التنويريون.. والنبوة

تشكل النبوة ـ بالمفهوم القرآني ـ النقطة المركزية التي ينطلق منها المؤمن للتعرف على حقائق الوجود، والتعرف على القيم السلوكية التي يتحقق السالك لها بمرضاة الله ومحبته وتقريبه.
ولذلك لا نكاد نجد سورة من القرآن الكريم إلا وتمتلئ بذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، باعتبارهم تجسيدا للحقيقة، والقيم النبيلة، بالإضافة إلى كونهم تأريخا حقيقيا لأهداف وجود الإنسان على هذه الأرض، وتاريخ الصراع بين الحق والباطل، والشيطان والإنسان.
لكن ذلك الشكل الجميل الذي عُرضت به النبوة في القرآن الكريم، والذي يملأ أقطار النفس بالإعجاب والتبجيل والتعظيم تعرض للكثير من التشويه، سواء من أولئك القدامى الذين سلموا قرآنهم لأهل الكتاب ليفسروه لهم؛ فحولوا الحقائق القرآنية إلى أساطير الأولين، أو أولئك الذين سلموا القرآن لأهواء المحدثين والمعاصرين، فحولوه إلى خرافات وأساطير لا تقل عن خرافات الأولين وأساطيرهم.
وقد كانت أول حملة التنويريين على ما ورد في القرآن الكريم من أحاديث الأنبياء وقصصهم ذلك الإنكار لها باعتبارها مجرد أمثلة سيقت للعبرة، وليس لها أي حظ من الوجود الواقعي، كما فعل ذلك محمد أحمد خلف الله، في بحثه المعنون بـ [الفن القصصي في القرآن الكريم]، والذي تقدم به لنيل الدكتوراه عام 1947م.
والذي استعمل في الاحتيال لبث هذه الشبهة نفس ما يستعمله التنويريون من التكلف والفضول والتألي على الله، فقد قال في مقدمة كتابه: (إن التاريخ ليس من مقاصد القرآن، والتمسك به خطر أي خطر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القرآن. بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة، وإن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع وليست من مقاصد القرآن في شيء ومن هنا أهمل القرآن مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث)([1])
وقال: (فطن العقل الإسلامي إلى أن هذه الأشياء لا تفهم على أنها الحق التاريخي والواقع العلمي إلا بضروب من التأويل، ولو أن العقل الإسلامي أقام فهمه للقصص القرآني منذ اللحظة الأولى على المذهب الأدبي لما احتاج إلى هذه التأويلات)([2])
وكل هذا تكلف ممقوت، وثقة زائدة بالآثار والتاريخ، وكأن الآثار سجلت كل أحداث التاريخ، ولم تغفل منها شيئا، وهو ما لم يقل به أحد من المؤرخين السابقين ولا اللاحقين.
بل إن المؤرخين أنفسهم يعتمدن في التاريخ على الكثير من الوثائق الأدبية ككتابات كونفوشيوس، وإلياذة هوميروس، والشعر الجاهلي،باعتبارها جميعا مصادر يمكن التعرف من خلالها على الواقع التاريخي.
بالإضافة إلى أن القرآن الكريم، يذكر كل تلك الأحداث باعتبارها واقعا تاريخيا، وأن الله تعالى هو الذي أخبر رسوله عنها، ولذلك نجد فيه أمثال قوله تعالى بعد ذكره لقصة موسى عليه السلام: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 44 – 46]
ومثله قوله عن قصة مريم عليها السلام: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]
أو قوله تعقيبا على ما حصل لقوم لوط عليه السلام: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 136 – 138]
ولا يعقل أن يكون كل ذلك مجرد أمثال فنية لا علاقة لها بالواقع، ولا بالتاريخ، والمشكلة التي جعلت التنويريين يقعون في هذا التكلف هو تصورهم أن العلم البشري قد أحاط بكل شيء، وأنه ما دام لم تسجل أسماء عاد وثمود، أو ما ذكره القرآن الكريم من أسماء وحقائق، فإن ذلك يعني عدم وجودها، وهو وهم كبير، فما نجهله من التاريخ أكبر بكثير مما نعلمه.. وحتى ما نعلمه منه؛ فإن الكثير منه مبني على الظنون أكثر من كونه مبنيا على الحقائق، والمؤرخون أنفسهم يذكرون هذا، ويقررونه، ولا يزعمون لأنفسهم أنهم يحيطون بالحقائق من جميع جهاتها.
هذا ما ذكره التنويريون القدامى، والذين تأثروا بالمستشرقين في الاعتماد على التشكيك في كل شيء، حتى في الحقائق الواضحة، أما التنويريون المحدثون؛ فقد راحوا يستعملونه ما تلقنوه من مناهج غربية بغية الالتفاف على النبوة، وتفريغها من مضمونها مثلما فعلوا مع سائر أحكام الدين وقيمه وعقائده.
ومن الأمثلة على ذلك ما قام به شحرور من عبث فكري حول الحقائق القرآنية الواضحة التي وردت في القرآن الكريم، والتي حولها عن مسارها تماما، معتمدا في الكثير من ذلك على نظرية التطور التي تصور أنها وحدها يمكن أن تفسر تاريخ الأنبياء، ولذلك أخرج لنا نظريات جديدة غاية في الغرابة.
ولا يمكننا في هذا المقال المختصر أن نناقش كل ما ذكره من تفاصيل، ولذلك نكتفي ببعض النماذج، ومن خلالها يتبين لنا منهجه، ومنهج الرد عليه.
وأول تلك النماذج، والذي انطلق فيه من إيمانه العميق بنظرية التطور هو تصويره لتدرج النبوة في مراحل مختلفة بحسب المراحل التي مر بها الإنسان في سلم التطور.. ولذلك ذكر أن الأنبياء الأوائل الذين أرسلوا للبشرية لم يكونوا من البشرـ باعتبار البشر لم يتطوروا بعد ـ وإنما هم من الملائكة، ولذلك فإن أول نبي عنده هو نوح عليه السلام، وأنه لعدم كفايته لأداء هذا الدور كان معه ملائكه، يقومون هم أيضا بالدعوة.
فقد قال تعليقا على قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]: (هذا الهدى جاء بداية على شكل نذر من الملائكة كان الله يبعثهم في قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقد استمرت النذر مع نوح {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ } [المؤمنون: 24]، ومع هود {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الأحقاف: 21]، وإلى إبراهيم وإلى لوط وإلى صالح؟، وكانت النذر تأتي على شكل مشخص يعرفون أنها ليست منهم، وإنما هي مرسلة من السماء، ونحن نرى في الأطروحة القديمة أن الحكام جاءوا من السماء، وأنهم من دم آخر رواية أسطورية، لمفهوم النذر الواردة في التنزيل الحكيم)([3])
ثم يوهم القارئ أنه يعتمد في ذلك على الحقائق والوثائق؛ فيقول: (الطوفان قضى على الجميع، وبعد الطوفان نزل الحكم الملكي من السماء من جديد، وأصبحت مدينة كيش مقر حكم الملوك، وقبل الطوفان كان الحكم الملكي قد هبط من السماء لأول مرة في مدينة أريدو.. ونؤكد هنا أيضاً أنه قبل نوح كانت النذر من الملائكة فقط، وقد تم التعبير عنه بأن الحكم هبط من السماء، ثم صار مشتركاً بشراً وملائكة (نوح حتى إبراهيم)، ثم بشر فقط وهو الرسول محمد)([4])
وهو يتكلم بثقة عجيبة ناسيا أن القرآن الكريم الذي يتصور أنه يعتمد عليه لإثبات هذه الحقائق هو نفسه الذي انتقدها وردها، وبين وجوه ردها، فالله تعالى ذكر في مواضع منه أن كل الرسل الذين أرسلوا للبشرية كانوا من جنسها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]
بل إن الله تعالى رد على المشركين الذين طالبوا بنزول الرسول الملك بدل الرسول البشر، بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8، 9]، واعتبر قولهم ذلك نوعا من السخرية؛ فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأنعام: 10]
وسبب هذا الموقف هو نظرية التطور التي يؤمن بها، وجعلته يتوهم أن البشر كانوا من الضعف بحيث لم تكن لهم القدرة على استقبال النبوة البشرية، ولذلك تدرج الله معهم.
وهكذا ينطلق من هذه النظرية ليفسر النبوة، والتي يعتبرها مرحلة ترتبط بالضعف والقصور البشري، وأن البشر في تلك المراحل كانوا ـ مثل الطفل الصغير ـ يحتاجون إلى رعاية خارجية؛ فلما كبروا استغنوا عنها، ولهذا يفسر ختم النبوة، بكون البشر أصبح لهم من الرقي العقلي ما يغنيهم عن النبوة، وبالتالي يمكنهم التخلي عن النبوة الخاتمة نفسها، بتلك الأفكار التي يمكنهم أن يصلوا إليها.
بل إنه ينطلق من هذه النظرية ليفسر الأدوار التي كلف الأنبياء عليهم السلام بالقيام بها، وهي أدوار تخالف تماما ما ورد في القرآن الكريم من شأنها.
فهو عند ذكره لوظيفة نوح عليه السلام مع قومه، يعبر عنها بقوله: (لقد كان نوح أول رسول ونبي من البشر في منطقة الشرق الأوسط كما يعتقد العالم القديم، وقومه هم بداية الإنسان الحديث في هذه المنطقة حيث كان هناك مجموعة من الناس لها علاقات اجتماعية بدائية، ولها لغة مجردة بحيث تسمح لنوع من الوحي المجرد، وكان الوضع الإنتاجي في هذه الحقبة التاريخية بدائيا جدا، لذا فقد كان الشرك الأساسي الذي وقع فيه الإنسان آنذاك هو عبادة مظاهر الطبيعة وخاصة الشمس والقمر، وقد ذكر هذا في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16]، وبالتالي فقد اقتصرت رسالة نوح على التوحيد والاستغفار فقط دون أن يكون هناك أي وصايا أخلاقية أو شعائر تعبدية، فعند نوح لا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا أي شكل من أشكال العبادات التي نعرفها)([5])
ولست أدري كيف استنتج كل هذا، مع أن القرآن الكريم اعتبر من أسباب ما وقع لقوم نوح من العقوبة هو خطاياهم، وهي معنى ينتظم الخطايا العقدية والخطايا السلوكية، فقد قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [نوح: 25]
بل إن شحرورا يوغل في التطرف حين يزعم أن القتل نفسه، لم يكن في ذلك الحين جريمة، بل كان شيئا عاديا، لم تأت الشرائع لتحريمه، لأن أول تحريم له ـ حسب تصوره ـ كان مرتبطا ببني إسرائيل، فقد قال في معرض ذكره للعبر والعظات المستنبطة من من قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم: (عدم وجود تشريعات من أي نوع، لأن مفهوم التشريع لم يوجد بعد، والمجتمعات ما زالت بدائية لا تجارة فيها ولا بيع ولا شراء، وجريمة القتل الأولى التي حصلت مع ابني آدم لم يشرع تحريمها إلهيا إلا على بني إسرائيل) ([6])
وهكذا، فإن الوظيفة الأساسية التي كلف بها نوح عليه السلام ـ على حسب رؤية شحرور ـ هي الترقية الحضارية المادية لقومه، ولذلك كان من بنود الأساسية لرسالة نوح عنده هي [التبشير بالبنيان والاستقرار]، والتي استدل لها بقوله: (لقد عاش الإنسان في عهد نوح في الكهوف حيث كانت المنطقة تحيط بها الجبال، وفيها أنهار؛ فيعتقد أنهم كانوا يعيشون في الكهوف وفي الغابات المحيطة بالأنهار، لذا فقد كانوا يعبدون مظاهر الطبيعة، حيث أن تمييز الآلهة لم يوجد عندهم بعد؛ فكانت من نبوة نوح التبشير بالبنيان والاستقرار، وهذا التبشير في نبوته ورد في قوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12].. من هنا نلاحظ كيف بشر نوح الناس بالاستقرار من البناء وهذا الاستقرار فعلا كان حاصلا حتى زمن هود)
وهو ـ كعادته في الإغراب ـ لا يفهم من لفظة [البنين] ما تعودنا أن نفهمه منها، وإنما يرى أنها مشتقة من (فعل [بنن]، وتعني الثبات واللزوم والإقامة، وهذه هي طبيعة الأبنية والبنيان)
لكنه عندما يواجه بقوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا } [نوح: 28]، والذي ورد فيه لفظ [البيت] ومعناه واضح جلي، يذهب إلى تأويله بكونه ليس المراد منه البيت الذي نعرفه، والمشكل من البنيان المعروف، وإنما هو (اسم جنس، ولها أصل واحد وتعني المأوى والمآب وجمع الشمل. فليس من الضروري أن يكون البيت بنيانا إذ يمكن أن يكون كهفا)
وهكذا في تأويله للفظة الأموال، فهو يفسرها بقوله: (فهنا المال لا يعني النقد، بل جاء من فعل [مول] وتعني هنا أدوات الإنتاج البدائية، وما يمكن أن يصطاده الإنسان ويجنيه من الطبيعة، وفي القاموس خرج إلى ماله: أي خرج إلى ضياعه وإبله)
وهكذا انطلق من نظرية التطور ليصور أن اسم [الله] لم يكن موجودا، ويستدل لذلك من القرآن الكريم على طريقته في الاستنباط الممتلئ بالغرابة، فهو يقول ـ عند حديثه عن تطور اسم الإله ـ: (لقد رأينا كيف شاع التشخيص قبل إبراهيم، وانتشرت ظاهرة تعدد الآلهة من كواكب ونجوم وأصنام وتماثيل، وكيف كان مفهوم الإله المجرد غامضاً لا اسم له لعدم اكتمال القدرة العقلية على التجريد عند أهل تلك العصور؛ فقد كان اسمه عند الأسباط (إله إبراهيم)، وذلك في قوله تعالى: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، وكان اسمه عند فرعون: (إله موسى)، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37]، وكان اسمه عند سحرة فرعون: (رب العالمين)، و(رب موسى وهارون)، كما في قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [الأعراف: 121، 122]، أو لم يكن له اسم على الإطلاق كما عند فرعون في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس: 90]) ([7])
وهو يصور أن الاهتداء لله لم يتم إلا في عهد إبراهيم عليه السلام، وذلك (بعد رحلته الطويلة في البحث عن الله من المشخص إلى المجرد، وليولد عنده مفهوم الإسلام والتسليم لهذا الإله المجرد لأول مرة في تاريخ الإنسان بدلالة قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } [الحج: 78]) ([8])
بالإضافة إلى ذلك، نراه يحرف ما ذكره الله تعالى عن أنبيائه من قيم نبيلة، وأخلاق عالية، وتسليم مطلق لله؛ ليتحول كل ذلك إلى تصرفات لا معنى لها، بل قد تحمل معان لا تتناسب مع الأنبياء عليهم السلام.
ومن أمثلة ذلك أنه حول من رؤيا إبراهيم عليه السلام ـ والتي ذكرها الله تعالى وأشاد بها ليبين مدى تسليم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لله ـ إلى مجرد أحاديث نفس، لا علاقة لها بالواقع، وقد قال مقدما لهذه الفرية العظيمة: (احتار إبراهيم ماذا يفعل ليتقرب من هذا الإله، فالناس يقدمون قرابين لآلهة مزيفة لا تملك ضراً ولا نفعاً لأحد.. وظلت فكرة تقديم القربان لله تدور في رأس إبراهيم حتى سيطرت عليه، وبدأ يرى في المنام أنه يذبح ابنه، ثم تكررت الرؤيا حتى ترسخت، فقرر إبراهيم أن يحولها إلى فعل على أرض الواقع، بعد أن أيقن أنها ليست مجرد رؤيا بل تكليف وأمر إلهي) ([9])
وهكذا يحرف موقف إسماعيل عليه السلام الممتلئ بالحلم والتسليم لله، حيث يعلق عليه بقوله: (إننا نفهم أن جواب إسماعيل لأبيه كان أن يفعل ما يؤمر لا ما يرى في المنام، لأن إسماعيل لا يقبل أن يقتله أحد بمجرد منام حتى لو كان أباه، فإذا كانت المسألة أمراً بالقتل فليفعل، وإن كانت رؤيا فلا) ([10])
وهو يشير بذلك إلى أن إسماعيل عليه السلام مع صغر سنه، فهم من الحلم ما لم يفهمه والده، ولذلك أمره أن يلتزم أمر الله، لا ما يراه في منامه.
وهكذا يحرف ذلك النص الصريح الذي أخبر الله تعالى فيه عن تسليم كلا النبيين الكريمين لله تعالى، وهو قوله تعالى {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103] بقوله: (في هذا إشارة إلى أن معركة المعاناة النفسية قد حُسمت لمصلحة التسليم لله تعالى، وإلى أن نار تنازع الأفكار وتجاذب الوساوس في أعماقهما قد انطفأ لمصلحة الإيمان والإنابة، وإلى أن الحيرة عندهما قد اطمأنت للطف الله) ([11])
وعندما يواجه بقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105]، يفسرها بأن كل ما حصل لم يحصل؛ فلا إبراهيم هم بذبح ابنه، ولا إسماعيل أذن بذلك.. بل إن الله تعالى اكتفى منه بذلك الموقف الذي تراجع فيه إبراهيم عن رؤياه بعد أن صححها له ابنه إسماعيل.
ونفس هذا الموقف نجده عند تلميذ تنويري آخر، راح يعبر عن تلك الرؤيا بقوله: (وهذا المنام ليس أمر من الله بذبح النبي إسحاق، فالأوامر الإلهية لا تأتي في المنامات، وإنما كان مناماً يقصد به شيء آخر، ولكن النبي إبراهيم أوله على ظاهره وخاصة بعد تكرار رؤيته له، فأراد أن يذبح ابنه ظناً منه أنه ينفذ أمر الله، وأخطأ في تأويل المنام، فنزل الأمر الإلهي بتوقيف هذا العمل وأعطاه فداء لمنامه وابنه، وأخبره أنه تم تصديق الرؤيا من خلال الخضوع لله وذبح الدنيا وزينتها وإخراجها من قلب النبي إبراهيم، وليس المقصود الصورة المادية للمنام، وأن ذبح الولد في المنام رمز لذبح الدنيا وزيتنها)([12])
ولا يقتصر أمر الإغراب عند شحرور وسائر التنويريين الجدد على هذا الحد، بل إنه ـ وعند حديثه عن القيم الأخلاقية التي ارتبطت بالأنبياء في القرآن الكريم ـ يقع في إغرابات لا تقل خطورة.
فهو ـ مثلا عند حديثه عن يوسف عليه السلام ـ وكيف تحلى بالعفة، وواجه الفاحشة بكل قوة، خالف مخالفة قطعية المنهج القرآني، بل صور أن الفاحشة نفسها لم تكن محرمة، وإنما راعى يوسف عليه السلام فقط ما تعلمه من بيئته البدوية من وفاء ومروءة، فقد قال معلقا على قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]: (ونفهم منه أموراً أولها: أن يوسف كان يعرف الله بدليل أنه استعاذ به([13])، ثانيها: أنه استكبر واستنكر أن يمتثل لما تدعوه إليه باعتباره يتعارض أخلاقياً مع ما انفتحت عيناه عليه في بيئته الأولى من مكارم وقيم ومثل عليا كالوفاء والمروءة، وليس باعتباره زناً محرماً لأن تحريم الزنا لم يكن قد نزل به تحريم إلهي)([14])
بل إنه ـ وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] راح يقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها أولئك الذين انتقدهم باعتبارهم خرافيين وظلاميين؛ فقد قال تعقيبا عليها: (هذه الآية لا يمكن فهمها إلا إذا فهمنا لماذا استعاذ يوسف بالله في الآية السابقة، والجواب إنه من موقعه كنبي يعلم أن ميل الرجل للمرأة والمرأة للرجل غريزة فطرية جعلها الله فيهما.. ويعلم أن هذه الغريزة المخلوقة المجعولة فيه قانون رباني قاهر لا فكاك لإنسان منه نبياً كان أم غير نبي إلا بتدخل من الله الخالق البارئ المصور، وهذا ما أشار إليه يوسف نفسه في قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، ومن هنا كان طبيعياً أن يلجأ يوسف إلى ربه مستعيذاً به راجياً منه متوكلاً عليه)
ثم راح يفسر كيف استجاب الله له، فقال: (والسؤال الثاني: كيف حصل ذلك وتم؟ والجواب: كما أن الله سبحانه استجاب لإبراهيم وعطل خاصية الإحراق في نار النمرود فجعلها برداً وسلاماً، وكما استجاب لموسى في مباراته أمام فرعون فحول العصا من خشب إلى لحم ودم فإذا هي حية تسعى، كذلك استجاب الله لنبيه يوسف فجرده من قدرته على الجماع، فإذا بعنوان ذكورته خرقة بالية لا تنفع لا للخل ولا للخردل، وهذا هو البرهان الرباني المادي الذي رآه يوسف رأي العين وهي تهم به ويهم بها، وهكذا أصبح الجماع الجنسي مستحيلاً. وهذا هو برهان الله على الإحصان من الفاحشة، وهو برهان من مقام الربوبية، وإلى يومنا هذا إذا أراد الله منع إنسان من الوقوع في الفاحشة؛ فإنه يفقده القدرة على الجنس أن كان فاحشة، ونحن نؤكد قوله تعالى بأنه لو لم يهم بها لما رأى برهان ربه)([15])
وخطورة هذا الطرح لا تتعلق بقصة يوسف عليه السلام فقط، وإنما بذلك التبرير للفاحشة، واعتبارها ميلا طبيعيا، وأن الإنسان فيها خاضع لغريزته القاهرة، وأنه ليس مسؤولاً عنها ما دامت تلك هي إرادة الله، إلا إذا أراد الله منعه منها، فيعطل قدرته على ممارستها.
ونفس كلامه هذا نجده عند حديثه عن الفواحش التي وقع فيها قوم لوط؛ فهو يبررها، ويسوغها، ويعتبر أنها مرتبطة بالنواحي البيولوجية للإنسان، وليست اختيارات سلوكية يختارها لنفسه، ولذلك يعقب على قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام وخطابه لقومه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] رادا على أقوال المفسرين التي استنتجت من الآية الكريمة أن أول من فعل تلك الفاحشة هم قوم لوط: (نقول هذا ونحن نعلم أن المثلية، سواء أكانت لواطاً بين ذكر وذكر، أم كانت سحاقاً بين أنثى وأنثى، هي بالأصل شذوذ تكويني في هرمونات الذكورة لدى المفعول به في اللواط، واضطراب تكويني في هرمونات الأنوثة لدى الفاعلة في السحاق، يدفع الأول إلى التماس اللذة عند ذكر مثله، ويدفع الثانية إلى تفريغ شهوانيتها عند أنثى مثلها، وهذا يعني أن اللواط كان موجوداً قبل قوم لوط بشكل غير علني وعلى الصعيد الفردي، إلا أنهم جعلوه ظاهرة عامة اجتماعية تمارس علناً في المجالس والمنتديات)([16])
ويقول تعقيبا على الآيات الكريمة التي أخبرت أن سبب العقوبة التي حصلت لهم هي تلك الفواحش: (.. فإننا لا نستطيع أن نقتنع بأن هذه الويلات المخيفة، جاءت عقاباً على سيئة اجتماعية يصعب كثيراً أن نضعها تحت عنوان الفواحش؛ لأنها أقرب إلى الحسن والقبح منها إلى المعروف والمنكر في جانب، وأقرب إلى الأخلاق الاجتماعية المصطلح عليها منها إلى العقائد)([17])
والتعبير بـ [المصطلح عليها]، يعني أنها لست منكرة بذاتها، وإنما هي منكرة باعتبار الأعراف والشرائع؛ فإذا استسيغت في بعض الأعراف، فإنه لاحرج فيها، مثلما تحدث عن الحجاب، واعتبر أن للعرف دورا كبيرا في تحديده، فإذا ما قبل عرف من الأعراف أن تخرج المرأة لا تستر إلا جيوبها؛ فإنها محجبة بحسب ذلك العرف.
هذه مجرد نماذج عن تهديم شحرور للنبوة،
وكل القيم النبيلة التي جاءت بها، وخطورته أنه لا يستعمل قصص كعب الأحبار، ولا وهب
بن المنبه، وإنما يستعمل خياله الواسع، وقواميسه التي يستعملها كل حين لتبديل
الكلم عن مواضعه.. ليستقبل ذلك المنكرون على خرافات السلف، والذين لم يفطنوا إلى
أنهم هربوا من تطرف السلف ليقعوا في تطرف الخلف.
([1]) الفن القصصي في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خلف الله، ص42.
([2]) المصدر السابق، ص44..
([3]) شحرور، القصص القرآني، دار الساقي، بيروت، ط1، 2012م، ج2/ ص 11.
([4]) المصدر السابق، 2/ 51..
([5]) المصدر السابق، 2/ 17..
([6]) المصدر السابق، 2/ 17..
([7]) المصدر السابق، 2/ 105..
([8]) المصدر السابق، 2/ 105..
([9]) المصدر السابق، 2/ 109..
([10]) المصدر السابق، 2/ 111..
([11]) المصدر السابق، 2/ 112..
([12]) النبي محمد ليس من ذرية النبي إسماعيل، سامر إسلامبولي، موقع شحرور.
([13]) وذلك بناء على قوله بأن معرفة الله كانت مرحلة من مراحل التطور البشري.
([14]) شحرور، القصص القرآني قراءة معاصرة، 2/ 233.
([15]) المصدر السابق، 2/ 233- 234..
([16]) المصدر السابق، 2/ 188..
([17]) المصدر السابق، 2/ 188..