كلتا الجنتين على حدة كثير من الفاكهة القاصرات الطرف التي يسهل الوصول اليها.. وفي السياق نفسه بالاتصال مع آية اخرى، فهذه الحور مقصورة داخل خيمتها التي تحفظها كما تحفظ كل فاكهة قشرتها وتبدو أيضا هذه الثمار (حسب آية اخرى) من أكمامها كاللؤللؤ المكنون)
وهكذا راح يحول من كل أوصاف الحور في العين القرآن الكريم إلى أوصاف للفاكهة، ويستعمل في ذلك كل ألوان الحيل والخدع التي مارسها أهل الكتاب من قبلنا ليحرفوا الكلم عن مواضعه.
أما آخر، فقد راح يستعمل حيلا أخرى، ليحول من الحور العين إلى ما عبر عنه بقوله: (وحار تعنى رجع أو عاد إلى ربه فى الآخرة.. وعلى ذلك فالحور هن المؤمنات العائدات.. وهؤلاء المؤمنات قد تحوَّرت أشكالهن أيضا، فعدن فى شكل شابات جميلات كواعب ذوات عيون ساحرة فقد أعاد الله إنشائهن إنشاءً.. وعِينٌ تعني: نُجْلُ العُيُونِ حِسَانُهَا، والمفرد للرجل: أعْيَنُ، وللمرأة: عَيْنَاءُ.. فسوف يتزوج المؤمنون فى الجنة بهؤلاء المؤمنات الراجعات أو العائدات إلى الله، وبالطبع سيعود الرجال إلى شبابهم مثل النساء، لأن لهم ما اشتهت أنفسهم، وهل لن يشتهي أحد أن يعود إلى شبابه وعُنفوانه؟.. وهذا هو نصيب النساء فسيتمتعن بأزواجهن كما سيتمتع بهن أزواجهن)([3])
وهكذا نجد كل يوم من يجتهد، ليبحث عن معنى جديد للحور العين مما لم يفطن له أحد من المفسرين ولا اللغويين القدامى والمحدثين.
وليت الأمر اقتصر على الحور العين، إذن لهان، بل إننا نجد كل يوم تفسيرات جديدة ممتلئة بالغربة لكل القطعيات والبديهيات، ومن أمثلة ذلك ما فسر به شحرور المصطلحات القرآنية([4])، والتي اهتم بها اهتماما بالغا كسائر التنويريين لأنه لا يمكن تزييف الحقائق من غير أن تبدل المصطلحات الدالة عليها.
فقد فسر مصطلح [القرآن] بقوله: (القرآن: يمثّل القرآن نبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لهذا ذُكر مع كلّ من التوراة والإنجيل، ويمثّل مجموع الآيات المتشابهات (آيات النبوّة وتفصيلها) التي تتحدّث عن القوانين الكونية التي تتحكّم في الكون بما فيه من نجوم وكواكب وزلازل ورياح ومياه في الينابيع والأنهار والبحار.. وعن قوانين التاريخ والمجتمعات التي تحكم نشوء الأمم وهلاكها، وعن غيب الماضي من خلق الكون وخلق الإنسان وأنباء الأمم البائدة (القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي)، وعن غيب المستقبل كقيام الساعة والنفخ في الصور والحساب والجنّة والنار. والقرآن جاء من فعل قرن لأنّه قرن القانون العام للوجود مع القانون الخاصّ له مع خط تطوّر سير التاريخ الإنساني، وهو بذلك قرن بين معلومات اللوح المحفوظ، ومعلومات الإمام المبين، ويُعدّ الجزء الأكبر من الكتاب ولا يوجد فيه تشريع إطلاقاً)
وفسر [اللوح المحفوظ] بقوله: (بما أنّ القرآن المجيد هو القوانين الصارمة الناظمة للوجود، فإنّ اللوح المحفوظ هو بمثابة برنامج هذه القوانين.. وهذا البرنامج بقوانينه الصارمة التي تسيّر الوجود هو برنامج ثابت ولا يتغير، لا هو ولا قوانينه، وبالتالي لا ينفع فيه الدعاء لأنّه لا يتغيّر من أجل أحد مهما كان)
وفسر [الكتاب المبين] بقوله: (هو مجموع آيات القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي، أي هو مجموع الآيات التي تتطرّق إلى أنباء غيب الماضي وإلى أخبار القصص المحمّدي، لأن آيات القصص المحمّدي بما فيها من آيات القتال كانت أخباراً بالنسبة لمن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنّها تحوّلت إلى أنباء عن الماضي لمن بعدهم من العصور)
وفسر [الإمام المبين] بقوله: (هو أرشيف الإنسانية من يوم خلقها الله عزّ وجلّ إلى يوم الدين، أي أرشيف الأحداث التاريخية الإنسانية الفردية والجماعية إلى قيام الساعة، ومنه جاء الكتاب المبين (القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي). تمت فيه أرشفة الأحداث الإنسانية بعد حدوثها وتحوّلها إلى واقع)
وفسر [مواقع النجوم] بقوله: (هي الفواصل الموجودة بين آيات الكتاب، سواء جاز الوقف عندها أو لم يجز، وليست مواقع النجوم التي في السماء، هي من مفاتيح فهم الكتاب كله خصوصاً بالنسبة للقرآن في عملية تأويله، لأن مواقع النجوم في الكتاب تجعل كلّ آية من آيات الكتاب تحمل فكرة متكاملة: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة 75-77)
وفسر [الإسلام] بقوله: (هو الإيمان تسليماً بوجود الله وباليوم الآخر وأداء العمل الصالح.. فالإيمان بالله هو التسليم بوحدانيته والتصديق بنبوّات الأنبياء ورسالات الرسل كل في زمانه، فكلّ هؤلاء يؤمنون بالله واليوم الآخر، وقد سمّاهم التنزيل الحكيم المسلمين على اختلاف مللهم. ولهذا فإنّ شهادة أنْ لا إله إلا الله هي تذكرة الدخول إلى دين الإسلام مهما كانت ملّة الإنسان. والإسلام يُبنى على العمل الصالح بعد الإيمان تسليماً بوجود الله وباليوم الآخر، وقد جعل الله الإيمان به مسلّمة لا يمكن البرهان عليها علمياً أو دحضها علمياً، لذا فهي خيار وقناعة يتساوى فيهما أينشتاين وبائع الطعمية، وفيها تظهر عدالة ربّ العالمين، إذ يجب على المسلم أن يكون عنده ذرة شكّ في وجود الله، والملحد عنده ذرة شكّ في الإلحاد، وهذا الشكّ هو الدافع الأساسي وراء تقدّم المعارف الإنسانية قاطبة، ومبدأ الشك هذا وضعه إبراهيم عليه السلام. أمّا العمل الصالح فيرتكز على القيم الإنسانية وعلى رأسها الوصايا العشر (الفرقان) المذكورة في سورة الأنعام التي خضعت للتراكم بين الرسالات. كما يُبنى الإسلام على التشريع الذي خضع للتطوّر وانتهى بالتشريع الحنيفي المتغيّر (الحدودي)، وعلى الشعائر التي خضعت للاختلاف)
وهكذا نجده يضع قواميس جديدة للمصطلحات القرآنية، وتطبيقها لا يعني إلا شيئا واحدا، وهو هدم الإسلام من أساسه، ولو أنا اكتفينا من تبديله للكلم عن مواضعه بما ذكره عن كلمة [الإسلام] لكفى ذلك في هدم الإسلام.
فالإسلام عنده مجرد الإيمان بالله والعمل الصالح.. والعمل الصالح مرن جدا، يمكن للمجتمع أن يحدده، ويمكن للزمن أن يغيره.. وهكذا الإيمان بالله.. حيث يتساوى عنده الملحد مع المؤمن، بل إنه ـ ومن خلال أحاديثه عن الملاحدة وإشادته بهم ـ نجده يفضلهم على المؤمنين.
وقد قال في تأبينه لهوكينغ: (لا يسعني إلا أن أعزي الإنسانية بفقيدها، وكلي ثقة أن الله سيتباهى أمام خلقه بستيفن هوكينغ، كما يتباهى (ولله المثل الأعلى) الأب بإنجازات ابنه، حتى لو افترضنا أن هذا الابن لم يعترف بأبيه)
وبذلك فإنه لا وجود عنده لمجموعة من الناس تحمل اسم الإسلام.. فالإسلام عنده هو دين البشرية جميعا، ولذلك لا معنى لدعوة الملاحدة أو المسيحيين أو اليهود أو البوذيين أو غيرهم من أهل الأديان للإسلام.. لأنهم مسلمون أصلا.
وهكذا حول من معنى الصلاة الذي يراد به تلك الشعيرة المعروفة التي وردت تفاصيلها في كتب الحديث والسنة إلى مجرد دعاء، من قام به في أي لحظة من حياته، وقي ذلك العذاب الشديد الذي خصصه الله بتاركي الصلاة.
أما تلك الشعيرة، فهي خاصة عنده فقط بالمؤمنين، لا المسلمين، وهي اختيار شخصي، من شاء منهم فعله، ومن لم يشأ لم يفعله.
وهكذا راح لكل الشرائع والشعائر يحرفها عن
مواضعها، ويستعمل تلك الخدع التي يسميها المغفلون مشاريع فكرية، وهم لا يعلمون
أنها مشاريع شيطانية، لا تختلف عن تلك المشاريع التي استعملها أهل الكتاب مع كتابهم
حين كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه.
([1]) رواه البخاري.
([2]) انظر مقالا بعنوان: الحور العين، محمد البارودى، موقع أهل القرآن، 30 اكتوبر 2009.
([3]) الحور العين، عز الدين نجيب، موقع أهل القرآن، 11 نوفمبر 2011.
([4]) انظر: دليل المصطلحات الواردة في التنزيل الحكيم، محمد شحرور، موقعه الرسمي.