التنويريون.. والصلاة

التنويريون.. والصلاة

من القواسم المشتركة للتنويريين جميعا، قديمهم وحديثهم، هو التهوين من قيمة الصلاة والشعائر التعبدية، وما يرتبط بها من معان روحية سامية.

وسر ذلك بسيط، وهو أن تصورهم للدين تصور مادي بحت، يبدأ بالحياة الدنيا، وينتهي بها، وغاية الحياة عندهم هي تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأن تكون للمسلمين حضارة مادية راقية كالحضارة الأوروبية، باعتبارها نهاية التاريخ، والنموذج المثالي للرقي الإنساني.

ولذلك ينظرون إلى الشعائر التعبدية، في أحسن الأحوال، باعتبارها مجرد أدوات ووسائل لتحقيق هذه الغايات المادية الدنيوية، لا باعتبارها أهدافا بحد ذاتها، أو أهدافا كبرى.

وبناء على ذلك ينكرون الأحاديث النبوية المطهرة التي اتفقت عليها الأمة بمدارسها المختلفة، والتي تعظم تلك الشعائر، وتبين خطر جحودها، أو التقصير فيها، أو التهوين من شأنها.

وبناء عليه أيضا نجدهم يحملون على الفقهاء، ويزدرون بحوثهم في هذه الجوانب، لتصورهم أن هؤلاء الفقهاء، قد غاب عنهم جوهر الدين ولبابه، الذي هو الرقي المادي، لا الرقي الروحي.

وبعد أن يقوم هؤلاء التنويريون بعزل الحديث الشريف المبين للقرآن الكريم، والمؤكد لمعانيه، والمفصل لها، وبعد أن يحملوا حملتهم على الفقهاء والمفسرين والمحدثين، يخلو لهم الجو مع القرآن الكريم، ليتلاعبوا بألفاظه ومعانيه، ويحولوها إلى المسار الذي يريدونه عبر استعمال خدع وحيل كثيرة.

ومن تلك الحيل إخراج الصلاة من مفهوم العبادة الواردة في القرآن الكريم، والذي اعتبره الله تعالى غاية الغايات عندما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]

فشحرور والكثير من التنويريين يفسرون هذه الآية تفسيرا ماديا دنيويا بحتا، حيث يقصرون العبادة على تلك التعاليم التي اتفقت الأديان عليها([1])، والتي وردت في آخر سورة الأنعام، والتي تشمل: بر الوالدين.. والقسط في اليتيم.. والوفاء بالعهد.. وعدم الاقتراب من الفواحش.. وعدم قتل النفس.. وعدم الغش بالمواصفات.. وغيرها من القيم الأخلاقية التي لا يجادل أحد في أهميتها.

ولكنه لا يمكن أيضا أن يجادل في أهمية الصلاة، واعتبارها غاية في حد ذاتها، لا مجرد وسيلة.. لكن شحرور الذي يفسر القرآن الكريم بمزاجه، يأخذ ببعض الكتاب ليضرب بعضه، فيأخذ قوله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]، ليصور أن الصلاة مجرد أداة للاستعانة بها على تحقيق تلك العبادات أو القيم الأخلاقية غافلا عن أن المقصود بذاته وبالأصالة، يمكن استعماله وسيلة لغيره، وهو لا يعني كونه غير مقصود بالأصالة.

وخطورة هذا الطرح، الذي هو اعتبار الصلاة مجرد وسيلة يوقعنا في ذلك الانحلال من الشريعة الذي وقع فيه بعض الصوفية عندما تصوروا أن الغاية هي الوصول إلى الله، فإذا وصل المرء إلى الله لم يعد مطالبا بتطبيق الشريعة وتكالفيها، ويستعملون في ذلك نفس ما استعمله شحرور من ضرب القرآن الكريم بعضه ببعض، فيجعلون اليقين غاية تنتهي عندها العبادة مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]،

وهكذا يفعل شحرور عندما يجعل الصلاة التي هي عمود الدين، مجرد وسيلة لتحقيق تلك القيم الأخلاقية والاجتماعية، وحينها يقول المتحقق بها: ما دامت هذه القيم هي الهدف المقصود من الدين، ومن شعائره التعبدية، فما الحاجة بي إلى الصلاة؟

وهذا الكلام ليس مجرد استنتاج استنتجناه من كلام شحرور وغيره في هذا المجال، وإنما هي حقيقة واقعية، ينطقون بها، ويتباهون بها، ويحتقرون الأحاديث التي اعتبرت الصلاة ركنا من أركان الدين، وعلامة أساسية كبرى للمسلم، وفارقا بينه وبين غيره.

ومن أمثلة ذلك قول شحرور ـ في بعض لقاءاته التي يحرص الإعلام على بثها ونشرها لتحقير أركان الدين الكبرى ـ يخاطب الفقهاء محتقرا لهم: (أود أن أسأل السادة الفقهاء: ما حكم جاحد الصلاة أو مهملها؟ وما هي عقوبته؟ هل هو كافر أم فاسق أم منافق أم عاصي؟ فقد اعتاد الفقهاء على إطلاق الأحكام على الناس بناءً على تركهم الصلاة أو إقامتها، وقد سئلت أنا شخصياً إن كنت أقيم الصلاة أم لا، ورفضت الإجابة لأنه لا يمكن لأحد أن يحكم على علاقتي مع الله إلا الله نفسه.. وأنصح القراء بأن يردوا بجواب على هذا السؤال بأنه لا علاقة لكم أيها الفقهاء بذلك، وكثيرون منهم قالوا أن جاحد الصلاة كافر، وحكموا عليه بالردة، والردة عقوبتها الإعدام إذا رفض الاستتابة كما يقولون، والمتقاعس عن الصلاة يتم جلده.. علماً إن الشعائر من صلاة وزكاة وحج وصوم لا يحق لأحد الحكم عليها، حتى الزكاة يمكن أن يزكي الإنسان بالسر، والله تعالى سمح بالإنفاق بالسر والعلن)

ثم يبين موقفه مقابل موقف الفقهاء؛ فيقول: (أما موقفنا فهو: لا يحق لأي إنسان أو سلطة أن يكره الناس على إقامة الصلاة أو يمنعهم من إقامة الصلاة، وبالنسبة لنا الثواب والعقاب يكمن ضمن كلمة الله العليا التي هي حرية الاختيار، فحرية الاختيار يقابلها طاعة الطاغوت.. أي أن حرية الاختيار هي رأس الأمر كله، فإن كنا نؤمن بالله يجب أن نؤمن بحرية الاختيار.. وليس من مهمة السلطة أو أي مؤسسة سوق الناس بالقوة إلى الجنة، ولايحق لها إبعادهم بالقوة عن النار)

وهذا كله من الوسائل التي تهون من شأن الصلاة، وتجعل منها شيئا شخصيا بحتا لا مظهرا اجتماعيا للمسلمين الذين يعظمون الصلاة فرادى وجماعات.

وهو في ذلك يغفل عن تلك الآيات الكريمة الكثيرة التي لا تدعو إلى الصلاة فقط، وإنما تدعو إلى الأمر بها، والمبالغة في الأمر بها، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وكما أثنى على إسماعيل عليه السلام، فقال: {اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55]

بل إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في أول الدعوة الإسلامية ـ بأن يقيم مع أصحابه الصلاة، لا العادية فقط، وإنما قيام أوقات كثيرة من الليل، وأخبر أنهم طبقوا ذلك أحسن تطبيق، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]

فهل كان قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السابقين بهذا الجهد الكبير من الصلاة في الليل أو أكثر الليل مجرد وسيلة لتحقيق تلك الغايات التي هي موجودة عندهم أصلا، ولا حاجة لهم للاستعانة بالصلاة لأجل تحقيقها؟

هذه مجرد خدعة من الخدع التي يستعملها التنويريون للتحقير من شأن الصلاة، وهي مع خطورتها لا تساوي شيئا أمام ذلك التأويل لمعناها.

ومن أمثلته ما نشره شحرور في موقعه([2]) لكاتب تنويري يشرح معنى الصلاة، فيقول مقدما لذلك بهذه المقدمة التي توضح تصور التنويريين لغاية الدين: (ماذا لو أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤت القرآن.. أقصد لو كان مثل باقي معظم الأنبياء (مثل لوط، يونس، إدريس، إلياس، شعيب.. فهؤلاء أنبياء لم يفضلهم الله بكتب) ماذا نحن فاعلين كعرب (قومية عربية) من حيث المعاملات والإنتاج والأبداع والأختراعات؟.. هل سنكون مثل اليابان، فلم يؤت لهم نبي أو رسول.. وانظر الى حضارتهم وتقدمهم ونضوج عقلهم واختراعاتهم!)

هذه هي المقدمة الخطيرة التي توضح البنية المادية للعقل التنويري؛ فالإنسان الكامل عندهم ليس أولئك الأنبياء والأولياء الممتلئين بالروحانية والتواصل مع الله، وإنما هو الإنسان الياباني المنتج والمبدع والمخترع.

ثم راح ينطلق من تلك المقدمة، ليوضح المفهوم الحقيقي للصلاة، والذي غاب عن السنة النبوية المطهرة، كما غاب عن الفقهاء والمفسرين والعلماء في كل العصور، ومن كل المدارس الإسلامية؛ فيقول: (لابد من تعريف مهم في حياتنا كمؤمنين.. هذا التعريف يخص الصلاة واسمح لي يا دكتور ـ يقصد شحرور ـ أن أعرفها: هي الديمومة التي يبقى فيها الفرد متصلاً بالله، باحثاً عن الحقيقة والوسيلة التي توصله الى المعارف الإلهيه مادام حياً.. ومن خلال هذا الاتصال والبحث سيكتشف النور والحقيقة)

وقد يخطر على البال هنا أن مراد الكاتب هو نفسه مراد العارفين من هدف الصلاة الذي هو المعرفة بالله والتواصل معه، لكن الأمر ليس كذلك، فهو يقول بعد استعراضه لكم الكبير من الآيات القرآنية، يلوي أعناقها كم يشاء: (وبعد انتهاء عهد وعصر النبوات كان ولابد على الانسان من مواصلة هذا النهج (الصلاة) من خلال هذا المقام العلمي للتوصل إلى مزيد من العلوم والمعارف التي لم تكتشف حتى يومنا هذا (مطلع القرن الواحد والعشرون) وعلينا نحن كمؤمنين بالله وبرسوله وكتبه وملائكته العودة الى هذا النهج العلمي (الصلاة)، وأن نبقي في ديمومة التواصل في البحث عن الظواهر المعرفية وباقي العلوم التي ستخرج من الظلمات الى النور، وبها سنخرج نحن كذلك دون الرجوع والنظر الى الخلف أو إلى الوراء وما قاله السلف وغيرهم.. ومن خلال هذه الأبحاث والاكتشافات التي توصلنا إليها سيكافئنا الله عز وجل. من هنا نصل الى تعريف مفهوم نظرية الصلاة)

وهكذا تتحول الصلاة بهذا المفهوم إلى بحث علمي، لا إلى معراج روحي، ويصبح المصلي حينها ذلك الباحث والمخترع والمكتشف، لا أولئك البسطاء الذين يركعون ويسجدون.

ولست أدري ما الداعي لخلط الأمور ببعضها.. فالمنهج العلمي محترم، والعلم محترم، والعلماء مهما كانت أبحاثهم محترمين.. وهم ليسوا جميعا بحاجة لأن نهون من شأن الصلاة من أجلهم، أو نعتبر أفعالهم صلاة، مع أن الصلاة في الشرع لها مفهومها ودلالتها الخاصة، والمقترنة بالتواصل مع الله، لأجله، لا لأجل شيء آخر، فالله هو الغاية الكبرى، وليس هو مجرد وسيلة لتحقيق رفاهنا في الدنيا، كما قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } [النجم: 42]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [الشرح: 7، 8]

ومن هذا المنطلق يتلاعب شحرور بالألفاظ القرآنية، بل بالرسم القرآني ليعتبر أن كل كلمة وردت في المصحف الشريف بالألف [الصلاة]، فالمراد منها مجرد صلة بين العبد وربه، وقالبها الدعاء، ولا تحتاج إلى إقامة وطقوس، ويؤديها كل إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة.

أما الواردة بالواو [الصلوة]، فهي صلة بين العبد وربه، ولها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها.. ويعتبر أنها وردت في القرآن الكريم باعتبارها من شعائر الإيمان.

وربما يتوهم المرء بادئ ذي بدء أن هذا الكلام لا غبار عليه، ولا حرج فيه، فالصلاة مثل الركوع والسجود وغيرهما قد يقصد بها تلك الحركات المعروفة، وقد يقصد بها مجرد الصلة المطلقة مع الله، لكن شحرور لا يكتفي بهذا، ولا يقف عند هذا الحد، وإنما يستعمل حيلا كثيرة ليصل من خلالها إلى نتائج خطيرة جدا.

وملخص تلك النتائج ـ باختصار ـ هو أن الصلاة ـ عنده ـ نوعان: الأولى لا يصح الإسلام من دونها، وهو وجود صلة مع الله بأبسط صورها، كأن نقول (يا رب ارحمني) بأي لغة، وبأي وقت وشكل.. ومن يقطع الصلة مع الله فهو وفق التنزيل الحكيم مجرم، وهو عكس مسلم.. فكل إنسان قطع صلته بالله تماماً وكذَّب باليوم الآخر هو من المجرمين وهو ليس من المصلين.

وبناء على هذا يفسر كل الآيات التي وردت في عقوبة تارك الصلاة كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4، 5]، والتي يعقب عليها بقوله: (فهنا الكلام ليس عن ظهر وعصر ومغرب، بل عمن قطع صلته مع الله، لأن الويل أيضاً للمكذبين بالله واليوم الآخر، وهذا لا يمكن أن يكون لمن فقط تقاعس عن إقامة صلاته، فنرى أن هناك عقوبة واضحة للمجرم قاطع الصلة)

أما النوع الثاني، وهو ما يسميه [الصلاة الشعائرية]، ويرى شحرور أن الله تعالى لم يذكر أي عقوبة لتارك هذا النوع من الصلاة، ذلك أن الصلاة الأساسية عنده هي الصلاة الأولى، أما الصلاة الثانية، فليست لها تلك الأهمية، ولا يتعلق بها العقاب لا الدنيوي، ولا الأخروي، وقد أجاب عن سر ذلك عند تعليقه على قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، فقال: (رب سائل يسأل: الله أكبر من ماذا؟ السؤال الصحيح: ذكر الله أكبر؟ وذكر الله أكبر ممن ماذا؟ أقول: ذكر الله أكبر من إقامة الصلاة ذاتها، أي أن الإنسان يجب أن يكون من المصلين أولاً، وإذا دخل الإيمان يكون من مقيمي الصلاة، أي في بعض البلدان إن وجد مسجد ولم يوجد من يقيم الصلاة فعلى الأقل نحافظ على الأذان لأنه ذكر الله علناً)

وبهذا فإن الصلاة الحقيقية والتي توعد الله التاركين لها عنده هي الدعاء، والمصلي عنده هو الذي يكتفي بدعاء الله، ولا يهم على أي دين كان.. فالمسلم عنده يشمل كل منتسب لأي دين من الأديان.

ولا يكتفي التنويريون بهذا، وإنما راحوا للصلاة الشعائرية نفسها يردون على جميع ما اتفقت عليه المدارس الإسلامية في شأنها، وشأن أركانها ومواقيتها ومستحباتها.. ويحتقرون كل الفقهاء الذين تحدثوا عن تفاصيلها.

ومن الأمثلة على ذلك ما نشره شحرور في موقعه من تنويري يتحدى كل فقهاء المسلمين بأن يردوا عليه إن استطاعوا([3])، وهو يتعلق بعدد الصلوات، والتي يرى أنها ليست تلك الصلوات الخمسة المعروفة، وإنما هي ثلاثة فقط: صلاة في الصباح الباكر، ووقتها في أول النهار.. ومقدارها من الوقت: هو مقدار طرف النهار، ويبدأ من بداية النهار عند تلاشي الظلام إلى قبل طلوع الشمس.. وصلاة في المساء، ووقتها في آخر النهار، ومقدارها من الوقت: هو مقدار طرف النهار، ويبدأ هذا التوقيت من قبل غروب الشمس إلى آخر النهار عند بداية الظلام، أي عكس ما يقع في الصباح تماما.. وصلاة في الليل، ووقتها في أول الليل، ومقدارها من الوقت: يبدأ توقيتها من أول الليل إلى غسقه أي حتى يشتد الظلام.

ويلخص ذلك بقوله: (وخلاصة القول أن الله فرض علينا ثلاثة أوقات تقام فيها الصلاة، صلاة في أول النهار وتسمى الفجر، وصلاة في آخر النهار وتسمى الوسطى، وصلاة في أول الليل وتسمى العشاء، ولم ينزل الله غير هذا إلا ما كان نافلة في الليل، ومن قال غير هذا فقد افترى على الله كذبا وقال على الله ما لم ينزل به سلطانا)

وبعد أن يذكر مجموعة آيات كريمة تتحدث عن الصلاة وأوقاتها بعيدا عما ورد في تفسيرها من السنة المطهرة المتواترة والمجمع عليها، يقف على برجيه العاجي قائلا بكل غرور: (إلى جميع العلماء، رؤساء الأحزاب الإسلامية، رؤساء الأحزاب التالية: السنة، الشيعة، الإباضية، المعتزلة، المالكية، الحنفية، الحنبلية، الشافعية، الزيدية، الجعفرية، الإمامية، المهدوية، الصوفية، الشاذلية، القادرية، التيجانية، العلوية.. القرآنيين، الباطنية، الظاهرية.. إلى جميع الشعوب العربية والإسلامية.. اذكروا لنا الصلاة التي أنزلها الله ومواقيتها، ومن الآيات العديدة التي أنزلها الله في الصلاة إليكم)

ثم يذكر قوله تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، ثم يسأل تلك الطوائف جميعا قائلا: (هل هذه الآية منسوخة؟.. هل هي فاعلة إلى يومنا هذا؟.. وهل يجب أن نعمل بها أملا؟.. كم صلاة أنزل الله فيها؟ 3 أم 5.. وما هي هذه الصلوات؟ أذكر أوقاتها، وأين هي الصلاة الوسطى في هذه الصلوات.. هل قرأ النبي هذه الآية على الناس؟.. هل بلغها؟.. هل تكلم بها بلسانه أم لا؟.. هل عمل بها؟.. وكم صلى حين عمل بها؟.. وهل هو الذي شرع الظهر والعصر؟.. إذا لم يكن هو فمن الذي شرعهما؟.. هل صلاة الظهر والعصر فرض؟.. إذا قلتم فرض فمن فرضهما؟ وأين فرضهما؟.. وما حكم الذي لم يصليهما، هل ارتكب معصية؟ إذا قلتم نعم، فمن عصى؟.. من الذي يشرع للعباد؟.. إذا شرع آخر مع الله هل هذا شرك بالله أم لا؟)

وهكذا يتحول من صلى الظهر والعصر عنده مبتدعا ومشركا وضالا بمجرد أسئلة يسألها عن آية لم يفهم معناها، ولا معاني غيرها من الآيات، وكيف يفهمها، وقد أبعد من أوكله الله بتأويلها وتوضيحها وتحديد المقصود منها، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذكر الله دوره العظيم المرتبط بالقرآن الكريم، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]

وقد ختم عجرفته تلك بقوله: (قدموا شهادة على الصلاة التي تصلونها على أن الله هو الذي أنزلها عليكم، وأي شخص يقول بصلاة معينة يقدم شهادة عليها على أن الله هو الذي أنزلها، وإذا لم تجيبوا على هذه الأسئلة، وتقدموا شهادة عليها وعلى صلاتكم، فاعلموا أنكم حكمتم على أنفسكم أنكم مشركين، لست أنا الذي أحكم عليكم، بل تركتكم لتحكموا على أنفسكم، لقد أشركتم بالله في تشريعه ما لم ينزل به سلطانا، ومن فعل ذلك علم أم لم يعلم فهو من المشركين، فلا أحد يكفركم ولا أحد يضللكم بل أنتم الذين ستحكمون على أنفسكم هنا في الدنيا قبل الآخرة، والذي أنزله الله هو الذي كشف شرككم كما كشف شرك الذين من قبلكم، فهو الوحيد الذي يكشف ما قبله وما بعده، والآن أنتم على علم بضلالكم وشرككم، وما يزيدكم هذا الحق والتبيان إلا نفورا وطغيانا، استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)

ثم راح يقدم شهادته في كيفية الصلاة قائلا: (أشهد أني المسمى بنور صالح صاحب هذه الدعوة، وأشهد أن كل نبي رسول من الله وختمت الرسالة والنبوة بمحمد، وأشهد أمام الله وأمام العباد وأقسم بالله العلي العظيم أن الله أنزل ثلاث صلوات مفروضة، صلاة الفجر والصلاة الوسطى وصلاة العشاء، وصلاة النافلة في الليل فقط، هذه هي الصلاة التي أنزلها الله وختم التنزيل على هذه الصلاة، وأن الله لم ينزل صلاة الظهر ولا صلاة العصر، وأن نبينا محمدا كان يصلي الثلاث صلوات التي ذكرتها وأنه مات على هذه الصلوات الثلاث، وليس هو الذي شرع صلاة الظهر وصلاة العصر، بل الناس هم الذين شرعوا ذلك، وأن كل الأنبياء كانوا يصلون هذه الصلوات الثلاث وفي هذه الأوقات، ولم ينزل الله بصلاة في الظهيرة أبدا على الإطلاق في جميع الكتب المنزلة التي نعرفها والتي لا نعرفها، وأن الصلاة لم تتغير منذ أن أنزل الله الهداية على البشر إلى يوم الدين، وأن الله لم ينزل الصلاة مقدرة بالركعات، بل أنزلها دائما وأبدا مقدرة بالوقت، وأن النبي كان يصلي الصلاة مقدرة بالوقت وليس بعدد الركعات، وأن الصلاة الوسطى تبدأ قبل غروب الشمس، وأن النبي والأنبياء كلهم كانوا يصلون الوسطى قبل غروب الشمس، وأن الركوع ليس الانحناء، وأن الله لم ينزل الانحناء ولم يشرع به في الصلاة، وأن النبي وجميع الأنبياء لم يكونوا يقومون بالانحناء في الصلاة، وأن الله لم ينزل صلاة الجمعة، ولا صلاة الأحد، ولا صلاة السبت، إلا الصلاة المذكورة سابقا، وأن النبي وجميع الأنبياء لم يكونوا يصلون صلاة الجمعة ولا صلاة السبت ولا صلاة الأحد، وأن الله لم ينزل صلاة الأعياد، ولا صلاة في الأعياد أبدا، وأن النبي وجميع الأنبياء لم يكونوا يصلون صلاة الأعياد، وأن الله لم ينزل صلاة الاستسقاء إلا إن أراد الناس أن يتقربوا لله بالصلاة النافلة في الليل، وأن الله لم ينزل صلاة الجنازة إلا أن يدعو الناس لموتاهم كدعاء بعضهم لبعض وهم أحياء، وأن الصلاة على النبي هي الدعاء له بالرحمة والاستغفار، وليس هذا الشكل الذي يقال، وأخيرا إن كنت كذبت على الله في شيء من هذه الشهادة ولو شيء قليل فلعنة الله على الكاذبين.. هذه شهادتي، فقدموا عكسها في ما تخالفونني فيه، واعلموا بإذن الله أنكم لا تفعلون.. لأنكم تعلمون أنكم تكذبون)

ثم ختم بملاحظة يقول فيها: (كل من قرأ هذا الموضوع أرجو أن ينقله إلى علمائه وشيوخه للرد عليه إن كانوا صادقين في ما يعبدون.. وليعلم الناس أن علماءهم يعلمون الحق ولكنهم يكتمونه، فهم يفعلون كما فعل الذين من قبلهم، فهم لا يهتدون)

هذا مجرد نموذج عن التلاعب بالصلاة واحتقارها واحتقار كل ما ورد في شأنها، ولو تتبعنا تفاصيل ما ذكره التنويريون الجدد في شأنها لوصلنا إلى نتائج أخطر بكثير من التي ذكرناها، فذلك نكتفي بهذا، لنعرف مدى التطرف الذي وقع فيه التنويريون، وأنهم حاولوا أن يعالجوا التطرف السلفي، فوقعوا في تطرف أشد منه.


([1])  انظر مقالا بعنوان: الإسلام عند د. شحرور، الشيخ حسن بن فرحان المالكي..

([2])  مفهوم الصلاة، يعقوب العبيدي، موقع شحرور.

([3])  انظر مقالا بعنوان: أنزل الله ثلاث صلوات وليس خمسا – بنور صالح.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *