التنويريون.. والجرأة على السنة

التنويريون.. والجرأة على السنة

يكاد يتفق التنويريون جميعا بمختلف طوائفهم على احتقار السنة النبوية المطهرة، وعدم اعتمادها أو اعتبارها، بل هم يذبونها عنهم مثلما يذبون الذباب، لا يتكلفون في ذلك أي عناء ولا جهد ولا بحث.. فلازمتم المعروفة هي مخالفة السنة للعقل، وللقرآن، وللفطرة، وأنها من إنتاج الأمويين أو العباسيين، أو من نتاج الكذابين الوضاعين.

وعندما يذكرون ذلك، يتوهم الكثير أن هذه النتائج قد تولدت عن بحث طويل، أو عناء شديد في النظر في أسانيد الأحاديث أو طرقها، أو أنهم عرضوها فعلا على القرآن الكريم أو العقل الحكيم.. بينما هم لم يفعلوا شيئا من ذلك.. ذلك أنهم لم يعرضوها إلا على هواهم المجرد، والذي يسمونه مرة قرآنا، ومرة عقلا، ومرة فطرة، وهو في حقيقته لا يعدو أن يكون هواجس نفس أمارة، أو وساوس شيطان رجيم.

ولذلك يمكن اعتبار موقفهم من السنة المطهرة هو السبب في كل البلايا التي وقعوا فيها، ذلك أن احترام السنة احترام لصاحبها، وتعظيم له، واحتقارها احتقار له، ويستحيل على من يفعل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوفق لأي خير، أو يهتدي لأي صواب.

فالله تعالى نهانا عن مجرد دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، أو رفع الصوت أمامه؛ بل اعتبر ذلك محبطا للعمل؛ فكيف بالتجرؤ على إنكار سنته، أو إدخال الهوى فيها؟

لذلك نجد الصادقين لا يتجرؤون على ردها، ولا على مناقشتها، ولا على كتمانها، وإنما يجتهدون في تفعيلها في كل شيء، مثلما يجتهدون في تفعيل القرآن الكريم، فكلاهما من مشكاة واحدة، هي مشكاة الحقيقة المطلقة، وقد قال الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]

وهم لا يقولون أبدا تلك المقولة التي يرددها القرآنيون، والتي هي سبب كل بلاء وقع في الأمة: (حسبنا كتاب الله)، ذلك أن الله تعالى هو الذي وكل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ببيان كتابه، ووضع الضوابط لدينه حتى لا تتلاعب به الأهواء، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]

وقد ورد في الحديث الشريف وصف دقيق لأمثال هؤلاء، والذي لم يخلوا من أمثالهم التاريخ، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ([1])

وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معدي كرب يقول: (حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر أشياء، ثم قال: (يوشك أحدكم أن يكذبني، وهو متكئ يحدث بحديثي؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)([2])

وهكذا تواترت النصوص الكثيرة الواردة في المصادر الحديثية للمدارس الإسلامية المختلفة على تعظيم السنة، وخطورة ردها بالهوى المجرد، أو خطورة ضربها بالقرآن الكريم، مع كونها لم ترد إلا لبيانه وتأكيد معانيه، وتفصيل مجمله، وتوضيح كيفية تنفيذه في الواقع؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن سوى قرآنا ناطقا، ولم يكن خلقه إلا القرآن.

ولهذا كان الصالحون يعتبرون كل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة، ما قبل البعثة وما بعدها، حتى خلوته في غار حراء، يعتبرونها من السنن النبوية التي يمكن تفعيلها في الواقع.. لأن حقيقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت متمثلة بالنبوة وبطهارتها وسموها، ولم يكن الوحي المقدس الذي أوحي له إلا تتويجا لتلك النبوة السابقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه مخبرا عن موعد نبوته عندما سئل: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ فقال: (وآدم عليه السلام بين الروح والجسد)([3])

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يكلف أصحابه بتبليغ سنته مثلما يكفهم بتبليغ القرآن الكريم، ويعدهم من الأجر مثلما يعدهم به، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم، ومن ذلك ما حصل يوم حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر حين قال لهم: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه)([4])

ومن خلال استقراء أطروحات التنويريين المرتبطة بالقرآن الكريم نجد أنها لا تعدو تعلقها بمغالطتين اثنتين، أولاهما حول حجية السنة نفسها، وعدم اعتبارها، والثانية، هي الاعتراف بتلك الحجية، مع مناقشة ثبوتها، ووضع العراقيل الكثيرة التي تتيح لأي هوى أن يرد ما شاء من السنة، من غير بينة ولا اجتهاد ولا نظر.

وسنناقش كلا الشبهتين فيما يلي:

أولا ـ المغالطات المرتبطة بحجية السنة:

ينطلق التنويريون في ردهم للاحتجاج بالسنة المطهرة من تلك المقولات المتطرفة التي تجعل من الأحاديث الشريفة أصلا يُتحاكم إليه قبل القرآن الكريم نفسه، ولذلك ترى إمكانية نسخ القرآن بالسنة، أو القول بنسخه وتخصيصه من خلال الروايات الواردة في أسباب النزول، أو من خلال تلك المبالغات في اعتبار الروايات تفسيرا نهائيا للنص القرآني.

وكان في إمكان التنويريين مواجهة هذا الموقف، والرد عليه في المحل الذي وقع فيه الخطأ من دون تجاوزه، لكنهم، ولكسل العقل التنويري الذي يعتمد الهدم لا البناء، راحوا يستغلون تلك الأخطاء لرمي السنة جميعا.

وهذا ما أوقعهم في انحراف لا يقل خطرا عن انحراف السلفيين أو من هو على شاكلتهم ممن عطل نصوصا قرآنية كثيرة بسبب روايات وأحاديث رواها واعتمدها من غير تحقيق في أسانيدها ولا تثبت في مدى صحة الاحتجاج بها في حال معارضتها للقرآن الكريم.

فكلا الطرفين وقع في خطأ التعميم.. أولهما: وهم السلفيون ومن تبعهم أخطأوا في اعتماد الأحاديث اعتمادا مطلقا حتى لو خالفت القرآن الكريم وعارضته معارضة صريحة.. وثانيهما: التنويريون، الذين راحوا يسخرون من كتب السنة، ويستعملون تلك الأخطاء مبررا لهجماتها عليها.

أما الموقف الوسط، وهو الذي تبنيناه بحمد الله في كتبنا، فهو اعتبار القرآن الكريم والسنة المطهرة، لكن مع مناقشة أحاديث السنة المعارضة للقرآن الكريم، إما بتأويلها لتتناسب معه، أو بردها إذا لم تتناسب مطلقا معه، بناء على الأحاديث الواردة في ذلك.

وقد وجدت بحمد الله، ومن خلال تلك الروايات المحدودة التي تتعارض مع القرآن الكريم، أنه يمكن ردها من خلال الموضوعية في مناقشتها سندا، أو من خلال تأويلها لتتناسب مع القرآن الكريم.

ومن أمثلة على ذلك ما ذكرناه بتفصيل في كتاب [الطائفيون والحكماء السبعة]، حيث رددنا فيه حديث (من بدل دينه فاقتلوه)([5])، مع كونه مرويا في الصحاح، لا لكونه يخالف الآيات الكريمة الكثيرة، والتي تتحدث على عقوبة الردة، ولكنها لا تنص على الحد الدنيوي المرتبط بها، بخلاف سائر الجرائم التي ذكرت حدودها، وإنما لكون مناقشته سندا تقتضي ذلك، فهذا الحديث من رواية عكرمة مولى ابن عباس، وقد انفرد بها دون تلاميذ ابن عباس جميعا، مع كون الكثير منهم مثل سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وغيرهم ممن هم أكثر اختصاصاً به من دواعي التوقف في قبول هذا الحديث.. بالإضافة إلى ذلك فإن تلاميذ ابن عباس المتفق على ثقتهم يعدون بالعشرات، ولم يرووه عنه رغم أهمية الحديث واختصاره وسهولة حفظه، ورغم ارتباطه بحد من الحدود الخطيرة.. فكيف يجهل عشرات الرواة عن ابن عباس هذا الحديث، ويجهل هذا الحديث الصحابة والتابعون، ويعلمها تابعي واحد هو نفسه محل إشكال واختلاف؟

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان عكرمة من الخوارج الذين حاربوا الإمام عليا.. وهذا الحديث فيه تجريح خطير للإمام علي.

بالإضافة إلى ذلك، فقد رويت الروايات الكثيرة التي تتهمه من لدن الصحابة أنفسهم، فقد روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: (لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس)، وفي ذلك أكبر تجريح له.. فالذي جرحه ليس البخاري ولا يحي بن معين، بل هو ابن عمر نفسه.. وهو من الصحابة.. وهو يعرفه.. وهو أدرى الناس به.. لكن لحبنا للحديث غفلنا عن ذلك كله وتغافلنا عنه.

وهكذا روي عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد، قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي ([6]).

وقال ابن حجر عنه: (وفد عكرمة على نجدة الحروري فأقام عنده تسعة أشهر، ثم رجع إلى ابن عباس فسلم عليه، فقال: قد جاء الخبيث قال: فكان يحدث برأي نجدة، وكان يعني نجدة أول من أحدث رأي الصفرية وقال الجوزجاني قلت لأحمد بن حنبل أكان عكرمة إباضيا فقال: يقال: إنه كان صفرياً، وقال أبو طالب عن أحمد كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وقال يحيى بن معين كان ينتحل مذهب الصفرية ولأجل هذا تركه مالك، وقال مصعب الزبيري كان يرى رأي الخوارج)([7])

وهكذا لو تأملنا كل الأحاديث التي عارضت القرآن الكريم معارضة صريحة، وجدناها من هذا الباب، يمكن مناقشتها سندا.

وفي المقابل نجد مئات الأحاديث في المصادر الإسلامية المختلفة ممتلئة بالجمال والقيم النبيلة، ولا يصح عقلا أو شرعا رميها جميع بحجة مخالفتها للقرآن..

فمعظم أحاديث الترغيب والترهيب، حتى الكثير من الضعيف منها يمكن الاستفادة منها في تحقيق المقاصد القرآنية، ومن الخطأ رميها ورفضها، بحجة أن السنة تحجب عن القرآن، وكيف تحجب عنه، وهما من مشكاة واحدة.

ولهذا اعتمدنا بحمد الله في كتبنا كل المصادر الحديثية ورأينا حرمتها وقداستها، وقد قلت في مقدمة كتابي [رسول الله والقلوب المريضة]، وهو الكتاب الذين ناقشنا فيه الأحاديث التي تشوه النبوة، وتسيء إليها: (ونحب في هذا المحل أيضا أن ننكر نكيرا شديدا على من يتجرأ على كتب الحديث بمدارسها المختلفة.. كصحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرها من كتب الحديث في المدرسة السنية.. أو كتاب الكافي في الأصول والفروع للكليني، أو تهذيب الأحكام والاستبصار للطوسي، أو من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.. وغيرها من كتب الحديث في المدرسة الشيعية.. أو مسند الربيع بن حبيب في المدرسة الإباضية، فكتب الحديث هي المحال التي جمع فيها الحديث بصحيحه وضعيفه وموضوعه، ولذلك من الخطأ الكبير أن نسب مصدرا كاملا للحديث بسبب بعض الأحاديث المردودة فيه.. بل لو لم يصح من كتاب كامل إلا حديث واحد لكان من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحترم ذلك الكتاب)([8])

وقلت فيه: (لهذا فإني ـ مع ردي بعض الأحاديث الواردة في المصادر الحديثية المختلفة ـ لا أرد الأحاديث مع اعتقادي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالها أو فعلها.. فذلك عين الضلال، بل عين الكفر، فمن يتجرأ على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يبقى له من الإسلام شيء.. ومثل ذلك فإني لا أتهم الصحابي الذي روى الحديث، لأن الحديث لم نسمعه من الصحابة مباشرة، وإنما ورد إلينا عن طريق طويل قد يختلط فيه الحابل بالنابل، والمحق من المبطل.. ومثل ذلك لا أتهم صاحب الكتاب الذي ورد فيه الحديث، لأن أكثر المحدثين كانوا يجمعون الأحاديث، ويتركون المواقف منها ومن فهمها للفقهاء والمفسرين وغيرهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)([9]).. ومثل ذلك لا أتهم أي راو من الرواة بأنه هو من وضع الحديث لأن ذلك غيب.. والله أعلم به.. كل الذي أفعله هو أني أقارن الحديث بالصورة التي وردت في القرآن الكريم حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وورد مثلها في الأحاديث الكثيرة، وفوق ذلك تؤيدها الفطرة الصافية والعقل السليم. فإن وجدت الحديث موافقا لها، قلت به، وصدقته حتى لو كان راويه متهما بالضعف.. وكل حديث مخالف لذلك أنكرته ونقدته حتى لو كان الراوي قد وثق من الجميع)([10])

واستدللت لذلك بما فعله العلماء الكبار من ردهم لبعض الأحاديث بسبب تعارضها مع القرآن الكريم، ومن ذلك ما ذكره جمال الدين القاسمي ـ عند تبريره لانتقاده الشديد لحديث سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الأمثلة من فعل السلف، فنقل عن الإمام الغزالي قوله في (المستصفى): (ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردّ خبر الواحد. كردّ عليّ خبر أبي سنان الأشجعي في قصة (بروع بنت واشق) وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث. وكردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث)([11])

ونقل عن ابن تيمية في (المسوّدة) قوله: (الصواب أن من ردّ الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الرادّ أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا، فقد ردّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث)([12])

ونقل عن العلامة الفناري في (فصول البدائع) قوله: (ولا يضلل جاحد الآحاد)

ثم قال تعقيبا على ذلك كله: (والمسألة معروفة في الأصول، وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي من أكبر رد خبر رواه مثل البخاري، وضلل منكره، فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول، لا بل بأصول مذهبه. كما رأيت عن الفناري. ثم قلت: العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزنا. وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من ردّ خبرا فيه؟)([13])

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك موقف الإمام مالك من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، والذي يدل بصيغة قطعية على أن لكل من المتبايعين حق إمضاء العقد أو إلغائه ماداما لم يتفرقا بالأبدان.

وقد ورد ما يؤكد هذا من السنن الأخرى، فقد روى البيهقي عن عبد الله بن عمر قال: (بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يردني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا)

وقد ذهب إلى هذا جماهير العلماء من الصحابة والتابعين.. لكن الإمام مالك خالف ذلك، ورد الحديث حتى نقل عن ابن أبي ذئب –وهو من كبار علماء المدينة – أنه لما ذكر له أن مالكا لم يعمل به، قال: (يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه)([14])

بل أكد موقفه هذا الإمام أحمد نفسه حيث قال عن ابن أبي ذئب: (هو أورع وأقول بالحق من مالك) ([15])

لكن مع ذلك نجد العلماء جميعا يعتذرون لمالك، ويقفون منه موقفا طيبا، بل يبررون قوله، والمالكية إلى الآن لا زالوا يأخذون بقوله في المسألة، ولا يأخذون بالحديث الوارد في صحيحي البخاري ومسلم.

وهذا الموقف هو الموقف الوسط، وهو الذي كان على التنويريين أن يقوموا به، لا أن يرفضوا الأحاديث جميعا، ومن دون دراسة ولا بحث، وإنما يسارعون إلى ذلك من دون تثبت.

ولا نحتاج في هذا المحل إلى ذكر النصوص القرآنية الكثيرة التي تأمر بالرجوع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واعتباره حكما وشارحا ومفصلا لآيات الذكر الحكيم، فهي كثيرة جدا، ودلالتها صريحة جدا، ولا ينكرها إلا جاحد.

ولعل أشهرها وأوضحها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]، فهذه الآية الكريمة واضحة في دلالتها على كون ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو نفسه ما قضى به الله تعالى؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق الهوى.

ومثل ذلك تلك الآيات الكثيرة التي تأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقرنها بطاعة الله، كما قال تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران: 132]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [المائدة: 92]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تتحول إلى آيات لا يمكن تطبيقها إلا في الواقع الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف نطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف نتبع أوامره، ونحن ننكرها ونردها.

أما ادعاء القرآنيين بأن القرآن الكريم حوى كل شيء، وأنه لذلك يمكن الاستغناء عن السنة، كما قال عبد الله جكرالوي مؤسس فرقة القرآنيين: (إن الكتاب المجيد ذكر كل شيء يحتاج إليه في الدين مفصلا ومشروحا من كل وجه، فما الداعي إلى الوحي الخفي وما الحاجة إلى السنة)([16])، وقال: (كتاب الله كامل مفصل لا يحتاج إلى الشرح ولا إلى تفسير محمد صلى الله عليه وآله وسلم له وتوضيحه إياه أو التعليم العملي بمقتضاه)([17])، فهو قول ممتلئ بالمغالطات.

ذلك أن الكثير من الأحكام لا يمكن تنفيذها من دون السنة المطهرة، ولذلك تولت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان ذلك.. وفصلته وعلمته لنا.

وقد يتصور البعض أن هذا خاص بالعبادات فقط، ولذلك يذكرون إمكانية الاعتماد على السنة في هذا المجال، وهذا خطأ، فحتى في القضايا الأخرى، نجد شروحا وتفاصيل لا يمكن فهم القرآن الكريم إلا من خلالها.

ومن الأمثلة على ذلك تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعنى الغيبة، والفرق بينها وبين البهتان، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أتدرون ما الغيبة؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه)([18])

وهكذا نجد الأحاديث الكثيرة التي تنهانا عن الغيبة، وتؤكد حرمتها، وتبين عظم خطورتها، وهو ما يزد الحقائق القرآنية المرتبطة بهذا الجانب توثيقا وتأكيدا وتحقيقا.

ولسنا ندري لم نرمي كل تلك الثروة الأخلاقية، بسبب بعض الأحاديث التي خالفت القرآن الكريم، والتي كان يمكننا رفضها لوحدها، أو محاولة فهمها على ضوء القرآن الكريم، أما أن نرمي السنة جميعا بسببها، فهذا بهتان عظيم، فالتعميم دائما يحمل الأخطاء.

ولهذا، قلنا في كتاب [أبو هريرة وأحاديثه في الميزان]، والذي اتهمنا فيه البعض بإنكار السنة: (ولذلك لا نريد من خلال هذا البحث رمي أحاديث أبي هريرة، ولا طرحها، ولا تكذيبها جميعا، وإنما ندعو إلى تمحيصها حتى نميز السم عن العسل، والصدق عن الكذب، والإلهي عن البشري، والمقدس عن المدنس، ذلك أن الكثير من الروايات التي رواها أبو هريرة نجدها مروية من طرق غيره من الصحابة، بل نجدها عند الشيعة أو غيرهم من فرق المسلمين بأسانيدهم الخاصة بهم، لكن غيرها، وخاصة مما اختص به، نحتاج فيه إلى تحقيق كبير، ذلك أن أبا هريرة لم يكن من الصحابة السابقين، ولا من الذين اكتفوا بالتلمذة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كان تلميذا نجيبا لغيره، وخاصة لكعب الأحبار، ولذلك اختلطت ـ باتفاق العلماء والمحدثين ـ أحاديثه التي رواها عن كعب بأحاديثه التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان له فوق ذلك اجتهاداته في بعض روايات الحديث، حيث كان يروي الحديث، ثم يضيف له بعض الإضافات التي يسميها العلماء إدراجا، ويعبر عنها هو بأنها من كيسه)

وبناء على ذلك قمنا بدراسة رواياته، وخاصة تلك التي انفرد بها، وعرضها على القرآن الكريم، بل عرضها على كلام أهل العلم أنفسهم، وقد وجدنا أنهم يفندونها ويردونها حتى أن

ومن الأمثلة على ذلك الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فقال: (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) ([19])

وهذا الحديث الذي يصرح فيه أبو هريرة بالسماع، بل يصرح بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصه به، بل أخذ بيده حين قاله، اتفق العلماء على عدم صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أبا هريرة أخطأ فيها، فبدل أن يقول: أخذ كعب الأحبار بيدي، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي.

يقول ابن كثير في تفسيره تعليقا عليه: (فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه، والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا) ([20])

بل إن ابن تيمية نفسه رد الحديث، فقال في (مجموع الفتاوى): (.. خلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخارى وغيرهما وذكر البخارى أن هذا من كلام كعب الأحبار) ([21])

بل إن السلف الأول من الصحابة أنفسهم ردوا أحاديثه، واتهموه في الرواية، بل فيهم من اتهمه بالكذب، ومن الأمثلة على ذلك ما روي من رد عائشة على أبي هريرة حول ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار)، ففي الحديث عن أبي حسان الأعرج، أن رجلين، دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: (إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار)، قال: فطارت شقة منها في السماء، وشقة في الأرض، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة، ثم قرأت عائشة: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22]) ([22])

وفي رواية عن مكحول، قيل لعائشة إن أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشؤم في ثلاثة: في الدار والمرأة والفرس)، فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (قاتل الله اليهود، يقولون إن الشؤم في ثلاثة: في الدار والمرأة والفرس، فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله)

فهذا الحديث بروايتيه يشير إلى ذلك التسرع الذي اتسمت به رواية أبي هريرة للأحاديث، وهو ما جعله يقع في خلط كثير، ولهذا غضبت عائشة، بل طارت شقة منها في السماء، وشقة في الأرض، من ذلك الخلط الذي يمارسه أبو هريرة في رواية الحديث.

ومع ذلك، لم نرم كل أحاديث أبي هريرة، بل إنا ذكرنا الكثير منها في كتبنا، لأنا لم نر بها بأسا، فمعانيها شرعية صحيحة، وإنما اقتصر ردنا على ما نراه مخالفا لما ورد في القرآن الكريم من تنزيه الله أو تنزيه رسله، أو الدعوة للقيم النبيلة.

وهذا هو الحل الصحيح في التعامل مع السنة المطهرة، لا رميها جميعا، وتكذيبها جميعا، بجرة قلم واحدة، لأن هذا وليد الكسل والمراهقة الفكرية.. ولا قبولها جميعا كذلك، لأن بعض الروايات يفعل فعل السم في تحطيم الشريعة وتشويهها وتشويه كل القيم النبيلة التي جاءت بها.

ثانيا ـ المغالطات المرتبطة بثبوت السنة:

مثلما انطلق المنكرون لحجية السنة من بعض تلك الأخطاء التي وقع فيها الذين أخروا القرآن الكريم عن السنة، وجعلوا أحكامه منسوخة أو مخصصة أو مقيدة بسببها، فكذلك فعل المنكرون لثبوت السنة، والذين توهموا أنهم بإنكار ثبوتها، يكونون قد ألغوا الحاجة إليها.

فقد اعتمدوا هم أيضا على تلك الروايات الضعيفة، أو تلك الأسانيد المريضة، أو ذلك الوضع الذي انتشر في فترات مختلفة من التاريخ، ليعمموه على كل الأحاديث والروايات، وهذا خطأ كبير، لا يقل عن الخطأ السابق.

بل إن بعضهم، ومبالغة في تأكيد مغالطته راح يزعم هذا الزعم الذي عبر عنه بقوله: (لو كانت السنة جزءاً من الدين لوضع لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهجا كمنهج القرآن من الكتابة والحفظ والمذاكرة.. لأن مقام النبوة يقتضي أن يعطي الدين لأمته على شكل محفوظ، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم احتاط بكلّ الوسائل الممكنة لكتاب الله، ولم يفعل شيئا لسنّته، بل نهى عن كتابتها بقوله: لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)([23])

وما ذكره غير صحيح، فالأحاديث الكثيرة تدل على وجوب تبليغ الأمة لسنته صلى الله عليه وآله وسلم، وهي لم تحدد كيفية ذلك اعتمادا على صدق المبلغين وذاكرتهم القوية، بل هي لم تحدد حتى منهج حفظ القرآن الكريم، ولا أمرت بتكثير نسخه، بل كان الاعتماد الأكبر على حفظ الصدور، كما هي عادة العرب.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمرا بتبليغ سنته: (نضر الله امرأ سمع منّا شيئاً فبلّغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع)([24])، وقال مرات كثيرة: (ليبلغ الشاهد الغائب)([25])

أما الحديث الوحيد الذي استدل به هؤلاء في النهي عن كتابة الحديث، وهو ما رواه مسلم من طريق همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)([26]) فهو مردود سندا ومتنا.

أما الرد عليه سندا، فهو كونه لم يروه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا همام بن يحيى، فقد قال الخطيب: (تفرد همام بروايته هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعا، ويقال: إن المحفوظ رواية هذا الحديث، عن أبي سعيد – هو – من قوله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، ونقل عن البخاري وغيره: أن حديث أبي سعيد – هذا – موقوف عليه، فلا يصح الاحتجاج به ونسبه ابن حجر إلى بعض الأئمة.

وهذا الاضطراب في رفع الحديث ووقفه يرجح وقفه، لا رفعه، خاصة مع وجود الأحاديث الكثيرة المعارضة، وقد قال الحازمي – في الوجه العشرين، من وجوه الترجيح بين الخبرين اللذين تعذر الجمع بينهما -: (أن يكون أ حد الحديثين متفقا على رفعه، والآخر قد اختلف في رفعه ووقفه على الصحابي، فيجب ترجيح ما لم يختلف فيه، على ما اختلف فيه، لأن المتفق على رفعه حجة من جميع جهاته، والمختلف في رفعه على تقدير الوقف، هل يكون حجة أم لا؟ فيه خلاف، والأخذ بالمتفق عليه، أقرب إلى الحيطة)

بالإضافة إلى ذلك، فإن من علل هذا الحديث الكبرى كونه غريبا، فقد تفرد به همام عن زيد، وهذا ما يجعل أحاديث إباحة الكتابة الصحيحة أرجح منه، فليس فيها التفرد الذي في هذا الحديث.

بالإضافة إلى ذلك كله، فإن أبا سعيد – الذي روى الحديث ـ لا يرى علة لهذا المنع، إلا أنه لا يريد أن يجعل الحديث كالقرآن في مصاحف، ولا يذكر أن العلة هي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك، وهذا يؤيد ما قيل من أن الحديث الذي نقلوه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو موقوف عليه.

أما الرد عليه متنا؛ فهو ذلك الاهتمام الذي أولته الأمة ابتداء من عصورها الأولى بكتابة السنة المطهرة، ومحاولة تمييز الصحيح منها من السقيم.

ونحن وإن كنا انتقدنا بعض المناهج المرتبطة بذلك في كتبنا، وخاصة في كتاب [التراث السلفي تحت المجهر]، ولكن ذلك لا يعني طرح جميع الأحاديث، وإنما كان تركيزنا على الأحاديث التي هي موضع خلاف بين الأمة، مثل أحاديث التوسل والقبور وبعض مناقب الصحابة ونحوها، مما يمكن اعتباره من صنف الحديث المختلف فيه.

أما الأحاديث الأخرى، وخاصة تلك المرتبطة بالقيم العقدية والسلوكية والأخلاقية؛ فهي موضع اتفاق في الأمة، حتى ما كان منها ضعيفا، لأنه قد يرد في المصادر السنية بأسانيد ضعيفة، بينما نجده في المصادر الشيعية بأسانيد أقوى، وبذلك تقوي الأسانيد بعضها بعضا.

وقد حاولنا في كتابنا [سنة بلامذاهب] أن نضع القواعد المرتبطة بذلك، والتي يسهل استعمالها لإخراج الأحاديث بعيدا عن النزاعات المذهبية والطائفية.

وقد ذكرنا فيه أنه يمكن الاستفادة من أي حديث يخدم المقاصد القرآنية، حتى لو كان ضعيفا، لأنه لا يصح رمي كل حديث ضعيف، بل ترمى الأحاديث التي تخالف القواعد الشرعية فقط، ومن أمثلة ذلك الحديث العظيم الذي يروى في فضل العلم، والذي رفعه معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعلمُوا الْعلم فَإِن تعلمه لله خشيَة وَطَلَبه عبَادَة، ومدارسته تَسْبِيح، والبحث عَنهُ جِهَاد، وتعليمه من لَا يُعلمهُ صَدَقَة، وبذله لأَهله قربَة، وَهُوَ الأنيس فِي الْوحدَة، والصاحب فِي الْخلْوَة، وَالدَّلِيل عَلَى الدَّين، والمصبر عَلَى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، والوزير عِنْد الأخلاء، والقريب عِنْد الغرباء، ومنار سَبِيل الْجنَّة، يرفع الله بِهِ أَقْوَامًا فيجعلهم فِي الْخَيْر قادة سادة هداة يُقْتَدَى بهم، أَدِلَّة فِي الْخَيْر تقتص آثَارهم وترمق أفعالهم، وترغب الْمَلَائِكَة فِي خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب ويابس لَهُم يسْتَغْفر حَتَّى حيتان الْبَحْر وهوامه وسباع الْبر وأنعامه وَالسَّمَاء ونجومها)([27])

وهو حديث اتفق الكل على تضعيفه، بينما هو في لغته ومعانيه قطعة أدبية رفيعة ممتلئة بالمعاني السامية، ولا ضرر في روايتها ورفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن كل المعاني الواردة فيه واردة في نصوص أخرى، بالإضافة إلى كونه مرويا في المصادر الشيعية.

وهكذا يمكننا بهذا المنهج الذي يعتمد المتن، أن نجمع الكثير من نصوص السنة النبوية، والممتلئة بالمعاني السامية، والتي تخدم المقاصد القرآنية، من غير أن يكون في ذلك أي ضرر.

بل إننا بهذا المنهج يمكننا الاستفادة من الأحاديث التي تحوي على بعض العبارات والجمل التي تناقض القواعد الشرعية، حيث يمكننا حذفها والإبقاء على باقي الحديث الذي نرى توافقه مع الشريعة، وبذلك يمكننا أن نرى ثروة كبيرة من الحديث يمكننا الاستفادة منها في خدمة المقاصد القرآنية.

وهذا المنهج هو الذي اعتمده الغزالي والفيض الكاشاني والمنذري وغيرهم في كتاباتهم المرتبطة بالترغيب والترهيب، لأن الدعوة للقيم الرفيعة تستدعي توافر الكثير من النصوص التي تشجع على العمل الصالح، وتنفر من العمل القبيح، ذلك أن بعض الناس قد لا تؤثر فيهم مجملات القرآن الكريم بقدر ما تؤثر فيهم التفصيلات الواردة في السنة.

ومن الأمثلة على ذلك الحديث الذي يذكر عقوبة تارك الصلاة، والذي كان ينتشر بين العامة بكثرة، وقد كان له تأثيره الواقعي الكبير، لولا أن بعض أصحاب الاتجاه السلفي راح يحذر منه بحجة كونه موضوعا، مع كونه مرويا في المصادر الشيعية، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة، ست منها في دار الدُّنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.. فأما اللواتي تصيبه في دار الدُّنيا: فالأولى: يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزَّ وجلّ سيماء الصالحين من وجهه، وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين.. وأما اللواتي تصيبه عند موته فأولاهن: أنه يموت ذليلاً والثانية: يموت جائعاً، والثالثة: يموت عطشاناً، فلو سقي من أنهار الدُّنيا لم يرو عطشه.. وأما اللواتي تصيبه في قبره فأولاهن: يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية: يضيِّق عليه قبره، والثالثة: تكون الظلمة في قبره.. وأما اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره فأولاهن: أنه يوكل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية: يحاسبُ حساباً شديداً، والثالثة: لا ينظر الله إليه ولا يزكِّيه وله عذاب أليم)([28])

ومن هذا الباب أيضا تلك الأدعية الكثيرة والممتلئة بالمعاني السامية، والتي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يمكن أن نستغني عنها بسبب ضعف أسانيدها، ذلك أن العبرة بمعانيها، لا بألفاظها، فإن كان في ألفاظها ما يعارض المعاني القرآنية، حذف، وترك الباقي لتستفيد الأمة منه.

ولهذا نجد في المدرسة الشيعية انفتاحا كبيرا في هذا الباب، وهو ما أورثهم ثروة كبيرة من الأدعية والمناجيات التي لا نجد نظيرا لها في المدرسة السنية، وهم مع اعتراف محققيهم بضعف الكثير منها إلا أنهم لا يرون بأسا باستعمالها ما دامت تخدم المقاصد القرآنية.

وطبعا.. لم يكن هدفي هنا هو البحث في هذا المجال، وإنما أردت أن أبين لهؤلاء الذين يزعمون أنهم قرآنيون، أن العاقل هو الذي يبحث عن كل شيء يحقق مقاصده، لا الذي ينفر منها، وبما أن السنة المطهرة أحسن الوسائل لتحقيق المقاصد القرآنية والدعوة إليها، فمن قلة العقل أن نزعم لأنفسنا أننا قرآنيون، ثم نرمي تلك الثروة العظيمة، بحجة عدم ثبوتها.


([1]) الترمذي العلم (2663)، أبو داود السنة (4605)، ابن ماجه المقدمة (13)، أحمد (6/8).

([2]) الترمذي العلم (2664)، أبو داود السنة (4604)، ابن ماجه المقدمة (12)، أحمد (4/132)، الدارمي المقدمة (586).

([3])  أحمد 4/66 (16740) و5/379 (23599)، وقال في (مجمع الزوائد: 8/ 223): رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

([4]) البخاري الحج (1654)، مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، ابن ماجه المقدمة (233)، أحمد (5/37)، الدارمي المناسك (1916).

([5])  البخاري 12 / 238 و 239.

([6])  انظر: وفيات الأعيان 1: 320، وتهذيب التهذيب 7: 238 وسير أعلام النبلاء للذهبي 5: 22.

([7])  مقدمة فتح الباري 425.

([8])  رسول الله والقلوب المريضة، ص12.

([9])   رواه أبو داود.

([10])  رسول الله والقلوب المريضة، ص12.

([11])   محاسن التأويل: 9/ 578.

([12])   محاسن التأويل : 9/ 578.

([13])   محاسن التأويل: 9/ 578.

([14])   سير أعلام النبلاء: 1/ 49.

([15])   سير أعلام النبلاء:1/ 49.

  ([16])  مجلة إشاعة القرآن ص 49 العدد الثالث سنة 1902م، وإشاعة السنة 19 ص 286 سنة 1902.

  ([17])  ترك افتراء تعامل 10 وقد قال بمثله الخواجه أحمد الدين والحافظ أسلم. انظر برهان القرآن 4، ونكات     قرآن 49.

([18])  رواه مسلم، 2589.

([19]) مسلم (2789)

([20]) تفسير ابن كثير ج 2 ص 294.

([21]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 18 ص 18.

([22])  رواه أحمد 6/150، وفي 6/240 وفي 6/246.

([23])  مقام حديث 7.

([24]) أخرجه الترمذي (2647) واللفظ له، وابن ماجه ( 232 ) من حديث ابن مسعود، وهو حديث متواتر.

([25]) أخرجه البخاري ( 67 ) ومسلم ( 1679 ).

  ([26])  صحيح مسلم ( 3004 ) كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

([27])  قال الألباني في [ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 45)]: رواه ابن عبد البر النَّمِري في “كتاب العلم” من رواية موسى بن محمد بن عطاء القرشي: حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمّي عن أبيه عن الحسن عنه. وقال: (هو حديث حسن [جداً]، ولكن ليس له إسناد قوي، وقد رُوَّيناه من طرقٍ شتى موقوفاً، كذا قال رحمه الله، ورفعه غريب جداً..

([28])  مستدرك الوسائل، ج‏3، ص‏24. لكن قال عنه الشيخ ابن باز في مجلة [البحوث الإسلامية: ( 22 / 329 )] : (أما الحديث الذي نسبه صاحب النشرة إلى رسول الله a في عقوبة تارك الصلاة وأنه يعاقب بخمس عشرة عقوبة الخ : فإنه من الأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي a كما بين ذلك الحفاظ من العلماء رحمهم الله كالحافظ الذهبي في [لسان الميزان] والحافظ ابن حجر وغيرهما)، وقال عنه الشيخ ابن عثيمين: (هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله a لا يحل لأحد نشره إلا مقروناً ببيان أنه موضوع حتى يكون الناس على بصيرة منه ) [فتاوى الشيخ الصادرة من مركز الدعوة بعنيزة ” ( 1 / 6 )]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *