التنويريون.. والقراءة المدنسة للقرآن

التنويريون.. والقراءة المدنسة للقرآن
ربما يكون الأساس الأكبر الذي أوقع التنويريين، الحداثيين منهم، ومن يطلق عليهم زورا وبهتانا لقب [القرآنيين]، في أكثر الأخطاء التي وقعوا فيها، ولا يزالون يقعون، تلك الكبرياء في التعامل مع النص القرآني تنزيلا أوتأويلا.
فكلاهما يتوهم أنه يستطيع بعقله المحدود الإحاطة بالمعاني القرآنية، وفهمها، بعيدا عن كل جهة مقدسة وغير مقدسة، وذلك باستعماله لبعض القواميس، وبعض المناهج التي تلقفها من النقاد الغربيين تقليدا، وراح يطبقها، لتخرج لنا كل يوم قراءة جديدة للقرآن الكريم، ومعنى جديدا من معانيه.
ونحن لا نريد هنا أن نتحدث عن مدى صلة تلك القراءات قربا أو بعدا بالحقائق القرآنية؛ فذلك يستدعي النظر في كل قراءة، فليست كل قارئة باطلة، ولا كل قارئ مخطئا، ولكنا نريد أن نبين خطأ المنهج نفسه.. فالمشكلة ليست في القراءة، وإنما في المنهج المتبع فيها.
ولذلك نعتب على الذين يأتون ببعض النماذج عن بعض الفهوم السليمة لبعض تلك القراءات، ثم يقارنها ببعض الفهوم السقيمة الواردة في بعض كتب التراث، ثم يتصور أنه عبر ذلك النموذج الانتقائي يكون قد برهن على صوابية القراءة التنويرية وخطأ القراءة التراثية.
وهذا الأسلوب لا علاقة له بالعلم؛ فكما أن في التراث بعض القراءات الخاطئة، والتفاسير التي تحتاج إلى تصحيح، باعتبارها فهوما بشرية، لكن فيها الكثير، من الفهوم السليمة الراقية التي لا يجادل أحد في صحتها وقوتها.
والمشكلة ـ كما ذكرنا ـ لا ترتبط بالقراءات بقدر ما ترتبط بالأسس التي تقوم عليها، وهنا محل الخلاف بين القراءة القديمة والقراءة التنويرية.
فالقديمة، وإن أخطأت في تفسير بعض الآيات، لكنها انطلقت من كونها كلام الله، وأنها وحيه المقدس الذي لا يستطيع العقل أن يحيط به، لذلك يحاول أن يلمسه ويقترب منه بكل أدب واحترام وتقديس، ويستغفر الله تعالى بعد ذلك من سوء الفهم أو قصوره.
بخلاف القراءة التنويرية بفرعيها، والتي تتصور أنها محيطة بالقرآن، وأنها ـ لكبرها ـ قد فهمت منه ما لم يفهمه الأوائل والأواخر، وأنه يحق لها بسبب تلك الآليات التي تضعها أن تمسح جميع كتب التفسير، لتضع للنصوص القرآنية تفاسير جديدة، لا علاقة لها بتاتا بتلك التفاسير القديمة.
والمشكلة الأكبر، والتي ينطلق منها الحداثيون خصوصا، قراءة القرآن باعتباره منتوجا ثقافيا بشريا، لا وحيا إلهيا مقدسا.. وهنا، وبسبب هذه القراءة المدنسة، تقع في كل ما وقع فيه المنحرفون عن القرآن الكريم والمعترضون عليه.
ذلك أن من يقرأ قوله تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الذاريات: 47 – 50] وهو يعتقد أن صاحب هذا الكلمات هو الله نفسه خالق الكون جميعا، وأنه هو الذي بنى السماء، وهو الذي يوسعها، وهو الذي فرش الأرض ومهدها.. يمتلئ هيبة وخشوعا وتعظيما لله.
لكن الذي يقرؤها ـ مثلما قرأها المشركون ـ باعتبارها منتوجا ثقافيا وأدبيا صاغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا محالة سيضحك على هذه العبارات، ويسخر منها، وربما يتوهم مثلما توهم المشركون أن قائلها مجنون أو كاهن.
وهكذا، فإن للبعد المقدس لقراءة القرآن الكريم تأثيره الكبير في فهمه واستيعابه والاستفادة منه، بخلاف الذي يقرؤه كنص بشري، أو كنص مجهول المصدر، أو كنص غير مقدس، فإنه لن يستفيد منه شيئا، بل سيرى فيه دعاوى كثيرة، لا يليق لبشر أن يدعيها.
وهذا واضح جدا، فلو أن الخطاب الذي يقدمه رئيس الجمهورية، والذي هو صاحب القرار الأكبر في دولته، نسب لبواب أو عامل بسيط لسخر منه، ذلك أن البواب لا يستطيع أن يقرر تلك القرارات الكبرى التي لا يقررها إلا الكبار.
وهكذا عندما يقرأ الحداثي أو التنويري النص القرآني بعيدا عن أصله المقدس؛ فإنه يقع لا محالة في الاعتراض، حتى لو لم يصرح باعتراضه، وكيف لا يعترض، وهو يتوهم أن الذي يقول: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 30 – 34] مجرد بشر عادي، لا إله هذا الكون جميعا.
أما عندما يقرأ تلك الآيات الكريمة، باعتبارها وحيا إلهيا، وأن صاحبها هو الله نفسه خالق الإنسان، وخالق الكون جميعا؛ فإن فرائصه ترتعد عندما يسمعها، مثلما نرتعد عندما نسمع صوت القاضي، وهو يحكم الأحكام المشددة، بينما نضحك على صوت البواب عندما يقلده فيها، لأن البواب لا علاقة له بالأحكام القضائية، بخلاف القاضي.
وهكذا يكون لاعتقاد القداسة دوره الكبير في فهم القرآن الكريم، وفي التأثر به، والانفعال له.. بل إن الكثير من التساؤلات التي قد يوحي بها الشيطان أثناء القراءة تزول مباشرة عند تذكر أن هذا الكلام كلام الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، من{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50]، والتي تشكل عقبة كبيرة في عقول التنويريين، لا يستطيعون استساغتها، بينما يقرؤها المؤمن بذوق عظيم، وروحانية عالية، لأنه يعلم من خلالها مكانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه، وكيف خصه بهذا التخصيص، ويرتبط من خلال تلك القراءة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويزداد إيمانا بهما.
لكن التنويري، يحاول الفرار من تلك الآية وغيرها، ويلتمس الحيل الكثيرة لذلك.. وربما يوقعه سوء ظنه في الكفر والجحود.. وهو ما نص عليه القرآن الكريم نفسه عندما قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82]
فالآية الواحدة يقرؤها المؤمن؛ فيزداد بها يقينا ونورا وهدى، ويقرؤها من حجب بعقله التنويري؛ فيقع في الأوهام وسوء الظن، وقد يبحث في القواميس ليحرف الكلم عن مواضعه، ويحول من القرآن الكريم أداة للتلاعب بالألفاظ والمعاني.
وهكذا ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى يمتحن عباده بأمثال تلك الآيات حتى يتميز من يسلم لله، ولا يقدم بين يديه شيئا، والآخر الذي يسقط في الامتحان، وعند أول اختبار.
ولهذا قال تعالى محذرا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقد جاء عقب هذه الآية قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]، وهي الآيات التي ملأت قلوب التنويريين والغريبيين أوهاما في حق النبوة وقدسيتها.
ولهذا ورد عن الكثير من الصحابة قولهم: (لقد عشنا برهة من دهر وأحدنا يرى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزاجرها، وما ينبغي أن نوقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ولا يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه وينثره نثر الدقل)([1])
وهو يعني أن أثر القرآن الكريم والفهم السليم له، لا يكو ن إلا بعد تحصيل الإيمان بقداسته، واعتباره كلام الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
ولهذا كان الأولى بالتنويريين ومن تبعهم البحث عن البراهين الدالة على كون القرآن الكريم وحيا من الله تعالى، وذلك بالنظر في الأدلة المختلفة التي ذكرها المتكلمون، أو بتأمل القرآن الكريم بصدق وحيادية.. وعندما يحصل لهم الإيمان يحصل لهم الفهم السليم.
أما تجريد القرآن الكريم من قداسته؛ فإنه لن يزيدهم إلا ضلالا في فهمه، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]
وبين الفرق بين القراءتين المقدسة والمدنسة، فقال: { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}[الرعد ١٩]
وأخبر عن الأحوال التي تعتري المقدسين للقرآن الكريم، والمدنسين له؛ فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 124، 125]
ثم بين أن الله تعالى ينزل على عباده من الفتن ما يميز به المؤمنين من غيرهم، قال تعالى: { أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]
ومن أمثلة ذلك تلك الآيات التي تأمر بالقتال، والتي لا تزال تحدث آثارها السلبية في نفس أصحاب القراءات المدنسة، والتي راحوا يؤلونها بصنوف التأويل والتحريف، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 20، 21]
ومنها ما عبره عنه قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرً} [الإسراء: 60]
وهكذا نرى القرآن الكريم يخبرنا أن فيه معايير لتحديد الصادقين من غيرهم، فالصادقون مع الله هم الذين يقرؤون القرآن الكريم بقناعة تامة أنه من الله، ولذلك يتناولون ما فيه بكل تقديس، ولا يخطر لهم نحوه أي خاطر سوء.. أما الآخرون، فهم يرونه منتجا ثقافيا، وليد بيئة جاهلية، وزمن قديم.. فلذلك يحقرونه ويزدرونه شعروا أو لم يشعروا، وذلك ما يحول بينهم وبين فهمه أو تناول معانيه، فهو كما هدى للمتقين، وليس هدى لغيرهم.
ولهذا ذكر الغزالي عند بيان الآداب الباطنة لتلاوة القرآن الكريم، هذان الأدبان الرفيعان، اللذان لا يمكن أن يفهم القرآن من دون تحققهما.
أما أولهما، فهو استحضار عظمة القرآن: لما لذلك من تأثير نفسي على القارئ، ولهذا الاستحضار تأثير كبير في تلقي التالي واستعداده للفهوم التي يفيضها الله على عباده العارفين بعظمة كلامــه، وذلك لأن فيها فتحا لمجالات مطلقة للقرآن الكريـم لا يــحـدها التركيب اللغوي المحدود ([2]).
وأما الثاني، فهو استحضار عظمة الله تعالى، وذلك بأن يعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، ولهذا كان بعض الصحابة ـ كما ينقل الغزالي ـ إذا نشر المصحف غشي عليه،ويقول: (هو كلام ربي، هو كلام ربي)([3])،وطريق التحقق بهذا ــ كما يرى الغزالي ــ هو أن يحضر بباله عند بداية التلاوة العرش والكرسي والسماوات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، ويعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد، وأن الكل في قبضته، مترددون بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبعدله([4]).
وهذا التعظيم التمهيدي هو وسيلة وغاية في نفس الوقت، لأنه بقدر تعظيمه عند القراءة يكون فهمه عن الله، وبقدر فهمه عن الله تكون معرفته ويزداد تعظيمه.
هكذا يقرأ القرآن الكريم، وهكذا يمكن أن يفهم، أما كل أولئك التنويريين الغارقين في ظلمات أنفسهم وأهوائهم، فهم محجوبون عن القرآن.. لأنه لا يمكن أن يفهم القرآن من حجب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو تصور أنه مجرد بشر كسائر البشر، من غير أن يوحي إليه شيء.
ولايمكن أن يفهم القرآن ذلك المغرور الذي
يتصور أنه يمكن أن يفهمه بعيدا عن النبوة، وعن ورثة النبوة.. فالمتكبر المستعلي
محجوب عن آيات الله، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا
يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]
([1]) رواه الطبراني في الأوسط، قال الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة ووافقه الذهبي.
([2]) إحياء علوم الدين، 1/280.
([3]) المصدر السابق، 1/281.
([4]) المصدر السابق، 1/281.