التنويريون.. وأحكام المواريث

التنويريون.. وأحكام المواريث

بناء على تشبع التنويريين بالثقافة الغربية، وتصورهم أنها في جانبها الروحي والقيمي والأخلاقي تشبه جانبها المادي والتقني، راحوا يستعملون كل الوسائل للاحتيال على أحكام المواريث، وخاصة في الجانب القطعي منها، والذي ذكر في القرآن الكريم، حتى لا يتلاعب به المتلاعبون، أو يحتال عليه المحتالون.

وهم يركزون بصفة خاصة على ما ورد في قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]؛ فيُحجبون عن كل معاني العدل الواردة في المواريث، وحتى في هذه الآية الكريمة نفسها بما ذكر فيها من كون نصيب الأنثى نصف نصيب الذكر.

وهم لا ينتبهون إلى أن إعطاء الأنثى نصف أخيها الذكر مرتبط بمنظومة تشريعية كاملة، لا يشكل الإرث إلا جزءا بسيطا منها، ولذلك كان العدل فيها ليس هو المساواة، بل العدل أن ينال كل طرف بحسب حاجاته ومسؤولياته.

وكمثال تقريبي على ذلك ما نراه في الواقع من أن بعض المؤسسات أو الكثير منها قد تعطي بعض العمال نصف المرتب الذي تعطيه لعمال آخرين، لكن في نفس الوقت، تعطيهم الكثير من الحوافز والهبات تحت أسماء مختلفة، والتي لو حسبناها لوجدناها تصل إلى نفس المرتب الذي فضل عليهم، بل قد تفوقه.

وهذا ما طبقته الشريعة الإسلامية العادلة والسمحة بالضبط مع المرأة؛ فعندما نتأمل الأحكام المالية المرتبطة بها نجد أنها لم تكلفها بالسعي في طلب رزقها، بل جعلت رزقها مضمونا في كل مراحل حياتها ابتداء من صباها إلى وفاتها، فهي تعيش في كنف والديها، أو قوامة زوجها، أو رعاية أولادها؛ فإذا لم يبق لها واحد من هؤلاء كلفت جماعة المسلمين بالإنفاق عليها.

بالإضافة إلى أن الشريعة التي فضلت الابن في العطاء هي الشريعة التي كلفته بالإنفاق على أخته، وهي التي كلفته بدفع المهر لمن يريد الزواج منها.. فهل تكلفه بكل هذا، ثم لا تجعل له من الحقوق ما يفي بما تتطلبه هذه الواجبات؟

بالإضافة إلى ذلك؛ فقد أتاحت الشريعة بنص القرآن الكريم، وفي الأحوال الطارئة التي يرى الوالد فيها أن ابنته قد يهضم حقها، أو قد يفرط أبناؤه فيها، أو يرى أن حاجتها للمال أكثر منهم.. في هذه الأحوال جميعا، وفي غيرها أتاحت له أن يوصي لها بما يسد تلك الحاجة، بحيث يصير نصيبها مساويا للذكور، أو ربما يفوق أنصبة الذكور.

وهو ما عبر عنه صريح قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وهو النص الذي كرر كل حين بعد ذكر أحكام المواريث ليبين أن الوصية تتمم تلك الأحكام، لتتناسب مع كل الظروف والأحوال والحاجات.

وقد صرح قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 180، 181] على أن الوصية يمكن أن تكون للورثة وغيرهم، وأنها حق شرعي للموصي، يضعه حيث يشاء.

لكن للأسف ذهب فريق من الفقهاء إلى تحريم الوصية للورثة، وبالتالي حرمان المورث من النظر في مصالح ورثته من بعده.. وكل ذلك بناء على حديث يروونه، وهم يعلمون أن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحيل أن يعارض القرآن الكريم، فكيف ينسخ أحكامه؟

ومثل ذلك تلك الأحاديث المرتبطة بالعصبة، والتي حرموا فيها البنات من كثير من حقوقهم في الإرث، وجعلوا أبناء الأعمام مزاحمين للبنات.. وهو ما لم يدل عليه دليل قطعي، بل كل الأدلة الواردة في ذلك مناقضة للنصوص القرآنية القطعية، والتي تنص على أن {أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال: 75]

كان يمكن للتنوريريين أن يأخذوا بمثل هذه الأقوال الفقهية، وخاصة تلك الواردة عن أئمة أهل البيت، والتي تنص على إمكانية الوصية للورثة، وعلى أن الأقربين أولى بالمعروف، وبذلك تنتفي المشكلة من أساسها.

لكنهم لا يريدون إلا أن يظهروا مجددين في هذا المجال، كما ظهروا في غيره، ولذلك راحوا يتلاعبون بالنصوص، ويحتالون عليها، وكم فرحوا عندما سمعوا بالتشريع التونسي المرتبط بهذا المجال، وكأن الأمة لا ينقصها إلا سد هذه الثغرة.

وقد قال محمد شحرور تعليقا على ما فعلته تونس: (وإذ أهنىء شعب تونس على هذا الإنجاز، أهنىء نفسي ببارقة الأمل هذه، فرغم أن الطريق شائك لكن الشعوب لا بد لها أن تستيقظ لو بعد حين)

وقد كان لشحرور الذي تجرأ على كل أحكام الشريعة، وراح يجدد فيها من غير أن تتوفر له تلك الأدوات قصب السبق في هذا المجال، مع أنه، وفي فترة قريبة، وفي لقاء سجل معه، سئل فيه عن فهمه لآيات المواريث فأجاب بأنه([1]) لم يصل لرؤية واضحة فيها، ولكنه بصدد دراستها وفق التغيرات المعاصرة في علم الرياضيات الحديثة التي توصلت لعلوم جديدة من التحليل الرياضي والإحصاء.

لكنه بعد فترة قصيرة، راح يخرج لنا بنظرياته العجيبة في هذا المجال، والتي لا علاقة بالرياضيات الحديثة، ولا بأي شيء حديث.. بل كلها من نوع الهرطقات اللغوية التي يستعملها، ويتصور أنه فهم من النصوص ما لم يفهمه الأوائل والأواخر.

وقد ذكر في بعض حوراته معبرا عن فهمه لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11]، وأنه سئل في الجزائر ومصر والسعودية والعراق عن معناها؛ فقال لهم: (إذا أنا أعطيتك أنت ورفاقك وأنتم خمسة أشخاص كل واحد مائة دولار، وقلت لي: ماذا أعطيتني؟ قلت لك: أعطيتك مثل رفاقك، أليس هذا يعني أنني سويتك تماما برفاقك؟، وهكذا الآية إذا أعطيت أخاً مائة دولار وأختيه لكل واحدة مائة دولار، وسألني كما أعطيتني؟ فقلت له: أعطيتك مثل أختيك، يعني هذا أنني أعطيت الجميع مثل بعضهم البعض)

وبذلك تصور أنه قد حل المشكلة، وأن الآية الكريمة لم تنص أبدا على كون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، وإنما أخبرت عن الحكم المرتبط بثلاثة أولاد: ابن وأختيه، حيث ينال الابن مثل نصيب كل واحد من أخواته.. وهو تلاعب واضح بالنص الصريح والواضح والذي يخاطب كل الحالات، لا مجرد الحالة التي افترضها.

فالآية الكريمة ذكرت أن نصيب الذكر حظ الأنثيين معاً، ولم تقل ـ كما توهم ـ أن نصيبه (مثل الأنثيين)، وهاتان الكلمتان [المثل] و[الحظ] تدلان على ذلك.

ثم هو بعد ذلك يناقض نفسه، لأن حالات الميراث لا ترتبط فقط بعائلة مكونة من ثلاثة أولاد، وإنما عدد الأولاد في أكثر العائلات يكون أكثر من ذلك بكثير، وهنا يقع الارتباك والخلط في منظومتة الهشة التي أسسها على الفهم المزاجي للنص، لا على الفهم الصحيح الذي تتطلبه ألفاظه، والذي اتفق عليه جميع اللغويين والمفسرين من جميع المدارس الإسلامية في جميع فترات التاريخ.

حيث أن تساوي الذكور مع الإناث عنده لا يتم إلا في حالتين فقط: إذا كان الوارث ابنا وبنتا؛ فيأخذ الابن النصف، والبنت النصف، أو إذا كان هناك ابن واحد وابنتان، فلكل واحد الثلث بالتساوي، ولكن عندما يكون البنات أكثر من اثنتين، أي ابن واحد وأربع بنات فيعطي الابن الثلث، والبنات الأربع الثلثان، وهنا ينتقض التساوي عنده، بل يصبح ما ذكره الفقهاء أكثر عدلا بكثير مما ذكره.

وقد أجاب شحرور عن هذا التناقض الذي حصل في العدالة التي راح يبحث عنها بأن هذا التفسير العلمي واللغوي للآية يحقق العدل للمجموعات لا للأفراد، (فبناءً على ما تم ذكره فإنه في بعض الحالات يحصل الذكر على ربع أو ثلث ما تحصل عليه الفتاة، ولذلك فإن حدود الميراث في القرآن تعمل على تحقيق العدل بين مجموعة الأولاد من الفتيات ومجموعة الأولاد من الذكور، لا العدل بين الأفراد، فرداً فرداً)

وهو نوع من الخداع والحيل التي تمرن عليها، لأنه وجد من يستجيب لها، ويعجب بها، ولسنا ندري كيف يجيب عن ذلك الارتباك الذي سيحل به لا محالة عندما يرى أن نصيب الزوج في الميراث ضعف نصيب الزوجة، والذي له مبرره الشرعي الممتلئ بالعدالة، والذي نص عليه بصراحة قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]

ولست أدري أي حيلة يدبر لهذه الآية الكريمة، حتى يحتال عليها، ويخرجها عن دلالاتها الواضحة والقطعية، والتي اتفق عليها جميع الفقهاء.

ومثل ذلك قوله تعالى عند ذكره للأحكام المرتبطة بالإخوة، والتي نص فيها صراحة على كون نصيب الذكر ضعيف نصب الأنثى، كما قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]

وقد كان من حكمة الله تعالى أن يختم هذه الآية الكريمة بقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]، ليبين أنه سيأتي من يتلاعبون بالألفاظ، ويحتالون على النصوص ليضلوا الناس عن هدي ربهم وعدالة ربهم إلى الدين المزاجي الذي يؤسسونه بأهوائهم، لا بسلطان من العلم أو الحجة.

وقد كان في إمكان التنويريين أن يدرسوا هذه الآيات الكريمة ضمن المنظومة الإسلامية الشاملة لحقوق المرأة وواجباتها، ليعلموا أن الشريعة التي كلفت المجتمع بالإنفاق على المرأة، وكلفت الزوج بجلب المهر لزوجته، هي نفسها التي فرضت للمرأة نصيب نصف الذكر.

فإذا ما حصل اختلال في المجتمع؛ فقصر في حق المرأة، ندعو إلى إصلاح الخلل الذي حصل، لا إلى تبديل أحكام الله.. وإلا فإنا لو طبقنا ذلك، فسيصبح الزمان أداة لمحو أحكام الله الصريحة والقطعية واحدا واحدا.

وقد كان في إمكانهم أيضا أن يدعو إلى تفعيل الوصية للأقربين بمفهومها الشرعي لتغطي الحالات الخاصة، مثلما فعل الفقهاء مع الوصية الواجبة المرتبطة بإرث الأحفاد الذين مات والدهم قبل موت جدهم، فأعطوا نصيب والدهم من الميراث بناء على الوصية الواجبة، مع أنها تخالف ما اتفقت عليه المدارس السنية من عدم وصية للورثة.

كان في إمكانهم أن يلجأوا إلى مدرسة أهل البيت في هذا المجال، فيجدوا فيها أشياء كثيرة تتناسب مع العدالة في الميراث، والتي يمكن الاستفادة منها كما استفيد من كثير من أحكام الطلاق.. فالكل مسلمون، ولا حرج في الاستفادة من أي مدرسة من المدارس ما دامت تتحقق من خلال أقوالها مقاصد الشريعة.

لكن التنويريين، نتيجة ضغوط الاتصالات الكثيرة، ووسائل الإعلام التي تزاحم أوقات فراغهم لم يجدوا الوقت الكافي للبحث في ذلك، واكتفوا بمزاجهم وأهوائهم وآرائهم المجردة عن كل دليل.


([1])  انظر: تخبط محمد شحرور في فهم آيات الميراث، د.خلدون مخلوطة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *