التنويريون.. والإجماع

التنويريون.. والإجماع

من الأدوات التي يستخدمها التنويريون الجدد للتشكيك في الحقائق القطعية، وممارسة وظيفة الهدم، التي هي أسهل الوظائف، وأكثرها انتشارا، أداة [خرق الإجماع]

ذلك أن هذه الأداة تتيح لهم أن يدلوا بأقوال لم يسبقهم إليها أحد، وبذلك يعتبرون أنفسهم، أو يعتبرهم جمهورهم أصحاب مشاريع تجديدية؛ فهم لا يريدون أن يظهروا بين الناس بأنهم مقلدة، أو بأنهم يجترون أقوال من سبقهم.

وهي أيضا تيسر عليهم التعامل مع القضايا المختلفة بسهولة ويسر، ذلك أنهم لن يحتاجوا إلى البحث في كتب العقيدة ولا الفقه ولا الحديث ولا التفسير، ولا يحتاجون لمراجعة العلماء من المدارس المختلفة للتحقق في أنواع البراهين، وأنماط الحجج، وإنما يكفيهم أن يدلوا برأيهم، ثم بقنبلة واحدة يرمون جميع الفقهاء والمفسرين والمحدثين من المدارس المختلفة من غير أن يطلعوا على أقوالهم، أو يكلفوا أنفسهم عناء فهمها.

وهي أيضا تيسر لهم أن يكونوا أحرارا غير محاطين بأي قيود تحول بينهم وبين التفكير الحر، الذي لا يتقيد بأي قيود حتى لو كانت قيود الشريعة نفسها.

ولذلك ما أسهل لمن يفكر بهذه الطريقة أن يحدد أهدافه من الدين، ثم يحدد بعد ذلك وسائله لتحقيقها، وقد يستفيد ذلك من التيارات الفكرية المختلفة.. ليحمل الدين بعد ذلك عليها.. فإن كان شيوعيا حول من الدين نظرية شيوعية.. وإن كان وجوديا جعل من الدين وسيلة لتحقيق الرؤى الوجودية.. وإن كان يرى أن غاية الحياة هي تحقيق الديمقراطية حول الدين جميعا أداة لتحقيق الديمقراطية.

وهو لن يستعمل في ذلك إلا بعض الخدع والحيل التي استعملها السفسطائيون، والذين قضوا على المنطق، وعلى كل معقول مثلما يقضي التنويريون الجدد على كل قطعي من الحقائق، وكل متفق عليه من شؤون الدين والدنيا.

ومن الحيل التي يستعملونها في هذا الجانب أنهم يلجؤون إلى الخصام الحاصل بين الفرق الإسلامية؛ فيستفيدون من ردود السنة على الشيعة، أو من ردود الشيعة على السنة.. ليضربوا كلا من السنة والشيعة.. ولا يعلمون أنهم لا يضربون فقط مواضع الخلاف بينهم، وإنما يضربون أيضا مواضع الإجماع والاتفاق.

وهم بذلك يفعلون مثلما يفعل ذلك الملفق المحتال على الدين، والذي عبر عنه أبو نواس بقوله:

أباح العراقيّ النّبيذ وشربه

   وقال: حرامان المدامة والسّكر

وقال الحجازي: الشرابان واحد

   فحلّ لنا من بين قوليهما الخمر

سآخذ من قوليهما طرفيهما

   وأشربها لا فارق الوازر الوزر

وعبر عنه آخر نثرا، فقال: (أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ، وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا الغناء، فأوجدونا السبيل إلى الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق)([1])

وهذا هو منهجهم في النقد الذي يسمونه [نقد العقل العربي] أو [نقد العقل الإسلامي]، ونحن لا ننكر إنكارا مطلقا على هذا السلوك، وقد فعله الغزالي عند نقده للفلاسفة، فقد ذكر أن مراده إلزامهم بأي حجة، وقد تكون حجة للمعتزلة أو لمدرسة فلسفية مخالفة وغيرها، ليثبت لهم أن العقل المجرد لا يكفي وحده لحل حقائق الوجود الكبرى.

ولكنا ننكر خرقهم للإجماع، لا إجماع الطائفة الذي عبر عنه الإمام أحمد بقوله: (من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك لعلهم اختلفوا)([2])، ذلك أنه لا يصح أن يسمى هذا النوع إجماعا، فالأمة الإسلامية تشمل جميع الطوائف، لا طائفة بعينها، ولذلك فإن الذي يذكر الإجماع يحتاج أن يعرف موقف المدارس الإسلامية المختلفة من القضية المطروحة، وهو ما فعله الإمام أحمد نفسه حين استدل بالإجماع على نجاسة الدم، فأجاب من سأله: (الدم والقيح عندك سواء؟) بقوله: (الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه)([3])

وذلك الإجماع الذي لا يحل الخروج عليه هو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة)([4])

وهو جزء من حديث دل معناه على صحته، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم، فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة)

والقرآن الكريم يدل على هذا، ذلك أن وقوع جميع الأمة في الباطل يعني انتصاره على الحق مع أن الله تعالى أخبر أن الحق لن ينطفئ نوره أبدا، كما قال تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 8]، وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء: 81]

وأخبر عن بني إسرائيل أنهم لم يجمعوا على تحريف الدين، بل بقيت منهم طائفة صالحة، إلى أن جاء الإسلام فاتبعته، كما قال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159]

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن في هذه الأمة كذلك، لن يجمع الكل على الانحراف، بل ستبقى طائفة ملتزمة بالحق، حتى تقام الحجة على الخلق.. ذلك أنه لو لم يبق إلا الباطل المجرد، لما استطاع الخلق التمييز بين الحق والباطل.

وقد نص على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)([5])

وبذلك تنقطع حجة كل من يريد أن يأتي في الدين بالجديد الذي يغيره من جذوره، كما نسمع الكثير من التنويريين الذين يريدون إنشاء دين جديد لا علاقة له بما اتفقت عليه الأمة.

وهذا لا يعني أننا لا نجتهد في فهم النصوص، ولا في استفادة الجديد منها، ولا في البحث عن كيفية تفعيلها في الحياة، ذلك أن كل هذا بناء، وليس هدما.. وإنما نعني به ذلك الهدم الذي ينقض الدين من أساسه، باستعمال الحيل السفسطائية المستفادة من المناهج المختلفة.

وقد يتصور البعض أن مساحة إجماع الأمة محدود، وهذا وهم كبير، فمساحة الاتفاق في الأمة أكبر بكثير من مساحة الخلاف فيها.. فهي تتفق في أكثر مسائل العقيدة وقضاياها، فهم يتفقون جميعا في معظم المسائل المرتبطة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهم يتفقون في أكثر مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وإن كانوا يختلفون في بعض الفروع، التي ليس لها من الأهمية ما لأصول الدين الكبرى التي نصت عليها الأدلة القطعية.

وهم يتفقون كذلك في أكثر مسائل الفقه وقضاياه، سواء في أبواب العبادات أو المعاملات، باعتبار أن أصول هذه الأبواب مذكورة في القرآن الكريم بصيغة قطعية، لتحفظ وحدة الأمة في هذا الجانب، بل إننا عندما نرجع للمصدر الثاني الذي هو السنة المطهرة، نجدهم كذلك يتفقون في أكثر الفروع الفقهية، والخلافات بينهم لا تعدو بعض الصور أو القضايا البسيطة.

وهم يتفقون كذلك في أكثر قضايا السلوك والأخلاق، والتي وردت التفاصيل الكثيرة المرتبطة بها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، واتفقت الأمة عليها بلا خلاف.

وهم يتفقون كذلك على مركزية القرآن الكريم، والكثير من السنة المطهرة، وكونها مصادر الدين في جميع أحكامه.

بالإضافة إلى هذا كله يتفقون في الكثير من المواقف التاريخية أو السياسية كالقضية الفلسطينة، وعلى ضرورة وحدة الأمة، وعلى مواجهة كل مشاريع التخلف والعولمة والحداثة والاستعمار التي تريد أن تقضي عليها.

وبذلك فإن مساحة الخلاف محدودة جدا، وإنما يضخمها المتطرفون الدينيون، والمتطرفون اللادينيون حتى يستثمروا مسائل الخلاف في تشويه الدين، وتحطيم الأمة، وإطفاء نور الحقيقة فيها.


([1])  محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 769)

([2])  إقامة الدليل على إبطال التحليل ص275.

([3])  شرح العمدة، 1/105.

([4])  أبو داود 4/98، حديث 4253، وابن ماجه، حديث رقم3950، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة (ج 3 / ص 319)

([5])  البخاري 6/731، حديث 3641، ومسلم 3/1524.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *