التنويريون.. والتكلف والفضول

ينتقد التنويريون كل حين، وبلهجة شديدة، ذلك التخلف الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية بسبب وقوعها في الخرافات والدجل، وعدم اهتمامها بالحقائق التي تؤثر في الواقع الشخصي؛ فتهذبه وترقيه، أو الواقع الاجتماعي؛ فتجعله واقعا حضاريا راقيا متطورا.
لكنهم يقعون في نفس الخطأ حين يهجمون، ومن دون أثاره من علم، أو سلطان من حجة على معاني كثيرة؛ فيفتون فيها بجزم وتحقيق، وكأن كتاب الغيب قد فتح لهم؛ فراحوا يقرؤونه للناس، وبذلك يقعون في نفس ما أنكروه على غيرهم، بل ربما يقعون فيما هو أخطر منه.
ذلك أن خرافات السابقين، تستند لروايات يتفق جميع المسلمين على أنها ليست روايات معتبرة، وأن أصحابها كانوا يهودا، نقلوا معارفهم وثقافتهم للمسلمين الذين تفرقوا، ففيهم من استمع لها، وفيهم من لم يستمع إليها.
لكن خرافات التنويريين الجدد، لا تستند لتلك الروايات، بل هي تسنتد لمناهج غريبة في الاستنباط، لا يدل عليها العقل، ولا أي منطق صوري ولا رياضي.. ولا يدل عليها إلا الهوى المجرد، والتحكم الذي لا ضابط له.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها في هذا المقال المختصر، ولذلك نكتفي ببعض ما ذكره من يصور لنفسه وأتباعه أنه المحيط بحقائق القرآن الكريم، وأنه أخرج منها من المعارف ما سبق به الأولين والآخرين، وهو محمد شحرور، وذلك في سلسلة الكتب التي ألفها حول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتي تنبع استنباطاته فيها من نفس المنابع التي نهل منها كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهما من التكلف الممقوت، والفضول الذي نهينا عنه.
ومن ذلك ما فسر به قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]، والتي كان يمكن أن يقرأها كما يقرؤها أي مؤمن من أن نوحا عليه السلام مثال للصبر الجميل، وأنه مكث كل تلك المدة مع قومه يؤدي رسالة الله، ويبلغ حججه من غير أن يضيق أو يضجر، ويقرأ منها مدى صبر الله وحلمه على خلقه، وأنه لم ينزل بهم عقوبة الطوفان إلا بعد تلك السنين الطوال.
لكن شحرورا لم يقرأها بهذه الطريقة، بل راح يبحث عن الحيلة التي يحول بها تلك المئات من السنين إلى أربعين سنة، وكأن الله الذي خلق كل شيء يعجز أن يمد في عمر نوح عليه السلام إلى تلك المدة التي ذكرها القرآن الكريم.
وسنذكر هنا ما ذكره لنرى عجائب ما استدل به لذلك؛ فقد قال: (كانت الأعمار في عهد نوح لا تزيد أبداً عن الأعمار في يومنا هذا، بل لعلها كانت أقل، فلقد أثبتت الوثائق التاريخية أن متوسط الأعمار عند الفراعنة لا يزيد عن 40 عاماً، أما الزعم بأن عمر آدم كان ألف عام، وأن نوحاً لبث في قومه تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الإسلام فهذا ضرب من العبث والتخريف، لا نلوم عليه أصحاب التراث التوراتي لأن علوم التاريخ كانت مجهولة لديهم، لكننا نلوم المعاصرين الذين ما زالوا يظنون ويفرضون علينا ظنهم، أن الإنسان كان يعيشِ ألف عام وأكثر)([1])
وهذا استدلال عجيب، إذ كيف يستدل بالوثائق التاريخية المرتبطة بالفراعنة على زمن نوح عليه السلام، والذي لا نملك أي آثار تدل عليه؛ فالآثار لم تحفظ لنا كل التاريخ، ولذلك من العجيب أن نستدل على حقائق التاريخ، وخاصة ذلك الموغل منه في القدم بما ليس لدينا أي حجة أو براهين عليه، ثم ننسف بعد ذلك الحقائق القطعية التي حكاها لنا ربنا.
وبعد أن يضع شحرور تلك المقدمة التي لا تملك أي حظ من العلمية، يقدم مقدمة أخرى، يتفق الجميع على صحتها، لكنه يستخدمها بطريقة خاطئة، فيعتمد ـ مثل عادته ـ القواعد الصحيحة، لا للبناء، وإنما للهدم؛ فيقول: (من حيث المبدأ، إذا تعارض ظاهر نص قرآني مع حقيقة علمية ثابتة وجب اللجوء إلى التأويل، وإن تعارض فهمنا لنص قرآني مع حقيقة علمية ثابتة حكمنا بأن فهمنا للنص هو الخطأ، وليس النص بذاته، لأن كلام الله تعالى بداهة لا يمكن ولا يجوز أن يتعارض مع كلماته أي مع قوانينه ونواميسه)([2])
وهذه حقيقة، ولكنها تستعمل عندما يتعارض ظاهر النص القرآني مع ما ثبت علميا، وما ذكره عن الفراعنة ليس له علاقة بتاتا بعمر نوح عليه السلام، ولا أعمار قومه؛ فالمسافة بينهما طويلة، ولا يمكن قياس الغائب على الشاهد.
والنتيجة التي وصل إليها بعد لف ودوران طويلين هي ما عبر عنه بقوله: (إن القرآن استعمل التقويم الذي كان سائداً في عهد نوح، وليس في تقويمنا نحن، فمتوسط أعمار البشر في نمو مستمر، وليس العكس)([3]).. وبذلك، وبعد اطلاع هواه المجرد على التقويم الذي كان معتمدا في عهد نوح عليه السلام خلص إلى أن الألف سنة التي تحدث عنها القرآن الكريم قد لا تساوي 40 عاما.
وبقوله هذا يصبح ما ذكره القرآن الكريم من مدة مكث نوح عليه السلام مع قومه لا معنى له، ذلك أن الله تعالى لم يذكر مدة مكث نوح عليه السلام في أداء دوره الدعوي إلا بسبب تلك الخاصية التي تميز بها، وهي الطول الشديد الذي يستدعي الصبر الجميل مع الحلم والأناة.
وبذلك، فإن شحرورا بسلوكه هذا ـ والذي تصور أنه يصحح فيه معلومة أخطأ جميع المفسرين في فهمها ـ قضى على حقيقة قرآنية، وقيمة من القيم الجميلة التي جاءت تلك الآية الكريمة لبيانها.
ومثل ذلك حديثه عن سفينة نوح عليها السلام، ومن ركبها، والتي كان يمكن أن يسلم بما ورد في القرآن الكريم عنها من كونها سفينة عجيبة حمل فيها نوح عليه السلام المؤمنين به، وزوجين من الحيوانات كما ذكر القرآن الكريم من غير أن يتكلف في البحث عن طول السفينة، ولا عرضها، ولا فيمن ركبها من الإنس والحيوانات، لأن هدف القرآن الكريم من ذكرها هو بيان نصر الله للمؤمنين، وعقابه للجاحدين، وليس تفاصيل السفينة، ولا من ركبها.
لكن شحرورا لم يفعل ذلك، وإنما راح يقزمها ويحتقرها، ولم يكتف بذلك، بل راح يجادل فيمن ركب فيها من البشر ويشكل عليه، مع كون القرآن الكريم أخبر أنه لم يركب فيها إلا المؤمنون.
وقد قال معبرا عن ذلك: (تحدث المفسرون بالتفصيل الممل عن أن ركاب السفينة ثلاثة أنواع: الأول يشمل الحيوانات والنباتات ويحكمه مبدأ من كل زوجين اثنين أولهما ذكر والثاني أنثى، والثاني يشمل أهل نوح وهم ثمانية: نوح وامرأته وأبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث لكل واحد منهم زوجة، وهذا النوع الثاني يحكمه ما يحكم النوع الأول، أما الثالث فيشمل من آمن بنوح وهم قليل، لكننا لم نسمع أحداً من المفسرين أشار إلى المبدأ الذي يحكمهم أهو مبدأ الإيمان فقط أم هو مبدأ من كل زوجين اثنين الذي حكم النوعين الأول والثاني؟)
وقد طرح هذا الذي توهمه إشكالا ليؤسس عليه بأن نوحا عليه السلام، لم يركب ابنه في السفينة بسبب عدم إيمانه، وإنما بسبب كونه عازبا، وقد قال مقررا هذا: (والسؤال الآن: ماذا يفعل نوح بشاب عازب مؤمن؟ هل يتركه للغرق لأنه عازب؟ أم يحمله معه لأنه مؤمن ليسطو على زوجات الآخرين بعد انحسار الطوفان؟)
ويشكل على زوجة نوح عليه السلام أيضا، مع أن القرآن الكريم لم يتحدث عن ركوبها في السفينة معه، لأن الغرض هو الحقائق والعبر لا تفاصيل من ركب السفينة ومن لم يركبها، فلذلك كان يكفيه أن يقرأ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]
لكن شحرورا لم يفعل ذلك، وإنما راح يستنبط من القرآن الكريم بطريقته الخاصة أسماء من ركب ومن لم يركب، فقد قال: (وإن كان المعيار في الدخول إلى السفينة هو الإيمان فلماذا حمل نوح امرأته وقد ضربها الله في كتابه مثلاً للذين كفروا ولم يحمل ابنه؟ والأهل هم الزوجة والأولاد، وابنه ممن سبق عليه القول، لأنه ليس ابنه)([4])
وهكذا راح يتكلف في استنباط شكل السفينة وقدراتها، ويتصور أن الإجابة على ذلك تشكل مسألة مهمة، مع كونها ليست كذلك، وحتى لو كانت كذلك، فإنه ليس لدينا من الأدلة ما يمكننا أن نستند إليه.
وقد قال معبرا عن ذلك: (هنا سيظهر سؤال في غاية الأهمية وهو: ما هو المستوى الإنتاجي في الأدوات المستخدمة لصنع الفلك؟ ومن ركب في الفلك؟ لقد أجاب القرآن على هذه الأسئلة كالتالي.. لم يكن في زمن نوح حبال ولا مسامير لربط الخشب بعضه إلى بعض، وإنما تم ربط الخشب على مبدأ الدسر وهي الألياف الطبيعية.. أما الفلك نفسه فقد جاء من فعل [فلك] وهو الاستدارة، وهو بمثابة المعدية المائية، وقد أكد القرآن أنه لم يكن في ذلك الوقت مجاذيف للتجذيف ولا دفة للتوجيه ولا أشرعة.. أي أن الفلك مجرد جسم خشبي له استدارة يعوم على الماء فقط.. فإذا سأل سائل: كيف تم التوجيه والجر في فلك نوح؟ أقول: لقد تم الجر بواسطة التيار المائي حسب اتجاهه الطبيعي.. أما الآن فإن توجيه السفن يجري بواسطة الرادار والبوصلة، والشد يجري بواسطة المحرك والأشرعة)
وهكذا راح يتكلف في كيفية حصول الطوفان، وكان في إمكانه ألا يبحث في ذلك كله، ويركز على المعاني والعبر المرتبطة بذلك، خاصة مع عدم ورود أي دليل.
وقد قال ذلك بصيغة التقرير والجزم، بل والإيجاب: (يجب أن نفهم أن طوفان نوح كان محليا أي عبارة عن عاصفة مطرية كبيرة جدا جرت بشكل محلي، حيث كان قوم نوح يسكنون في مناطق منخفضة قريبة من الأنهار تحيطها الجبال.. ونحن نعلم الآن أنه خلال ساعات من العاصفة المطرية الشديدة يمكن إغراق مدينة بأكملها، وبنفس الوقت نعلم إذا كانت هناك عاصفة مطرية تبعها طوفان في منطقة ما في أستراليا فهذا لا يعني أن الطوفان قد وصل إلى مصر أو الهند، وأن من يفسر بأن الطوفان عم كل الأرض فهذا غير صحيح ولكنه عم لك الأرض التي سكنها قوم نوح وبنفس الوقت لم يغط الجبال.. وبما أن المنطقة التي سكن فيها قوم نوح عبارة عن منطقة محاطة بالجبال، فقد حصل تيار مائي قوي وكان الموج كسلاسل الجبال من حيث الشكل لا من حيث البعد كما نراه الآن في طوفان الأنهار الجبلية ذات الميول الكبيرة)
وهكذا راح يتكلف في تفاصيل كثيرة، بل راح يصور أن قوم نوح عليه السلام لم يهلكوا بسبب كفرهم، وإنما بسبب عدم معرفتهم بالسباحة، فقد قال: (وبما أن كل الذين لم يركبوا في الفلك هلكوا فمن الجائز أن الإنسان في زمن نوح كان لم يتعلم السباحة بعد)
وراح يفسر قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [نوح: 25]، والذي يستدل به العلماء عادة على وقوع العذاب في البرزخ، لكن شحرورا فسرها بغير ذلك؛ فقال ـ ليفر من عذاب البرزخ ـ (لقد جرف السيل جثث قوم نوح ورماها في فوهة البركان حيث يتبين من الآية أن فوهة البركان كانت منخفضة وعلاها الماء، ودخلت الجثث في البركان، وقد بين هذا في قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [نوح: 25]، هنا استعمل فاء السببية والتعقيب بين الغرق وإدخال النار واستعمل النار نكرة وهنا لا يقصد فيها نار جهنم)
ومثل ذلك تكلفه في معرفة تفاصيل كثيرة عن أقوام الأنبياء من غير أي دليل، كقوله عن قوم نوح عليه السلام أنهم كانوا يعبدون الظواهر الطبيعية ([5]) بدليل قوله تعالى حكاية عن دعوة نوح عليه السلام لقومه: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16]
مع أن مثل هذه الآيات واردة في خطاب القرآن الكريم للبشر جميعا بما فيهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفسهم، فالله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، فهل هذه الآية الكريمة وغيرها كثير موجهة لمن يعبد الظواهر الطبيعية، أم أنها خطاب الله لعباده ليستدلوا بالصنعة على الصانع.
وعلى هذا المنهج نجد أتباع هذه المدرسة يتكلفون كل حين، ليخرجوا لنا من الاستنباطات ما لم يذكره الأولون والآخرون، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه بعضهم تحت عنوان [النبي محمد ليس من ذرية النبي إسماعيل]([6])، وهو منشور في موقع شحرور، والذي تكلف فيه صاحبه تكلفا شديدا ليثبت في الأخير أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إسحق، وليس من ذرية إسماعيل.
وقد قال في مقدمة مقاله ذلك ـ كعادة التنويريين ـ: (لدراسة هذا الموضوع وبعيداً عن تأثير اليهود في التاريخ وتحريفه لصالحهم، لابد من إعادة دراسة الموضوع من القرءان ذاته وترتيب النصوص مع بعضها وفق منطق اللسان العربي ومنطق القرءان لتتكامل الصورة، وهذه محاولة لإعادة ترتيب النصوص وفهمها من جديد حسب المحكم منها ورد المتشابه لها، مع الانتباه إلى أن حادث ضيوف إبراهيم هو واحد، والمرأة القائمة على خدمة الضيوف هي ذاتها في النصوص، والبشرى بالولد في النصين متعلقة بواحد)
ثم ذكر أن بكر إبراهيم عليه السلام هو إسحق وليس إسماعيل، وأنه هو الذي أمر بذبحه، ثم علق على ذلك بقوله: (وبهذا العرض القرآني وصلنا إلى أن الولد صاحب البشرى هو إسحاق، وليس قبله أي ولد، ولا يوجد عند النبي إبراهيم غير أم إسحاق بدليل فهمها أنها المقصودة بالحمل والولادة، ولو كان يوجد غيرها لما صكت وجهها وقالت: إنها عجوز عقيم، عقب سماعها البشرى لبعلها، وبعد ذلك توجهت الملائكة بالبشرى لها)
بل إنه ذهب إلى أن إسماعيل عليه السلام ليس ابنا لإبراهيم عليه السلام، واستدل لذلك باستدلال عجيب عبر عنه بقوله: (وما يؤكد ما ذهبنا إليه من كون النبي إسماعيل ليس ابناً للنبي إبراهيم هو غياب ذكر النبي إسماعيل من قول النبي يوسف عندما ذكر آباءه: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6].. وذكره الله منفصلاً عن النبي إبراهيم وأبنائه في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]، وهذا إشارة إلى أن النبي إسماعيل من ذرية النبي نوح مثله مثل النبيين الذين ذكروا معه، أما النص الذي ذكر النبي إسماعيل كأب لأبناء يعقوب وهو { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فهو لأن النبي إسماعيل من الآباء السلف الذين مضوا بالنسبة لأبناء يعقوب وهو معاصر للنبي إبراهيم)
هذا وجه استدلاله، وقد ذكرناه بطوله لنعرف الطريقة التي يستنبط بها هؤلاء التنويريون ما يتوهمونه من حقائق، والتي يحرصون فيها على البحث عن الجديد أكثر من حرصهم على الوصول إلى الحقيقة المجردة.
والنتيجة التي يخلص إليها في الأخير هي ما عبر عنه بقوله: (وما ذكرناه من أن النبي إسحاق هو ابن النبي إبراهيم فقط، وهو الذبيح، وهو الذي سكن عند البيت المحرم، والنبوة حصراً من ذريته أو من ذرية النبي نوح، أو من كليهما، نصل إلى أن نسب النبي محمد الخاتمي هو من ذرية النبي إسحاق لأنه هو الذي سكن عند البيت المحرم، والأنبياء في هذه المنطقة كلهم من ذريته)
وهكذا يستنبط من القرآن الكريم أن كل تلك الأحاديث عن بني إسرائيل، ليس هو ما نتوهمه أو نقرؤه في كتب التفسير والحديث والتاريخ، وإنما (الخطاب في القرآن [يا بني إسرائيل] هو خطاب لمجموعة من القبائل من سكان منطقة شبه الجزيرة العربية، وهم متداخلون مع أهل مكة وذرية النبي إبراهيم عن طريق النبي يعقوب، وبُعث النبيين فيهم على الغالب من ذرية النبي إبراهيم وبعضهم من ذرية النبي نوح مثل النبي موسى أو متداخلة مع ذرية النبي إبراهيم.. وبنو إسرائيل هم أرومة القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية ويحتضنون ذرية النبي إبراهيم، ولا علاقة لليهود بذلك قط)
هذه مجرد أمثلة عن ذلك التكلف المقيت الذي
يمارسه التنويريون مع الحقائق القرآنية من غير أن تكون لهم أثارة من علم، ولا
سلطان من حجة، اللهم إلا تلك الأوهام التي يخادعون بها العقول التي تأثرت بهم،
وتصورت أنها بلجوئهم إليها قد نجت من التطرف، وغفلت عن أنها خرجت من تطرف يلبس
عباءة القدماء إلى تطرف يلبس عباءة المحدثين والحداثيين، وكلاهما انحراف.
([1]) شحرور، القصص القرآني، قراءة معاصرة، 2/ 49..
([2]) المرجع السابق، 2/ 51..
([3]) المرجع السابق، 2/ 53.
([4]) المرجع السابق، 2/ 45-46..
([5]) المرجع السابق، 2/16..
([6]) النبي محمد ليس من ذرية النبي إسماعيل، سامر إسلامبولي، موقع شحرور.