التنويريون.. والجنة

نتيجة لغلبة الدنيوية والمادية على الفكر التنويري، والذي يلح دائما على اعتبار الحياة الدنيا هي المحور والمركز، وهي البداية والنهاية، فإنه يحتقر الكثير من عوالم الغيب، إما بتجاهلها، وعدم الاهتمام بها، أو بنقد أولئك الذين يعيشون فيها، ويتصورون أن الإيمان لا يكمل إلا بالإيمان بها، بل باختلاط المشاعر بها إلى أن تصبح جزءا أساسيا من حياة المؤمن لاينفك عنها لحظة.
أو كما ذكر ذلك الصحابي الجليل الذي عبر عن إيمانه بقوله: (عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون)، والذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قوله هذا بقوله: (أصبت فالزم.. مؤمن نور الله قلبه)([1])
فهذا الحديث مرفوض جملة وتفصيلا عند التنويريين؛ فهم لا يؤمنون بالزهد، ولا بتلك الرياضات الروحية التي يمارسها المؤمن ليرتقي بروحه إلى الملأ الأعلى.. وهم لا يتطلعون إلى عرش الرحمن بقدر تطلعهم إلى التعرف على المجرات والنجوم والثقوب السوداء.. والجنة لا تشكل عندهم شيئا، لأن الجنة عندهم هي تلك الأبراج العالية، والحدائق المزينة الموجودة في أمريكا وأوروبا.. فتلك البلاد هي منتهى هممهم.. أما جهنم فهي ليست سوى البلاد التي يعيشون فيها، والتي يودون لو أحرقوها عن آخرها.
وهذا الكلام ليس تحاملا عليهم.. بل هو الحقيقة التي تنطق بها كلماتهم، وتنطق بها قبل ذلك ملامح وجوههم عندما يسمعون المؤمن يتحدث عن عوالم الغيب، ويعطيها قيمة كبيرة في حياته.. لأنهم يريدون منه أن يعيش عالم الشهادة لا عالم الغيب، وكأن عالم الغيب يحول بينه وبين عالم الشهادة، وكأن الله تعالى لم يثن على المؤمنين الذين تركوا لأجسادهم أن تعيش في عالم الشهادة بينما تحلق أرواحهم في عوالم الغيب الجميلة، كما قال تعالى في أوائل أوصاف المؤمنين في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 2، 3]
فالإيمان بالغيب هو الأساس الذي تنطلق منه حياة المؤمن، بل هو المعيار الذي يفرق بين الإنسان الكامل الذي يعرف حقائق الوجود، ويطبق مستلزماتها، وبين ذلك الإنسان القاصر الناقص الكل الذي لا يعرف من الحياة إلا جانبها الهزيل البسيط، ولذلك تكون همته بحسب المعارف البسيطة التي يعيشها، ويتصور أنها البداية والنهاية.
ومن مسائل الغيب التي نجد للتنويريين احتقارا كبيرا لها، بل حياء عظيما منها [الجنة] التي هي سلوة المؤمن وعزاءه، كما أنها المحرك لهمته عندما تضعف نفسه، وتتخدر إرادته، حينها يتذكر ما هيأه الله للصابرين من عظيم الجزاء؛ فترتد إليه قوته وإرادته، ويصبح كالجبل الأشم الذي لا تحركه أعاصير الأهواء.
وهي فوق ذلك سلوة المريض الذي يعلم أن الجنة دار الصحة الأبدية، وسلوة الفقير الذي يعلم أن الجنة هي دار الغنى الأبدي، وسلوة المحرومين، والذين أرقتهم الحياة الدنيا لأنهم يعلمون أن الجنة هي دار الراحة الأبدية..
ولذلك لم تكن الجنة دار ضيافة إلهية في الآخرة فقط، بل هي أيضا ترياق وبلسم يداوي كل الجروح، ويملأ النفس بالطمأنينة والانشراح وكل أنواع السعادة.. فيعيش المؤمن مصحوبا بذكريات المستقبل الجميل الذي ينتظره عند الله.
لكن كل هذه المعاني التي ساهمت في الطمأنينة النفسية للمؤمنين وفي رقيهم الأخلاقي على الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشونها، لم يلاحظها التنويريون، بل توهموا أنها حجاب دون العمل على الحصول على ذلك الرفاه الذي ينعم فيه الغرب، والذي لا يساوي في نظر المؤمن قطرة من بحار نعيم الجنة.
لقد تصور التنويريون ـ بسبب نظرتهم الدنيوية العوراء القاصرة ـ أن الجنة مثلها مثل كل عوالم الغيب هي سبب تخلفنا عن الغرب، وعن كوكب اليابان، وعن الكواكب الكثيرة التي يتصورون أنها الحقيقة الوحيدة المطلقة.
ومن أمثلة ذلك الجحود والاحتقار للجنة، بل السخرية منها تلك الأشرطة المنتشرة بكثرة، والتي يتحدث فيها أحد زعماء التنوير في العصر الحديث [أحمد القبانجي]، ذلك الذي يرتدي كذبا وزورا عمامة علماء الشيعة، مع كونه لا ينتسب لا للشيعة، ولا للسنة، بل هو معول لحرب كليهما، بل حرب الإسلام نفسه.
وقد أوهم ذلك بعض المغفلين بأن موقفه من الجنة وعالم الآخرة هو نفس موقف علماء الشيعة، دون أن يكلف نفسه بالبحث في التراث الشيعي، ليعرف حقيقة موقفهم من هذا.. ولكن الأحقاد تعمي وتصم.
وقد نشر القبانجي بعض أفكاره في هذه المجال في مقال([2]) حاول فيه أن يبين عدم ضرورة الجنة، وأنها لا تشكل أي دافع للعمل الصاح، بل إنه لا حاجة إليها أصلا.
ولست أدري من الذي فوضه بأن يقول هذا الكلام، وهو الذي يسيل لعابه لمتاع الدنيا القليل.. لكن العقل التنويري المستكبر الذي حرم من ذلك الإيمان الذي ينعم به البسطاء والطيبون يتصور أن بيده كل شيء، ولذلك يتحكم في كل شيء، ابتداء من تحكمه في وظائف الإله نفسها.
وقد عبر عن ذلك الاحتقار للجنة بقوله: (أما الجنة، فليس فيها سوى إشباع للغرائز الحيوانية من أكل وشرب ونكاح، وليس فيها أي إشباع للغرائز الانسانية كالإبداع والإيثار والكرم والشجاعة ونصرة المظلوم وتعليم العلم وحب الرئاسة ووو..)
ولست أدري كيف عرف ذلك، وهل زار الجنة حتى يحكم عليها، وهل أحاط بالنصوص المقدسة التي تتحدث عن الجنة، وكونها دار الضيافة الإلهية التي تتحقق فيها كل الرغبات المشروعة، ويتحقق معها كل أنواع السمو الروحي والأخلاقي، حيث يعيش أهل الجنة الحضارة الراقية والذوق الرفيع والأدب الجم، حيث لا لغو هناك ولا تأثيم.
لكنه ـ بسبب العشى الذي أحاط ببصيرته ـ لم يعرف الجنة إلا من خلال ذلك الوعظ البارد الذي يستعمله بعض عوام الوعاظ والدعاة بعيدا عن الحقائق التي وردت في النصوص المقدسة، ولذلك توهم أن الجنة مجرد دار للمتع الجسدية وحدها.
ثم راح ـ مثل سائر التنويريين ـ يتحدث عن ذلك الكوكب الذي يسمونه كوكب اليابان؛ فيقول: (أما عمليا، فنحن نرى اليابان مثلا وهم لا يعتقدون بالجنة والنار(الديانة السائدة هناك التاوية والبوذية) أحسن من المسلمين أخلاقا وأقل كذبا وسرقة وغشا في تعاملهم وخدماتهم للبشرية معروفة، وفي المقابل نجد المسلمين مع اعتقادهم بالجنة والنار وكثرة منابر الوعظ والارشاد والكتب الدينية وخطب الجمعة أصبحوا أسوأ المجتمعات البشرية أخلاقا)
وهذا التحليل يدل على سطحية العقل التنويري، فهو لا ينظر إلى المشكلة من زاويتها الحقيقية، وإنما ينظر إليها من الزاوية التي يرغب فيها؛ فالمشكلة في المسلمين ليس كونهم يعتقدون بعالم الغيب، ولا بالجنة والنار، وإنما المشكلة في ضعف إيمانهم بذلك.. وإلا لو كان الإيمان بالغيب والجنة والنار قائما، لكان المسلمون قمة في الرقي الأخلاقي والحضاري.
فهم في الحقيقة مثل ذلك المريض الذي يملك الدواء، ولكن لا يستعمله؛ فيتوهم من يراه بأن الدواء لم ينفعه، ولم يجد مع مرضه، من غير أن يبحث في كون المريض استعمل الدواء أو لم يستعمله، وهل استعمله بالطريقة الصحيحة، أم استعمله بطريقة خاطئة.
ونفس الشيء يتوجه للقابنجي وللتنويريين جميعا الذين جعلوا من حديث الإرهابيين عن الجنة سببا لإلغائها واحتقارها، كما عبر القابنجي عن ذلك بقوله: (أصبح الاعتقاد بالجنة وحور العين سببا للإرهاب الآن.. أي سببا للرذيلة والجريمة لا لمنعها، فلولا الجنة وحور العين لما قام التكفيريون بقتل انفسهم وقتل الأبرياء)
وهذا يشبه أولئك الذين يحرمون الأدوية النافعة بسبب أن بعض الشواذ استعملها بطريقة خاطئة، فقتل نفسه بها.. أو يشبه أولئك الذين يمنعون من بناء الجسور حتى لا تستعمل وسيلة للانتحار.
ولم يكتف القبانجي بكل ذلك، بل راح إلى ذلك الرهان الذي يستعمله المؤمنون بالغيب في حواراتهم مع الجاحدين والملاحدة، والذي عبر عنه أبو العلاء المعري بقوله:
زعم المنجم والطبيب كلاهما |
لا تبعث الأجساد قلت: إليكما | |
إن صح قولكما فلست بخاسر |
أو صح قولي فالخسار عليكما |
أو ما عبر عنه بعضهم، بقوله: (قال الملحد للمؤمن: ما موقفك اذا مت ولم تجد الجنة! فرد المؤمن: لن يكون اسوأ من موقفك اذا مت ووجدت النار!)
أو ما عبر عنه مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد، والذي ذكر أنه قال له ساخرا: (ماذا يكون الحال لو اخطأت حساباتك، وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت وتراب ليس بعده شيء؟)، فأجابه مصطفى محمود بقوله: (لن أكون قد خسرت شيئا.. ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتي وصدقت توقعاتي.. وإنها لصادقة.. سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي)([3])
أو ما عبر عنه ـ قبل ذلك كله ـ الإمام الصادق مع بعض الملاحدة، حيث قال مخاطبا له: (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون، يعني المؤمنين، فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم)، فقيل له: وأي شيء نقول وأي شيء يقولون ما قولي وقولهم إلا واحد؟ فقال: (وكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد…)([4])
لكن القبانجي راح يرد على هذا السلاح القوي، بمقال له بعنوان [القمار مع الله!]([5])، قال فيه ساخرا: (في الدنيا نحن غير متساويين أيضا، فالمتدين يتعب نفسه بالتكاليف الشاقة كالصلاة والصوم والحج والزيارات والخمس وغيرها ويترك الملذات كالغناء والرقص والملاهي والصداقة مع الجنس الآخر، بل الزواج مع أتباع الديانات الأخرى مع وجود حب بين الاثنين، بل قد يطلب منه الدين الجهاد أو تفجير نفسه أو الكراهية لأتباع المذاهب الأخرى، وليس على الوجدانيين شيء من ذلك)
وهذا كله كذب وبهتان، فكل تلك الشعائر التي يقوم بها المؤمن ليس لها علاقة بالتعب، لأن المؤمن يمارسها براحة نفسية كبيرة، بل إنه يشعر بتأثيرها في ترقية أخلاقه، وسمو روحه، وشعوره بالطمأنينة والسعادة، فوق ما لها من دور في حفظ من أهواء نفسه الأمارة بالسوء.
فالمؤمن ـ نتيجة إيمانه باليوم الآخر ـ لن يقع في الفواحش التي تدمر صحته وصحة المجتمع، ولن يدمن على المخدرات ولا على أي شيء يضره.. وفوق ذلك كله يمتلك دوافع أخلاقية عالية بخلاف ذلك الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، فهو لا يملك شيئا يسليه، كما لا يملك شيئا يدفعه لأي عمل صالح.
ولم يكتف القبانجي بذلك التزوير للحقائق، وإنما راح يفرض على الله ـ خلاف ما ورد في كتابه ـ من يدخله الجنة أو من يدخله النار، فيقول: (ما دام الانسان يسير في حياته الدنيا بوحي وجدانه ويتحلى بالفضائل ويترك الرذائل فهو من أهل الجنة لأن القرآن يقول: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] أي سليم من الحقد والحسد والانانية والتكالب على الدنيا وأمثال ذلك. ومعلوم ان التدين لا يهتم لنقاء القلب بقدر اهتمامه بالقشور والطقوس فتكون النتيجة أن خسر الدنيا والآخرة ونكون قد ربحنا الدنيا والآخرة)
وهذه كلها مغالطات، فسلامة القلب لا تقتصر على ما ذكره، بل أول سلامة للقلب هي عدم الاعتراض على الله والتسليم له والإذعان لشريعته والقيم التي جاءت بها.. أما ادعاؤه أن التدين يهتم بالقشور، فهو ناتج عن نظرته السلبية للدين مثله مثل سائر التنويريين، وإلا فإن الدين هو مجمع الفضائل، بل لا يمكن أن تتحقق الفضائل من دونه.. ذلك أنه يستحيل أن يجد البشر معايير للأخلاق، أو دوافع تحرك إليها من دون الدين.
ويختم القبانجي حديثه عن ذلك الذي توهمه قمارا بقوله: (إن هذه الفرضية كلها بمثابة لعب القمار مع الله، لأنها تنزل بمستوى العلاقة مع الله الى الحضيض وتجعل من هذه العلاقة تجارة او قمارا، فالمتدين يصلي ويصوم.. بدافع احتمال وجود جنة ونار لا بدافع الايمان بالله والحب له والشكر لنعمائه، اي لو لم يكن هذا الاحتمال موجودا لا صلى ولا صام ولا ترك الرذائل. أما الوجداني فهو يعمل بالفضائل ويترك الرذائل لذاتها ويرتبط مع الله بدافع الحب له لا بدافع الخوف من النار والطمع في الجنة لأنه لا يؤمن بهما أساسا)
ولست أدري من الذي أخبره أن الطمع في جنة الله، يتنافى مع حب المؤمن له.. فالمؤمن يحب الله لذاته، ويحبه لصفاته، ويحبه لكرمه وجوده، والذي تجلى في الدنيا فيما وفر لخلقه من أصناف الرعاية.. وفيما سيوفر لهم في المستقبل من أضعافها.
وهل يمكن لعاقل أن يدعي أننا إذ أحببنا كريما لكونه تكرم علينا بأصناف العطاء، ووعدنا بأضعافها أننا لا نحبه إلا لأجل ما يعطينا.. هذا كذب وبهتان عظيم لأن محبة المحسن ذاتية حتى لو لم يحصل إحسانه إلى المحب..
بالإضافة إلى أن القبانجي والتنويريين معه يتصورون الجنة بحسب عقولهم البسيطة، وإلا فإن الله تعالى الذي اعتبر كل ما نراه في الدنيا من أصناف الجمال مجرد متاع قليل، واعتبر الحياة التي نعيشها حياة دنيا لا تساوي شيئا، في نفس الوقت اعتبر الحياة الأخرى هي الحياة الحقيقية يجعلنا نقف أمامها مبهوتين منبهرين لا ندري منها شيئا، أو كما قال ابن عباس: (ليس في الجنة شيءٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء)([6])
ولذلك فإن كل أحاديث التنويريين عن الجنة
وعالم الغيب أحاديث منطلقة من معلومات خاطئة، لأنهم تصوروا أنهم قد أحاطوا بتلك
العوالم بينما هم لم يعرفوا منها شيئا، بل لم يذوقوا من شرابها اللذيذ قطرة واحدة،
ولذلك استقذروا الشراب، ولو ذاقوه لفنوا عن أنفسهم، وباعوا كل ما لديهم من جاه
ومال وسلطان بلحظة واحدة يعيشها المؤمن في صحبة عالم الغيب.
([1]) رواه البزار.
([2]) انظر: الجنة والنار، أحمد القبانجي، الحوار المتمدن-العدد: 4363 – 2014 / 2 / 12 – 12:19.
([3]) حوار مع صديقي الملحد.
([4]) الكافي، ج1 ص74..
([5]) انظر: القمار مع الله، أحمد القبانجي، الحوار المتمدن-العدد: 4083 – 2013 / 5 / 5 – 11:47..
([6]) رواه أبو نُعَيْم في صفة الجنة (21 / 2)